حزب التحرير في سوريّة تجربة التاريخ والحاضر
Aug 31, 2018 4950

حزب التحرير في سوريّة تجربة التاريخ والحاضر

Font Size

عرابي عبد الحي عرابي
ساعد في الإعداد
عاتكة علي عُمر

مقدّمة 
تعَدُّ الحركات الإسلاميّة اليوم من أهمّ الفاعلين المحلّيّين في سورية، بما تمتلكه من شبكات قوّة عسكريّة وقواعد داخليّة استطاعت بناءها منذ عام 2011، ولذا فإنّ المعتدِل منها والراديكاليّ سيصوغ برامجه التالية بهدف الاستمرار في أوساط مجتمع ما بعد الثورة والتمدّد إلى جهات محليّةٍ موازيةٍ أخرى.
وقد حاول حزب التحرير أن يستفيد من حالة المدّ التي عرفتها الحركات الإسلامية في سورية خلال السنوات السابقة، وخاصة السلفية الجهادية منها، والتي يتقاطع معها في تبني فكرة الخلافة، فتبنى أنشطتها في بعض الأحيان، وروّج لأفكارها وسياساتها في أحيان أخرى، واستفاد من حالة الفراغ التي نشأت في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، فأنشأ خلاياً ومجموعات متفرقة، وسخّر أتباعه حول العالم لترويج ونشر ما يصدر عن هذه المجموعات وحتى الأشخاص. 
 ورغم كل الظروف الاستثنائية التي مرّت بها سورية في السنوات السابقة، والتي يفترض أن تُشكّل بيئة خصبة لخطاب الحزب وتوجهاته، إلا أن حضوره بقي محدوداً للغاية، ولم يستفد من حالة "الانتشاء" السلفي الجهادي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وبقي في حدود "الظاهرة الصوتية" التي يتشكّل بها في معظم دول المنطقة. 
ويمثّل حزب التحرير على العموم حالةً مبهمةً وجليّةً في آنٍ معًا، سواء من حيث تصلُّبه النهائي تجاه رؤاه الفكريّة التي قرّرها في قضيّته السياسيّة -أي إعلان الخلافة- التي يعمل للوصول إليها، أو من حيث إمكانِ تمدّده وتطوير خطابه وأساليبه من القاعدة إلى الذروة. 
ولم تحظ تجربة الحزب في سورية، وخاصة بعد 2011، بالدراسة. وربما يعود هذا الأمر في جزء كبير منه إلى ضبابية وجود الحزب في سورية، وظهور خطاباته وأنشطته بشكل متقطع، وغياب ممثليه عن المشهد السياسي المعارض في الداخل أو الخارج، وغيابه في ذات الوقت عن المشهد الفصائلي. 
وتحاول هذه الدراسة استكشاف الجوانب المغلقة في بنية الحزب الفكريّة ثم تحليلها بهدف بناء استجلاء لواقعه الميدانيّ في الأرض السوريّة على أساسها، وتقديم تقديرٍ استشرافيٍّ عن المآلات التي قد ينتهي إليها الحزب فيها وسياقاتها. 
الفصل التمهيدي: "حزب التحرير بين "إرث التاريخ" و"سطوة المبادئ" 
أولاً: مدخل تاريخي 
1. "التأسّس والركود"
ترتبط نشأة حزب التحرير بمؤسسه الشيخ "تقيّ الدين النّبهانيّ" الذي كانت تنظيراته وأفكاره المؤثّر الأكبر في مسيرة تشكيل الحزب وثباته إلى يومنا هذا، ومن ثمّ فإنّ الوقوف عند حياة الشيخ وفهم الظروف التي عايشها قبل تشكيله الحزب وبعدها تدفع لفهمٍ أوضح في طبيعة فكره والمسارات التي اتّبعها.  
