قراءة تحليليّةٌ لمفهوم "ما بعد الإسلاموية" في أطروحة "آصف بيات"
حجم الخط
قراءة تحليليّةٌ لمفهوم "ما بعد الإسلاموية" في أطروحة "آصف بيات"
عرابي عبد الحيّ عرابي
ينال مفهوم "ما بعد الإسلامويّة" اهتمامًا خاصًّا لدى الباحثين المعاصرين في الحركات الإسلاميّة؛ فقد احتلّ مقام السرديّة الجديدة أو النموذج التحليليّ في تفسير التطوّرات الحاصلة في بُنى الأفكار والمجتمعات وعلاقاتها التاريخيّة التي تنتمي إليها وتوجُّهاتها المستقبليّة، ممّا يشير إلى أنّه أضْحَى شبكةَ مفهوماتٍ مترابطةٍ ببعضها ومؤثِّرة فيما بينها تحت مُسَمَّى "ما بعد الإسلامويّة".
لحظة "ما بعد الإسلاموية" التأسيسيّة:
يعود الفضل في إنشاءِ هذا المُصطَلَح إلى المفكّر الاجتماعي الإيرانيّ/ الأمريكيّ "آصف بيات" إبّان رصده بدايات لتوجّهات "ما بعد إسلامويّة" في دراسته للحالة الإيرانيّة -عام 1996- حيث ناقش ظهور تيّارات اجتماعيّة وأفكارًا دينيّة جديدةً بعد مراجعاتٍ جسّدها ممثِّلو النزعات الإصلاحيّة، فكانت ورقته في اقتراحها لمفهوم "ما بعد الإسلامويّة" موجَّهةً لتحليل الأوضاع الجديدة في الجمهوريّة الإيرانيّة، مع ملاحظة أنّه لمَس وُجودَ نماذِج عامّة لهذه الصيغة التفسيريّة خارج الحدودِ الإيرانيّة.
وعلى الرغم من أنّ المفهوم أُخِذَ في بداياته على نحو وصفيٍّ وتصنيفٍ تاريخيّ إشارةً لنهاية مرحلة "تاريخيّة معيّنةٍ" وبداية لمرحلة أخرى جديدةٍ؛ فإنّ المفهوم تلقّى انتقاداتٍ عديدةً من قِبَل العديد من الباحثين والمفكّرين نظرًا لـ "تأطيره المفهوميِّ القاصر من ناحية وعدم الوعي به جزئيًّا من ناحية أخرى"، إضافةً إلى انتقاد بعضهم الادّعاء المفتَرَض بانتهاء الإسلامويّة وبروز مرحلة ما بعد الإسلاموية، محاجِجين بأنَّ ما تغيّر إنّما هو النّمط الثوريُّ من الإسلام السياسيّ أو أنّ ما يراه بيات من سمات "ما بعد الإسلاموية" عائدٌ إلى بعض التجديد في شكليَّات السياسة الإسلامويّة.
سنحاول في هذه المقالة عرض النّموذجِ التّحليليّ الذي قدّمهُ بيات في مُحاوَلَتِه المذكورة مع بيانِ أهمّ الانتقادات التي وُجِّهَت إليها ومناقشته لها.
