هيئة تحرير الشّام بين البراغماتيّة والإيديولوجيا الملتبسة
Nis 27, 2020 4193

هيئة تحرير الشّام بين البراغماتيّة والإيديولوجيا الملتبسة

Font Size

هيئة تحرير الشّام بين البراغماتيّة والإيديولوجيا الملتبسة

عُرابي عبد الحي عُرابي

أسهمت ظروف مختلفةٌ في انتشار السلفيّة في مناطق مختلفة من سوريّة إبان حرب الخليج الأولى، كما ظهرت عوامل أخرى دعت لانتشار السلفيّة بتوجّهها الجهاديّ إثر الاحتلال الأمريكي للعراق، وكانَ تحوّل الحُدودِ بين البلدَين إلى ممرٍّ لعبور الجهاديّين نقطة حاسمة في تشكُّل بداياتٍ لحاضنةٍ تتقبّل انتشار الفكر الجهاديّ في سوريّة. 
إثر انطلاق الثورة السورية والتحوّل إلى العمل العسكريّ، استغلّ تنظيم دولة العراق الإسلامية المبايع للقاعدة الموقف لإيفاد أبي محمّد الجولاني ضمن مجموعة من الجهاديّين بهدف تشكيل مؤسّسة عسكريّة تابعة له، إلا أن ديناميّات التفاعل مع البيئة المحلّيّة وقدوم مقاتلين مستقلّين أو منتسبين إلى جماعات جهاديّة أوجد بيئة مختلفةً عن الواقع العراقي، وبدأت جماعات سلفيّة محلّيّة بالظهور إلى جانب القوى الأجنبيّة القادمة إلى سورية. 

سلفيّة "الجولاني" بين التقلُّبات البراغماتيّة والتيّارات الجهاديّة 
استطاع الجولانيّ التماهي مع المشروع الجهاديّ ونسج علاقات متينة له مع الفواعل المحلّيّة التي وثّقت صلتها به من خلال التوافق الفكري أو المصالح والمنافع المتراكمة خلال سنين الثورة التسع الماضية، وانتقلت هذه العلاقة مع الفواعل العليا إلى العناصر والأفراد ضمن التأثيرات الطبيعيّة التي تطرأ في أيّ جماعة بشريّة.
ما يميّز النواة الصلبة المتبقّية في قيادة الهيئة، منذ كانت جبهةً لنصرة أهل الشام، ليس خطّها الفكريّ أو الميل إلى السلفيّة التعبّديّة والعلميّة، وإنما إلباس خطابها صبغةً جهاديّة وغموضه أفكاره بين السلفيّة المحلّيّة التي تهدف لمواجهة النظام؛ وبين الخطاب الجهاديّ العالميّ بشقّيه لدى تنظيم الدولة والقاعدة. 
يمكن التحديد بأنّ الجولاني يأخذ –وكذلك الثلّة الباقية معه- من كلا الاتّجاهين، على خلاف واضح مع التنظيمات الجذريّة كحرّاس الدين وجند الأقصى سابقًا وتنظيم الدولة الإسلاميّة، وهذا يعود لسببين رئيسيّين: 
أوّلهما طغيان الولاء للقائد والخضوع أو الارتباط معه بناء على قدرٍ معيّن من المصلحة، 
وثانيهما: عدم وجود منظّرين شرعيّين داخل الهيئة يرسمون خطًّا واضحًا لها، وإنما تقتصر وظيفتهم الأساسيّة على مواكبة الأحداث بالفتاوى المتناغمة مع تقلّبات القيادة في أوجهها المتتالية بدءًا من النصرة، إلى فتح الشام، انتهاءً بالهيئة. 
هذا البعدُ عن الخطّ الواضح لرؤى التيّار الجهاديّ –من جهة- وانتهاء المصالح –من جهة أخرى- دفع بعضًا من الأفراد والشرعيّين والعسكريّين لترك الجولاني والانتقال إلى فصيل مستقلٍّ أو إلى تنظيم أكثر تمسُّكًا بنهج القاعدة. 