ولد الشيخ تقي الدين النّبهانيّ  في قضاء حيفا في فلسطين عام 1909 ، وكان والده الشيخ "إبراهيم النّبهانيّ" فقيهًا ومدرّسًا للعلوم الشرعية في المدارس التابعة لوزارة المعارف الفلسطينية آنذاك. التحق تقي الدين بالثانوية الأزهرية عام 1928م، وانضمّ إثرها إلى كلّية دار العلوم التابعة آنذاك للأزهر بالموازاة مع حضوره -بناء على توصيات جدّه- حَلْقات علميّة في الأزهر، وتخرّج منه عام 1932 حاصلاً على الشهادة العالمية في الشريعة.
عمل "النّبهانيّ" إثر ذلك في سلك التعليم الشرعيّ تحت إشراف وزارة المعارف حتى سنة 1938م إلى أن انتقل لمزاولة مهامّ متعددة في القضاء الشرعي متدرِّجًا فيها إلى أن عُيِّن قاضيًا شرعيًّا في محكمة الرملة حتى عام 1948م، إلّا أنّه انتقل منها إلى دمشق إثر حادثة "النكبة الفلسطينيّة"، لكنّه عاد في السنة نفسها قاضيًا في محكمة القدس الشرعيّة مع شَغْله منصب قاضي محكمة الاستئناف الشرعية حتى سنة 1950م، وبعدها استقال من عمله وتفرّغ للمحاضرات الفكرية على طلبة المرحلة الثانوية بالكلية العلمية الإسلامية في عمان حتى سنة 1952م.
وتشير ترجمة "مجلّة الوعي" إلى اهتمامه المبكّر بدراسة الحركات والتنظيمات التي نشأت في العالم الإسلاميّ منذ القرن الرابع وأسباب انتشارها ونجاحها أو فشلها، وذلك في إطار إيمان النّبهانيّ بوجوب وجود تكتّل "إسلامي" يعمل على "إعادة الخلافة"، فحاول تحريض "العرب" بمخاطبتهم عبر "الفكر القومي" في "رسالة العرب" و"إنقاذ فلسطين" الصادرتين عام 1950م، مستغلًّا ما عدّه مساحة مشتركة بين "الفكر القومي" و"رسالة الإسلام"؛ لقناعته أن "الإسلام رسالة العرب الخالدة" وأنّ الاستعمار الغربي أشاع الفكر القومي المتطرف ليفرغ العروبة من محتواها الإسلاميّ ، إلّا أنّه عدَل عن ذلك وانتقل لمحاوَرة جميع التيّارات في الساحة السياسيّة على الرغم من عدم اقتناعه بمنهجِ أيٍّ منها. 
امتدحَ "النّبهانيّ" الشيخ "حسن البنا" في عدّة مجالسَ ممّا أوهمَ "جماعة الإخوان المسلمين" اقتناعَه برؤيتهم فشجّعوا لدعوته للتحدُّث في محاضرةٍ عامّة في الضفة الغربية، ومحاضرة أخرى في القدس، إلّا أنه أثناء محاضرته الأخيرة أشار إلى رفضه رؤية "الإخوان" في بناء المجتمع "إسلاميًّا" من القاعدة إلى رأس الهرم، مؤكّدًا على أنّ "الأمم لا تكون بالأخلاق ، وإنّما تكون بالعقائد التي تعتنقها، وبالأفكار التي تحملها وبالأنظمة التي تطبّقها" ، وقد كان وقْعُ إصدار بيان حزب التحرير الأوّل مؤثّرًا في أوساط الجماعة، إذ "أحدث الشقاق" في الوسط الحركي "الإسلاموي"، وعلى الرغم من المناظرة التي جرت بين "سيد قطب" و"النّبهانيّ" لإقناعه بالتراجع عن إنشاء الحزب والعمل تحت مظلّة الجماعة، إلا أن عناده في الرفض دفعت "قطب" لقطع محاولاته والقول: "دعوهم فسينتهون من حيث بدأ الاخوان" 
2. الانطلاق 
كان لطول تنقّل الشيخ في سلك القضاء أثر بالغ في تعرُّفه إلى "النُّخَب" القانونية والفكرية التي لم تعلن انتماءها لجهة ما، فراح يعرض "عليهم" فكرة إنشاء حزب "سياسي" على "أساس الإسلام" يهدف إلى إنهاض المسلمين وإعادة "عزّهم"؛ كما ساهمَ تَنَقُّله المستمرّ بين مدن "فلسطين" في تكوين قاعدة "نخبوية" تعتنق فكرته وتسعى لتحقيقها. في خضمِّ هذه الأحوالِ نرى الشيخ يرشّح نفسه إلى مجلس النواب( الأردني)  إلا أنّ النتائج أظهرَت فشله فيها؛ لكنّه في الوقت ذاته اتّفق مع الشيخ "أحمد الداعور" و"نمر المصري" و"داود حمدان" والشيخ "عبد القديم زَلّوم" و"منير شقير"، والشيخ "أسعد بيوض التميمي" وغيرهم، على الالتقاء المستمر في سبيل تحقيق الهدف الأوليِّ واستقطاب أفرادٍ جدد، واستمرّ الحال كذلك إلى أواخر سنة 1952م عندما تقدّم الشيخ مع أربعةٍ بطلب رسميٍّ لوزارة الداخلية الأردنية للحصول على رخصة إنشاء حزبٍ سياسيٍّ  وفق قانون الجمعيّات العثماني المعمول به، وأن يكون مقرُّه في مدينة "القدس الشريف". 