جدليَّة المفهوم بين "الإسلامويّة" و"ما بعد الإسلامويّة":
أوّلاً: "الإسلامويّة" حدودُ المصطلح وسمات تيّاراته:
يستخدم "بيات" مصطلح الإسلامويّة للإشارة إلى الأفكار والحركات التي تسعى لإقامة "نظامٍ إسلاميّ" يتمثّل في دولةٍ دينيَّةٍ تُحكَم بالشّريعة وتفرِض القوانين الأخلاقيّة الخاصّة بها في المجتمعات الإسلاميَّة؛ وبناءً على هذا فإنَّ الارتباط بالدولة ملمَحٌ أساسٌ للحركات الإسلامويّة وكذلك ارتباط هدفها الأساس بإقامة المجتمع العقائديّ، وبالتالي فإن تأمين الرّفاه والخدمات الاجتماعيّة سيتحقّقان تَبَعًا لتحقُّق هذين الهدفَين الاستراتيجيّين. ويَعُدُّ بيات هاتين الخصيصَتَين المميّز الأهمّ بين من ينطبق عليه مفهوم الإسلامويَّة ومن لا ينطبق عليه، ومن ثَمَّ فإنّ جماعةَ التبليغ والدعوة الإسلاميّة لا يمكن عدُّها حركةً إسلامويّة -برأيه-؛ إذ إنّ مشروعها يتمحوَر حول "إعلاء التّقوى الفعّالة" في نزوعٍ مباشِرٍ نحو الاعتماد على الفَردَانيّة والسَّلَفِيّة الأصوليّة الهادئة لا لغرض إقامة دولةٍ إسلاميّة وإنّما لاستعادة الذّات المسلمة والتّبشير بها، فهي لا تهتمّ بالوُصول إلى السّلطة البتّة وإنّما ينصبُّ اهتمامها على تحقيق الصّحوة الرّوحية للمسلمين.
يجعلُ بيات مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أهمّ الأسباب التي تدفع الإسلاميّين إلى التّمسّك بالوصول إلى السلطة، ويرى أن هذا المبدأ بقي غامضًا وذا تفسيراتٍ مختلفةٍ وتعريفات متقاطعة أحيانًا ومتضاربةٍ أحيانًا أخرى، إلا أنّه كان تاريخيًّا مُناطًا بالقضاةِ والغلاةِ في الحِقَب السابقَةِ، بينما تجسّدت هيكليّات بعضَ الدُّولِ الحديثةِ على تأدية هذا الدور وإعلاءِ أهمّيَّته، وذلك كما في الحالَتَين "الإيرانيّة والسعوديّة"، ومن ثَمّ فإنّ تحقُّق السُّلطة للحَرَكات الإسلامويّة سيضمن لها -إضافةً إلى التّحكم بالدولة- تعزيزَ هذا المبدأ الغائيّ.
هذه المحدِّدات التي يشير إليها بيات تؤدّي به إلى "أنّ رؤى الإسلاميّين الشرعيّة والقِيَميّة تؤكّد على "واجباتِ" النّاس أكثر من "حقوقِهم" فهُم محضُ رعايا مُلزَمون أكثر من كونهم مواطِنين ذَوِي حُقوق".
ثانِيًا: مصطلَحُ "ما بعد الإسلامويّة" الدّلائل والماهيّة:
يشيرُ بيات في تعريفه "ما بعد الإسلامويّة" إلى أنّها تمثّل "حالةً" و "مشروعًا"، فقد أوضَحَت التحوُّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي أعقَبَت مرحلة تجريب الإسلامويَّةِ مدى استنزاف طاقاتها ومصادرها، كما أصبح الإسلاميّون واعين بتماثُلاتِ خطاباتهم واختلافاتها، في الوقت الذي يحاولون فيه التّأسيس لمراحل حُكمهم القادمة، وأضحَت أطُرُهم السياسيّة عرضةً للتساؤلات والانتقادات؛ ممّا دفع بعضهم إلى التخلّي عن بعض المبادئ المؤسِّسة للإسلامويّة في شكلٍ يشبِه إعادة اختراعٍ للإسلامويّة أو تحوّلٍ عنها إلى شكلٍ جديدٍ من التّعامل مع الخطاب الدينيّ والسياسيّ، وقد مثّل "بيات" لذلك بالحالة التجديديّة الإيرانية في حقبة التسعينات.
