خط في الرمال
Nis 19, 2019 3467

خط في الرمال

Font Size

خط في الرمال

’’.. فالتاريخ درايةٌ أولاً ثمّ رواية..‘‘ . المؤرخ أسد رستم. 

 

بقلم باسل وطفه 
فيما يلي أقدم عرضاً مختصراً- وإن بدا مطولاً- لكتاب المؤرخ البريطاني جايمس بار: خط في الرمال يتم التركيز فيه على بعض المحطات التي عكست الصراع المرّ بين القوتين حول تقسيم بلاد الشام والعراق، إذ يصعب تقديم عرض أو موجز لكتاب يذخر بالتفاصيل والشهادات والأحداث والأسماء ببضعة صفحات. يعاين الكتاب الظروف التي أحاطت بالاتفاقية التي وقعت منذ قرابة قرن من الزمن ورسمت مصائر الشرق الأوسط وما انفكت تداعياتها تؤثر في المنطقة إلى يومنا هذا. معلوم أن سايكس-بيكو كانت  ثمرة صراع مرير بين الفرنسيين والبريطانيين بهدف تقسيم التركة العثمانية، غير أن كتابنا يسبر عمق هذا الصراع بما فيه من مكائد ودسائس وقرارات غير مدروسة ومسؤولين خارجين عن السيطرة شكلوا معاً إطار العلاقة بين القوتين العظميين خلال الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين بدءاً من اقتراح الشاب الغرّ مارك سايكس (36 عاما) رسم خط في الرمال يمتد من عكا إلى كركوك مروراً بالحرب السرية بين القوتين في بلاد الشام وصولاً إلى رحيلهما حيث خلف صراعهما منطقة مقسمة مأزومة مثقلة بأكبر خطيئة في القرن العشرين وهي إقامة إسرائيل والتي وطدت وجودها الأولي مستفيدة من الصراع بين فرنسا وبريطانيا ! 
 

مشروع التقسيم قبل وخلال الحرب العالمية الأولى
طالب الشاب (النائب عن حزب المحافظين) مارك سايكس(1) بأن يُعتمد كخبير في شؤون الإمبراطورية العثمانية في أول خطاب ألقاه بناء على كتبه التي وضعها إثر زياراته لمصر والشام وادعائه – زوراً- معرفته باللغتين التركية والعربية التي لم يتقن أياً منهما. وقد حرص في البداية على أهمية تركيا قوية موحدة لحماية المصالح الاستراتيجية والتجارية للإمبراطورية لكنه غير رأيه عندما تحالف العثمانيون مع الألمان في الحرب العالمية الأولى ودعا إلى التفاهم مع الفرنسيين محاولاً الحفاظ على حلف بريطانيا الهش مع فرنسا فيما يتعلق بمستقبل الإمبراطورية العثمانية التي كانت سلفاً قد بدأت بالتخلي عن أراض كثيرة للبريطانيين والفرنسيين نتيجة الديون التي أثقلتها لينحسر مركز ثقلها إلى الشرق الأوسط. استدعي مارك سايكس إلى مقر الحكومة عام 1915 كي يدلو بدلوه في هذا الشأن، فأحضر معه خرائطه واقترح رسم خط يمتد بين عكا وكركوك بحيث تمنح الأراضي شمال الخط للفرنسين وتلك الواقعة جنوبه للبريطانيين. كانت العلاقة زواجاً قسرياً فرضه الخوف من ألمانيا في الحرب ويستمر هذا الزواج للسبب نفسه حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ملقياً بتبعاته على الشرق الأوسط. حرص الفرنسيون على التأكد من عدم نية البريطانيين الاستيلاء على سورية، حيث خضع السياسيون الفرنسيون لضغوط لجنة آسيا الفرنسية التي تعتبر أن لفرنسا حقاً ’’وراثياً‘‘ مشروعاً في سورية يعود إلى حقبة الحملات الصليبية. كان من نتائج حرص البريطانيين على عدم إثارة المخاوف الفرنسية إنزال قواتهم في غاليبولي حيث منيوا بهزيمة ساحقة بدلاً من الإنزال في الإسكندرونة بما يضمن لهم النجاح. كان من اقترح الإنزال في اسكندرونة هو تي.إي.لورانس (لورانس العرب)(2) الذي يكن للفرنسيين كراهية شديدة. ظهرت أولى المخاوف الفرنسية عندما علم الفرنسيون بمخطط جديد لمارك سايكس للربط بين مصانع تكرير النفط في شط العرب وقناة السويس عن طريق سكة حديدية تمتد من البصرة إلى قناة السويس. ولأن الطبيعة الرملية للأرض لا تسمح بذلك، اقترحَ أن يمر الخط عبر الصحراء الحجرية شمالاً عبر دمشق حتى الوصول إلى حيفا ما يعني انتهاكاً للمنطقة الفرنسية. من جانب آخر كان جورج بيكو(ممثل فرنسا في الاتفاقية)(3) مصمماً على التعامل بصورة أكثر صرامة مع البريطانيين في المستقبل للحيلولة دون تلاعبهم بالمصالح الفرنسية في بلاد الشام، وقد بدأ بيكو (حين كان قنصل فرنسا في بيروت) بتلقي رسائل من ضباط ومثقفين عرب يطلبون مساعدة فرنسا للحصول على الاستقلال خلال 1913-1914 لكن الحكومة الفرنسية لم تكن مستعدة حينها لمساعدتهم بسبب الفوائد المالية التي تحصل عليها من الاستثمارات التي تديرها في أراضي الإمبراطورية العثمانية، رغم أن بيكو حذر حكومته من إنها إن لم تساعد العرب فالبريطانيون سيفعلوا لكن دون جدوى وقد فشلت مساعيه لإشعال ثورة في لبنان آنذاك واكتشف العثمانيون عندما داهموا مقر القنصلية الفرنسية مراسلاته مع القوميين العرب وأعدموهم بالمحصلة. 