يرى "الحزب" أنّه بتقديم بيانه للحكومة مرفقاً بنظامه الأساسي وبنشره الكيفيّة من قبله في جريدة "الصريح" في عددها 176 الموافق 14/3/1953م، أصبح حزباً قانونياً له الصلاحية بممارسة نشاطات العمل السياسيّ كافّةً؛ إلّا أن الحكومة الأردنيّة استدعت مؤسّسيه الخمسة للتحقيق واعتقلت أربعة منهم، ثم أصدرت بتاريخ 22/3/1953م بياناً نصّت فيه على عدم قانونيّة "حزب التحرير" ومنعه والقائمين عليه من أي عملٍ حزبيٍّ ونزعت إثر ذلك كلّ لافتات الحزب المعلّقة في القدس .
تحرّك الشيخ مرغمًا إلى دمشقَ إلا أنّ الحكومة السورية اعتقلته ثم رحّلته إلى لبنان التي منعته سلطاتها من الدخول إلى أراضيها لولا وساطة مفتي الأراضي اللبنانيّة الذي اتّصل بالحكومة لإدخال "النّبهانيّ"، وقد استمرّ أعضاء الحزب في الدعوة إليه في أراضي الضفة الغربية على الرغم من الحظر الحكومي، وقد استقرّت قيادة الحزب للنبهاني بعد إخراج "داود حمدان" و"نمر المصري" من قيادة الحزب عام 1956م، ليُحِلّ محلّهما الشيخ "عبد القديم زلوم"، والشيخ "أحمد الداعور"، وقد كان لدخول الشيخ إلى لبنان فوائد عدة لم تتهيّأ له في القدس أو سوريّة؛ إذ عمل على نشر أفكاره فيها دون مضايقات إلى أن جاء عام 1958 حيث بدأت السلطات اللبنانيّة بالتضييق عليه بعد إدراكها خطورة أفكاره فاضطرّ للعيش فيها متخفّيًا بين مدن بيروت وطرابلس. 
عمل "النّبهانيّ" في هذه المدة على كتابة مفاهيم الحزب وتحرير مبادئه في كتبه الكثيرة، واستمرّ على حاله تلك إلى أن توفّي يوم الأحد 11/12/1977 في بيروت -حيث كان يتخفّى- لِيُدفَن في مقبرة "الأوزاعي" مخلِّفًا "إمارة" الحزب للشيخ "عبد القديم زلّوم".
3. حقبةُ "الركود
تبتدئ هذه الحقبة بوفاة المؤسس وتولّى الشيخ "عبد القديم زلّوم" -الذي عُرِف عنه أنّه "ذراع الشيخ اليمنى"- إمارة الحزب بعده، حيث اقتصر دور الحزب ههنا على دعم رؤى "النّبهانيّ" وتوجُّهاته في المفاهيم التي صاغها واعتمدها؛ ممّا جعل العهود اللاحقة ظًلّا للمؤسّس وامتدادًا له. 