وتتمثَّل "ما بعد الإسلامويّة" "مشروعًا" بكونها محاولة لصياغةِ مفاهيم عامّة وتأطير استراتيجيّة جديدةٍ لبناء منطق مُتجاوزٍ للإسلامويّة في المجالات الفكريّة والاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة، فهي بهذا المعنى ليست علمانيّةً أو غير إسلاميّة؛ إذ إنّها تسعى إلى دمج التديُّن بالحقوق، والإيمان بالحرّية، والإسلام بالتحرُّر، من خلال قلب المبادئ المؤسّسة للإسلامويّة رأسًا على عقب بالتأكيد على الحقوق محلّ الواجبات، والتعدُّدية عوضًا عن السلطويّة الفرديّة، والتاريخية بدلاً عن النصوص، والمستقبل مكانَ التاريخ، في مزاوَجَةٍ بين قِيَم الإسلام من ناحيةٍ والديمقراطيّة والحداثة من ناحيَةٍ أخرى ابتغاءَ تحقيق "حداثةٍ بديلةٍ"؛ إذ في الوقت الذي تتحدّد الإسلامويّة فيه بربط الدين بالمسؤوليّة فقد عُبِّرَ عن "ما بعد الإسلامويّة" -بحسب بيات- بالاعتراف ببعض الأسس العِلمانيّةِ مثل التحرُّر من التزمُّت، والقطيعة مع احتكار الحقيقة الدينيَّة مع التّأكيد على حُرِّيّةِ التديُّن ودور الدين في المجال العامّ وأهمِّيّة الحقوق والدولة المدنيّة.
إستراتيجيّات تطبيق الإسلامويّة وَسِمات الانتقال إلى ما بعد الإسلامويّة:
أوَّلاً: استراتيجيّات التيّار "الإسلامويّ":
• يؤكِّد بيات على أنّ الحركات الإسلامويّة وإن اتّفقت في الهدف فإنّ أساليبها تتنوّع بحسب الطُّرُق التي تتّخذها لتحقيق غايتها الاستراتيجيّة، فيسعى "الإصلاحيّون" إلى إقامة دولة إسلاميّة تدريجًا من خلال الأُطُر السلميّة والأساليب الدستوريّة، فهُم إسلاميُّون انتخابيّون يرفضون استخدام العنف ويسعون إلى العمل من خلال تبنّي الإجراءات الديمقراطيّة وتعبئة المجتمع المدنيّ من خلال الروابط المهنيّة والمنظّمات غير الحكوميّة والمساجد والجمعيّات الخيريّة، وتمثّل جماعة "الإخوان المسلمين" -برأي بيات- في مصر والجزائر والسودان والكويت والأردن هذا الاتّجاه، كما تمثّله "الجماعة الإسلاميّة" الباكستانيّة، وحركة "ميلّي غوروش" التركيّة. ويشير بيات إلى أنّ استراتيجيّة هذه الجماعات متطابقةٌ مع منظور "غرامشي" في "بناء الهيمنة الأخلاقيّة والسياسيّة" تدرُّجًا تصاعُدِيًّا بدءًا من القواعد بأسلمة المجتمع وانتهاءً بأسلمة الدولة.
• لجأت -بالمقابل- الحركات "المقاتلة" أو "الثوريّة" إلى الإرهاب والعنف الموجَّه إلى مؤسّسات دُوَلِها الرسميّة والمصالح الغربيّة والمدنيّين من غير المسلمين، ساعيةً إلى تحقيق ثورةٍ ذات نمطٍ لينينيّ للإطاحة بالدولة بالقوّة، الأمر الذي سيحقّق -حالَ نجاحه- أسلمةَ المجتمع من الأعلى، فتعمل هذه الحركات "الثورية" -في حقيقتها- حركات سياسيّة داخل دولها؛ إلا أنّها تستهدف "العلمانيّة" بشكل أساسيّ، وهو ما يميّزها عن التنظيمات الجهاديّة العابرة للحدود -كتنظيم القاعدة- التي تدفعها رُؤاها "الخلاصيّة" في حركة الصّراع مع "الحضارات" الغربيّة، فهي تستهدف المُثُل المجرّدة التي تجسّدها الحضارة الغربيّة الفاسدة ومجتمعاتها "الكافرة"، أي أنّ غايتها الجهاد في حدّ ذاته، فهم يلجؤون للعنف بلا تمييز ضدّ أنفسهم وضدّ أهدافهم. وفي المحصّلة فإنّ هذه الحركات -الإسلاموية الانتخابية أو الثوريّة- بعمومها تستخدم لغة دينيّةً وتعتمد من الدين إطارًا للمفاهيم، ويفضّلون النظام الاجتماعي القائم على الأخلاق المحافظة والإقصاء كما يُشعِرون الأفراد بأبويّتهم فلا يتسامحون -لذلك- مع الأنماط التجديديّة المغايرة لمبادئهم واعتقاداتهم، فتحوّلت أنماطهم الفكريّة والحياتيّة إلى أيديولوجيّة تمتزج فيها صفتان عامّتان: الالتزام الديني واستخدام لغة الحقوق، وهو ما يكوِّن خصيصةً مفارِقَةً لرؤيةِ ما بعد الإسلامويّة.