المآزق البريطانية 
توجب على بريطانيا التصدي لعدة معضلات. فهي تريد الحفاظ على تحالفها مع فرنسا بسبب حربهما معاً على الجبهة الغربية في أوروبا وتضحيات الفرنسيين الكبيرة هناك، والحفاظ من جانب آخر على مصالحها في الشرق الأوسط دون إشعار الفرنسيين بأي خطر ينعكس على جبهة الحروب في أوروبا. من جانب آخر، واجهت الإمبراطورية البريطانية الدعوة إلى الجهاد المقدس الذي أطلقها السلطان العثماني وتسبب لها بمشاكل عديدة في العديد من البلدان المسلمة وهي تريد في الوقت نفسه المحافظة على وجودها في الجانب الشرقي من قناة السويس، أي فلسطين، لحماية مصالحها التجارية. وضعت اللمسات الأخيرة على الاتفاقية عام 1916 وبقي الاتفاق سراً في ظل تصاعد المعارضة الشعبية للإمبريالية والمطالبة بمنح الشعوب حق تقرير المصير وفقاً لمبادئ الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون(4). ما إن هزم الحلفاء في سوم (تسمى معركة السوم الكبرى وقد وقعت على أرض فرنسا بين 1/07-18/11 1916 وتعتبر من أكثر الأيام دموية في الحرب العالمية الأولى) في العام نفسه حتى برزت الحاجة للدعم الأمريكي لمواجهة الألمان، فأيّد البريطانيون لفكرة ’’ مملكة إسرائيل" للحصول على دعم مليوني يهودي في الولايات المتحدة بما يسمح بجر الولايات المتحدة إلى الحرب لكن الفرنسيين لم يبدوا حماسة لمشروع الدولة اليهودية الذي ’’سيخلق المشاكل بين العرب واليهود‘‘. أشار رونالد ستورس(5)  مستشار الحاكم البريطاني في مصر ماكماهون (السير هنري ماكماهون الممثل الأعلى للتاج البريطاني في مصر بين 1915-1917) بالتواصل مع الشريف حسين في مكة، مستغلاً العلاقة السيئة بين الشريف حسين والأتراك بهدف إضعاف الدعوة إلى الحرب الدينية وخلق بديل عن السلطان العثماني ’’ الشريف المقيم في مكة قطب العالم الإسلامي وسليل النبي العربي‘‘، للثورة على العثمانيين مقابل الوعد بحكم مستقل. لكن مطلب الشريف حسين كان الوحدة العربية بما يشمل بلاد الشام والعراق إضافة إلى الجزيرة الأمر الذي فاجأ البريطانيين فضلاً عن رغبتهم بإبقاء تلك المراسلات سراً. علم الفرنسيون بالمراسلات عن طريق الضابط عمر الفاروقي(6) عند لقائه بالسفير الفرنسي في القاهرة فكان لا بدّ من المداورة وتقليل مخاوف الفرنسيين. 
من الواضح مما جاء في الكتاب أن كراهية لورانس العرب للفرنسيين كانت محركاً أساسياً لمواقفه وتصرفاته وحتى تجاوزاته الداعمة للثورة العربية فهو من كتب في رسالة عام 1915 عندما اقترح النزول البريطاني في الاسكندرونة:’’ طالما أن سورية تعنينا، ففرنسا هي عدوتنا وليس الأتراك‘‘. علّم لورانس قبائل الحجاز تركيب الألغام لنسف الخط الحديدي وكان لذلك أثر كبير لاحقاً في الثورات التي شهدتها المنطقة، لكن الثورة التي رعاها لم يكتب لها النجاح المرجو فعزا ذلك إلى سلوك الشريف حسين وبدأ بتقييم أولاده ليختار البديل. فضّل لورانس   فيصل على   عبد الله(7) الذي لم تكن علاقته طيبة بلورانس والعكس صحيح. لكن السبب الأهم في تسويق لورانس   فيصل هو أن توجه عبد الله السياسي كان جنوباً (ضم الحجاز إلى اليمن الخصب) بينما كانت لفيصل صلات مع جماعات قومية عربية في العراق وسورية، فدعم فيصل لتوسيع الثورة شمالاً بحيث يقضي على أي أمل للفرنسين في سورية. 
وصل الجنرال اللنبي(8) إلى مصر ليتولى مهمة واحدة وهي غزو فلسطين، وقد دعم اللنبي لورانس في توجهاته ورفضَ محاولات الفرنسيين إشراك رجالهم معه. تمكن لورانس من الاستيلاء على العقبة وأراد أللنبي الاستفادة من ذلك للتقدم نحو غزة واحتلال فلسطين وهذا ما شجع سايكس على القول بأن اتفاقه مع بيكو ’’مناقض لروح العصر نوعاً ما‘‘، وفي محاولة منهم لتفادي الضغط الفرنسي لجعل فلسطين تحت إدارة دولية، صرحت الحكومة البريطانية علناً عن دعمها للصهيونية ونشرت صحيفة التايمز رسالة وزير الخارجية آرثر بيلفور(9) إلى اللورد روثشايلد (وعد بلفور). يمكن إيجاز السياسة البريطانية بما قاله لورانس لمارك سايكس قبل ذلك محتجاً على تقلب الوعود البريطانية:’’ أعطينا وعوداً للعرب، ومن ثم للفرنسيين والآن لليهود! إننا في مأزق ‘‘. تبدى المأزق بوضوح عند دخول لورانس دمشق وتنصيب فيصل ملكاً واحتجاج العرب على تصريحات بلفور بينما أُعطي الفرنسيون شريطاً ضيقاً من ساحل لبنان بما يخالف سايكس بيكو.’’لن يكون المستقبل مشرقاً، وإذا لم يحصل العرب على منفذ إلى البحر ستحدث مشاكل لا حدود لها‘‘. كذا قال رئيس أركان حرب الامبراطورية في لندن. 