نشأ "الزلّوم" في ظلِّ أسرة عُرِفَتْ بخدمتها للمسجد الإبراهيميّ منذ "العهد العثماني"، حيث كانوا يرفعون "العَلَم" على المنبر يوم الجمعة وفي المناسبات والاحتفالات، وقد أتمّ تعليمه في "الأزهر الشريف" ليكون "من حملة الفقه والدعاة إلى الله" فنال الشهادة العالية لكلية الشريعة في الأزهر عام 1947م وشهادة العالمية "الدكتوراة" في تخصّص القضاء عام 1949، انتقل "الزلّوم" إثر ذلك إلى التوجّه المترسّخ في أسرته -أي- العمل التعليميّ والإفتاء الدينيّ، فكان والده مدرّسًا في "الخلافة العثمانية" وكان عمُّ والده مفتيًا وعالمًا معروفًا في مدينة الخليل في تلك الحقبة أيضًا، تلا هذه المرحلة التقاؤه بالنّبهانيّ عام 1952 واستمرار مناقشاتهما إلى حين تأسيس الحزب ثم تكثّفت لقاءاتهما إثر ذلك إلى أن ضمّه "الشيخ" إلى مجلس قيادة الحزب، في إشارةٍ واضحة لاقتناع "زلّوم" بكامل رؤى "الشيخ"، واعتماد "النّبهانيّ" المطلَق -بالمقابل- عليه فكان "بحق الساعد الأيمن للأمير المؤسّس، وسهماً في كنانته، يرسله للمهمّات الكبيرة، ويقدّم (الدعوة) على الأهل والولد ومتع الحياة الزائلة" كما كان كثير الترحال في البلاد "فتراه اليوم في تركيّا وغَدًا في العراق، وبعده في مصر ثمّ لبنان والأردن.. وهكذا"، وقد حاول الانضمام إلى المجلس النيابي عام 1954 و1956 إلا أنه لم ينجح "بسبب تزوير الدولة للنتائج" -بحسب مجلّة الوعي-.
تصف مجلّة الوعي الرسميّة عهد زلّوم "القياديّ" بأنه العهد الذي عَلا فيه "صرح الدعوة، وامتدّ ميدان عملها حتى وصل إلى مسلمي آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا، كما كان له صدًى في أوروبا وغيرها" في إشارة إلى امتداد الحزب إلى أماكن مترامية من العالم ، وقد استمرّ "أميرًا" للحزب حتى جاوز الثمانين ، فشهد انتخابات الأمير اللاحق له إثر تنحّيه عن "إمارة الحزب"، حيث اختير "الفقيه والأصولي المهندس" "عطا أبو الرشتة" بتاريخ 13/04/2003 "أميرًا" لحزب التحرير. وقد توفِّي "الزلوم" يوم 29/04/2003 في بيروت. عن عمر يناهز الثمانين عاماً.
ولد "الرشتة" في قرية "رعنا" في محافظة "الخليل" عام 1943 لأسرة متديَّنة "تديُّنَ العامّة"، وقد شهد مأساة فلسطين واحتلال اليهود لها عام 1948 وانتقل وأهله بعد ذلك إلى مخيّمات اللاجئين قرب الخليل حيث أتم دراسته الابتدائية والوسطى فيها، وأكمل الثانوية في الخليل عام 1959 وقد حصل على الشهادة الثانوية العامة المصرية عام 1960 في المدرسة الإبراهيمية في "القدس الشريف"؛ ليلتحق بعد ذلك بكلية الهندسة في جامعة القاهرة حيث تحصّل فيها على البكالوريوس في "الهندسة المدنية" عام 1966. 
