عام على اتفاق سوتشي
Eki 01, 2019 3493

عام على اتفاق سوتشي

Font Size

تمهيد
دخل بروتوكول سوتشي عامه الثاني، وهو الذي تم توقيعه في 17 أيلول/ سبتمبر 2018 بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين(1) ، على خلفية محاولة احتواء الأسباب التي كادت أن تدفع روسيا حينها لشنّ عملية عسكرية واسعة النطاق في منطقة خفض التصعيد بمحافظة إدلب ومحيطها. وبما يوفّر آلية ملائمة لحفظ مصالح تركيا القومية، ويساعد على تطوير آليات التعاون المشترك بين البلدين دون إغفال دور إيران في المنطقة. وجاءت بنود الاتفاق التي كان في مقدّمتها إقامة منطقة عازلة لتترجم تلك الدوافع المُتمثّلة في "حماية الطوق الأمني لقاعدة حميميم – تأمين وفتح الطرق الدولية الواصلة بين حلب واللاذقية (M-4) وبين دمشق وحلب (M-5) – تأمين خطوط النقل بين الساحل والداخل – توفير بيئة وآلية ملائمة لمكافحة الإرهاب". 
كانت صيغة الاتفاق تشير إلى وجود إجراءات غير مكتملة تحتاج مزيداً من التفاهم مثل البند السابع الذي تضمّن عبارة حمّالة أوجه وهي "القيام بدوريات منسّقة"؛ إذ كان بمقدور اللجان الثنائية توضيح طبيعتها مشتركة أم مستقّلة كما فعلت في الاتفاق الذي تم توقيعه حول تسيير دوريات في تل رفعت ومنبج في آذار/ مارس 2019. ولا يختلف الأمر كثيراً مع البند التاسع الذي يشير إلى تحسين ظروف عمل مركز التنسيق المشترك، وهو نفسه مجموعة العمل المشتركة التي يُفترض أن يكون لتطوير عملها دوراً رئيسياً في تطبيق الاتفاق وتشكيل فهم مشترك حوله، لكن يبدو أنّ الدول الضامنة دفعت باتجاه تأجيل هذه الخطوة واستعجال الإجراءات الأخرى لأسباب تتعلق برغبتها في الحفاظ على مسار عملية أستانا بكافة ملفاتها وعدم الوقوف على حل جميع التفاصيل بالتسلسل الذي يضعف من إمكانية التوافق. 
وعلى الرغم من أنّ الدول الضامنة لم تُخفِ غياب فهم مشترك أو تباين في المواقف حول تطبيق اتفاق سوتشي، لكنها دفعت بكل السبل لتجاوز واحتواء تلك الاختلافات، وأبدت إصراراً في الحفاظ على اتفاق خفض التصعيد ومنع انسداد أفق الحل عبره، وبالتالي التمسّك بمسار أستانا كمنصّة للحوار المشترك وتعزيز التعاون الثنائي والثلاثي حول كافة القضايا في سوريا والإقليم. 
وبناءً عليه يُمكن القول إنّ اتفاق سوتشي كان بمثابة نقل للمباحثات حول ملف وقف إطلاق النار من متناول الوفود الدبلوماسية على المستوى الثاني للدول الضامنة عبر جولات أستانا، إلى متناول المستوى الدبلوماسي الأول عبر اجتماعات ثنائية أو ثلاثية بقيادة الزعماء فلاديمير بوتين، رجب طيب أردوغان وحسن روحاني.

أولاً: ماذا حقق اتفاق سوتشي بعد عام؟
في 21 أيلول/ سبتمبر 2019، تم إقرار الملحق رقم /1/ الذي حدّدت بموجبه المنطقة منزوعة السلاح ذات العمق الواصل إلى 20 كم ضمن نطاق منطقة خفض التصعيد التي تسيطر عليها فصائل المعارضة السورية بمساحة كليّة تُقدّر بـ 3200 كم2، وطول يبلغ حوالي 240 كم. 