نفط الموصل
تنبه البريطانيون إلى مخزون النفط الكبير في الموصل الذي اكتشفه جيولوجيون ألمان قبل الحرب. كان موريس هانكي(10) ضابط المخابرات البحرية السابق هو من أثار الموضوع.’’ السلطة التي تسيطر على مواقع النفط في إيران وبلاد الرافدين ستسيطر على إمدادات الوقود السائل في المستقبل‘‘. تحت ضغط الرئيس الأمريكي المعارض للحماية البريطانية في فلسطين والعراق، جاء لورانس بالحل وهو وضع العراق تحت حكم عربي (صوريّ) قدر الإمكان مقترحاً تولية   عبد الله ابن الشريف حسين. أثار هذا الاقتراح خشية بعض الساسة البريطانيون من أن يتسبب ذلك بعدائية فرنسا ويعيق التمويل اللازم للتنقيب عن النفط. لكن الخارجية البريطانية (اللجنة الشرقية) اعتقدت أن دعم حق تقرير المصير من طرف واحد هو أفضل السبل لتحقيق الهيمنة البريطانية على الشرق الأوسط عن طريق المرواغة. بالمحصلة، جمعَ بيلفور بين فيصل وحاييم وايزمان(11) مشجعاً كليهما على التوصل لاتفاق. في 3.01.1919 اتفق الرجلان على وضع حدود واضحة بين الحجاز وفلسطين بعد انتهاء مؤتمر السلام ولم يكن بمقدور  فيصل الرفض إذ كان يتلقى مئة وخمسين ألف جنيه شهرياً من بريطانيا كمعونة شهرية لكنه تمسك باستقلال سورية الكامل. على الجانب الآخر من العالم كان الفرنسيون مصممون على استرداد الألزاس واللورين، فاستغل البريطانيون هذه الناحية وحذر "لويد جورج"(12) السفير الفرنسي (في صيغة تهديد مبطن) من أن دعم بريطانيا لفرنسا في الألزاس واللورين غير مضمون بسبب عناد الفرنسيين حول سايكس-بيكو، فكان نتيجة ذلك أن تنازل رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو(13) لــ "لويد جورج" عن الموصل والقدس. علاوة على ذلك أحضر البريطانيون فيصل للمشاركة في مؤتمر السلام (والمطالبة بالاستقلال استناداً إلى مبادئ ويلسون) واستمات الفرنسيون لمنع مشاركته دون جدوى فلجأوا إلى صحفهم لشن حملة تشوه ’’القائد العربي‘‘ ولورانس. بناء على نصيحة الخبراء، طالب البريطانيون بأن تكون تدمر أيضاً جزءاً من بلاد الرافدين لأنها محطة هامة على طريق أنبوب نقل النفط من الموصل إلى البحر المتوسط وبهذا تقلصت منطقة الانتداب الفرنسي أكثر. اتّهم "جورج كليمنصو" "لويد جورج" قائلاً :’’أراك من الآن فصاعداً عدواً لفرنسا‘‘ فرد "لويد جورج" :’’ حسناً. ألم تكن هذه سياستنا التقليدية دائماً؟‘‘. كان تلك المآلات هي من حرضت شهوة الانتقام الفرنسي سيما وأن فرنسا انتصرت في الحرب العالمية الأولى لكن الثمن كان باهظاً على جميع الأصعدة. عام 1919 أصرّ الرئيس الأمريكي (ويلسون.....) على إرسال لجنة إلى مناطق الانتداب (سورية وفلسطين والعراق) لاستطلاع آراء السكان المحليين من يافا إلى حلب حول شكل الحكم الذي يرغبون به وهي التي عرفت بلجنة ويلسون. خشي الفرنسيون والبريطانيون من نتائج الاستطلاع إذ أدرك الطرفان أن معظم سكان المنطقة سيرفضون الانتداب ويطالبون بالاستقلال. من ناحية أخرى شن الفرنسيون هجوماً لاذعاً على البريطانيين متهمين إياهم بالتأثير على آراء السكان في سورية بطرق غير مشروعة لحضهم على رفض الانتداب الفرنسي واتهمت لجنة ويلسون بالمقابل الفرنسيين باتباع وسائل مماثلة لتحقيق غاياتهم. لم يلبث البريطانيون أن أدركوا أن حكماً مستقلاً في سورية سيكون مثيراً للعدوى في المنطقة وسرعان ما سيطالب العراقيون وسواهم بالاستقلال أيضاً، ففضلوا سحب دعمهم لاستقلال سورية والمحافظة على وضع مستقر في بلاد الرافدين وفلسطين لضمان استمرار أعمال التنقيب عن البترول، ووافقوا على تسليم الوظائف والأعمال الحكومية في سورية للفرنسيين مع الإبقاء على فيصل بحيث تكون المشكلة الآن ’’ بين فيصل والفرنسيين حصراً‘‘. عقب ذلك كلّف كليمنصو الجنرال غورو بالتوجه إلى سورية ليتسلم الإدارة الفرنسية هناك. 

التوترات بين الحربين
بعد وصول غورو(14) إلى بيروت انتظر هناك ريثما يعقد اتفاقاً مع مصطفى كمال في شمال سورية (كيليكيا) ويحصل على الدعم البريطاني لأن قواته لم تكن كافية للتقدم إلى دمشق واجتياز سهل البقاع. في غضون ذلك استقال كليمنصو في فرنسا وحلّ محله ميلراند(15) المختلف والذي أوعز إلى غورو :’’ قم بعمل ما تراه ضرورياً لفرض احترام حقوقنا‘‘. في تلك الفترة تدهورت العلاقة بين الصهاينة والبريطانيين لاستهانة البريطانيين بأحداث الشغب يوم النبي موسى في القدس 1920 وعدم تصديهم لها كما يجب ولم يكن هذا في صالح بريطانيا بأية حال. كان البريطانيون على قناعة أن الفرنسيين هم وراء تأزيم الوضع في فلسطين، ورغم علمهم بأن الانتداب الفرنسي سيسبب اضطراباً عاماً في الإقليم، إلا أنهم أحجموا عن مواجهة ميلراند في مؤتمر سان ريمو، حيث لوّح الأخير بالاحتكام إلى اتفاقية سايكس-بيكو والمطالبة بوضع فلسطين تحت إدارة دولية. وفي الختام عقد الطرفان اتفاقاً تضمن أيضاً حصول فرنسا على ربع أسهم الشركة التي أنشأت للتنقيب عن نفط الموصل. دخل غورو دمشق وأصدر قراراً بطرد فيصل الأمر الذي فاجأ البريطانيين الذين توقعوا إبقاءه ولو كحاكم شكلي، ولجأ الأمير إلى أراضي الحكم البريطاني؛ إلى فلسطين. كانت مجريات الأحداث في سورية وثيقة الصلة بما يحدث في العراق حيث اندلعت الثورة العراقية في حزيران/يونيو 1920 بعد ثلاثة أشهر من انعقاد المؤتمر السوري العام الذي نادى ب عبد الله ملكاً على بلاد الرافدين و فيصل ملكاً على سورية. كانت الثورة عنيفة واستهان البريطانيون بها أول الأمر، لكن خروج الأمر عن السيطرة أقلقهم ودفعهم لاستخدام العنف دون جدوى، وحينها اقترح المفوض هناك أرنولد ولسون(16) ، بعد أربعة أيام فقط من خلع   فيصل، تنصيب الأخير ملكاً على الرافدين وسرعان ما وافقت الحكومة في لندن التي أنهكها الارتفاع المفرط لفاتورة الإنتداب. في خطوة استباقية اتّهم تشرشل الفرنسيين بالتسبب بالأمر ’’ لأنهم هم من أزاحوا فيصل‘‘، وغضب الفرنسيون معتقدين أن  فيصل ’’ سيحرك محازبيه في سورية ضدهم‘‘. فضلاً عن ذلك، تخوف البريطانيون من نية الجنرال الفرنسي توسيع نفوذه ناحية الجنوب ليقطع الصلة بين فلسطين وبلاد الرافدين، فذهب السير هربرت صموئيل(17)  آنذاك من القدس إلى بلدة السلط شرقي الأردن واجتمع بشيوخ محليين. أخبرهم أنه سيصدر عفواً عن واحد من الزعماء الذين أثاروا الشغب يوم أحداث النبي موسى وهرب إلى الأردن. ابتهج الحضور فاقتنص صموئيل لحظة الرضى هذه وقال: ليتقدم خطوة إلى الأمام كل من يرغب بالحكومة البريطانية، فتقدموا جميعاً‘‘. راقت فكرة تعيين فيصل ملكاً على بلاد الرافدين وأخيه عبد الله ملكاً على شرق الأردن لتشرشل(18) وأيد دفع معونات مادية لهما ولأبيهما في مكة:’’ إني واثق من مقدرة لورانس على اقناع فيصل بتولي رئاسة البلاد التي سنسميها الآن ’’ العراق‘‘.‘‘ ارتأى لورانس وتشرشل استخدام شرق الأردن كصمام أمان على أن يكون المرشح الأمثل لحكمه :’’ رجل ليس قوياً جداً وليس من سكان شرق الأردن ويعتمد على حكومة جلالته للحفاظ على منصبه‘‘ وكان   عبد الله المرشح الأمثل. أُعلن فيصل ملكاً على العراق تحت الراية البريطانية وفي غياب نشيد وطني عراقي. في هذا الصدد كتب السكرتير العام السابق للجنة آسيا الفرنسية:’’ قاتِل الجنود الفرنسيين، الخائن الحانث..هذا الرجل رفعه حلفاؤنا البريطانيون على العرش للتو!‘‘. 

