الخوف والبغض في بلاد الشام
Tem 12, 2016 2471

الخوف والبغض في بلاد الشام

Font Size

الخوف والبغض في بلاد الشام: تركيا تغير من سياستها واستراتيجيتها إزاء سوريا

ترجمة للمقال:

FEAR AND LOATHING IN THE LEVANT: TURKEY CHANGES ITS SYRIA POLICY AND STRATEGY
AARON STEIN

 

لقد انهار موقف تركيا الاستراتيجي في شمالي حلب وفي جيب منبج، وهو ما اضطر الحكومة التركية لإعادة تقويم سياستها إزاء سوريا. 
كانت بداية هذه النقلة في السياسة التركية في حزيران 2015 لما شرع المسؤولون الأتراك بالحديث علناً عن الحاجة لمنطقة آمنة تمتد من نهر الفرات إلى مدينة اعزاز التي تسيطر عليها المعارضة. 
اختلف مقترح السياسة الجديدة عما كانت تصر عليه تركيا من فرض منطقة حظر جوي شاملة تغطي كامل سوريا بتنفيذ طائرات تركية وأمريكية وطائرات باقي الحلفاء.
هدف هذه السياسة هو التصدي لأكبر تهديدين يمسان تركيا؛ حزب الاتحاد الديموقراطي وتنظيم الدولة الإسلامية. 
تعتمد الحكومة التركية حالياً مقاربةً ذات شقين فيما يخص الصراع السوري، حيث يشكل هذا التحول الدراماتيكي في السياسة التركية مغادرة لمربع الجهود التي بذلتها تركيا في السابق لتوجيه مسار الحرب في شمال سوريا كما ويعكس مخاوفها العميقة من التمكن الكردي سياسياً وعسكرياً.  
تركز أنقرة الضغط العسكري على النظام السوري جنوب مدينة حلب، في حين تتخذ خطوات للتحوط من احتمالية قيام حزب الاتحاد الديموقراطي في نهاية المطاف بربط المناطق التي انتزع السيطرة عليها من تنظيم الدولة الإسلامية غربي منبج بالمنطقة التي يسيطر عليها جنوب مارع. 
تعتزم تركيا إنشاء "قطاع صديق" من الأراضي -داخل جيب منبج- يسيطر عليها تحالف من العرب والتركمان، ولربما يمتد هذا القطاع بقدر 15 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، ويهدف هذا المجال لإبقاء ما تسمى "قوات سوريا الديموقراطية"، وهي مظلة للجماعات المتمردة التي تسيطر عليها ميليشيا حزب الاتحاد الديموقراطي، خارج الحدود التركية، وهي قوات تواصل زحفها غرباً بدعم أمريكي ضد تنظيم الدولة الإسلامية. 

