تحوّلات التديّن في حقبة ما بعد الربيع العربي
مايو 05, 2020 3902

تحوّلات التديّن في حقبة ما بعد الربيع العربي

حجم الخط

جميع المقالات والاوراق التي تنشر في قسم آراء تعبر عن رأي كتابها ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر المركز.

 

تحوّلات التديّن في حقبة ما بعد الربيع العربي

عرابي عبد الحي عرابي
شَهِدَت المجتمعات العربيّة بعد موجة الربيع العربيّ العديد من الظواهر التي تستحقّ الوقوف عندها باعتبارها تحوّلاتٍ -شعبيّة الطابع غالبًا- في الوعي الدينيّ ومجالاته المختلفة، بدءًا من الطفرة الجهاديّة التي استدعت "هجرة" عشرات الآلاف من مؤيّدي الفكر الجهاديّ إلى سوريّة والعراق وبلدانٍ أخرى، مرورًا بالدعاوى المعاصرة لتطوير مناهج قراءة القرآن وتأويله، وليس انتهاءً بالتحولات المضادّة التي تعالت أصواتها بهدف الدعوة لإنكار فكرة الدين عامّة واستهداف الإسلام خاصّةً من قبل شخصيّات ما بات يعرَف بظاهرة "مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي"، بالتوازي مع تراجع فاعليّة المدارس والجماعات الدينيّة بمختلف مشاربها جرّاء عوامل داخليّة أو فكريّة تدفعها للتمسّك بخطابٍ تقليديّ يُضعف من تأثيرها من الميدان العامّ أو لإقصائها وتدجينها لتكون موالية لسلطاتٍ وحكوماتٍ مختلفة. 

مفصليّة الحَدَثِ وأبرز آثاره
قليلةٌ هي الدراسات التي ترصد أثر "الربيع العربي" في تحوّلات بنية الوعي الدينيّ عند الشباب وعامة الجماعات الإسلاميّة، وما قُدِّم –على الرغم من قلّته- ينحو كثيرٌ منه إلى الرصدِ دون التعمّق في التحليل، أي أنّه يتوقّف بشكل بالغ عند زخم الأحداث ومفارقاتها دون أن يَعبُر حقيقةً إلى السؤال المركزيّ (كيف ولماذا)، والذي تتفرّع عنه أسئلة طبيعة التفكُّكات العميقةِ والمآلات التي ستنبني على هذه التحوّلات في المستقبل.

أولاً: التحوّل المضادّ "التمرّدُ والعدميّة والدعوة للإلحاد"
يشكّل الدين حضورًا مركزيًّا في حياة الإنسان والمجتمع العربي، فهو المصدرُ الأوّل للتصوّرات السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة، ولذا يُعدّ تنامي بعض التحوّلات مؤشرًا على اتساعِ تبدُّلات جوهريّة في الوعي سواء داخل الجماعات أو الأفراد. 
لم تكن أحداث المجازر التي ارتكبت في سوريّة –على سبيل المثال- دافعًا لانتقاد الفاعلين سواء كان من النظام السوريّ أو الأطراف الأخرى المتطرّفة- قدر ما تحوّلت هذه الحوادث إلى مدخلٍ لانتقاد جذور الفكرة الدينيّة التي أنتجت هذه الظاهرة، برأيهم، فالثورات تجرّ من الدمار والآلام ما لا يمكن تخيّله(1)، ولعل صرخة أحدهم -متسائلاً عن الطفل الذي قُطِعَت قدماه في قصف بالبراميل المتفجّرة-: "أين هو الإله الذي ينادي باسمه والد الطفل [....] لقد مات "الله مُكفّنًا برحمته المزعومة"(2)، ستُظهِرُ المأزق الروحيّ والوجوديّ المتنامي في وعي هؤلاء الشباب.
في هذا السياق يُمكن الإشارة إلى تنامي العدميّة باعتبارها إحدى أبرز مؤشّرات التحوّل المتمرّد في سطح الحوارات الشبابيّة. وبعيدًا عن الاختلاف في تعريفات العدميّة يمكن لنا اختزالُ فكرتها الأساس بأنّها التشكيك في القيمة أو المعنى أو إمكان الوصول إلى الحقيقة(3)، فهي نزعةٌ في التفكير لا ترى الأشياء والأفكار والأفعال والمؤسسات والحقائق المادية والماضي والآن والمستقبل إلا بوصفها عدمًا، أو عالمًا خالياً من المعنى، ولهذه النزعة -بطبيعة الحال- أصول فلسفيّة إلا أنّها لا تتصف بمحدّدات ثابتة، ولذا تُغلّف بمسمّيات عديدة كفلسفة الهدم أو التفكيك(4).
يلاحَظ -في هذا السياق- أن الدعوات الإلحاديّة في الفضاء الافتراضي والمستندة إلى ما يسمّى بمعضلة الشرّ قد ازدادت، فانتقلت من مستوى الحوارات الخفيّة في المنتديات إلى الانتشار والانشطار المتتالي عبر منصات التواصل الاجتماعي، لدرجة أن الحملة الإلحادية نفسها انتقلت من خانة الدفاع إلى تجريد حملة تبشيرية تتلبس لبوس القيم الإنسانية والفلسفية، ودخلت مرحلة الجهاد الإلكترونيّ عن طريق سبّ الإسلام والنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم والتشكيك في القرآن، ومهاجمة المسلمين والسخرية من العبادات والشعائر ومختلف العقائد الدينيّة(5)
في واقع الأمر فإنه من العسير حصر أعداد الملحدين الجدد بالأرقام إلا أن دعوات التمرّد ورفض الدين باتت ظاهرةً تتنامى في مختلف شرائح الشباب على امتداد الدول العربية، كما أن دعاوى معاداة الدين ورفض القيم العليا والكبرى قد باتت "موضة" عددٍ من مشهوري مواقع التواصل الجدد.

