رفع أسعار الكهرباء في سوريا إصلاحٌ حقيقي أم نقلٌ منظم لأعباء الأزمة؟
Nov 24, 2025 901

رفع أسعار الكهرباء في سوريا إصلاحٌ حقيقي أم نقلٌ منظم لأعباء الأزمة؟

Font Size

مقدمة      

منذ نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2025 دخلت سوريا مرحلة جديدة من سياسة التسعير في قطاع الكهرباء، مع الإعلان عن رفع كبير في التعرفة المنزلية والصناعية، في خُطوة وصفت رسمياً بأنها جزء من خُطّة "إصلاح شامل لقطاع الطاقة" يهدف إلى تأمين استقرار الإمدادات وتقليص العجز المزمن. ترافق ذلك مع تحسُّن ملموس في ساعات الوصل الكهربائي في العاصمة دمشق وحلب، وصل في بعضها إلى تغذية شِبه مستمرة للمرة الأولى منذ عام 2011، الأمر الذي حرصت الحكومة على تقديمه كمقابل مباشر لرفع الأسعار. في المقابل، أظهر المزاج الشعبي حالة استياء واسعة، خاصة مع استمرار تقنين قاسٍ في العديد من المحافظات، وتراكُم موجات سابقة من رفع أسعار الاتصالات والخدمات العامة، مما جعل قرار الكهرباء يبدو امتداداً لمسار تضييق معيشي راهن وليس نقطة تحوُّل إيجابي.​      

تعكس هذه التطوُّرات تلاقي ثلاثة مستويات من الحسابات لدى صانع القرار: الحاجة لتخفيف العِبْء المالي عن الموازنة، والسعي لتحسين مصداقية الكهرباء في المراكز الأساسية، والرهان على قدرة المجتمع على استيعاب موجة جديدة من الغلاء بعد زيادة الأجور الاسمية الأخيرة. ثمّ يصبح السؤال المركزي: هل يُشكِّل هذا القرار خُطوة نحو إصلاح مستدام للقطاع، أم مجرد نقل منظَّم لأعباء الأزمة من الدولة إلى الأُسَر والقطاع المنتِج؟​      

أولاً: سياق القرار وتفاصيله      

أعلنت الحكومة السورية في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2025 عن تعديل شامل لتعرفة مبيع الكهرباء، دخل حيِّز التنفيذ ابتداءً من الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر، ليُعَدّ أكبر تغيير في سياسة التسعير منذ عام 2011. تم تحديد سعر الكيلوواط الساعي للاستخدام المنزلي في الشريحة الأولى من 1 إلى 300 ك.و.س عند 600 ليرة، مع تسعير كل ما يزيد عن ذلك بـمبلغ 1400 ليرة، في حين جرى توحيد تعرفة التوترات الصناعية عند مستوى 1400 ليرة لكل كيلوواط "لكامل الكمية المستهلكة". بالمقارنة مع التعرفة السابقة التي تراوحت بين 135 و260 ليرة للكيلوواط المنزلي بحسب الشريحة قبل 2025، فإن القرار يمثل قفزة قد تصل إلى عشرات الأضعاف في بعض الحالات، مع تقديرات تشير إلى أن الزيادة في بعض الشرائح تلامس 60 ضعفاً عن مستويات ما قبل الحرب.​      

برّرت الحكومة هذه الخُطوة بالإشارة إلى أن تكلفة إنتاج الكيلوواط الساعي تصل إلى نحو 15 سنتاً أمريكياً، في حين كانت الأسعار السابقة أقل بكثير من التكلفة، بما يراكم خسائر سنوية بمليارات الليرات على قطاع الكهرباء. وتحدثت التصريحات الرسمية عن "تصحيح التشوُّهات السعرية"، و"تحقيق العدالة في توزيع الدعم"، و"ضمان استمرارية الخدمة"، وهي مفردات تتقاطع بوضوح مع الأدبيات المرتبطة بإصلاحات رفع الدعم التي تشجع عليها المؤسسات المالية الدولية في البُلدان ذات العجز المرتفع. في المقابل لم يترافق القرار مع حزمة متماسكة من أدوات الحماية الاجتماعية للأُسَر الأشدّ هشاشة، رغم الإعلان سابقاً عن نيّات "إعادة هيكلة الدعم" وليس إلغاءه، مما عزَّز الانطباع الشعبي بأن الرفع أقرب إلى جباية اضطرارية منه إلى إصلاح مدروس.​      