ثورة الدروز
تعرض غورو لمحاولة اغتيال عام 1921 في الطريق من دمشق إلى القنيطرة وبعد سنة من التحقيقات أشارت أصابع الاتهام إلى رجل اسمه أحمد مريود (من قبيلة المهداوي. أسهم في تأسيس جمعية العربية الفتاة التي تحولت لاحقاً إلى حزب الاستقلال العربي. استشهد في جباتا الخشب 31.05.1926 في معركة مع قوة فرنسية مدعومة بالطيران) كان قد فرّ إلى شرق الأردن وبقي في حماية الملك عبد الله. حينها لم يستجب البريطانيون للفرنسيين الذي طلبوا المساعدة في القبض عليه. في العام نفسه أخبر سليم الأطرش الفرنسيين أن أحد مهاجمي غورو موجود عند قريبه ومنافسه سلطان الأطرش. لم تنجح المداهمة الفرنسية وقتل الضابط المسؤول. كانت السياسة الفرنسية في سورية مدعاة للقلق ولم تنفع شكاوي الدروز في السنوات 1922-1925 لدى المندوب السامي في الحد من سياسة موظفه كاربيليه(19) . في العام 1925 استدعي أربعة من زعماء الدروز إلى دمشق من بينهم سلطان الأطرش حيث قبض على ثلاثة منهم وفرّ سلطان فكانت بداية الثورة. انتقلت الثورة إلى حماة حيث قادها فوزي القاوقجي(20) هناك وانضمت دمشق إلى الثورة كذلك بقيادة عبد الرحمن الشهبندر(21) . تعاظمت الهجمات على الجيش الفرنسي الذي رد بالعنف والقصف المدفعي مستهدفاً غوطة دمشق على وجه التحديد. ثمة أسئلة أثارت دهشة الفرنسيين: كيف تمكن الدروز من تنظيم أنفسهم بهذا الشكل؟ من أين حصلوا على المعلومات والأسلحة والطعام الذي مكنهم من الصمود؟ وكيف كانت صحيفة التايمز على اطلاع جيد بمجريات التمرد؟ 
علم المندوب السامي الفرنسي موريس ساراي(22) أن سلطان الأطرش ذهب للقاء الوكيل السياسي البريطاني في عمّان، عدا عن وثائق كثيرة حصل عليها الفرنسيون تفيد بدعم البريطانيين لثورة الدروز. تم اختيار دو جوفونيل(23) مندوباً سامياً جديداً في بيروت لحل المعضلة، وقد أدرك أن التعامل مع ثورة الدروز يمر عبر البوابة البريطانية لكن الدعم البريطاني كان مشروطاً: الحصول على المساعدة الفرنسية في نزاعهم الطويل مع الأتراك حول ملكية الموصل فضلاً عن أن الأتراك كانوا يدعمون الانفصاليين الأكراد المطالبين بالاستقلال وفي هذا السياق اتخذ الفرنسيون جانب الأتراك. ربط البريطانيون مشاكل الموصل والدروز في عقدة واحدة. ’’ثورة الدروز كانت مفيدة للغاية لأنها منعت الفرنسيين من التفكير بالعمل ضد البريطانيين‘‘. حلت مشكلة الموصل لصالح بريطانيا وأطلقت يد فرنسا للتعامل مع الثورة منفردة. 
بدأت الثورة الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني عام 1936، وهذه المرّة استخدم عدد من قادة الثورة سورية ملجأ لهم. بداية العشرينات لم تكن فلسطين موطناً مرغوباً لعدد كبير من اليهود إذ أن تحويل البلد إلى مستعمرة ناجحة تطلب الكثير من العمل، لكن الهجرة تزايدت بدءاً من 1927 مما أدى إلى تصاعد التوترات بين العرب واليهود التي بلغت ذروتها في اندلاع الثورة. كانت الديون قد أثقلت كاهل معظم الفلاحين العرب بينما باشر اليهود بشراء أراض كثيرة من ملاكها الأصليين (أثرياء مقيمون في سورية ولبنان). ردّاً على التعنت البريطاني خلال ثورة الدروز، قدمت فرنسا الملاذ للحاج أمين الحسيني (رئيس اللجنة العربية العليا) في لبنان فضلاً عن استقبالها الحافل لفوزي القاوقجي ومحمد الأسمر اللذان شاركا في الثورة الفلسطينية، وعندما طلب البريطانيون المساعدة للقبض على هؤلاء قابلهم الفرنسيون بالصدّ. أثار الحاج أمين الحسيني(24) أيضاً مخاوف الفرنسيين حين أخبرهم أن البريطانيين تقربوا منه (خلال عمله مفتياً للقدس) واقترحوا عليه توحيد سورية الكبرى في كيان عربي واحد. بعد وفاة فيصل 1933، تبنى أخوه عبد الله ورئيس وزرائه نوري السعيد(25) فكرة سورية الكبرى كلّ على طريقته؛ فأراد عبد الله توحيد وحكم فلسطين وشرق الأردن وسورية بينما أراد السعيد ضم فلسطين إلى شرق الأردن والعراق. بطبيعة الحال أخاف ذلك الفرنسيين لأنه سيخلق زخماً للمطالبة بتوحيد المناطق العربية هذه ويبقي لهم لبنان فقط كقاعدة عسكرية لقواتهم. واجه البريطانيون الثورة بعنف شديد وبدؤوا بتجنيد اليهود في قواتهم خشية التحاق أفراد الشرطة العرب بالمتمردين، وبالمقابل تخللت هذه الأحداث صدامات دامية متواصلة بين العرب واليهود. أسفرت الثورة عن مقتل حوالي 5000 عربي وجرح عشرة آلاف تقريباً. 