ثانيًا: التحوّلات في الرؤى الفكريّة والسياسيّة
لم يعد سؤال التديّن والعلمنة مثارًا للاستقطاب كما هو الحال سابقًا، وإنما بات هذا السؤال مساحة للتفكيك والبحث عن الإجابة لدى كثيرٍ من مثقفي شباب الحركة الإسلاميّة، وبالمقابل من ذلك، تتوجّه شرائح واسعة للتسليم بالواقع كما هو، الأمر الذي يدفع السلطات والفاعلين ما دون الدولة -كحالة تنظيم الدولة قبل انهيار سلطته وحالة حكومة الإنقاذ في سورية- لتأميم منصّات الخطاب الدينيّ الإعلاميّة والشعائريّة بالتوازي مع عملها على إنتاج قوانين ضابطة لإدارة المشهد الدينيّ، ويمكن الاستشهاد بمرسوم تعديل قانون أعمال وزارة الأوقاف في سوريّة مثالًا على ذلك، حيث يسعى هذا المرسوم لإنتاج تديّن شكليّ يتناقض مع دور الدين ذاته في تكوين المجال العام ويرسم مواصفات محدّدة للمتديّن بهدف التعايش مع تناقضات النظام من ناحيةٍ والدفعِ لدعمه من ناحية أخرى. 
في هذا السياق تظهر على السطح جذور الاختلافات بين الجماعات الدينيّة لا لكونها اختلافات فكريّة في معظمها، وإنّما اختلافات إجرائيّة ترجّح التعامل مع جهة دون غيرها، إضافة إلى ذلك، تتصاعد نزعة العودة إلى العلوم التقليديّة، وتتكاثر المنصّات والقنوات التي توفّر دورات تكوينيّة في تلقّيها، سواءً كانت سنّيَّةً أو شيعيّة أو معتزليّة، في ظلّ تشكّل حلقات أو شبكات شبابيّةٍ جديدة لإحيائها، بالتوازي مع تنامي اهتمام السلطات بتيّارات الجماعات المحلّيّة صوفيّةً كانت أو سلفيّة أو منتميةً إلى طوائف أخرى، وذلك لدورها في ضبط تناسق المشهد الديني مع توجه السلطة.
لا يقتصر الأمرُ على هذه المواضعات السريعةِ، بل نلحظُ في سياقٍ آخرَ ظهورَ توجّهٍ رسميٍّ جديدٍ لدى سلطات بعض الدولِ لإرساء تديُّنٍ معاصرٍ يقطعُ علاقته مع قواعدِ الموروثِ الفكريّ والفقهيّ السابق؛ من خلال دعم برامج تجديد الخطاب الديني المتوافقة مع توجهات مراكزَ بحثيّةٍ معيّنةٍ والمتناغمة مع قراءاتِ شخصيّات ما بات يعرف بأصحاب نظريّة تجديد قراءة النصّ القرآنيّ كـ د. محمد شحرور. 
هذه الصور المتداخلة والمتناقضة على حدٍّ سواءٍ في مشهد التحوّلات الدينيّة توازيها صورة أخرى تتمثّل في غياب الحراك السياسيّ للإسلاميّين، وانتشار حالة الإحباط والتذمّر في قواعده الاجتماعية، ممّا يدفع للاعتقاد بأنّ تفكّكات قريبة قد نشهدها داخل هذه الجماعات في ظل تراجعها وسعيها لمزيدٍ من الانغلاق على الذات والعزلة والانسحاب.

