سياسة فرض الاستقرار الروسية...حصاد القوة المفرطة
تمهيد
جاء قرار روسيا بالتدخل العسكري في سورية كقرار استراتيجي للتأكيد على الدور الروسي كقوة عالمية لا يجوز تجاوزها أو إغفالها. ولأنها لا يمكنها احتمال "هزيمة نكراء لمشروعها في سوريا نتيجة لسقوط النظام الذي بدا وشيكا وقت ذاك . إلا أنها تدرك في الوقت ذاته أنها لا تمتلك ترف "الإنتصار الكامل " لمخططها، وأن عليها التعامل والوصول إلى ما يمكن تسميته بـ "نصف الانتصار".
وأدّى إدراك روسيا لهذه الحقائق إلى بناء علاقات مع مختلف الفاعلين على الساحة السورية، من المحليين والإقليميين، ولم تحصر شراكاتها في المعركة مع إيران والنظام السوري.
ومنذ تدخلها العسكري في عام 2015، تحوّلت روسيا بشكل تدريجي إلى الفاعل الرئيسي في سورية، ونقلت الجانب الإيراني إلى طرف هامشي في معادلة المعسكر المؤيد للنظام، ثمّ تولّت تحييد بقية الفاعلين المنافسين للنظام، سواء على المستوى الدولي والإقليمي، أو حتى على المستوى الفصائلي!.
وإلى جانب التعامل مع الفاعلين المعارضين للنظام، قامت روسيا بعملية طويلة المدى لإعادة تشكيل النظام نفسه، ليكون قابلاً للتعامل مع شكل الحل السياسي الذي تُريده روسيا، وفرضت تغيّرات اجتماعية وسياسية في المناطق التي يُسيطر عليها النظام، وأعادت تكوين الصورة الذهنية لدى السكان عن الوجود الروسي!.
وأظهر تسلسل الأحداث منذ بداية التدخل الروسي وحتى الآن مهارة روسية في تفكيك المعادلة السورية، وقدرة على إعادة ترتيب أجزاء اللوحة المفككة. وأثبتت روسيا أن استخدامها للقوة المفرطة في بداية تدخلها كان ضمن رؤية سياسية متكاملة، مكّنتها من تحقيق ما فشل النظام وداعموه الإيرانيون في تحقيقه في أربع سنوات!.
ويُحاول هذا التقرير تحليل الاستراتيجية الروسية التي تمّ اتباعها في سورية حتى الآن، ومحاولة استيضاح الرؤية الروسية الكلية، ومستقبل روسيا في سورية.
كيف تطوّر التدخل الروسي؟
بدأ التدخل العسكري في سورية في شهر أيلول/سبتمبر عام 2015، وكانت الضربات الجوية الروسية في سورية خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر من ذات العام مؤثرة في تغيير سير المعارك على الأرض، وحسمت العديد من المعارك التي كان فيها جيش النظام السوري والقوات الإيرانية والميليشيات الأجنبية التابعة لها غير قادرين على حسمها. وهو ما دفع رئيس النظام السوري لشكر الرئيس الروسي على تدخله العسكري في 21 تشرين الأول/أكتوبر على تدخله الفعال والحاسم في المعارك على الأرض .
ومع نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر وبدايات شهر كانون الأول/ ديسمبر من ذات العام أظهرت التقارير الصادرة عن الأزمة السورية تدخل روسيا برياً عبر وحدات قتالية برية مدعومة بدبابات حديثة جداً من طراز T-90.
وفي شهر كانون الثاني/يناير عام 2016 استطاعت قوات النظام السوري والميليشيات الموالية للنظام استعادة مناطق استرتيجية بالقرب من اللاذقية بدعم من القوات الجوية الروسية .
وفي 14 آذار/مارس عام 2016 أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انسحاب أعداد كبير من القوات الروسية من سورية . لكن هذا الإعلان لم ينعكس على أرض الواقع، حيث استمرت القوات الروسية في أعمالها القتالية بكثافة. وأدّى القصف الروسي إلى حسم معركة حلب وإخراج المعارضة المسلحة منها في نهاية عام 2016، بعد أربع سنوات من سيطرة المعارضة على جزئها الشرقي.