نُذر الحرب العالمية الثانية ومآلات المنطقة 
بدأت نذر الحرب تلوح في الأفق، ما حدا بالفرنسيين إلى ترميم صلاتهم مع البريطانيين والمباشرة بمحادثات عسكرية عالية المستوى. تراجع الفرنسيون عن معاهدة 1936 مع الكتلة الوطنية السورية بذريعة الخوف من وقوع البلد بيد الألمان. وعندما طرح البريطانيون مسألة المفتي (الحاج الحسيني) رد الفرنسيون بأنه تحت رقابة مشددة ولمس نظراؤهم رغبة فرنسا الحقيقية باتخاذ إجراءات فعلية لإيقاف المدد من سورية. اتخذ الجانب البريطاني اجراءات مماثلة خيبت آمال القوميين الذين سحبوا دعمهم للثوار الفلسطينيين أملاً بالحصول على الدعم البريطاني للحصول على الاستقلال، لكن الوضع تغير مع اقتراب الحرب وتشير وثيقة في الأرشيف البريطاني أن البريطانيين أوقفوا المعونة المادية الشهرية التي كانوا يدفعونها لرئيس الوزراء السوري خليل مردم بيك(26) تفادياً لكل ما قد يسبب قلق الفرنسيين.  تجدر الإشارة إلى صراع الطرفين أيضاً إبان تدخلهما في الانتخابات الجارية في سورية ولبنان تدخلاً فظاً وعنفياً بعض الأحيان حيث حرص الفرنسيون على نجاح الطرف غير الوحدوي بينما دعم البريطانيون الرئيس بشارة الخوري ورياض الصلح(27) الميالان إلى الوحدة وإلى لبنان ’’ عربي بوجه غربي “ضد المرشح إيميل إدّه(28) الذي خسر الانتخابات ووصل الأمر بالفرنسيين إلى اعتقال بشارة الخوري ورياض الصلح وتعيين إدّه رغم نجاحهما في الانتخابات. لم تتوقف التحركات البريطانية في سورية أيضاً خلال الحرب لدعم فكرة وحدة سورية الكبرى (لكن ليس على المستوى الرسمي حتى 1939) تحت قيادة الملك عبد الله الهاشمي، وتشير الوثائق إلى اتصالات بين البريطانيين وخليل مردم بيك وسعدالله الجابري لدعم الوحدة العربية الهاشمية وكبح النفوذ الفرنسي والتصدي لشكري القوتلي (الذي وصفه مردم بيك برجل المستعمرات) الكاره للهاشميين والميال للسعوديين. لا ريب أن المرواغة البريطانية قد أججت حقداً شديداً في الجانب الفرنسي (العاجز إلى حد كبير) فكان الانتقام في فلسطين. 