وتشير الدلائل إلى أنّ الحركات الإسلامويّة تلقّت الدّعم من مجموعات متنوّعة تقليديّة وحديثة ومن أعمار مختلفة وطبَقَات اجتماعيّة شتى، ممّا ينقضُ التفسيرات التي تختزل الحركات الإسلامويّة بجملتها ضمن الاتجاه "التقليدي" وطبَقاتٍ معيّنة؛ إذ على الرغم من قرب الإسلامويين من الطبقات الفقيرة إلا أنّ العلاقة فيما بينهما تظلّ ضمن هامش الانتفاع المتبادَل، فيمنح الفقراء الإسلاميين دعمهم مصلحيًّا مقابل مكاسب مادّية أو اجتماعيّة وذلك بذات المنطق الذي قد يتعاملون به مع المجموعات اليسارية والعلمانيّة.
ثانيًا: سِمات التحوُّل إلى "ما بعد الإسلامويّة":
يحدّد بيات بدايات ظهور ما بعد الإسلاموية في حقبة نهاية الحرب مع العراق عام 1988، ووفاة الخميني 1989، وبدء برامج الإعمار في عهد هاشمي رفسنجاني. لقد تجسّدت "الما بعدية" -برأيه- في ظهور حركات واتجاهات اجتماعيّة وخطابات دينيّة جديدة في أوساط الشباب والطلبة والعاملين في السلك الديني الذين طالبوا بالديمقراطية وحقوق الفرد والتسامح والمساواة بين الجنسين وفصل الدّين عن الدولة، ممّا أجبر النُّخبة الدينيّة والفكريّة على البَدْءِ بإحداث نقلة نوعيّةٍ في النموذج الفكريّ، فأدانت مجموعاتٌ من الإسلاميّين "الدولةَ الدينيّةَ" لكونِها خطرًا على الدولة والدّين على حدٍّ سواء، وبذا فقد تشكَّل داخل الدولة الإيرانيّة خصومٌ داخليّون -كانوا أصدقاء سابقين- يدعون إلى علمنة الدولة مع المحافظة على الأخلاق الدينيّة في المجتمع.
محاولات رصديَّة لمفهوم "ما بعد الإسلاموية":
تعقَّب عدد من الباحثين مفهوم ما بعد الإسلاموية بصيغته "البياتيّة" ضمن إطارين أحدهما يؤكّده والآخر يكمّله بمراجعات نقديّة، فقد تناوَلت الدراسات التي قدِّمت في ملفِّ "ما بعد الإسلاموية، الأوجه المتغيّرة للإسلامِ السياسيّ" الإشاراتِ الّتي رصدت ظهور "ما بعد الإسلامويّة" فقُدِّمَت تحليلاتٌ واسعة لشريحة من التحوُّلات المركَّبة في أساليب الخطاب وتوجُّهات الفكر الديني والسياسيّ في عدد من الدول الإسلاميّة، حيث أشارت دراستان إلى تطوُّر التعامل السياسي في تركيا ممثَّلة بتجربة حركة "ميلّي غوروش" الإسلامويّة ثم تجربة "العدالة والتنمية" ما بعد الإسلاموية طبقًا لمسارين أحدهما اقتصادي تؤيّده دراسة د. جيهان توغال، والآخر بُنيويّ فكريّ تؤيّده أطروحة د. إحسان داغي، فتؤكّد الدّراستان على وجود تحوُّل داخليٍّ في الحركة الإسلاميّة بحسب الدوافع التي جسّدت هذا الانتقال، وتوضح -كذلك- دراسة المسار الديني السياسي في المغرب العربي في حالتَي تونس والمغرب وجود تشابهٍ مع الحالة التركيّة، وذلك بعد تطوُّرات فكريَّةٍ وسياسيّة ملاحَظَةٍ للعيان، سواءً من حيث تعديل مشروعهم السياسي ليكون صالحًا للعمل في حدود الضرورات السياسية مما أحدث تحوُّلاً نموذجيًّا في منظورهم، أو من خلال الاعتراف بحقوق الناس واختياراتهم ومحاولة خلق نظام اجتماعيٍّ يضمن العدالة مع احترام القِيَم الإسلاميّة.