ويتواجد الروس اليوم عسكرياً في مطارات تدمر والشعيرات وحماة. ويُقدّر عدد الجنود الروس المتواجدين في سورية بنحو 4500 جندي، إضافة إلى كتيبة شرطة عسكرية تنتشر في حلب، ويُقدّر عدد أفرادها بقرابة 1600 عنصر.
كما تمتلك روسيا قاعدتين عسكريتين رئيسيتين في سورية، الأولى هي قاعدة طرطوس البحرية وتستوعب (11) سفينة حربية، وتضم صواريخ أس 300 للدفاع الجوي، والثانية هي قاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية، وتضمّ طائرات سوخوي.
التعامل الروسي مع الفاعلين
عملت روسيا منذ دخولها إلى اللعبة السورية كفاعل رئيسي على تشكيل مقاربتها الخاصة تجاه الخصوم والفاعلين الدوليين والإقليميين والمحليين، وتمكّنت في نهاية المطاف من تحييد جميع الأطراف ودفعها للقبول بالطرف الروسي كطرف ضامنٍ، حتى في الاتفاقات التي يكون هو الطرف الرئيسي فيها!.
وعملت روسيا على الضغط على الفاعليين المحليين بالقوة النارية المفرطة من أجل خفض سقوف توقعاتهم ومطالبهم السياسية، ثم تحوّلت معهم إلى سياسة الاحتواء والتسوية، بالشكل الذي يُحافظ على وجودهم تحت سقف الخيارات الروسية.
1. الخصوم الإقليميون
تَبرزُ العلاقةُ الروسية-التركية كنموذج للسياسة الروسية في التعامل مع الفاعلين الإقليميين، حيث تمكّنت روسيا من بناء علاقة إيجابية مع تركيا، وتحوّلت العلاقة بين الطرفين من التوتر الشديد في نهاية عام 2015 بعد إسقاط الطائرة الروسية إلى علاقةِ شراكةٍ وطيدةٍ في الملف في نهاية عام 2016، وتمكّن البلدان من التوافق في ملفات إخلاء مدينة حلب من المقاتلين، ومنطقتي درع الفرات وإدلب، ومسار الأستانة.
كما تمكّنت روسيا من خلق مقاربة دافئة مع كل من السعودية وقطر والأردن، وهم -إلى جانب تركيا- أبرز رعاة مجموعات المعارضة المسلحة في كل أنحاء سورية.
وساعدت هذه المقاربة الروسية في تكوين فهم روسي أعمق للمنطقة وطبيعة الصراعات فيها، وكيفية إدارتها، وهو ما يمكن وصفه بالتدريب الضروري والحيوي لروسيا لتعود لاعباً مهماً في منطقة الشرق الأوسط.
واستطاعت روسيا جذب مصر إلى معسكر قريب من معسكر النظام السوري. ولا يبدو أن روسيا تهدف إلى تشكيل تحالف بين مصر ونظام الأسد؛ بقدر ما تسعى إلى بناء معسكر جديد داخل منطقة الشرق الأوسط يتبع التصور الروسي في المنطقة. ولا تُمانع روسيا في وجود اختلافات بين حلفائها في هذا المعسكر، بل ربما تُفضّل وجود هذه الخلافات، كي تبقى قادرة على الإمساك بجميع الخيوط والتحكم بها، دون قدرة حلفائها على تشكيل قوة داخل الحلف تجعل روسيا مضطرة للتعامل مع كتلة قوية قد تفرض شروطها.
2. الخصوم المحليون
سعت روسيا ميدانياً إلى إنهاء جيوب الصراع، وفرض حالة من الاستقرار الميداني، وتحويل حالة الاستقرار إلى شكل قانوني معتمدٍ من أطراف النزاع المحلي نفسها، ومن الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لأطراف الصراع.
وتمكّنت روسيا من بناء علاقات مع خصوم النظام السوري، والذين كان من المفترض أنهم يُشكّلون خصوماً لروسيا نفسها، أو أنهم كانوا كذلك بالفعل. حيث ساعدت المقاربة الروسية للصراع في سورية في بناء علاقات مع هؤلاء الخصوم وتطويرها تدريجياً، وحوّلت بعضهم إلى حلفاء؛ فيما حيّدت البعض الآخر.