لقد كان واضحاً أنّ إقامة المنطقة العازلة إجراء مقترن بتطبيق كامل بنود الاتفاق التي كان من المفترض إتمام العمل عليها في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، من سحب السلاح الثقيل والتنظيمات الجهادية وتسيير الدوريات المنسّقة، إلّا أنّ الأمور لم تتم وفق الجدول الزمني المرسوم، حيث واجه عثرات كان يُفترض أن تؤدي إلى تقويضه بشكل كامل وهي على النحو الآتي:
1. سحب السلاح الثقيل؛ والذي كان من المفترض أن يتم في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2018. ورغم أن تركيا أعلنت استكمال هذا الإجراء بناءً على ما جاء في الاتفاق، لكن وزارة الدفاع الروسية قالت في نهاية الشهر نفسه إنّ تركيا لم تلتزم بكامل تعهداتها وأنّه لم يتم سحب إلّا جزء بسيط من الآليات العسكرية.
2. إخلاء التنظيمات الجهادية: والذي كان يُفترض أن يتم في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، لكنّ التنظيمات الجهادية العاملة ضمن غرفة عمليات "وحرّض المؤمنين" رفضت اتفاق سوتشي، واعتبرت نفسها غير معنيّة بتطبيق بنوده بما فيها الانسحاب من المنطقة العازلة، أمّا "هيئة تحرير الشام" فقد لوّحت بالقبول غير المباشر، لكن يبدو أنّها اكتفت بإزاحة المظاهر العلنية وإعادة الانتشار في محاولة لاختبار تفاعل الضامنين مع هذه الخطوة، ولم تغب هذه التحرّكات عن وزارة الدفاع الروسية التي قالت إنّ عدداً قليلاً من الوحدات القتالية غادروا المنطقة العازلة، وبطبيعة الحال ألقت بالمسؤولية على تركيا.  
3. تسيير الدوريات المنسّقة: وهو إجراء بدأت تركيا بتنفيذه في 8 آذار/ مارس 2019، لكنه تم بشكل مستقل، وقد رفضت فصائل المعارضة دخول القوات الروسية إلى عمق المنطقة العازلة لتسيير الدوريات على نحو مشترك مع نظيرتها التركية، ولم يأتِ تعليق رسمي من روسيا حيال ذلك. لكنه في الواقع إجراء يُخالف مقاربتها القائمة على تسيير دوريات مشتركة من شأنها تعزيز قدرتها على مراقبة خطوات تأمين المنطقة العازلة وإخلائها من السلاح والتنظيمات الجهادية، على اعتبار أنّ الاكتفاء بدوريات مستقلّة والاعتماد على تركيا في تسيير دوريات من جانب سيطرة فصائل المعارضة أمر يعتريه حالة من عدم الثقة أو اليقين برغبتها أو قدرتها على ذلك.     
4. مركز التنسيق المشترك: وهو إجراء بدأت روسيا وتركيا العمل على تطبيقه في 14 آذار/ مارس 2019، بهدف تحقيق تنسيق أكبر حول بناء آلية فهم مشتركة لتطبيق اتفاق سوتشي والتحديّات التي قد تواجهها عملية التطبيق، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال في 8 نيسان/ أبريل من نفس العام، خلال القمة الثنائية التي جمعته مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، إنّ البلدين لم ينجحا في تشكيل مركز عمليات مشترك في إدلب، دون إيضاح الأسباب التي غالباً ما تتعلّق بالمهام وآلية التنفيذ وطبيعة التنسيق المناطة بكل طرف في المركز. 
 