جديرٌ بالذكر الإشارة إلى أن التحاق "الرشتة" بحزب التحرير كان مبكّرًا، وذلك أثناء دراسته المتوسطة في منتصف الخمسينات، وتدرّج في الأعمال التنظيمية والإدارية بدءًا من "دارس" فعضو فمشرف، فنقيب محلّة، فعضو ولاية، فَمُعتَمَد، فناطق رسمي، فعضو مكتب الأمير، ثم أميرًا ، وقد بدت على الحزب -منذ بدء "إمارته"- معالمُ تضخّمٍ إعلاميٍّ تجلّت في ظهور عدد هائلٍ من الناطقين الرسميين له وازدياد نشر الكتب والمطويات الصادرة عنه واستغلال الفضاء الشّبَكيّ بمواقع عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي كافّة وصفحات الإنترنت، مما أعطى انطباعاً عن مدى انتشار الحزب بما يتجاوز الواقع ، إلا أنّ أغلب مكاتب الحزب الموجودة في نحو 30 بلدًا  لم تحظَ بالاعتراف القانوني إلّا في بريطانيا حيث رخّصت الحكومة للحزب وسمحت له بالعمل السياسي في أراضيها، واستطاع عقد مؤتمر للخلافة في برمنغهام عام 2003 حضره أعداد كبيرة من أنصاره فيها إثر تغلغله في أوساط المهاجرين من البلاد الإسلامية .
ثانياً: مدخل مفاهيمي: "المبادئ والغايات"  
يعرِّف الحزب نفسه بأنّه "حزب سياسيٌّ، مبدؤه الإسلام وغايته استئناف الحياة بإقامة دولته واستعادة "الخلافة" التي تنفّذ نظمه وتحمل دعوته، يهدف إلى إنهاض الأمة فكريًّا بتثبيت مفاهيم الإسلام وردّ الأفكار الخاطئة والعقائد الفاسدة، وسياسيًّا بتخليص الأمة من سيطرة "الكفار المستعمرين" وتحريرها من نفوذهم واجتثاث جذورهم كلّها إضافة إلى "مقارعة الحكام" وكشف خياناتهم ومؤامراتهم ، وعلى الرغم من ذلك فإنّ الحزب لا يَقْبلُ أنّ يُصنّف "جماعةً دينيّة أو دعويّة" أو "تكتُّلاً روحيًّا أو علميًّا أو خيريًّا"، سوى أنّه تكتُّل مبنيٌّ على مبدئيّة "الخلافة" التي هي "الروح لجسمه، ونواته وسرُّ حياته"  كما أنّها "الوعد الإلهي"  الذي لا يتحقّق الإيمان إلا بالعمل على إقامته؛ إذ هي قضيّة "وجود" أو "فناء" ، فبات هذا المصطلح حاضرًا في كل حدَثٍ أو بيان، لأنّها -بلغة الحزب- "الصناعة والبضاعة وحافظة الدين والدنيا، والأصل والفصل، وبها تُحَدُّ الحدود وتفتَحُ الفُتوح وترفَع الرؤوس، وبها يجتمع المسلمون في بلد واحد" ، وتجب إقامتها "بغض النظر عمّا إذا وافق جمهور الناس أو عارضوها" إذ إنّ هدف إقامة الخلافة "لا يتملّق الشعب ولا يداهنه" ، ومن ثمّ ليس مستغرَبًا أن يكون "الحزب" أكثر الأحزاب السياسية دوغمائيّة في الشكل والمضمون الذي يطمح بالوصول إليه في "الدولة"، حيث ميّزته هذه "الدوغمائيّة" عن سائر الأحزاب الإسلاميّة والحركات الدينيّة الأخرى.