هجوم إدلب: زيادة الضغط على الأسد 
عمقت هذه السياسة من الاعتماد التركي على المجموعات السلفية بينما وبذات الوقت وجهت هذه السياسةُ إعادةَ تقويم مقاربة أنقرة إلى مسألة بشار الأسد. 
تحمِّل الحكومةُ التركية النظامَ السوري مسؤولية جلّ -إن لم يكن كل- المشاكل في سوريا، بما في ذلك تمكين حزب الاتحاد الديموقراطي وظهور تنظيم الدولة الإسلامية. يعزز هذا التقدير من دعوات الحكومة التركية المتكررة لاعتماد استراتيجية شاملة في مواجهة التنظيم. ووفقاً لوجهة النظر هذه فإنه حتى يتسنى طرد التنظيم من سوريا ينبغي أن يُهزم النظام أولاً.
لم تستبعد الحكومة التركية كلياً إجراء مفاوضات مع النظام، ولقد دفعت منذ عام 2011 الأسد للتنحي لصالح خلفٍ تدعمه تركيا. 
يتعين –بالمقابل- على التوجه الجديد للسياسة التركية أن يلاقي قبولاً عند عدد كبير من الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا في شمال سوريا، وهي الفصائل التي من المفترض إدماجها في الجيش المستقبلي لسوريا الذي سيكلف بتنفيذ عمليات لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية. 
ولحصد هذه النتيجة تفضل تركيا التدخل القوي لصالح المعارضة بما في ذلك حملة عسكرية بإمرة غربية مباشرة لإسناد الفصائل المدعومة تركياً. 
ولقد اتخذت تركيا زمام المبادرة في تنفيذ عنصرٍ من هذه السياسة وهو: التسليح المباشر لمختلف الفصائل، انطلاقاً من الأراضي التركية، وذلك منذ بداية الحرب الأهلية السورية. 
وبخطوة أثارت الجدل أقدمت تركيا على إنشاء علاقات وثيقة مع حركة أحرار الشام، وهي جماعة سلفية عسكرية تهدف لإقامة نظام حكم شبيه بطالبان في أفغانستان. 
تعمل حركة أحرار الشام جنباً إلى جنب مع فرع القاعدة بسوريا؛ جبهة النصرة، كجزء من تحالف عسكري ينشط في إدلب وتدعمه تركيا والسعودية تحت مسمى جيش الفتح.
وبينما تتصاعد التوترات بين "الأحرار" و "النصرة"، تبقى الجماعتان متضامنتين في إدلب وتشكلان معاً شريك تركيا العسكري الأكثر فعالية في الشمال السوري. لايزال جيش الفتح الشريك الرئيس لتركيا في جهودها بإدلب، وتحديداً في هجومه الأخير على جنوب مدينة حلب والذي يهدد بتطويق النظام داخل المدينة.     
يشكل هذا الهجوم تحدياً مباشراً لمصالح أهم راعيين للنظام السوري؛ إيران وروسيا، اللتين تنشران قوى عسكرية في المنطقة كجزء من هجوم كان سابقاً بإمرة النظام. يستهدف سلاح الجو الروسي أهدافاً في المنطقة بينما تتواجد على الأرض مجموعات من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله ومختلف الميليشيات الشيعية رفقةَ قوات النظام.  
رغم ذلك، لازال جيش الفتح يواصل تحقيق المكاسب ربما بسبب انكشاف محدودية سلاح الجو الروسي الذي يعتمد بشكل شبه كلي على ذخائر غير موجهة، ما يجعله عاجزاً بالتالي عن تنفيذ ضربات دقيقة على الأهداف المتقدمة. 