بالنسبة لروسيا
استخدمت روسيا خيار القوة الصلبة أو الحسم العسكري في الردّ والتعامل مع عدم إيفاء تركيا بتعهداتها حول تطبيق اتفاق سوتشي، وجاء ذلك على ثلاث مراحل وهي: 
- الحملة العسكرية الأولى: التي بدأت في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، أي بعد شهر من انتهاء مهلة سحب السلاح الثقيل من المنطقة العازلة، واستمرّت حتى 25 كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه، واقتصرت على القصف المدفعي والصاروخي الكثيف دون أن يرافق ذلك أي تحرك عسكري على خطوط التماس سواءً من حيث الانتشار أو نقل المعدّات. وكانت روسيا تهدف من هذه الحملة إلى ممارسة ضغط كبير على تركيا وفصائل المعارضة من أجل تطبيق بنود اتفاق سوتشي، بغرض تمهيد الطريق لأي تحرك عسكري محتمل مستقبلاً في حال كانت الاستجابة إلى مطالبها معدومة أو على أقل تقدير لا تتلاءم مع الأهداف الاستراتيجية من إقامة المنطقة العازلة. 
- الحملة العسكرية الثانية: التي بدأت في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2018، واستمرّت وتيرتها حتى 2 شباط/ فبراير 2019، وأخذت شكلاً أعلى من التصعيد العسكري، بدخول سلاح الجو الروسي أجواء منطقة خفض التصعيد بعد أن كان قد قلّل طلعاته إلى أبعد حد منذ توقيع اتفاق سوتشي، كما لم يتوقف بطبيعة الحال القصف الصاروخي والمدفعي، علماً أن هذه المرحلة رافقها إعادة انتشار للقوات والمعدّات العسكرية التابعة للنظام السوري. وأرادت روسيا من خلال هذه الحملة التأكيد على أنّ خيار الحسم العسكري ما زال قائماً في حال استمرّت فصائل المعارضة وتركيا بعدم تنفيذ التزاماتها المتعلّقة بالمنطقة العازلة.
- الحملة العسكرية الثالثة: التي بدأت في 2 شباط/ فبراير 2019، واستمرّت وتيرتها حتى 31 آب/ أغسطس، وقد عكست إصرار روسيا على استخدام خيار الحسم العسكري في إقامة المنطقة العازلة وفق مقاربتها، ولم تباشر قوات النظام السوري الاجتياح البري حتى 6 أيار/ مايو، وجعلت تركيزها قبل تلك الفترة على تهيئة الظروف الميدانية عبر تكثيف القصف الصاروخي والمدفعي والجوي على أهداف تقوض فرص المعارضة المسلحة على الصمود بما فيها الحواضن الاجتماعية، وعبر القيام بعمليات تسلل وهجمات برية محدودة تهدف إلى رصد خطوط التماس وقدرات الدفاع والهجوم لدى مقاتلي المعارضة. ورغم تعثّر التقدم الميداني للنظام السوري في كثير من الأحيان لكنه استطاع بدعم جوي وبري من روسيا وإيران السيطرة على كامل القطاع الجنوبي لمنطقة خفض التصعيد بمساحة تبلغ 580 كم مربع شاملاً العديد من القرى والبلدات والمدن والمزارع في مقدّمتها خان شيخون. 
 