مسارات التحوّل
على الرغم من أنّ الجولانيّ انطلق –تنظيميًّا- من رحم تنظيم دولة العراق إلى سورية، إلا أنه كان يخطّ لنفسه منهجًا مختلفًا عنها، مقتديًا بذلك بأبي مصعب الزرقاوي ومختلفًا عنه في الوقت ذاته، فقد كان لتنظيم الزرقاوي في العراق أسلوبه وفكره الخاصّ الأكثر تشدُّدًا من نهج القاعدة بالرغم من بيعته الشكليّة للتنظيم، وكذلك سارع الجولاني إلى بناء طموحه الخاصّ في سوريّة الأكثرِ ليونةً وبراغماتيّةً وتقلُّبًا بعيدًا عن نهج البغداديّ الذي أرسله لترسيخ نهج تنظيم دولة العراق، حيث إنّ بيئة العراق القتاليّة كانت قد هيّأتها عوامل الاحتلال وجرائم الطائفيّة، بينما توزّعت مرجعيّة العمل العسكريّ في سوريّة -بمختلف مراحلها- على مجموعات مختلفة من الأهداف الثوريّة الكبرى ورؤى الحواضن الاجتماعية ومواجهة نظام الاستبداد، مما يؤكّد أنّ الواقع لم يفرز المنهجيّة السلفيّة لتكون المرجعيّة الوحيدة في ساحة القتال.  
عمدت جبهة النصرة إلى التأكيد على تبعيتها لنهج أهل السنة والجماعة والبعد عن منهج الغلو والتشدّد، مما اجتذب إليها أتباعًا كثيرين، وعلى الرغم من الانفصال الذي عاشه التنظيم مع تنظيم الدولة الإسلامية في مرحلة توسعها وقتالها الفصائل الأخرى استطاع الجولاني إعادة التموضع داخل تنظيم القاعدة بإعلان البيعة لها، مع ميله لتجنّب الخطاب المعولَم والاعتماد على القتال المحلّي ضد النظام وداعميه إضافة إلى استغلال تصاعد التشدّد في أجنحتها بالتوازي مع ضعف فصائل سوريّة أخرى لتسويغ تفكيكها والسيطرة على أسلحتها باعتبارها مموّلة من الغرب، وأنها ستكون مشروع صحوات لقتال المجاهدين في مرحلة لاحقة. 
مع تحوّل الجولاني عن جبهة فتح الشام وانضمام فصائل مختلفة لهيئة تحرير الشام برزت غايات استراتيجيّة للجولاني، أبرزها التغلغل في المشهد الأمني والعسكريّ على الدوام، إضافة إلى إنشاء جهازٍ موازٍ للهيئة يضبط الأوضاع الإداريّة مدنيًّا، وهو ما تمثّل في حكومة الإنقاذ التي تدين بموازينها الداخلية لسيطرة الهيئة. 
بالتوازي مع ذلك فقد كان تغلغل التطرف في الهيئة دافعًا لضبط تحركات المتشددين والتموضع داخل إطار فكريّ سلفيّ محلّي ملتبس أيديولوجيًّا، فلا يمكن وصفه بالسلفية الجهادية من وجه، ولا يمكن نفي التطرّف عنه من وجه آخر. 

الإفصاح عن الوجه البراغماتيّ 
تحت عنوان "الجهاد والسياسة الشرعية بين الثوابت والمتغيرات" نشرت "هيئة تحرير الشام"، في يونيو/ حزيران 2018 بيانًا يوضّح طبيعة علاقاتها مع بعض الدول، وقد كان الإطار الواضح لذلك هو استمرار العلاقة من "خلال مقدار ما تجلبه من مصالح معتبَرة" للثورة السورية والجهاد في الشام.
كانت كلمة "المصالح المعتبَرة" نقطةَ تحوّل باستخدامها للمرة الأولى من قبل فصيل مثل الهيئة، وكان السلوك العمليّ للهيئة واضحًا في قبول مخرجات اتفاق سوتشي 2018 والبدء بإبعاد التيّار الرافض لسياسة التقلّب حيث إن فكرة التمسّك بالثوابت الجهاديّة لم يعد لها حاجةٌ أكبر، بل لا بدّ من التحوّل إلى التماهي مع واقع جديدٍ تقوم مفردات الخطاب فيه على لغة المفاوضات والمصالح. وقد تجلّى ذلك في البيان الذي أصدرته عقب الاتفاق الروسيّ التركيّ في 8 مارس/آذار حيث شكرت تركيّا فيه كما طالبت العالَم بأن يقومَ بمهامّه في حماية المدنيّين في تحوّل خطابيّ آخر يضافُ لأدبيّات الهيئة. 