بالتوازي مع رفع الأسعار، شهدت بعض المناطق تحسُّناً ملحوظاً في برامج التغذية الكهربائية، وهو ما حرصت الحكومة على ربطه مباشرة بسياسة التسعير الجديدة لإظهار "المقايضة" بين الأسعار والاستقرار الخدمي. في دمشق يشير مسؤولون في قطاع التوليد إلى أن الإنتاج الكهربائي ارتفع إلى نحو 2400 ميغاواط، مما أتاح توفير تغذية على مدار 24 ساعة في العاصمة للمرة الأولى منذ عام 2011، مع وعود بتعميم التحسن تدريجياً على بقية المحافظات خلال السنوات المقبلة. وفي عدة مناطق أخرى، رفعت وزارة الطاقة ساعات الوصل من نحو ساعة ونصف يومياً سابقاً إلى ما بين 6 و8 ساعات، مع حديث رسمي عن إمكانية الوصول إلى 14 ساعة تغذية في المرحلة التالية واستكمال خطط الاستثمار والتأهيل.​      

لكن هذه الصورة لا تنعكس بالتساوي على كامل الجغرافيا السورية؛ إذ يستمر التقنين القاسي في عدد من المحافظات، مع ساعات تغذية تتراوح في بعض الأرياف بين 2 و4 ساعات يومياً مقابل انقطاع طويل يصل إلى 20 أو 22 ساعة في اليوم، مما يكرس فجوة واضحة بين مركز القرار وأطرافه. هذا التباين يغذي انطباعاً بأن تحسُّن الكهرباء يجري توجيهه بشكل انتقائي نحو المراكز السياسية والإدارية والاقتصادية الأساسية، بينما تبقى المناطق الأقلّ وزناً سياسياً في مرتبة متأخرة على سُلَّم الأولويات، رغم تحمُّلها العِبْء ذاته من رفع الأسعار. ويضع ذلك علامات استفهام حول مدى اتِّساق خطاب "تحسين الخدمة مقابل رفع التعرفة" مع الواقع الملموس لدى شرائح واسعة من السكان خارج دمشق والمدن الكبرى.​      

ثانياً: الدوافع المالية والاقتصادية للحكومة      

تُواجه الحكومة السورية عجزاً هيكلياً في قطاع الكهرباء، ناجماً عن تدمير جزء كبير من البنية التحتية خلال الحرب، وارتفاع تكلفة الوقود المستورد أو المهرَّب، وتآكُل الإيرادات نتيجة التسعير المنخفض وارتفاع الفاقد الفني والتجاري. تُشير تقديرات رسمية إلى أنّ خسائر القطاع وصلت إلى نحو 3 تريليونات ليرة سنوياً، وإلى ما يقارب مليار دولار نتيجة بيع الكهرباء بأقلّ من كلفتها، مع فاقد فني تجاري يتجاوز 30 إلى 35% من الطاقة المنتجة؛ بسبب الهدر والسرقات وضعف الاستثمار في الشبكات [1] .      

تحاول الحكومة استخدام التسعير الجديد كأداة لتقليص العجز المباشر في مؤسسة الكهرباء، وتوفير موارد ذاتية تساهم في تمويل عمليات الصيانة والتأهيل، بدلاً من الاعتماد الكامل على الموازنة العامة المرهَقة أصلاً.​ غير أن التركيز على العامل المالي وحده يتجاهل أن العجز في قطاع الطاقة هو في جوهره نتيجة تراكب 3 عناصر هي: ضعف الكفاءة التشغيلية، ونقص الاستثمارات، وبيئة اقتصادية عامة تعيق تحفيز الإنتاج والصادرات القادرة على توليد موارد بالقطع الأجنبي.      

مع أن الحكومة تطرح برنامجاً استثمارياً بقيمة تقارب 7 مليارات دولار لإعادة تأهيل قطاع الكهرباء خلال السنوات المقبلة، فإن تحقيق هذا الهدف يرتبط بدرجة القدرة على جذب استثمارات خارجية وشراكات مع شركات دولية، في ظل بيئة سياسية واقتصادية ما تزال عالية المخاطر. كما أن ربط "استدامة الخدمة" برفع الأسعار فقط دون استكمال إصلاحات الحَوْكَمة والحدّ من الفساد وتحسين التحصيل وتقليل الفاقد، قد يؤدي عملياً إلى نقل العِبْء إلى المستهلكين دون ضمان حقيقي لسلامة استثمار هذه الموارد.​      