بالنسبة لتركيا
لم ينسجم اتفاق سوتشي مع قدرة تركيا على تطبيق كامل بنوده وفق الجدول الزمني المحدد، مقارنة مع التعقيدات التي يشملها ملف وقف إطلاق النار. وغالباً ما احتاجت تركيا إلى اتفاق مبني على مراحل، لكن استخدام روسيا لخيار القوة الصلبة في الضغط عليها لتنفيذ التزاماتها لم يُشكّل مخرجاً إلى الحل بقدر ما زاد من الثقة المتزعزعة بين الطرفين حول الأهداف الاستراتيجية ومقاربة كل طرف لمستقبل محافظة إدلب ومحيطها. علماً أنّ الفترة التي سبقت توقيع اتفاق سوتشي عكست وجود حالة من الاختلاف أو التباين في المواقف حول حدود منطقة خفض التصعيد ومواقع انتشار نقاط المراقبة. 
لذا لم تكن آلية "الخطوة خطوة" التي أعلنت عنها روسيا في منتصف شباط/ فبراير 2019، والتي تعني استمرار خيار الحسم العسكري على مراحل للسيطرة على كامل المنطقة العازلة، إلّا تجسيداً لمزيد من الضغط على تركيا وليس فرصة لتنفيذ الاتفاق أو بناء أرضية ملائمة للوصول إلى صيغة فهم مشتركة حول مستقبل المنطقة. 
لقد دفعت عوامل الثقة المتزعزعة وغياب المرونة من قبل روسيا، إلى اتخاذ تركيا إجراءات بعيداً عن اتفاق سوتشي لضمان مصالحها الأمنية والسياسية في منطقة خفض التصعيد، حيث قامت بتعزيز تواجدها في نقاط المراقبة لتصبح بمثابة قواعد عسكرية، وأنشأت نقطة عسكرية إضافية شمال خان شيخون على الطريق السريع بين دمشق وحلب. وصحيح أنّ خروج فصائل المعارضة من القطاع الجنوبي يعني تقويض قدرة تركيا على التأثير في مستقبل المنطقة على حساب روسيا وإيران، لكن إصرارها على إبقاء نقطة المراقبة في مورك وعدم تغيير مواقع بقية النقاط يعني عدم التخلّي عن دورها في عملية التأثير ولو ضمن حيز أقل عمّا سبق. 
 
بالنسبة لإيران
ساهمت سياسة روسيا في تطبيق مقاربتها للمنطقة العازلة عبر خيار الحسم العسكري، بإعادة إيران كفاعل رئيسي في تحديد مستقبل اتفاق سوتشي بعد أن تمّ استبعادها أثناء صياغته وتوقيعه وكذلك في المباحثات الثنائية التي أعقبته بين روسيا وتركيا، حيث أثبتت إيران أنّه لا يُمكن استخدام خيار الحسم العسكري على نحو مُجدٍ دون مساندة منها، وبناءً عليه جاءت مشاركتها في المحادثات الثلاثية الرئاسية في أنقرة منتصف أيلول/ سبتمبر 2019. 
 
بالنسبة للولايات المتحدة 
انسجم موقف الولايات المتحدة منذ توقيع اتفاق سوتشي مع سياستها العامّة في التعامل مع مناطق غرب سوريا، والتي جاءت نتيجة اتفاق كيري – لافروف في 12 أيلول/ سبتمبر 2016، أي عبر استمرار التركيز على منطقة شرق الفرات إضافة إلى منبج الواقعة غربه. 
قدّمت واشنطن دعماً لجهود تركيا في الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار، لكن ذلك اقتصر على السبل الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية أي عبر مطالبة روسيا بإيقاف استخدام خيار الحسم العسكري في المنطقة العازلة، وفرض مزيد من الضغوط الاقتصادية عليها وعلى النظام السوري، إلى جانب عودة انخراطها في مكافحة الإرهاب في إدلب. في الواقع لم تبدِ الولايات المتحدة استعدادها لدعم جهود المعارضة السورية على المستوى العسكري الذي يُعتبر هو الضامن الرئيسي في الحفاظ على استقرار نظام وقف إطلاق النار. 
ويبدو أنّ الولايات المتحدة استثمرت واقع اتفاق سوتشي الهش في عدّة جوانب وهي: 
تحقيق ضغط على تركيا لتقديم مزيد من التنازلات خلال المفاوضات معها على مستقبل خارطة الطريق والمنطقة الآمنة. 
التأكيد على عدم قدرة روسيا على استخدام خيار الحسم على نحو شامل بدون التنسيق مع الولايات المتحدة، حيث قامت بتوجيه ضربات ضد تنظيم القاعدة في إدلب، وهي إشارة بإمكانية التدخل مالم يحصل التنسيق. علماً أن الجيش الأمريكي كان قد قدّم بعد توقيع اتفاق سوتشي توصية إليها بتوجيه ضربات ضد المجموعات الراديكالية في إدلب ضمن خطة متكاملة، لكنها رفضت ذلك. 
 