في ناحيَةٍ أخرى يرى نور هادي حسن أنّ التوجُّه نحو العنف من قِبَل بعض الجماعات الراديكاليّة في إندونيسيا دفع علماءَها إلى المبادرة لرفضه لما له من أخطار على الدين والمجتمع والسياسة، وقد كانت هذه القاعدةُ المبدأَ الذي ينطلق منه حزب العدالة والازدهار لتحويل مطالبه من تطبيق الشريعة إلى التركيز على مقاصد الشريعة باعتبارها غاية الإسلام التي تتحقّق بالعدل والحكم الرشيد واحترام حقوق الإنسان، معترِفًا بأن العلمانية أساسٌ مسبَقٌ للديمقراطيّة الليبرالية.
أمّا دراسة اقتدار حسن فتشير إلى أن الجماعة الإسلامية في باكستان دفعت -باتّباعها الطريق الانتخابيّ- بعض رموز الحركة الإسلامويّة إلى الانشقاق عنها وتأسيس جماعاتٍ أخرى متحالفة مع السلطة للدفع باتجاه "الاعتدال المستنير" أو الالتزام بالإيمان الداخلي والتقوى الفرديّة، إلا أن هذا التيّار "الحداثيّ" لم يتمكَّن من مواجهة هيمنة الجماعات الراديكاليّة الأخرى بسبب انتشار الجماعات ذات الميول الجهادية في أفغانستان وباكستان والاتّجاه الشعبيّ العامّ لرفض هذه التيّارات الجديدة المصنَّفَة على أنّها مستوردة من الغرب. وبالمِثل فإنّ هذه الحالة تشبه ما جرى من إعاقةِ ظهور تيّار معتدلٍ في المملكة السعوديّة في العقد الأوّل من الألفيّة الجديدة، حيث طالبت جهات إسلاميّة ذات ميول ليبراليّة عبر بيانات متعدّدة بإصلاح "العقيدة الوهابيّة" التي سبّبت "التخلُّف السياسيّ" في بلدهم، مع الحديث عن ضرورة التّعايش مع الغرب سلميًّا والإصلاح السياسيّ والتعدّدية البرلمانيّة والفصل بين السلطات وإتاحة الحرّيّات الأساسيّة، إلّا أنّ هذه الأفكار كانت في غاية التّطرف في وجهة نظر الطبقة الحاكمة آنذاك، فاتُّهِم العُلماء الذين طالبوا بهذه المبادئ بالإرهاب وزُجُّوا في السجون، وعلى الرغم من إطلاق سراح عدد من رموزها وإنشاء هذا التيّار لحزبٍ سياسيٍّ في بدايات الربيعِ العربيّ إلا أنّ هذه المجموعات لم تستطع استقطابَ المخيّلة الشعبيّة ومخاطبتها، إضافةً لوقوعها في خلافات فكرية عديدة فيما بين أفرادها.