ثالثًا: البحث عن مسارٍ بديل "عنفُ الجهاديّة" أو "فردانيّة التديّن"
لا يمكن اعتبار التيّارات الجهاديّة تحوّلاً دينيًّا معاصرًا بشكلٍ مطلق، إلا أنّ ظهور نزعة كثافة العنف لدى شرائح مختلفة من الشباب والتعبير عنها بالانضمام إلى الجماعات المتطرفة يعدُّ مؤشرًا على توسّع الفوارق الفكريّة والسلوكيّة والعلميّة والجيليّة بين مجاميع الجهاديّين السابقين والأجيال الجديدة الصاعدة منهم، ولعلّ مسألة الضعف العلميّ والقدوم من خلفيّات لا متدينّة بالتوازي مع تنامي أساليب العنفِ لدى الجهاديين الشباب هي أبرز الفوارق بين الجيل الجديد وبين الشبكات القديمة. 
في ناحية أخرى يبرز تصاعُدٌ آخر لتديّنٍ معاصرٍ لا ينتمي لمقولات الآباء أو توجيهات المشايخ، إنه تديُّنٌ فردانيٌّ(6)  يشكّل أفراده ما يقارب 58% من نسبة المتدينين عمومًا، حيث تتوزّع هذه النسبة على شريحة الالتزام ببعض الشعائر دون أخرى، أو على أولئك المتوجّهين لتديّنهم الخاصّ(7).

خلاصة
يبدو أنّ خلاصة الرؤى والدراسات التي تناولت التديّن العربيّ قبل الألفيّة الجديدة قد أصابها عَطَبُ السقوط بالتقادم في ظلّ تحوّلاتٍ متتاليةٍ في صلب الحالة الدينيّة العامّة من ناحية والتي ستكون لها آثار مباشرةٌ في إعادة تشكيل تصوّرات ومؤشّرات التديّن في العالم العربيّ، وتتشكّل هذه التحوّلات من زوايا مضادّة للدين عمومًا، وتندرج أخرى ضمن انزياحات سياسيّة داخل الجماعات الإسلاميّة، فيما تتجه التحوّلات الباقية إلى التشكّل من جديدٍ داخل البيئة والصورة الدينيّة. 
يمكن القول إنّ بعض التحوّلات المشار إليها آنفًا لم تتعمّق بعدُ، بينما من المؤكّد –حتى الآن- أنّ الجهات البحثيّة لم تعمل على كشف هذه التحوّلات بعدُ معرفيًا وبحثيًّا على نطاق واسع وبصورة دقيقة بهدف بناءِ تصوّرات ومآلات واسعةٍ عنها.
تُبلور بعض التحوّلات المشار إليها جملةً من القناعات الجديدة كما أنّ ترسّخ مشهد التديّن الرسميّ والقراءات المعاصرة للنصوص الدينية يعيدُ إنتاج وتشكيل الوعي الديني للأجيال الصاعدة، وذلك بالتوازي مع جنوح مجموعات مختلفة من الشباب نحو التمرّد سواءً كان بالإلحاد أو العنف أو الخروج عن الجماعات المؤسسة للوعي والهُويّة. 

 

الهوامش:

1-  https://bit.ly/2LWU8VO 
2- للكاتب شوكت غرز الدين، في مجلّة "طلعنا ع الحرية" العدد 86، حيث كانت تنشَر ضمن المناطق المحررة في الداخل السوري، إلا أن العدد أزيل من التداول. يمكن الاطلاع على فحوى المقال من خلال عدة مقالات تتحدث عنه، كمقال ظافر نحاس "أخطأ كاتب المقال اختيار الجمهور والزمان" عبر الرابط الآتي: https://bit.ly/2sjMgoh 
3-  ينظر التقرير الآتي: https://bit.ly/2GAnKJ1 
4- ينظر في العدمية السياسيّة، عبد الإله بلقزيز،https://bit.ly/2ZtGFLn 
5-  ينظر التقرير الآتي: ملحدون سودانيون، كيف انتقلت الدعوة من السر إلى الجهر، https://bit.ly/2ZjwKaN 
6- العبارة مستفادة من مقال أ. محمد تركي الربيعو، إسلام حضري محافظ وتديّن فرداني: الدين والشباب العربي بعيد زمن الربيع، القدس العربي، ينظَر الرابط الآتي: https://bit.ly/35ej3hh 
7-  مستخلَص من المصدر السابق ذاته