الورطة البريطانية والخروج
مع استمرار البريطانيين في دعم المشروع العربي الملائم لمصالحهم الاستراتيجية المستقبلية، بقي التزامهم بمساعدة اليهود على الهجرة إلى فلسطين مسألة شائكة تستدعي المعالجة دون إثارة رد فعل عربي. يعود التعاون بين الفرنسيين والصهاينة إلى أيلول/سبتمبر 1940 عندما آوى المستثمر اليهودي ديفيد هاكوهين(29) ثلاثة نشطاء من الفرنسين الأحرار في بيته في حيفا. وعندما منع البريطانيون الفرنسيين الآحرار من شن حملة دعائية من سورية، سمح هاكوهين عضو الهاغاناه (تأسست في القدس تحت اسم ’’فرقة الدفاع والعمل‘‘ عام 1931 وضمت أعداداً كبيرة من أفراد الفيلق اليهودي الذي حارب إلى جانب الإنكليز في الحرب العالمية الأولى. ومع إنشاء الدولة العبرية تحولت إلى جيش الدفاع) بإنشاء إذاعة لهم من بيته أيضاً وتوقع اليهود أن يلعب الفرنسيون الآحرار دوراً كبيراً في مستقبل فرنسا وأنهم لن ينسوا هذا التعاطف. كانت بريطانيا قد اتخذت إجراءات بهدف الحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين فخفضت العدد إلى 15 ألف شخص سنوياً لكن سياسات النظام الهتلري بدءاً من الثلاثينات عظمت مخاوف اليهود التي بلغت ذورتها في الأربعينات فزادت أفواج اللاجئين اليهود الهاربين من أوروبا الأمر الذي خلق ضغطاً إضافياً على البريطانيين. على سبيل المثال اضطر البريطانيون إلى منع السفينة ’’ستورما‘‘ التي انطلقت من رومانيا وانتظرت في ميناء اسطنبول 8 أسابيع من الاقتراب من فلسطين مع علمهم بأنها ’’محشوة بالهاربين من جحيم الحرب‘‘.في طريقها من اسطنبول إلى البحر الأسود انفجرت السفينة وغرق في تلك الحادثة 769 راكب ولم يقدم البريطانيون في هذا الصدد جواباً واضحاً ولم يقوموا بالتحقيق في الموضوع.  تأكد البريطانيون لاحقاً من علاقة عصابة شتيرن الدموية الشهيرة(30) مع الفرنسيين ودعم الأخيرين لهم من خلال عدة قرائن ومشاهدات وتثبت شهادة اسحاق شامير عضو شتيرن ذلك:’’ كنا بحاجة ماسة للمال لشراء السلاح ودعم جهازنا الإعلامي ولنبق على قيد الحياة. بدا السطو خياراً وحيداً لكنه أسفر عن غضب الناس وعدم تعاطفهم معنا، فكان اللجوء للدعم من الفرنسيين الذين أهينوا على يد البريطانيين في لبنان هو الحل الأفضل‘‘. نشبت حرب مستعرة بين العصابات الصهيونية والجيش البريطاني في فلسطين واتبع البريطانيون النهج العنفي الذي استخدموه مع العرب في ثورة 1936 على جميع المستويات. شك البريطانيون في الدور الذي تلعبه الوكالة اليهودية في هذه الحرب وحاولت استخباراتهم MI6 ( المخابرات السرية البريطانية العاملة في المجال الخارجي) رصد اتصالاتهامع عصابة شتيرن إلى درجة أنهم قرروا مداهمة مقر الوكالة للاستيلاء على ملفاتها فجر أحد أيام السبت وجمعوا ثلاث شاحنات من الوثائق لم تثبت أي منها صلة الوكالة بالإرهاب اليهودي. جاءت الضربة القاصمة في عملية تفجير فندق النبي داوود التي أدت إلى مقتل 91 شخصاً ولم تملك الوكالة اليهودية تحت قيادة بن غوريون أمام الاحتجاج الدولي سوى أن تدين العملية، فاقتنع زعماء الشتيرن والأرغون أن بين غوريون سيخونهما فنقلا عملياتهما إلى الخارج. 
كانت العصبة الأمريكية من أجل تحرير فلسطين قد تأسست عام 1944 على يد هيلل كوك(31)  وهو عضو كبير في الأرغون. وقد لعبت هذه العصبة دوراً رئيسياً في توجيه الرأي العام الأمريكي والسياسة الأمريكية لدعم مشروع الدولة اليهودية. بعد وفاة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت(32) الذي كان مارس ضغطاً معتدلاً على بريطانيا في مسألة الهجرة اليهودية. لعبت العصبة في ورقة الانتخابات الأمريكية عن طريق التأثير في عواطف الجمهور أولاً. استطاع كوك الذي يملك علاقات وثيقة مع بعض المشاهير من عرض مسرحية في البرودوي بعنوان ’’ولادة علم‘‘، وتروي المسرحية (من تأليف بن هيتشت) قصة ثلاثة يهود نجوا من معسكرات الاعتقال النازي ويحاولون الوصول إلى فلسطين. ينجو أحدهم واسمه ديفيد (يجسد دوره الممثل الشهير مارلون براندو) ويحقق الهدف. في نهاية المسرحية يتوجه مارلون براندو إلى الجمهور ويسأل عدة مرات:’’أين كنتم؟... عندما حدثت المقتلة..عندما قتل وأحرق ستة ملايين يهودي.. لقد اختفيتم لأنكم تشعرون بالخزي.. اللعنة على صمتكم...‘‘. تحولت المسرحية إلى حفل لجمع التبرعات وجمعت العصبة يومها 400.000 دولار وألهبت الجو السياسي في نيويورك وأضحت الهجرة اليهودية موضوع المنافسة بين الجمهوريين والديمقراطيين، وحيث دعم حاكم نيويورك الهجرة اليهودية، اندفع الديمقراطيون وضغطوا على ترومان(33) لدعم الموضوع بدرجة أكبر إذ أن الموضوع لا يؤثر فقط على أصوات اليهود الأمريكيين بل على البروتستانت ’’الإنجيليين‘‘ الذين رؤوا أن الواجب يقتضي مساعدة ’’العبريين‘‘ على استعادة أرض الميعاد ولذلك ركزت الدعاية الصهيونية على استخدام كلمة ’’العبريين‘‘ أكثر من ’’اليهود‘‘. افتتحت العصبة مقراً لها في فرنسا عام 1946 لكسب التعاطف الفرنسي وحصلت على دعم عدد من المفكرين والفلاسفة كجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار (فيلسوف وروائي ومسرحي فرنسي شهير وهو رائد الفلسفة الوجودية . ارتبط سارتر بعلاقة مع سيمون دو بوفوار الكاتبة والمفكرة والناشطة النسوية الفرنسية  عام 1929 ( لم يعتبر كلاهما العلاقة زواجاً عادياً ولم يسكنا معاً). واستغلت شعور عدد من الساسة الفرنسين بالذنب لمشاركتهم في ترحيل اليهود إلى ألمانيا أثناء الحرب. اتخذت الحرب بين بريطانيا وعصابتي شتيرن والأرغون منحى آخر، فقد أدركت بريطانيا أن العصابتين اتخذتا باريس قاعدة للقيام بعمليات اغتيال تطال كبار المسؤولين البريطانيين ومنهم تشرشل. قدم الفرنسيون الدعم ’’السرّي‘‘ للعصابتين في كفاحهما ضد البريطانيين شريطة عدم الاعتداء على المصالح البريطانية في الأراضي الفرنسية. ضربت موجة من التفجيرات لندن واتبعت العصابتان أسلوب الرسائل المفخخة لاغتيال مسؤولين وموظفين بريطانيين ولم يتمكن البريطانيون من الحصول على الدعم الفرنسي للقبض على الصهاينة المشتبه بهم في فرنسا. من جانب آخر لم يبذل الفرنسيون أدنى جهد لوقف الهجرة اليهودية غير الشرعية من فرنسا باتجاه فلسطين فضلاً عن شحنات الأسلحة عبر مرسيليا، وقد ألغت الحكومة الفرنسية في شهر آذار/مارس من عام 1947 إجراءات التفتيش الصارمة على كل من يود مغادرة البلاد وسرعان ما تدفق يهود أوروبا للسفر عبر موانئ فرنسا الجنوبية وفي منتصف ذلك العام كانت قوافل من الشاحنات تحمل بين مئة وخمسمئة يهودي تصل الموانئ كل يومين. حظي الهاربون بدعم عمال وموظفي الموانئ وحتى من الصحفيين الفرنسيين. نورد هنا شهادة جنرال بريطاني كان في فلسطين حين جرى التصويت على قرار التقسيم في الأمم المتحدة: ’’ابتهج اليهود بشكل هستيري‘‘ و ’’ذهل العرب ولم يصدقوا‘‘ وسمع الهتاف في تل أبيب ’’تحيا فرنسا‘‘. المفارقة أن فرنسا ترددت في البداية إزاء التصويت بالموافقة على التقسيم لأنها خشيت من موجة غضب تجتاح مستعمراتها في شمال إفريقيا لكن حاجتها الماسة للمال من الولايات المتحدة لتمويل إعادة الإعمار أخضعها لضغط ترومان الذي اشترط موافقتها. في 26.09.1948 أعلنت بريطانيا عزمها على الانسحاب من فلسطين من طرف واحد بغض النظر عن قرار الأمم المتحدة. 
كانت الرغبة في اقتسام التركة العثمانية هي ما دفع القوتين إلى اتفاق سايكس-بيكو، وكان عدم الرضا البريطاني عن الاتفاق هو ما دفعهم إلى الخطوة المشؤومة المتمثلة بوعد بلفور وإلى ما تلا ذلك من صراعات سلطنا الضوء على بعضها فقط في هذا العرض الموجز. تتلخص الحكاية فيما ذكره أحد معاصري مارك سايكس:’’ إن الحدود التي رسمها بضربة قلم على خارطة العالم، بدت محكمة ومقبولة عند تقسيم إفريقيا في القرن التاسع عشر، لكنها بدت متعجرفة وفظة عندما طبقت على الأراضي العثمانية في القرن العشرين‘‘. 