واستطاعت روسيا منذ الربع الأخير من عام 2016 إعادة إنتاج صورتها لدى المعارضة في داخل سورية، حيث تحوّلت إلى وسيط وضامن، وأصبحت المعارضة وحاضنتها الشعبية ترفض القبول بأي اتفاق ما لم يكن بضمانة الطرف الروسي، وأضحى وجود الشرطة العسكرية الروسية في أي منطقة سبباً كافياً لشعور السكان بالأمان، على عكس الانطباع الذي يُعطيه وجود القوات الإيرانية أو الميليشيات الأجنبية التابعة لها.
وأظهرت هذه المقاربة مرونة روسية في التعامل مع الأزمة السورية، حيث جاءت روسيا عسكرياً إلى سورية وهي تملك في خطابها الإعلامي والسياسي تصنيفاً عاماً للمعارضة المسلحة –بكل أصنافها- بأنها "مجموعات إرهابية"، ولكنها مع مرور الزمن أعادت تصنيفها في خانات متعددة، وتحوّل مَن كانوا "إرهابيين" بالمطلق في عامي 2015 و2016 إلى شركاءٍ في اتفاقات مباشرة مع الاتحاد الروسي!. وأجبرت روسيا نظامَ الأسد على القبول والاعتراف بهذه التصنيفات الجديدة.
وإلى جانب المعارضة المسلحة، تمكّنت روسيا من بناء علاقة متميزة مع قوات سورية الديموقراطية وحزب الاتحاد الديموقراطي، رغم العلاقة القوية بين الطرف الكردي والأمريكي من جهة، والعلاقة السيئة بين تركيا والطرف الكردي من جهة أخرى. وافتتحت الإدارة الذاتية الكردية ممثلية لها في موسكو في شهر شباط/فبراير 2016 ، كما استضافت موسكو "مؤتمر الأكراد الدولي"، والذي عُقد في 15 شباط/فبراير 2017، تحت عنوان (المنافسة لإعادة تقسيم النفوذ في الشرق الأوسط.. الوضع الراهن والعواقب المحتملة)، وشارك فيه ممثلون عن كُرد سورية والعراق وتركيا وإيران، بحضور خبراء ومسؤولين روس. واستبقت الخارجية الروسية هذا المؤتمر بالتأكيد على أنه لا يمكن حل الأزمة السورية دون إشراك الأكراد فيها.
وشكل هذا المؤتمرُ التجمّعَ الأول من نوعه للكرد في موسكو، من حيث التمثيل يأتي في خضم الحراك الدولي والإقليمي لدفع الأزمة السورية نحو حل سياسي يسعى الكُرد إلى نيل نصيبهم منه.
وبالمقابل فإنّ المعارضة السياسية الخارجية، ممثلة بالإئتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات، رفضت التعامل بمرونة سياسية مع روسيا، وأصرّت حتى اليوم على التعامل مع الوجود الروسي باعتباره "احتلالاً" لابدّ من انتهائه، وأن أي تفاهم معه ينبغي أن يبدأ بإقرار روسي بأنه لا مجال لوجود الأسد في مستقبل سورية. وتستند المعارضة في هذا المطلب إلى اعتقادٍ سائد بأنّ روسيا تسعى لبقاء الأسد، وأن قدومها إلى سورية عسكرياً كان لهذا الغرض!.
ومن المعتقد أن مؤسسات المعارضة السياسية ومعظم شخوصها ينطلقون في مواقفهم من الوجود الروسي من رغبات في تحقيق شعبية لدى جمهور المعارضة، ولم يعد في مقدورهم التراجع عن مواقف سابقة ذات سقوف سياسية مرتفعة!.
ومن جهتها لا تُبدي روسيا الكثير من المرونة مع مؤسسات المعارضة السياسية، فهي ترى أنها مؤسسات ضعيفة لا تمثّل فعلياً مصالحَ حيوية لأيٍّ من الفاعلين الإقليميين، ولا تملكُ أي نفوذ على الأرض، يؤهّلها للحصول على تنازلات من الطرف الروسي.
كما ترفض روسيا الحديث عن مستقبل الأسد كشرط مسبق للحوار، لأن المعارضة (وحتى داعميها الخارجيين) فشلوا في إسقاطه عسكرياً وسياسياً، ولا يمكن فرضُ إسقاطه بعد ذلك على داعميه، وأن مستقبل الأسد ينبغي أن يُترك للتقدير الروسي، وفقاً لرؤية متكاملة لشكل الدولة السورية، يتم التوافق عليها بين روسيا والفاعلين الدوليين والإقليميين والمحليين الراغبين بالتفاهم مع موسكو.