مسألة الأسد:  
في سبتمبر 2015 أدلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتصريح صحفي تضمن أن الحكومة التركية على استعداد للقبول بحل سياسي، حيث يبقى الأسد في منصبه لمدة ستة أشهر بعد الموافقة على التنحي.
لم تمثل هذه السياسة تغيراً كبيراً عن دعم أنقرة السابق لبيان جنيف 2012، لكنها اختلفت عن إصرار تركيا السابق على تنحي الأسد مباشرة فورَ التوصل لاتفاق على الانتقال السياسي. 
ولقد أوضح أردوغان افتراضه العملي حول نوايا الأسد بإقامة "دولة صغيرة" لنفسه ولحلفائه، من المحتمل قيامها على طول الساحل السوري بدعم روسي.
تنظر تركيا إلى تقسيم الدولة السورية باعتباره تهديداً جدياً، بالنظر لِما قد يترتب على هذا الحدث من إنشاء منطقة فيدرالية كردية على معظم الحدود مع تركيا. وهذا بدوره سيخلق بيئة "حوافز متضاربة" لصناع السياسة التركية وخصوصاً مع الضربات المتزامنة التي تقودها أمريكا لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. 
تبقى الاستراتيجية الأمريكية لهزيمة تنظيم الدولة محددة بدقة ومتركزة على دعم لاعبين محليين مدعومين من قوات العمليات الخاصة والطيران الأمريكي لانتزاع السيطرة على مناطق تابعة للخلافة. 
وفي سوريا تتعاون الولايات المتحدة بشكل وثيق مع قوات سوريا الديموقراطية ووحدات حماية الشعب ضمن استراتيجية تهدف لتمكين هذه القوات من إحراز مكاسب معتبرة منذ خريف 2015. 
ولقد أوضح الأكراد السوريون مع ذلك أنهم يفضلون دولة سورية لامركزية على غرار مفهوم الحكم الذاتي الديموقراطي. تستند هذه البنية السياسية إلى تجربة مؤسس حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان الذي وضع تصوره عن لامركزية مفرطة قائمة على مجالس استشارية محلية يقودها بشكل مشترك الذكور والإناث في مناطق السيطرة الكردية. 
ولقد استخدم حزب الاتحاد الديموقراطي مكاسبه العسكرية لتثبيت هذا النموذج في المناطق التي سيطر عليها، فارضاً حقائق على الأرض تهدف لتحقيق نتائج سياسية تتعارض على المدى الطويل ومصالح أنقرة الوطنية والأمنية. وفي ذات الوقت يعيد الساسة الأتراك حساباتهم فيما يتعلق بقدرة الأسد على الحفاظ على السلطة في سوريا. لا تزال تركيا محبطة من رفض واشنطن تغيير النظام في سوريا ومن عدم توازي الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة مع الجهود الدبلوماسية المدعومة أمريكياً للتفاوض على الانتقال السياسي. 
لأجل هذه الأسباب تعيد تركيا تقويم خياراتها طويلة المدى إزاء نظام الأسد وداعمته الأكثر قوة؛ روسيا. انهارت العلاقات الروسية التركية منذ إسقاط سلاح الجوّ التركي القاذفة الروسية في نوفمبر 2015، وأضرت العقوبات الروسية بصناعة السياحة التركية بينما أدت العودة المتزامنة للقتال بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني إلى انخفاض كبير في عدد الزوار السنوي لتركيا. 
خلق هذا الواقع دوافع مضاعفة لإصلاح العلاقات مع روسيا وبذات الوقت لاكتشاف سبل للتحوط من احتمالية بقاء النظام. في منتصف حزيران/يونيو أرسل أردوغان للرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسالة بمناسبة العيد الوطني لروسيا وتكلم علناً عن الحاجة لإعادة تأسيس علاقات جيدة، وفي ذات الوقت صرّح مسؤول تركي لم يكشف عن اسمه لرويترز عن مصلحة مشتركة بين البلدين: تجنب الحكم الذاتي الكردي. 
من غير المرجح أن ترجع الحكومة التركية عن سياستها بضرورة رحيل الأسد بنهاية أشهر الانتقال السياسي الستة. بدلاً من ذلك تعمل تركيا على زيادة الضغط العسكري على الأسد في حلب وبذات الوقت على التوصل لاستكشاف السبل الممكنة لتعزيز أمنها بغض النظر عن وضع الأسد على رأس الحكومة السورية.  
تعدّ هذه المقاربة تقليصاً كبيراً للأهداف التركية في سوريا بما يتفق مع قراءة أنقرة لمسار الجهود الدبلوماسية والعسكرية في التعاطي مع الأسد ومحاربة تنظيم الدولة. ولاتزال تركيا على قناعة بتضارب هذه السياسات بعضها مع بعض غير أن بحوزتها خيارات قليلة لتغيير مسار الأحداث. 
وعليه فإن تركيا تعتمد سياسة من شأنها تخفيف تداعيات السقوط، ومن هذه السياسة مثلاً إطلاق 
بالون اختبار للتنسيق مع النظام ضد عدوّ مشترك. 