مؤلف الكتاب: المؤرخ البريطاني جايمس بار 
من مؤلفاته التي ترجمت إلى العربية: خط في الرمال – الصحراء تشتعل 

 

المراجع:

1- ولد مارك سايكس لعائلة ثرية من ملّاك الأطيان، وكان عمر والده ضعف عمر والدته. تهدمت الأسرة نتيجة الطلاق الذي فضح عيوب الطرفين ومنها علاقة والدته مع دليل سياحي في مصر الأمر الذي انعكس عليه سلباً فكان السفر إلى الشرق الأوسط ملاذاً للشاب المحطم. اكتسب سمعته كخبير في الشرق الأوسط إثر مجموعة كتب ألفها بناء على ترحاله هناك. توفي في عمر التاسعة والثلاثين.
2- تي. أي. لورانس أو لورانس العرب: طالب آثار من جامعة أكسفورد جاء أول الأمر إلى الشرق الأوسط للبحث في تاريخ القلاع الصليبية وقد تخرّج من الجامعة بدرجة ممتازة. خلال وجوده وطد علاقته بشكل جيد مع السكان المحليين وعند اندلاع الحرب 1914 تطوع وعُين في المخابرات العسكرية البريطانية. يروي لورانس تجربته هذه في سيرته الذاتية: أعمدة الحكمة السبعة.
3- جورج بيكو: كان عضواً في لجنة آسيا الفرنسية التي تحث على المطالبة بحق فرنسا بسورية. هو ابن جورج بيكو أحد المحامين الشهيرين وعضو المعهد الفرنسي، وقد اتخذ اسم أبيه كي يؤكد أنه ابن ذلك المحامي الشهير. درس القانون مثل أبيه وغير مهنته إلى العمل الدبلوماسي حيث بدأ العمل في وزراة الخارجية أواخر القرن التاسع عشر.
4- الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة (1913-1921) واشتهر بمجموعة المبادئ الأربعة عشر التي أصدرها ومنها حق الأمم والشعوب في تقرير المصير.
5- عمل لسنوات في المفوضية البريطانية في القاهرة وأصبح مستشار مكماهون للشؤون الشرقية. عين لاحقاً حاكماً عسكريا للقدس.
6- ضابط عربي شاب في الجيش العثماني انشق عنه والتحق بالجيش البريطاني في معركة كاليبولي. كان على صلة أيضاً بأعضاء في حركة قومية عربية سرية وقد أطلع البريطانيين على هذا الأمر.
7- دعم لورانس فيصل صاحب الإطلالة، العصبي والمتقلب المزاج والأكثر تأثراً بالمحيطين على عبد الله الرامي الممتاز والواثق من نفسه جداً لأنه الأول هو الأنسب لمساعدة البريطانيين.
8- إدموند أللنبي شارك في حرب البوير في جنوب أفريقيا ثم نقل إلى مصر لقيادة قوة التجريدة المصرية واحتلال فلسطين. دعم لورانس على عدة مستويات.
9- آرثر بلفور رئيس الحكومة البريطانية 1902-1905 ووزير خارجية في حكومة لويد جورج 1916-1919.
10- هو من نبه لويد جورج على أهمية المدينة بعد اطلاعه على مذكرة من أحد الأدميرالات تتحدث عن أهمية النفط مقابل الفحم في الحركة البحرية وهي عصب الشبكة التجارية البريطانية حيث أشار فيها إلى توقعات بوجود مخزون ضخم في الموصل.
11- رئيس المنظمة الصهيونية العالمية 1920-1946 انتخب رئيساً لدولة إسرائيل عام 1949.
12- لويد جورج وزير الحرب 1916 ورئيس الحكومة الإئتلافية بين 1918-1922.
13- جورج كليمنصو: رئيس وزراء فرنسا  بين 1906-1909 ثم بين 1917-1920.
14- هنري غورو خسر ذراعه في معركة كاليبولي. غير متزوج، ورع ومتشدد دينياً وقد رأى في نفسه محارباً صليبياً يقتفي خطوات الرهبان والمحاربين المسيحيين القدماء الذين لبوا النداء البابوي قبل ثمانية قرون.
15- ألكساندر ميلراند: تولى الحكومة الفرنسية بعد استقالة كليمنصو. تشدد في التعامل مع البريطانيين وهددهم بالدعوة لإدارة دولية لفلسطين وكان داعماً لهنري غورو بطبيعة الحال.
16- أرنولد ولسون تولى حكومة بلاد الرافدين حين كان في الخامسة والثلاثين من عمره. معتد بنفسه، واعتقد أن معالجة الأمور بالعراق على غرار الهند أمر ممكن وبسيط. اتبع سياسة متشددة وفشل في إخماد الثورة العراقية.
17- هربرت صموئيل: سياسي بريطاني يهودي تلقى تعليمه في أوكسفورد. هو أول مندوب سامي إلى فلسطين عام 1920.
18- ونستون تشرشل: عمل مراسلاً صحفياً مع القوات البريطانية على حدود الهند الشمالية الغربية. دخل البرلمان تحت مظلة المحافظين ثم غير توجهه وانضم إلى الليبراليين وكان أصغر وزير (33 عاماً) في حكومتهم.ولكونه اللورد الأول في الأميرالية البحرية البريطانية اتخذ القرار بالاعتماد على النفط بدل الفحم مما ورط بريطانيا في العراق، واتخذ القرار المشؤوم بالنزول في كاليبولي حيث مني البريطانيون بهزيمة ساحقة. أقصي عن العمل السياسي لفترة وأعاده لويد جورج كوزير دولة للشؤون الحربية نهاية 1918.