وبالمقابل، فإنّ روسيا أبدت انفتاحاً على مجموعات سياسية معارضة، بما فيها التي لا ترى أي إمكانية لوجود الأسد في مستقبل سورية، مثل تيار الغد، بعد أن أظهرت هذه المجموعات قدرة على التعاطي بواقعية مع الوجود الروسي، ورغبة في الحفاظ على الدولة السورية.
3. الفاعلون المؤيدون
إلى جانب المقاربة الخاصة بالتعامل مع الخصوم الخارجيين والداخليين، تولّت روسيا إعادة ترتيب البيت الداخلي للنظام الذي تدعمه، وأجبرت النظام نفسه على القبول بالتسويات التي تتوصّل إليها مع الأطراف الأخرى، وفرضت تغييرات بنيوية في هيكل المجموعات المسلحة وجيش النظام.
وبدأ تنفيذ السياسة الروسية الموجّهة نحو معسكر النظام من خلال إعادة تشكيل صورة رئيس النظام نفسه، وتأكيد تبعيته المطلقة وانتهاء أي صلاحيات متبقية له. وكان الشريط المصوّر للقاء بين وزير الدفاع الروسي مع بشار الأسد في سورية في 18/6/2016 واحداً من أبرز هذه المحطات، حيث تعمّدت وسائل الإعلام الروسية الرسمية بثّ التسجيل بالصوت والصورة، ليظهر فيه بشار الأسد متفاجئاً من وجود وزير الدفاع الروسي، وعدم علمه بمن جاء ليقابله؛ في البلد الذي يفترض أنه يحكمه أو يحكم الجزء الذي تجري فيه المقابلة على الأقل!. كما أن الروس منعوا بشار الأسد من القاء خطاب النصر في حلب بعد سقوط المدينة .وفي هذا إشارة واضحة الى أن الروس هم أصحاب اليد العليا ، وأنهم لايريدون له تحقيق انتصار ناجز على المعارضة.
وقبل هذا البيان الجلي بسحب السيادة من الأسد، كانت هناك زيارة لبشار الأسد لموسكو أعلن عنها في 20/10/2015، حيث ذهب وحيداً دون وفد، وانتزعت منه أثناء لقائه مع الرئيس الروسي كل البروتوكولات المخصصة لرؤوساء الدول أو حتى كبار الشخصيات.
ومثلما حصل مع رأس النظام، تولّى الضباط الروس التعامل مع رؤوساء الأجهزة الأمنية المختلفة، ومن دونهم من الضباط والعناصر، حيث فرضوا عليهم الالتزام المطلق بالتوجيهات الروسية.
وعمل الروس على نشر الشعور بالاستقرار لدى السكان، حيث عملوا على رفع الحواجز الأمنية في كل مناطق سيطرة النظام، وهي الحواجز التي كانت منتشرة بشكل كبير جداً في كل المناطق، كما اختفت الميليشيات من مناطق سيطرة النظام، وتم تحديد أدوار ما بقي منها.
وانخفض عدد الاعتقالات السياسيّة بشكل كبير، كما حصل انفتاح على تراخيص منظمات المجتمع المدني بشكل كبير، رغم محدودية قدراتها على التأثير السياسي. وقامت أفرع الأمن السياسي وأمن الدولة في النصف الثاني من عام 2017 بضغطٍ روسي باستدعاء معارضين ونشطاء معروفين في مختلف مناطق سيطرة النظام بشكل ودّي، بطريقة مشابهة لسلوك هذه الأجهزة في عام 2001-2002، ودعت هؤلاء المعارضين لتفعيل العمل السياسي المعارض.
وتُظهر هذه التحركات رغبةً روسيةً في إعادة انتاج دعاية ترويجية جديدة للنظام بعد انتهاء صلاحيات هيئات النظام السابقة، أو إعادة إنتاج نظام جديد يحمل شكلاً أكثر تنوعاً، ويُعطي انطباعاً لدى شرائح أوسع من المجتمع بأنّ التغيير قد حصل بالفعل، وأنه لا جدوى من التحرّك لإحداث تغييرات "ثانويّة"، وبالتالي يُنتج الروسُ معادلةً تضمن لهم بيئةً موالية أكثر تنوعاً واستقراراً من البيئة الموالية للنظام، وتفصيلَ شكل الدولة السورية بأدقّ تفاصيله على مقاس الوجود الروسي.