وقد سبق "النّبهانيّ" للدعوة إلى ضرورة إعادة "الخلافة" عدد من "علماء الدين" ومفكّريه، كالشيخ سعيد بيران (1865 -1925) الذي قاد ثورة ضد "مصطفى كمال أتاتورك" في محاولة منه لإعادة الخلافة، والشيخ محمد رشيد رضا (1865- 1935) في كتابه "الإمامة العظمى" فما الجديد الذي أتى به "حزب التحرير" في دعوته إلى إقامتها؟ 
يتمثّل الجديد الذي قدّمه "النّبهانيّ" في محاولته "تأصيل الحكم الإسلامي" تأصيلاً على نحو يشابه إلى حدٍّ كبير "وظائف الدولة الحديثة وأجهزتها ووسائلها" سواء من حيث "كتابة دستور" شامل من منطلَقات "إسلاميّةٍ" أو من حيث التنظير القانوني المبوّب لمهامّها ونظم الدولة القائمة عليها، فقد ألّف "الشيخ" دستورًا مُكَوَّنًا من 191 مادَّةً تحدّد النظم السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والعسكريّة والتعليميّة والخارجيّة لدولة "الخلافة الإسلاميّة"  مع إقراره بإمكانيّة استنباط بعض القوانين الإداريّة من منابع أخرى غير إسلاميّة لأنها "وسائل" ، كما قدّم تنظيرًا واسعًا لسُبُل إقامتها ومراحلِها مع تفصيلِ مستندات كل مرحلةٍ ومتطلّباتها.
1. المشروع
ينطلق النّبهانيّ في رؤيته عن "إعلان الخلافة" مشروعًا من كونه "تطبيقًا" لنظام الإسلام، حيث طبّقه المسلمون منذ أن وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى إعلان سقوط الخلافة على يد الاستعمار وعملائه ، وعلى الرغم من اختلاف المسلمين -أحيانًا- على شخص الخليفة أو نسبه أو مذهبه أو شروطه، إلا أنّ الخلاف لم يتطرّق يومًا إلى "شكل الحكم" المتمثّل بوجود "خليفة" يحكم بين الناس ، ويرفض "النّبهانيّ" الجدل المتعلّق بوجود "الدولة" في الإسلام، لقطعيته في أن ذلك بديهيٌّ وجوهريٌّ في نظامه، إذ "لم يختلف الناس في هذا الأمر إلا بعد أن عمل الغرب والاستعمار على إقناع الناس بأن "الإسلام لا يهدف إلى إنشاء دولة أو إقامتها" ويسلسِل "النّبهانيّ" رؤيته لمشروع الخلافة في ثلاث مراحل: التثقيف، لإقناع الناس بجدوى الفكرة، ثم التفاعل معها ثم طلب النصرة لإقامتها، ويوضّح أنّ واجب إقامة "الخلافة" منوط بالدولة، وتطبيق نظام الدولة الإسلاميّة في المجتمع مرتبطٌ بـ"القاضي" و"الحاكم"، ومتى "وُجِد الخليفة فقد وُجِدَت الدولة الإسلاميّة؛ لأنّ الدولة الإسلاميّة هي الخليفة" 
2. المرجعيّات
يعتمد "الحزب" في تبنّيه "الخلافة" أيديولوجيَّةً نهائيّةً عددًا من الأسس والمرجعيَّات التي تنهض بمشروعية هذا "المصطلح" وأحقّيّته في الوجود، أهمّها: "إسلامية النّموذج" و"كفر الديمقراطية " و"مثاليّة التاريخ" حيث نرى هذه "القضايا" أو "الرمزيّات" متجاورة مع بعضها في كل بيانٍ للحزب أو خطاب أو تعليقٍ أو تحليل. 
1. إلهيّة "النموذج": إثر بحثه المعمّق عن الحل الذي يقلب تفكير الناس واعتقاداتهم نرى "النّبهانيّ" يرفض الحلول المقترحة لإصلاح الوضع المجتمعي والعربي كافّةً الرأسمالي منها والاشتراكي والقومي والليبرالي، مشيرًا إلى أن "الخلافة" هي الحلّ النهائيّ كاملَ الأركان نهائي التفاصيل، كونها -أي الخلافة- ليست من صنع الإنسان أو وضعه، وإنّما هي من أوامر الله ونواهيه، وهي ثابتة لا تتغير ، ومن ثمّ فإن الواجب على المسلم التقيّد بكامل ما جاء به دينه من حيث العبادات كما في الصلاة، أو النُظُم كما في شكل الدولة التي جاءت عن نبيه وصحابته والأمة من بعده ؛ إذ إنّ الأولى ليس تحرير فلسطين وإنّما تحرير العرب والمسلمين، وذلك بمعرفة النظام الذي نريده للحياة، ثم تكوين كتلة حزبية تصبح نقطة الانطلاق ثم إعلان الخلافة التي ستكون الحل والدواء . 