في ختام الملفِّ تشير دراستان إلى وجودِ توجّهات "ما بعد إسلامويّة" منذ عقود طويلة في السودان وسورية، فبيّنت دراسة د. عبد الوهّاب الأفندي أنّ التوجّهات "ما بعد الإسلاموية" -بحسب مفهومِ بَيَات- كانت قد ظهرت في حقبةٍ سابقة على ظهور الإسلاموية عالميًّا، إذ إنّ أعمال الشيخ حسن الترابي في حقيقتها استكمالٌ للتّجديد الفكريّ الذي قاده عبد الرحمن بن المهدي في بُنيَة الحركة المهديّة التي استمرَّت في التغيُّر والتطوُّر على مراحل متعدِّدةٍ، وقريبًا من ذلك توضّح دراسة "توماس بيريه" تجذُّرَ الخطاب الديمقراطيّ لدى جماعة الإخوان المسلمين في سوريّة ودور النظام من خلال دعمه شريحة العلماء في إسكاتِ الأصوات الدينيّة التجديديّة.
عَودٌ على بَدء "مفهوم ما بعد الإسلامويّة" مُراجعة "بيات" التّكميليّة:
يعيدُ بيات قراءة أطروحته بناء على المراجعات التي قُدِّمَت عنها، فيستنتج أنّ الرّوايات المتنوّعة لتغيُّرات الحركات الإسلامويّة تشير إلى مساراتٍ عدَّةٍ لظهور "ما بعد الإسلامويّة"، فقد ظهر "التيّار الإصلاحيّ" في إيران بسبب فشل الطبقة الحاكمة في مخاطبة المواطنين بناءً على حقوقهم ومُتطَلَّباتهم، بينما اضطرّت الإسلامويّة التركيّة إلى "التكيُّف" مع الواقع السياسيّ في البلاد، وضمن الإطار ذاته تراجعت الأحزاب الإسلامويّة في المغرب وإندونيسيا عن ماضيها الإسلامويّ، وأشارت التجارب السودانيّة والسورية إلى وجودِ توجّهات ما بعد إسلامويّة لمدّة طويلةٍ قبل ظهور الحركات الإسلامويّةعالميًّا. إضافةً لما سبَق يلاحَظُ اختلاف العمق في تجربة الانتقال إلى "الما بعد الإسلامويّة" بين دولةٍ وأخرى، لكنّ الجامع المشتَرَك بينها حصولُ تغيُّرٍ جذريٍّ في الرؤيا؛ إذ تدلُّ العلامات المحدّدةُ لـ "ما بعد الإسلامويّة" إلى تحقُّقها عند الانتقال إلى نقد الخطاب الإيديولوجيّ والخروج عن الحزمة الإسلامويّة القائمة على احتكار الحقيقة الدينيّة والإقصائيّة التي تؤكّد على الالتزامات، نحو الإقرار بغموض النصوص والتعدُّدية والاستيعاب والمرونة في المبادئ والممارسات.
يوكّد بيات -من ثَمَّ- على أنّ "ما بعد الإسلامويَّة" (قطيعةٌ خطابيّة أو ذرائعيّة عن النموذج الإسلامويّ)، منوِّهًا إلى أنّ الاتّجاه الانتقال لا يتحوَّل إلى ما بعد "الإسلاميّة" وإنّما إلى ما بعد "الإسلامويّة" في تأكيد على أنّه ليس ثمَّة انقطاع عن الإيمان الدينيّ نحو العلمنة، وإنّما اتّجاه إلى تجاوُز مرحلة الأسلمة، وذلك من خلال الالتزام بمشروع ديني مغايرٍ أكثر استيعاباً، يستمرُّ الإسلام فيه دينًا من ناحيةٍ ومكوّنًا مؤثِّرًا في المجالِ العامّ من ناحيةٍ أخرى.