ماذا تريد روسيا في سورية؟
تشكّل روسيا اليوم الدولة الأكثر تأثيراً وفاعلية على الأرض، وقد استطاعت إحداث تغير كبير في مجريات المعركة هناك، واستطاعت فرض خياراتها حتى الآن.
ولا يبدو على المستوى المنظور أن هناك أيّ طرفٍ يرغب أو يستطيع إخراج روسيا من الملف السوري، بما يعني أنها ستبقى فاعلة هناك على المدى الطويل. كما لا تبدو الإدارة الأمريكية الحالية في نية المواجهة مع موسكو، وعلى العكس فإنّها ترغب على ما يبدو بعلاقةٍ تميلُ إلى الإيجابية والعمل المشترك في سورية.
وتُظهر المعطيات السياسية أن روسيا لا تتمسّك بالأسد كشخص، ويصرّ المسؤولون الروس في الجلسات المغلقة على رفض التعامل مع الأسد كهدف روسي، وأنه كشخص أقلّ شأناً من أن يحتلّ مثل هذه المرتبة في أولويات موسكو. لكن روسيا تتمسك بالمقابل بوجود نظام قوي في دمشق يحفظ المصالح الروسية بعيدة المدى في سورية.
وتُدرك روسيا أن الحفاظ على الدولة السورية يقتضي إشراك أكبر عدد من الفاعلين، بما فيهم المعارضين للأسد من غير الراغبين بتغيير شكل الدولة، وتحييد الفاعلين الرافضين للحل السياسي، في نظام هجين لا يوجد فيه منتصر.
وترغب روسيا في تحجيم النفوذ الإيراني في سورية، وإعادة القوة الإيرانية إلى داخل الحدود الجغرافية الإيرانية، وستتعاون بذلك مع الولايات المتحدة، ولكن ذلك مرتبط بوجود خطة واضحة من جانب الطرف الأمريكي، وأن تؤدي روسيا دوراً رئيسياً في إعادة تشكيل الدور الإيراني الجديد الذي يبقيها قوة إقليمية ولكنها بلا أنياب حقيقية، فروسيا لا تريد أن تخسر نفوذها داخل إيران مع خسارة إيران نفوذها في المنطقة، حيث تبقى إيران دولة إقليمية مؤثرة وفاعلة، مارداً قابلاً للاستخدام روسياً، وإن كان في الفانوس.
ويعني تحجيم الدور الإيراني بالضرورة تقليص حجم حزب الله السياسي والعسكري في لبنان والمنطقة، وهو ما تسعى له روسيا، والتي تقيم علاقات الحد الأدنى مع حزب الله، وتراه أيديولوجياً أكثر من اللازم، ودوغمائيا أحيانا، وبراغماتياً بطريقة غير مفهومة في أحيان أخرى. كما أن روسيا تريد ضبط الساحة اللبنانية كي لا تبقى برميل بارود قد يثور في وجهها بأية لحظة، حال كانت روسيا هي من تدير سورية الصغرى فعلياً. لأن استقرار المنطقة متطلب أساسي لنجاح النموذج الجديد، والذي يواجه تحديات ذاتية أصلاً، فلا يحتاج لتحديات إضافية.
وحين يتم قراءة الموقف الروسي من الأزمة السورية منذ بدايتها، وما دفع روسيا لاتخاذ قرار المشاركة الحربية يبرز عامل استراتيجي أساسي في الموقف الروسي وهو كسر "الجمود الاستراتيجي"، وهو، كما تراه النخبة الروسية، السبب الذي أبقى روسيا تابعة للهيمنة الغربية في القضايا العالمية والإقليمية أيضاً، وما أدى إلى تضييق وتقييد سلطة روسيا السيادية محلياً وإقليمياً ودولياً.