درء أخطار روجافا المجاورة:  
يتركز اهتمام تركيا في جيب منبج حالياً على تنظيم الدولة، حيث تقصف المدفعية التركية مواقع التنظيم بشكل يومي كجزء من حملة أوسع تهدف إلى تمكين العرب من التقدم على طول الحدود السورية التركية. 
كان من المفترض بدايةً لهذه السياسة كما وضحتها الصحافة التركية أن تكون أكثر طموحاً وأن يترتب عليها توجيه القوات العربية لتطهير جيب منبج من تنطيم الدولة بيد أن الفصائل المسلحة العاملة في المنطقة ضعيفة ومشتتة القيادة ومختلفة حول الأراضي التي ستكسبها من تنظيم الدولة. 
ولقد عملت تركيا لسنوات على توحيد هذه الفصائل لكن جهودها لم تكلل بالنجاح.  
لقد مضت الولايات المتحدة قدماً مع قوات سوريا الديموقراطية في عملياتها لاستعادة منبج، كما شاركت الولايات المتحدة في دبلوماسية هادئة مع تركيا لأشهر قبل العملية لطمأنة الحكومة التركية بأن الجزء الأكبر من القوات التي ستمسك بالأراضي المنتزعة من تنظيم الدولة في جيب منبج سيكون عربياً.  
شعرت واشنطن بالقلق من احتمال إقدام تركيا على اجتياح بري لذلك عملت على منع ذلك من خلال إحباط أي احتمالية لاصطدام حلف شمال الأطلسي بقوات سوريا الديموقراطية المدعومة أمريكياً. 
ولقد نجحت هذه الجهود الدبلوماسية في الوصول إلى ما تصبو إليه، ورتبت عمليات قوات سوريا الديموقراطية بحيث تنتزع مساحات كبيرة من الأراضي من تنظيم الدولة حول منبج، فتبقى الأخيرة تحت سيطرة التنظيم فيما تحاصرها قوات سوريا الديموقراطية. 
لم يهاجم أردوغان ولا الحكومة التركية العمليات علناً، ولم يتدخل –وهو الأهم- الجيش التركي. 
من المرجح أن تسعى الحكومة التركية لإبقاء قوات سوريا الديموقراطية خارج حدودها في جيب منبج. وللقيام بذلك قد تلتفت أنقرة للمقاتلين العرب الذين تقدم لهم الدعم في المنطقة لتوجيههم شرقاً على طول الحدود. 
في حال نجاحه، سيشكل هذا المخطط منطقة دارئة صغيرة حيث يشغَل المقاتلون العرب الأصدقاء لتركيا هذه المنطقة على طول الحدود فيما ستحصل قوات سوريا الديموقراطية وحليفتها قوات حماية الشعب على ممر جنوبي الحدود يربط في نهاية المطاف منبج بعفرين التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديموقراطي. 
تدعم الولايات المتحدة هذا المخطط كما يتضح من الدعم العسكري المستمر لفصائل الثوار في مارع/اعزاز، مايمهد الطريق أمام تسوية تكتيكية حول المرحلة المقبلة من الحرب ضد تنظيم الدولة. 

تركيا تضيِّق أهدافها:  
تعدّ التغييرات التي طالت سياسة تركيا إزاء سوريا بمثابة نتيجة لانهيار الموقف التركي شمال حلب. ولهذا أُجبرت أنقرة على تغيير جوانبَ من سياساتها على ضوء استمرار وجود النظام وتنامي التهديد الناجم عن تمدد قوات سوريا الديموقراطية والقوات الكردية في جيب منبج. 
وبذات الوقت تبقى إدلب النقطة المحورية لمقاربة أنقرة العسكرية للصراع السوري، وهو ما عمّق الاعتماد التركي على مجموعات مثل أحرار الشام ومظلتها؛ جيش الفتح. 
لا تعني هذه المقاربة ذات الشقين تخلي أنقرة عن الهدف النهائي بتغيير نظام دمشق، وإنما هي إدراك أنقرة لافتقادها القدرة على رسم الأحداث بشكل مباشر على طول الحدود. تتفاعل تركيا حالياً مع الأحداث على الأرض وتتحوط ضد مجموعة من الخيارات السيئة على طول حدودها. 
يدفع التخوف من التمكن الكردي أنقرة إلى إعادة النظر في نهجها إزاء الصراع السوري، وخصوصاً في جيب منبج. 
وبالمثل فإن عجز تركيا عن تغيير السياسة الأمريكية بشكل جدي يلعب دوراً في صنع القرار التركي على الرغم من أن صناع السياسة الأمريكيين لا يخفون مساعيهم لتهدئة المخاوف الأمنية التركية حول التداعيات طويلة المدى لمهمة مكافحة تنظيم الدولة. 
ستظل تركيا تسعى لصوغ نتائج هجمات المعارضة في إدلب وجنوب مدينة حلب، لكن في أنحاء أخرى من البلاد ستتعرض مصالح تركيا لتحدٍ مباشر مصحوباً بقدرة منخفضة على إيقاف الأحداث التي يبدو أنها تنطوي على مخاطر تمس الأمن القومي على المدى البعيد. 

آرون شتاين: زميل مقيم في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع لمؤسسة "المجلس الأطلسي".