وعليهِ فإنّه لا مسوِّغ لعَدِّ "ما بعد الإسلامويّة" نوعًا من التجديد يختلفُ في شكله عن الإسلامويّة فكأنّه محضُ تنويعٍ في النّموذج الإسلامويّ الواسع؛ إذ يدفع هذا الاختزال إلى الارتباك المنهجيّ في التصنيف نظرًا للخطابات المتباينة التي تقدّمها الأطرافُ المَعْنِيَّة تأسيسًا كان أو تعاملًا، وبالمنظور ذاته لا يَفِي مصطلح "التكيُّف" لتحليل التحوُّل الذي طرأ على التجربة الإسلامويّة في تركيّا؛ إذ إنّ الأمر في حقيقته قطيعةٌ بين حزب العدالة والتنمية وحركة ميلِّي غوروش كما هو الحال مع قطيعة الإصلاحيّين الإيرانيِّين مع أفكار التيّار المحافظ كالخمينيّين.
وعلى الرّغم من اتّصاف بعض الحركات الإسلامويّة بالمرونة الانتخابيّة كما هو الحال مع الجماعة الإسلاميّة في باكستان، إلّا أنّ ذلك لا يُدخِلها مرحلةَ "ما بعد الإسلامويّة"، فهي وإن صُنِّفت ضمن التيّار "المعتدِل" إلّا أنّ ذلك لا يعني انتقالها إلى "الما بعدية" بسببه؛ إذ الاعتدال في حدِّ ذاته يخفي سماتِ "ما بعد الإسلامويّة" المميِّزة لها، فيدلُّ على درجاتٍ من القطيعة ولكن على نحوٍ نسبيٍّ دائمٍ؛ إذ قد يكونُ ما يُعَدّ في إطار بعضٍ معتدِلاً أمرًا متطرِّفًا عند جهة أخرى.
تشتركُ ما بعد الإسلامويّة -بحسب بيات- مع مساحةٍ واسعةٍ من "الإسلامويّة الليبراليّة" التي ترى الإسلام متوافقًا مع الديمقراطية والدولة المدنيّة وحرّيّة الفكر، إلا أنّ "ما بعد الإسلامويّة" تحلِّل ما هو أكثر من هذا المعنى كونَها نقدًا لمشروع خرجت منه؛ إذ هي متعلِّقَةٌ بالقطيعة عن جذور الأفكار الإسلامويَّة، كما أنَّها تختلف عن الليبراليّة في عدم سعيها إلى خصخصة الإسلام، حيثُ إنّها تراه جزءًا من المجال العام، الذي يجب دعمه وتقويته.
على سبيل الختم:
يوصِّفُ "بيات" حالة "ما بعد الإسلامويّة" رؤيَةً نقديّةً تتجاوز السياسات الإسلامويّة المرتكزة على مبدأ الإيفاء بـ "الواجب"، كما أنّها في ذاتها "قطيعةٌ" نقديَّةٌ مع التيّارات الإسلامويّة في سبيل إصلاح تبعاتها الفكريّة والسياسيّة، مع التّأكيد على "أنّها ليست مشروعًا دينيًّا استيعابيًّا متماسِكًا"، ولذا فإنّه من المبكِّر الحُكمُ عليها.
يمكن الإشارةُ إلى مفهومَي "الإسلامويّة" و "ما بعد الإسلامويّة" فكريًّا على أنّهما نماذج تحليليَّة توضِّحُ الاختلاف والتغيُّر وجذور التغيُّر أيضًا، إلَّا أنّ الحياة الواقِعيّة قد تُظْهِر نماذجَ لأشخاصٍ يلتزمون الجانبين معًا في بعض المسائل أو أحدهما دون الآخر في مسائل أخرى، ومن ثَمَّ ينبغي التعامل مع "ما بعد الإسلاموية" على أنّها قطيعةٌ نقديّةٌ لا مرحلة تاريخيَّة تبدأ بتاريخ معيّن -مع التأكيد على أنّ ذلك لا ينفي وجود أرضيّةٍ تاريخيّةٍ لها- فقد تظهر مفهومات التيّارين بصفة متزامنة في بعض الشخصيّات أو التنظيمات؛ ممّا يحتِّمُ إعادةَ التفكير في شروط التحوّل إلى "الما بعد" وعزوَها إلى مفاهيمَ أكثر تحليليّة.