ثالثاً: الآثار على المجتمع والقطاع الخاصّ      

تصل حصّة الكهرباء من دخل الموظف الحكومي بعد التعرفة الجديدة إلى نحو 30 أو 40% من الراتب في حال استخدام التدفئة والأجهزة الأساسية وفق نمط استهلاك متواضع، مما يعني عملياً أن فاتورة الطاقة وحدها باتت كفيلة باستنزاف الجزء الأكبر من الدخل النقدي. ومع أن الحكومة أقرّت في فترات قريبة زيادة للأجور بنسبة تقارب 200% لموظفي القطاع العامّ، فإن هذه الزيادة تزامنت مع موجة متتالية من رفع أسعار الخدمات الأساسية، على رأسها الكهرباء، والاتصالات، والإنترنت، وبعض الرسوم والبدلات، مما حدّ من الأثر الفعلي لهذه الزيادة على القوة الشرائية. وبالتالي، ستجد كثير من الأسر نفسها أمام معادلة "راتب أعلى اسماً، لكن بسلّة استهلاك أضيق فعلياً"، مع توسُّع مساحات الحرمان من خدمات كانت تُعَدّ سابقاً جزءاً من الحدّ الأدنى لمستوى المعيشة.​      

قد تُؤدي سياسة الشرائح الجديدة عملياً إلى دفع الأُسَر ذات الاستهلاك المتوسط إلى ما فوق الحدّ الأدنى سريعاً، لتتحمل تعرفة أعلى بكثير بمجرد عبور سقف 300 ك.و.س، في حين تظلّ الأُسَر الأشدّ فقراً عاجزة عن استهلاك الكمية الكافية أصلاً لتستفيد من الشريحة المدعومة.      

بهذا المعنى، تُصبح التسعيرة أداة لإعادة توزيع معكوسة تنقل جزءاً من الدعم الضمني من القاعدة الأوسع ذات الدَّخْل المحدود إلى المستهلكين القادرين والأطراف المهيمنة التي تستفيد من استقرار الكهرباء في مناطقها وقدراتها على الاستعاضة بمولدات خاصة أو الطاقة البديلة، إضافة إلى أنّ ارتفاع كلفة الكهرباء ينعكس فوراً على أسعار السلع والخدمات الأخرى عَبْر انتقال تكاليف الإنتاج والتخزين والنقل إلى المستهلك النهائي، مما يفاقم موجة التضخم المزمنة في الاقتصاد السوري.​      

بالنسبة للقطاع الصناعي والورش الصغيرة والمتوسطة، يُمثل رفع التعرفة الكهربائية تحدّياً مزدوجاً: فمن جهة، إنّ تخفيض الفجوة بين السعر الرسمي وسعر المولدات الخاصة قد يشجع بعض المنشآت على العودة إلى الشبكة العامة جزئياً، خاصة مع تحسُّن ساعات التغذية في بعض المناطق الصناعية. ومن جهة أخرى، فإن تثبيت التعرفة الصناعية عند مستوى مرتفع نسبياً بالدولار -مقارنةً بقدرة المنتج السوري المحدودة على المنافسة في الأسواق الداخلية والخارجية- يزيد من صعوبة تعافي الصناعة الوطنية التي تعاني أصلاً من تكاليف تمويل عالية، وضعف الطلب الداخلي، ومشكلات لوجستية وتصديرية. وبالتالي قد تجد الكثير من الورش الصغيرة نفسها أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما تقليص الإنتاج والعمالة لتجنُّب الخسائر، أو رفع الأسعار بشكل يُفقدها جزءاً من زبائنها لصالح سلع مستوردة أو بدائل غير رسمية أقل جودة.​      

كما أن الوعود بتحسين مستدام للتغذية الكهربائية خلال 3 و5 سنوات، استناداً إلى خطط الاستثمار الحالية وارتفاع الإنتاج إلى نحو ثلث الحاجة فقط، تبقى رهينة عوامل سياسية وأمنية خارجة عن سيطرة الفاعلين الاقتصاديين، لا سيما في ظلّ تقديرات رسمية بأن استقرار التيار الكهربائي على مستوى البلاد قد يحتاج إلى عدة سنوات إضافية.      

هذا المستوى العالي من عدم اليقين يجعل قرارات الاستثمار متوسط الأجل وطويله أكثر تعقيداً، إذ يصعب على المستثمر المحلي أو الخارجي بناء نماذج تكلفة وعائد واضحة في ظلّ تعرفة متحركة وخدمة غير مستقرة. وفي غياب رؤية واضحة لتدرّج الأسعار مع تحسُّن الخدمة، قد يُنظر إلى القرار الحالي كخطوة أولى في مسار مستمر من الرفع المتتابع، مما يعمّق حالة التحفظ والحذر لدى القطاع الخاص.​      