التغلغل وسيلةً للسيطرة وضمانًا للاستمرار
إن انتقال الجولاني إلى مرحلة "الهيئة" أبعد مجموعته عن تأثير التيار الجهادي العالميّ، ودفعها للدخول في مرحلة الاستقرار والتماهي مع متطلبات السلطة، فانتهز الفرصة لبناء جهازٍ إداريٍّ موازٍ لها، والذي تجلّى في حكومة الإنقاذ التي تغلغلت في كافة مفاصل المجالس المحليّة في شمال غرب سوريّة وريف حماة، وأصبحت المورد الأساسي لتمويل الهيئة سواء باحتكار موارد الاقتصاد المختلفة، أو من خلال الضرائب المتنوعة، أو بإدارة المعابر مع المناطق التي لا تسيطر عليها الهيئة، إضافة إلى عمل الهيئة على إزاحة الكُتَل العسكرية القويّة كأحرار الشام وفصيل نور الدين زنكي.
إلا أن الحملة العسكرية الأخيرة كانت قد قلبت بعض موازين الجولاني، مما دفعه لبثّ رسائل مختلفة وتكثيف لقاءاته مع مجموعات إعلاميّة أجنبيّة ومحليّة وشعبيّة فكان الوحيد الذي يكثّف هذا النوع من اللقاءات مع مختلف الفعاليات في الداخل، مستغلًّا في الآن نفسه منبر الإعلام لتأكيد أن الهيئة ليست تنظيمًا مستمرًّا للأبد، وأنّه يستطيع ضبط الجهاديين الأجانب بالتوازي مع التأكيد على الوجه المعتدل الجديد للهيئة.
عملت الهيئة على تهيئة كوادر مختلفة يدينون لها ليكونوا القوة الأكبر في أجهزة حكومة الإنقاذ، من خلال وسائل مختلفة، منها تسجيل المئات منهم ضمن المعاهد والجامعات التي تديرها في إدلب، وتخريجهم بشهادات دراسية تمكنهم من الدخول في مؤسّسات الدولة، إضافة لتوظيف عدد كبيرٍ من عناصرها في المؤسّسات المدنيّة التابعة لحكومة الإنقاذ والإدارات المدنيّة، وتمكين المحسوبين عليها في المجالس المحلّيّة، إضافة إلى اختراق المنظمات المحلية والمؤسسات الإغاثية من خلال فرض شخصيات تتبع لها في مواقع إدارية داخلها، الأمر الذي يتيح لهم توظيف كوادر من الهيئة داخلها، بالتوازي مع بناء كيان اقتصادي متشابكٍ بالاتفاق –عبر حكومة الإنقاذ- على احتكار بعض التجّار توريد كافة المستلزمات للشمال المحرّر، فضمنت السيطرة على المعابر وسوق الصرف وتجارة المحروقات والدخان والغاز والقمح والأسواق العامة في المدن والبلدات، إضافة إلى تملّك عقارات الأوقاف والأملاكِ العامّة وتكريسها لصالحها.
انتهى المطاف بعملِ الهيئة أخيرًا على الاستثمار في حالة الهدوء التي فرضها وقف إطلاق النار والبدء بإعادة هيكلة تشكيلاتها المقاتلة، بهدف إعادة ترتيب صفوف الهيئة وضخّ دماء جديدة من العناصر المستجدّين، والعمل على إنشاء تراتبية عسكرية مركزية أكثر صرامة، بالتوازي مع محاولة إرضاء المعترضين داخل الهيئة على الأداء العسكري والضعف التنظيمي للهيئة. 
لقد استطاعت النواة القائدة للهيئة الوصول إلى إدارةٍ شبيهة بحكومة الظل تدير الواقع المدنيّ في إدلب بواجهات مدنية مختلفة وضمن علاقات متشعّبةٍ اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، مما يؤكّد أنّ مآلات الهيئة لن تكون معتمدةً على مجرّد فرض حلٍّ قسريٍّ لتشكيلاتها، وإنّما ستعمد إلى محاولة إدماجها في تشكيلات الشمالِ المحرّر سياسيًّا وعسكريًّا.