ثانياً: الحاجة إلى الحفاظ على اتفاق سوتشي
رغم أنّ العمليات العسكرية التي شهدتها منطقة خفض التصعيد قوضّت اتفاق سوتشي وتجاوزت بنوده وغيّرت من شكل الخارطة العسكرية في الميدان، وكذلك بالتزامات الدول الضامنة، إلّا أنّ هذه الدول جددت العزم خلال قمة أنقرة منتصف أيلول/ سبتمبر 2019 على تعزيز التنسيق وفقاً للاتفاقيات المبرمة بينهم، في إشارة إلى التمسّك باتفاق خفض التصعيد وبروتوكول سوتشي. 
وقد تختلف حاجة الأطراف الثلاثة في الحفاظ على اتفاق سوتشي، لكن التحرّكات التي شهدها خلال عامٍ تعني بالضرورة حصول تغيير في بنيته وشكله، وهو جانب لا يبدو أنّه قد تحقّق، إذ لا يوجد ما يوحي بأنّ الدول الضامنة استطاعت تكوين آلية فهم مشتركة أو مقاربة لمستقبل المنطقة بما يعزز ويضمن مصالح كل طرف. 
ومعلوم أنّ إعلان أحد الأطراف أو جميعهم التخلي عن اتفاق سوتشي يعني التنصل من الالتزامات الأخرى المتعلّقة باتفاق خفض التصعيد وبالتالي تجميد أو إيقاف التفاعل مع مسار عملية أستانا، لكنّ الجميع حريص على منع الانزلاق إلى هذا الخيار أو السيناريو. 
لقد كان واضحاً منذ قمّة طهران في 7 أيلول/ سبتمبر 2018، وحتى انعقاد قمة أنقرة بعد عام تماماً، أنّ الدول الضامنة ترى في مسار أستانا منصّة للحوار المشترك، والتي يُمكن من خلالها الضغط على الولايات المتحدة في شرق الفرات، بغض النظر عن اختلاف دوافع كل طرف. 
كما أنّ أحداً من الأطراف الثالثة ليس مستعداً للدخول في صدام مع الآخر، لذلك لطالما يتم ترجيح الحوار الدبلوماسي على كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الانزلاق نحو خلاف حاد قد ينعكس إلى مواجهة، لكن في الواقع تستخدم روسيا مفاوضات حافة الهاوية لتعزيز قدرتها على تحصيل مكاسب في أي مفاوضات دبلوماسية مع بقية أطراف أستانا. 
وقد تكون تركيا أكثر دولة بين بقية الضامنين بحاجة للحفاظ على اتفاق سوتشي ومسار عملية أستانا، لعدّة أسباب منها الضغط على الولايات المتحدة في شرق الفرات أو على الأقل عدم تقديم تنازلات لصالحها، إلى جانب عدم قدرتها أو رغبتها في الحفاظ على مكاسبها ومصالحها شمال غرب سوريا عبر الخيار العسكري، ولعدم رغبتها في تضرر العلاقات التي سوف تنعكس سلباً على واقعها الاقتصادي. 
 