رابعاً: البُعد السياسي وإعادة تشكيل العقد الاجتماعي      

تاريخياً، شكّل دعم الطاقة أحد أعمدة العقد الاجتماعي في سوريا؛ حيث اعتُبرت الكهرباء خدمة أساسية تُقدَّم بسعر رمزي مقابل القبول بنمط حكم مركزي ومجال سياسي محدود، وهو توازُن تعرّض لتآكُل واسع خلال سنوات الحرب. إعادة تسعير الكهرباء حالياً بعد سقوط نظام الأسد بهذا الشكل، مع تركُّز ملموس لتحسُّن الخدمة في العاصمة ومراكز الثقل الاجتماعي والاقتصادي مثل حلب، تعكس –إلى حدّ كبير– محاولة لإعادة تشكيل هذا العقد على أساس جديد قوامه "خدمة أفضل نسبياً لمناطق محددة مقابل قبول ضمني بترتيبات اقتصادية أكثر قسوة". في المقابل، تبقى المناطق الأبعد عن مركز القرار أمام معادلة: "ارتفاع الأسعار دون تحسُّن كافٍ في ساعات الوصل"، مما يغذي إحساساً متزايداً باللاعدالة المكانية وبوجود "درجات" مختلفة للمواطنة الخدمية.​      

كما أن تزامن القرار مع رفع أسعار خدمات أخرى، على رأسها الاتصالات والإنترنت، ومع تآكل مستوى الدخل الحقيقي، يعزز الانطباع بأن الدولة تستخدم أدوات التسعير لتعويض جزء من تراجُع قدرتها على الجباية الضريبية التقليدية، عَبْر توسيع ما يشبه "الضرائب غير المباشرة" المضمّنة في فواتير الخدمات.      

هذا النمط يُحمّل الفئات محدودة الدخل ومتوسطته عبئاً نسبياً أكبر من الفئات الأعلى دخلاً أو المرتبطة بشبكات مصالح قادرة على حماية نفسها عَبْر الوصول إلى مصادر طاقة بديلة أو إعفاءات غير رسمية. وفي غياب مؤسسات تمثيلية قويّة وآليات مساءَلة فعّالة، تتضيق مساحة التفاوض الاجتماعي حول هذه السياسات، لتتحول قرارات بحجم إعادة تسعير الكهرباء إلى إجراءات أحادية الجانب تُفرض من أعلى، مع الاكتفاء باستخدام وسائل الإعلام الرسمية لتسويقها بوصفها "إصلاحاً لا بد منه".      

خُلاصة      

يبدو قرار رفع تعرفة الكهرباء في سوريا –بالتزامن مع تحسُّن جزئي في مستوى التغذية– جزءاً من محاولة حكومية لتفادي انهيار كامل لمنظومة الطاقة عَبْر تحميل المجتمع الجزء الأكبر من كلفتها، مع توظيف محدود لأدوات إعادة التوزيع والحماية الاجتماعية. نجاح هذا المسار يتوقف على قدرة الدولة على إثبات أن ما يدفعه المواطن اليوم سيعود عليه فعلاً في شكل خدمة أكثر استقراراً خلال السنوات القليلة المقبلة، لا أن يتحول إلى مجرد مورد إضافي يُسهم في سد فجوات مالية آنية دون أثر بنيوي على القطاع. وفي حال استمر التباين الكبير في ساعات التغذية بين دمشق وبقية المحافظات، مع استمرار موجة الغلاء في الخدمات الأساسية الأخرى، فإن مستوى الرضا الاجتماعي عن القرار سيظل متدنياً، مما قد ينعكس في أشكال مختلفة من الامتناع عن الدفع أو توسُّع اللجوء إلى حلول غير رسمية تزيد الفاقد وتُضعف جدوى "الإصلاح".      

يبدو ضرورياً أن يُستكمل القرار بحزمة متكاملة تشمل: تحسين كفاءة الجباية وتقليص الفاقد قبل أيّ رفع جديد للأسعار، وتعزيز الشفافية حول كلفة الإنتاج واستخدام الإيرادات، وتبني برامج دعم موجَّهة للفئات الأشدّ هشاشة، وربط أي زيادة مستقبلية في التعرفة بمؤشرات ملموسة لتحسُّن الخدمة. كما أن توسيع قاعدة الشراكات الاستثمارية في قطاع الكهرباء ضِمن بيئة قانونية أوضح وضمانات أكبر للمستثمرين يمكن أن يخفف الضغط عن المالية العامة، ويُقلل الحاجة إلى اللجوء المتكرر لرفع الأسعار كأداة وحيدة لمعالجة العجز.      

في غياب هذا النوع من المقاربة الشاملة، سيظل قرار رفع الأسعار بالتزامن مع تحسُّن محدود في الكهرباء خُطوة ناقصة، تكشف عمق أزمة الاقتصاد السوري ومحدودية هوامش الحركة أمام صانع القرار أكثر مما تُقدِّم نموذجاً مكتمل الأركان لإصلاح قطاع حيوي بحجم قطاع الطاقة.      

 

[1] الطاقة المفقودة: قراءة نقدية في سياسة تسعير الكهرباء في سوريا لعام 2025، سوريا الغد، 30-10-2025،  الرابط .      

 

 

Researchers