19- غابرييل كاربيليه صاحب مظهر قاس خدم سابقاص في غرب إفريقيا. استدعاه الفرنسيون عندما فشلوا في الاتفاق مع عائلة الأطرش وإخضاع الجبل حيث حاول التقليل من نفوذ آل الأطرش عن طريق إقامة بنية تحتية هناك.
20- فوزي القاوقجي: أحد أفراد الدرك السوري. أشغل الثورة في حماه وكان قد حارب في الجيش العربي الذي هزمه الفرنسيون في ميسلون. وحارب أيضاً في الثورة الفلسطينية 1936-1939.
21- عبد الرحمن الشهبندر: تخرج طبيباً من الجامعة الأمريكية في بيروت. فرّ من سورية إلى مصر خلال الحرب العالمية الأولى وعاد عقب الهدنة حيث عمل مترجماً للمندوب الأمريكي تشارلز كرين ثم وزيراً للخارجية لفترة قصيرة في حكومة فيصل.
22- موريس ساراي : كان في التاسعة والستين عندما عين مندوباً سامياً في بيروت 1925. كان معارضاً لسياسة حكومته في سورية لأنها أفادت بعض المنتفعين واعتمدت على الكنيسة الكاثوليكية، وقد عارض ترشح إميل إدّه لأنه اعتقد أن الأخير وثيق الصلة بالكنيسة.
23- هنري دو جوفونيل درس القانون لكنه اختار العمل في صحيفة لوماتان. بدأت حياته السياسية عندما عمل لاحقاً مستشاراً لوزير المواصلات واختير في العام 1921 ممثلاً لبلاده في عصبة الأمم لخبرته في الدفاع عن السياسة الاستعمارية الفرنسية ولأنه اكتسب ثقة المندوبين في العصبة. حلّ بديلاً عن ساراي كمندوب سامي في بيروت عام 1925.
24- أمين الحسيني: مفتي القدس الأكبر. درس في الأزهر وأسس لاحقاً نادياً معارضاً للهجرة اليهودية إلى فلسطين. خدم في الجيش العثماني وأيد فيصل ملكاً على سورية وفلسطين ودعم أيضاً ثورة الدروز في سورية ثم أصبح رئيس اللجنة العربية العليا التي تأسست مع اندلاع ثورة 1936 في فلسطين.
25- نوري السعيد: دبلوماسي عراقي رفيع درس في الأكاديمية العسكرية في اسطنبول وساهم في تأسيس الممكلة العراقية والجيش العراقي. تولى رئاسة الحكومة العراقية 14 مرة بين عامي 1930-1958.
26- خليل مردم بك: رئيس الحكومة السورية عام 1936 وهي الحكومة العشرين في تاريخ سورية الحديث.
27- بشارة الخوري: كان محامياً متدرباً لدى إميل إده. عارض سياسة إده وحظي بدعم أوسع في المجتمع المسيحي الماروني وكذلك بين المسلمين السنة. فضلاً عن دعم بريطانيا له لأنه مؤيد للوحدة العربية. 
ذاع صيت رياض الصلح على أنه ’’ أحد أكثر القادة نفوذاً في الحركة القومية العربية‘‘ كان معادياً شرساً للفرنسيين وحاول عقد صفقة مع بريطانيا تقوم على دعمه لبريطانيا إن هي ساعدتهم بإجلاء الفرنسيين.
28- إميل إده: مرشح فرنسا المفضل، تمتع بالكفاءة في سياسات التهدئة ودافع عن موقف فرنسا في مواجهة المطامع الأنجلو-ساكسونية.
29- ديفيد هاكوهين صاحب شركة مقاولات اسمها ’’سوليل بونيه‘‘. بنت الشركة بناء على طلب الحكومة البريطانية سوراً بطول خمسين ميلاً على طول الحدود الفلسطينية مع لبنان وسورية عرف باسم جدار تيغارت لمنع هجمات الثوار من سورية.
30- ابراهام شتيرن شاعر كلاسيكي شاب. كان عمره 34 عاماً عندما كان مسؤولاً عن علاقات الأرغون الخارجية وتركها بسبب خلاف حول التحالف مع البريطانيين. فكان يرى أن من واجب اليهود المساعدة فقط إن منح البريطانيون الصهيونيين استقلالهم، حتى أنه حاول الحصول على مساعدة هتلر لدعم اقامة الدولة اليهودية تكون متحالفة مع الرايخ الألماني. قام بعمليات سطو كثيرة للحصول على المال وقتل في إحدى المطاردات. تحول الرجل إلى أيقونة ألهمت ما عرف لاحقاً بعصابة شتيرن.
31- هيلل كوك: ابن حاخام معروف جداً في فلسطين. قدم إلى الولايات المتحدة عام 1940 وعمل على توحيد الجهود اليهودية هناك.
32- فرانكلين روزفلت: الرئيس الثاني والثلاثين للولايات المتحدة من 1901-1909.
33- هاري ترومان: خلف فرانكلين روزفلت. كان مزارعاً في السابق ورجل أعمال غير ناجح لم يتعلم في كلية ولذلك لم يكن يثق بنصائح خريجي الجامعات والنخبة المثقفة. كان رجلاً سريع الانفعال وقد تولى منصب نائب الرئيس قبل اسبوعين من وفاة روزفلت وقد بدا الارتباك واضحاً عليه حين وجد نفسه فجأة رئيساً لأقوى أمم الأرض. حين جاءه بعض السفراء العرب في ليشتكوا من تحيزه ودعمه للهجرة اليهودية إلى فلسطين قال لهم:’’ علي أن استجيب لمئات الآلاف من أولئك المتحمسين لنجاح الصهيونية. ليس عندي مئات الآلاف من الناخبين العرب‘‘.