نلاحِظُ ههنا أن مبدأ "إلهيّة النموذج" يشابه مبدأ "الحاكميّة" الذي نظّر له مفكرو الحركات الإسلامية الأُوَل -كسيد قطب وأبي الأعلى المودودي- في مبدأ "التشريع" الإلهي، إلا أنّه جعل صورة التشريع مختَصَرةً في إقامة "الخلافة" مغلَقةً على مشكلة "الدولة" فقط، بينما لا يغيب المجتمع والعالم عن الآخرين في نموذجي "قطب والمودودي"  مما جعل هذا المبدأ نقطة تكثيف للتفرُّعات التالية له، إضافة إلى كونه ركيزة في افتراض "طهرانيّة" النموذج المستدعَى تطبيقه -أي الخلافة- وتحويله إلى مبدأٍ لنقض أي أطروحة لا تتوافق مع رؤى الحزب لمخالفته "الأمر الإلهي"  الذي يسعى لتحقيقه، ومن ثم تكمن خطورة هذا الاختزال في جعل فهم الحزب لـما يراه "مدار" الأمر الإلهي مركزًا للتحاكُم والتقويم، فمن قال به "أفلح" ومن رفضه "سقطَ وكفر" 
2. "كفر الديمقراطية": يعتمِد "النّبهانيّ" في تكفيره "الديمقراطية" وما يتفرّع عنها، بناءً على مبدأ "السيادة الإلهيّة المطلقة"، إذ إنّ السيادة في الإسلام للشرع، وإسنادُها للشعب كفرٌ لديه، وهو ما يتقاطع مع مفهوم "الحاكميّة" المطلقة، كما أن التكتل على أي أساس غير إسلامي كفرٌ، ومن ثمّ يحرِّم التكتل على أساس القومية أو الاشتراكية أو الوطنية لأنّها كفر وتدعو إلى الكفر ، ولذا نجده يرفض حكومات البلاد المستقلّة حديثًا عن الاستعمار، في ضوء قناعته بأن تجاربها الديمقراطية جزء من استراتيجية الاستعمار لمواصلة السيطرة على المنطقة . 
إنّ عمليّة التشريع في "الديمقراطيّة" تعني الاستقلال الكامل عن أي مصدر إلهي ، ومن ثمّ فإن الحزب يسوّق لرفضها كونها "سيادة" غير إلهية -لا أنّها محضُ وسائل اختيار- وبذلك فإنها تتناقض مع الإسلام الذي يقرّر السيادة للإله لا غيره "إن هو إلا وحي يوحى" ، إنّ الدولة القومية أو القطريّة بما تمثله من معان مرفوضة لدى النّبهانيّ، لخروجها عن "الحاكمية الإلهية" فهي تعني الخضوع لمنطق القوى والعلاقات والاتفاقات الدولية، وهو ما يرفضه النّبهانيّ في دستوره إذ رفض فيه إقامة أي علاقة مع المنظمات الدولية أو الدول الأخرى على غير قانون الإسلام ومبادئه ، ومن ثم فإن الحزب أعلن "كفرية" الدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية وعدّه غير إسلامي لاستلهامه مفاهيم الديمقراطية والقومية الإيرانية 
3. "مثاليّة التّاريخ": يكمّل هذا المبدأُ المقولتين السابقتين، مقرّرًا بذلك طهرانيّة "الخلافة" تاريخيًّا وآنيًّا كما تسوّق لها أدبيّات الحزب ، حيث لن يعود المسلمون أمّة واحدةً إلا بعودة الخلافة راشدة كما بدأت "فنعزّ كما عزّ من سبقونا بالإيمان، ونفوز كما فازوا، ونلقى الله وهو عنّا راض" ، ومن ثمّ فإنّ كل ما يذكر عنها ينحصر -بالضرورة- في إطار مثاليّة التاريخ وبراءته وعظمة أحداثه وأمجاده. 