ثالثاً: خلاصة
كان اتفاق سوتشي بمثابة إطار عام يهدف إلى تحقيق مزيد من التفاهمات واستيفاء المصالح المشتركة للدول الضامنة عبره. وفيما يلي عرض لأبرز نقاط الربح والخسارة التي ساهم الاتفاق في فرضها على جميع الفاعلين:
ما زال مستقبل اتفاق سوتشي مقترناً بالتحولات العسكرية على أرض الميدان أو بمدى قدرة الدول الضامنة على تكوين فهم مشترك حول حماية وضمانة مصالح كل طرف. 
لم يكن اتفاق سوتشي أكثر من آلية سعت الدول الضامنة من خلالها إلى تجاوز الخلافات وكسب مزيد من الوقت بما يفضي إمّا إلى الاقتناع بالوصول إلى صيغة توافقية أو القبول بالسياق الذي يتم فرضه عبر هامش المناورة العسكرية.
لا يوجد ما يبعث على اليقين بأنّ اتفاق سوتشي كان يهدف إلى ترجيح سيطرة النظام السوري على حساب فصائل المعارضة، بقدر ما كان يركّز على الصيغة التي تضمن مصالح تركيا وروسيا دون إهمال فرق الوجود الاعتباري بين كليهما وكذلك مصالح إيران كفاعل رئيسي. وربّما لو حصل توافق بين أنقرة وموسكو حول قضايا التنفيذ والرقابة والإشراف لإقامة المنطقة العازلة، لما أدّى ذلك إلى تغيّر خارطة السيطرة العسكرية بقدر ما فرض شكلاً جديداً من الانتشار وتوزيع القوات والمهام المناطة بها. 
كانت مخرجات اتفاق سوتشي سيئة بالنسبة للفصائل المسلحة، ولم تحقق لها أي نتائج إيجابية، بل على العكس؛ فهي فقدت مزيداً من السيطرة الميدانية وبالتالي القدرة على التأثير في القرار. لكن بنفس الوقت لم تقم المعارضة بأيّة خطوات من شأنها تحسين ظروف سيطرتها؛ على اعتبار أنّ الإطار العام للاتفاق كان يمنحها هامشاً للمناورة. ولا توجد مبالغة في حال القول إنّ الفصائل كانت قادرة على تحقيق مكاسب من الاتفاق لم تكن لتحصل عليها في حال عدم توقيعه. 
استفادت هيئة تحرير الشام من اتفاق سوتشي، حتى يُمكن القول إنّها أكثر طرف استطاع الاستثمار فيه، فعدا عن كونها كسبت مزيداً من الوقت فيما يخص حل ملفها، فقد عززت من سيطرتها وقوتها وتمكّنها الاقتصادي والأمني على حساب الفصائل المسلحة الأخرى، وهذا يشمل حتى آلية تعاطيها مع الحملة العسكرية بمراحلها الثلاث. 
لقد أثبت الاتفاق أنّ روسيا لا يُمكن أن تتخلى عن خيار الحسم العسكري لضمان مصالحها الحيوية، خصوصاً وأنّها ترى في ذلك آلية فعالة لتحقيق مقاربتها التي تحفظ وجودها الاعتباري ودورها في سوريا. 
ما تزال تركيا أحد الأطراف الفاعلة المستفيدة من اتفاق سوتشي رغم التحوّلات الميدانية التي أعقبته، فهي لم تتخلّ عن تواجدها العسكري المتمثّل بنقاط المراقبة في منطقة خفض التصعيد. هذا بغض النظر عمّا إن كانت قادرة على تحقيق مكاسب أعلى ربّما عبر استمرار سيطرة الفصائل المسلحة على كامل منطقة خفض التصعيد وعبر تكوين فهم مشترك مع روسيا وإيران حول مستقبل هذه المنطقة، لما لذلك من دور في تعزيز قدرتها على التأثير في مسار الحل وكذلك في حماية مصالحها بشكل مباشر دون الاكتفاء بضمانة أحد شركاء أستانا.
ويمكن القول إن الاتفاقات الدولية ذات الطبيعة المشابهة لاتفاق سوتشي لا تحقق في الغالب مصالح الأطراف المحلية، أو لا تستهدف تحقيقها باعتبارها مصالحاً لهذه الأطراف، وأن على هذه الأطراف أن تحاول بنفسها تعظيم مصالحها بأكبر قدر ممكن من خلال فهم هذه الاتفاقات، وتحديد مصالح أطرافها بدقة، كي تتمكن من تحويل أي تهديد ربما تتضمّنه هذه الاتفاقات إلى فرص. 
وربما يكون النظام قد نجح في تحقيق هذا المنهج في تعامله مع اتفاق سوتشي إلى حد كبير، رغم أن الاتفاق بحدّ ذاته يتعارض مع سياسته ومصالحه، وهو ما فشلت معظم الفصائل المسلحة في فهمه والتعاطي معه.