ولذلك، فإن القصد الاستراتيجي من موقف روسيا تجاه الأزمة السورية، بما فيه القرار الروسي بالتدخل عسكرياً بالأزمة السورية، هو كسر هذا الجمود بأي ثمن تقريباً، حيث كان مركز القرار الروسي أمام خيارين لا يبدو أي منهما سهلاً، فإما أن تتدخل روسيا عسكرياً وتتورّط في عسكرياً في سورية، بكل ما يملكه العقل السياسي الروسي من ذكريات سيئة في أفغانستان، وما يتيحه التدخل لروسيا كي تصبح اللاعب المحوري والرئيسي في الأزمة السورية، أو الخيار الذي يبدو آمناً عن بعد، وهو إبقاء الدعم السياسي والاقتصادي دون الدخول في معترك الحرب، وهو وإن كان يحمي روسيا آنياً إلا أنه لا يعطيها الفرصة التي قد لا تتكرر لتكون اللاعب الرئيس في أبرز أزمة في الشرق الأوسط، والتي قد تكون بوابة حقيقية لإعادة رسم المنطقة والنفوذ الدولي فيها في آن معاً. وذلك ما دفع روسيا بكامل إرادتها السياسية والعسكرية للتدخل العسكري في سورية.
ولأجل تحقيق هدفها الاستراتيجي فإن روسيا دخلت المعركة وأمامها أهداف عدة يجب أن تحققها، وأبرزها الحفاظ على سورية كدولة موحدة وعلمانية، وحماية النظام السوري من الانهيار، إظهار القدرة الروسية على كسر المظلة الأمنية التي تقودها الولايات المتحدة عبر إثبات القدرات العسكري الروسية في ساحة المعركة، وهو ما دفع روسيا لاستخدام بعض أكثر الأسلحة الروسية تقدماً، حيث يبعث الرئيس فلاديمير بوتين رسالة للعالم بتدخله في سورية مفادها أن روسيا لا تزال قوةً يُعتدّ بها على الساحة الدولية، وخصوصا بعد الإطاحة بحلفاء مثل صدام حسين ومعمر القذافي، كما أن العمليات الروسية في سورية وعمليات استعراض الأسلحة من طائرات وصواريخ وأنظمة عسكرية يعتبر دعاية للتصنيع العسكري الروسي.
وساعد التدخل العسكري الروسي في سورية في رفع شعبية الرئيس بوتين داخلياً، حيث أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا، وتدني أسعار النفط دفع الملايين من المواطنين الروس للدخول في الطبقة الفقيرة، وجاءت العمليات في سورية لتشغل المواطنين عن الأوضاع الداخلية وترفع مستوى الشعور بالاعتزاز الوطني.
مستقبل الدور الروسي في سورية
استطاعت روسيا بتدخلها العسكري تحصين النظام السوري من السقوط، مع الاعتراف بالقوى الموجودة على الأرض بحكم الواقع في ذات الوقت.
ويعتقد أن روسيا ستستمر في وجودها في سورية لمدى طويل، من أجل تحقيق دورين أساسيين، أحدهما سياسي وآخر ديمغرافي. الدور الأول، بصفتها قوى كبرى تحمي مصالحها بالوصول إلى المياه الدافئة، ويتمثل بضمان حماية منطقة جغرافية متصلة قابلة للحياة، وهو ما تسميه بـ"سورية الفاعلة"، أو يمكن تسميتها بـ"سورية الصغرى"، والدور الديمغرافي لروسيا بصفتها قوة مسيحية أرثوذوكسية تحاول تحقيق حلمها التاريخي بوجودها بثقلها الديني في المنطقة منذ الامبراطورية العثمانية، ويتمثل بخلق دولة أقليات نخبوية ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، ومثالاً لتعايش المكونات معاً.
وتمثّل مناطق خفض التصعيد التي ترعاها روسيا ترسيخاً لنوع من الفصل بين المكونات، وإقامة حدود بين المناطق، بما يمهّد بأفضل الأحوال إلى حلّ فيدرالي، ومناطق متصارعة مع بعضها البعض، لا يمنعها من الاقتتال البيني إلا الوجود العسكري الروسي طويل المدى!.
المراجع:
1- Russia's military action in Syria – timeline, The Guardian, 14/3/2016
2- Pro-Assad troops retake territory near Latakia stronghold, The Guardian, 25/1/2016
3- Putin says Russians to start withdrawing from Syria, as peace talks resume, Reuters, 14/3/2016
-4 الإدارة الذاتية للأكراد في سورية تفتح ممثلية لها في موسكو، صحيفة الحياة، 7/2/2016