3. الوظائف
تنضح أدبيّات الحزب بوجوب البيعة على كل المسلمين حال وجود الخليفة وقيام الخلافة؛ مقرّرة شكل الدولة بالخليفة وارتباط "المسلم" بها ببيعته للخليفة. إنّ أهمّ وظيفة يضطلع بها "الخليفة" هي "تطبيق شرع الإسلام" في "الاجتماع والاقتصاد والتعليم والسياسة الخارجية والحكم"، ولتحقيق ذلك فقد صاغ النّبهانيّ دستورًا نموذجيًّا للدولة التي تريد تطبيق الإسلام -أي أنه دستور عالمي- ضمّنه في كتابه "نظام الإسلام" يشتمل على 191 مادّة، وذلك بحسب الآتي:
الأحكام العامة: "المواد 1- 15"، نظام الحكم: "16-23"، الخليفة: "24- 48"، معاون التنفيذ: "49- 51"، الوُلاة: "52- 60"، أمير الجهاد: "61- 69"، الأمن الداخلي: "70- 72"، دائرة الخارجية: "73"، دائرة الصناعة: "74"، القضاء: "75- 95"، الجهاز الإداري: "96- 101"، بيت المال: "102"، الإعلام: "103- 104"، مجلس الأمة: "الشورى والمحاسبة" "105- 111"، النظام الاجتماعي: "112- 122"، النظام الاقتصادي: "123- 169"، سياسة التعليم: "170- 180"، السياسة الخارجية: "181- 191".
يحتِّم "النّبهانيّ" و"الحزب" على الدولة الإسلامية تبنّي أحكام شاملة منعًا لفوضى التقليد التي قد تؤدي إلى تعارضات التطبيق في أحكام الشريعة، ويستند في ذلك إلى مسوِّغاتٍ عديدةٍ وأمثلة مختلفة، كتبنّي هارون الرشيد لكتاب "الخراج" وإلزامه القضاة في عهده بالعمل به، وتبنّي الأيوبيّين المذهب الشافعي والعثمانيين المذهب الحنفي  
إن وسائل تطبيق مواد الدستور مرتبطة بالخليفة الذي "يملك جميع الصلاحيّات" التي تكون للدولة وتقوم وظائف الدولة على الأجهزة الآتية: الخليفة، معاونو التنفيذ، أمير الجهاد، الولاة، القضاة، مصالح الدولة، مجلس الأمة. ويقوم الحكم في الدولة الإسلاميّة على أربع قواعد هي: "السيادة للشرع لا للشعب ولا للسلطان ولا الأمة"، "إقامة الخلافة وتعيين خليفة واحد فرضٌ على المسلمين"، "للخليفة حقّ تبنّي الأحكام الشرعية وسنّ القوانين والدستور، وينوب عن الأمة في السلطان وتنفيذ الشرع"، "الخلافة عقد مراضاة وتملك الأمة منصب الخليفة إلا أنها بعد انتخابه لا تملك عزله إلا بشروط، وليس له مدّة محدّدة، وله كامل الصلاحيات التي للدولة، ويتمُّ اختياره من قبل المسلمين بطريق الانتخاب حيث يفوز من ينال عددًا أعلى من الأصوات" ولا يجوز للدولة الإسلامية الانضمام إلى اتفاقات أو منظمات مبنية على غير أساس الإسلام كمنظمة الجامعة العربية أو الأمم المتحدة أو صندق النقد الدولي  .
وقد استفاض الدستور في الحديث عن نظام التعليم والأخلاق العامة في الدولة الإسلامية إضافة إلى بيان نظامها الاقتصادي وسياستها الخارجية والداخلية. يَعُدُّ الحزب هذا الدستور إسلاميًّا أصيلاً يقدّم الخطط الكاملة لبناء "حكومة إسلاميّة" خالية عن التأثيرات الخارجيّة القادمة من "النظم السياسيّة الكافرة"  إلا أنّه أُعِدّ دون الاعتداد بظروف الشعوب الإسلاميّة والإنسانيّة عمومًا . 

لقراءة الدراسة كاملةً يمكنكم تحميل نسخة PDF 

Researchers