الشرق الأوسط ما بعد الأسد.. خسارة إيران مكسب لتركيا
ديسمبر 11, 2024 1193

الشرق الأوسط ما بعد الأسد.. خسارة إيران مكسب لتركيا

حجم الخط

تتوالى التحوُّلات الكبرى في الشرق الأوسط بعد الأحداث الأخيرة في سورية وقبلها لبنان؛ حيث يسعى العديد من الفاعلين الإقليميين والدوليين للهيمنة على المنطقة، وسط تزايُد المنافسات الإقليمية بعد سقوط النظام السوري. فما تداعيات هذا التغيير على القُوى الكبرى في المنطقة؟ وهل ستسعى أنقرة إلى ملء الفراغ الإقليمي الذي خلّفه سقوط أهم عملاء طهران؟  

نصّ الترجمة:  

إنّ الأحداث الخطيرة التي شهدتها الأسابيع الأخيرة في لبنان وسورية، من تدمير إسرائيل لحزب الله إلى سقوط النظام السوري أدت إلى تغييرات كبيرة من شأنها أن تُحدث تحوُّلاً في مستقبل منطقة الشرق الأوسط، وقد تكون الآمال معقودة على أن انهيار ما يُسمى بمحور المقاومة الإيراني في بلاد الشام مُبشِّر بفترة من السلام والاستقرار في المنطقة. لكن النتيجة الأكثر احتمالاً هي تصاعُد المنافسة الإقليمية لملء الفراغ الذي خلّفه تراجُع إيران وحلفائها؛ حيث إن انهيار حزب الله غيَّر ميزان القُوى بين إيران وإسرائيل، وسقوط بشار الأسد أضعف إيران بشكل أكبر. لكن العاقبة الأوسع هي التغيُّر في ميزان القُوى بين تركيا وبقية الأطراف الأخرى.  

تُعَدّ النهاية السريعة للنظام لحظة فارقة في تاريخ سورية، فهي تمثل تحرير بلد عانى طويلاً خلال 54 عاماً من حكم عائلي اتَّسم بالفساد والوحشية، خاصة في السنوات الـ 14 الأخيرة التي شهدت حرباً شِبه مستمرة، كما أنها تمثل هزيمة مُذِلّة لإيران وروسيا، اللتين دعمتا الأسد، فقد تخسر روسيا القواعد العسكرية التي استخدمتها كنقطة انطلاق إلى إفريقيا، بينما تخسر إيران سورية كجسر بري إلى لبنان.  

لا يمكن اختزال المشهد بمراقبة مظاهر الاحتفال بسقوط الأسد وهزيمة إيران، فالهجوم الخاطف الذي استمر 12 يوماً وانتهى بسيطرة فصائل المعارضة المسلّحة على دمشق يمكن أيضاً اعتباره مناورة ذكية من تركيا. فلطالما كانت أنقرة الراعي الرئيسي للقوة المناهضة للأسد، وهيئة تحرير الشام، وتُعزى إلى حد كبير نجاحات هذه الفصائل في ساحة المعركة إلى دعم أنقرة. ورغم أن تركيا أعربت عن دهشتها إزاء السرعة التي انهار بها النظام لم تكن النتيجة مفاجئة. يمثل ذلك عرضاً واضحاً لقدرة تركيا على بسط نفوذها من خلال هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها، مما جعل تركيا تَحُلّ مَحلّ روسيا وإيران كقوة خارجية مهيمنة في سورية.  

مع مرور الوقت، قد تمتد مكاسب تركيا في سورية لتعزز نفوذها في لبنان والعراق، خاصة مع ضعف موقف إيران في هذين البلدين نتيجة خسارتها لسورية. هذا الواقع يُغير ميزان القُوى الإقليمية بطرق مهمة. فمن ناحية، يُعَدّ ذلك انتكاسة كبيرة لإيران، لكن الأهم -وربما بشكل أكبر- أن مكاسب تركيا تحمل تداعيات على باقي الأطراف الإقليمية؛ حيث من المرجح أن تقوم جميع تلك الأطراف بإعادة ضبط سياساتها للتكيُّف مع هذا الواقع الجديد.  

بالنسبة لإيران فإن خسارة سورية تُعَدّ ضربة قاسية لهيبتها وإستراتيجيتها الإقليمية. فهي تُضعِف موقفها في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل؛ ولكن كما تُظهر ردود الفعل من المراقبين عَبْر الطيف السياسي الإيراني على سقوط الأسد، فإن مكاسب تركيا في سورية تُعَدّ مصدر قلق عميق في طهران، حيث ترى الأخيرة في تركيا منافساً إقليمياً يزاحمها على مناطق نفوذها في الشرق الأوسط والقوقاز، حيث طالما تنافستا على النفوذ في هذه المناطق.  

مع الدعم القوي الذي قدمته تركيا لأذربيجان، بما في ذلك الهجوم السريع الذي استعاد إقليم ناغورنو كاراباخ من أرمينيا في أيلول/ سبتمبر 2023، خسرت إيران فعلياً في تلك المنافسة. وإذا ما أقدمت تركيا، مدفوعة بالنتائج التي تحققت في سورية، على دعم أذربيجان للسيطرة على ممر زانجيزور Zangezur التجاري الذي سيربط أذربيجان وأرمينيا بتركيا، فسيتم إبعاد إيران بالكامل من منطقة القوقاز. وبالنسبة لإيران قد يبدو هذا وكأنه إعادة تشكيل للهيمنة العثمانية على القوقاز وبلاد الشام، وهو النفوذ الذي حاربته إيران في الفترة الممتدة بين القرنين السادس عشر والعشرين.  

من عجيب المفارقات أن العدو الرئيسي لإيران، إسرائيل، لديه أيضاً أسباب تدعوه للقلق إزاء تطوُّر الأحداث في سورية، لن يدوم احتفال إسرائيل بإنهاء الوجود الإيراني في بلاد الشام طويلاً، بسبب التحديات الكامنة في مواجهة مجال النفوذ التركي هناك. ومن المحتمل أن ترفض الحكومة الصاعدة بقيادة الهيئة، بمجرد ترسيخ سلطتها في سورية، ضمّ إسرائيل لمرتفعات الجولان، ومن المرجَّح ألا تظلّ محايِدة بشأن محنة الفلسطينيين. والواقع أن الروابط العربية السنّية مع الفلسطينيين أكثر عضوية من الروابط بين إيران وحزب الله، وربما يكمن الخطر على حدود إسرائيل الآن في النظام السياسي الجديد في دمشق، المدعوم من أنقرة.  

بالنسبة للدول العربية، مصر والأردن، ودول الخليج العربي، يبدو انتصار الهيئة في سورية بمثابة صدى خطير للربيع العربي، الذي اعتقدت أنها هزمته. فقد تحدَّت تلك الانتفاضاتُ الاستبدادَ في العالم العربي بدعوات إلى الديمقراطية والحكم الرشيد. وسَرْعان ما تبنتها الأحزاب الإسلامية، فقبل بعضها الديمقراطية، وسعى بعضها الآخر إلى إقامة دول إسلامية متشددة. ولقد تبنَّى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الانتفاضات العربية، ورأى مستقبلاً للعالم العربي يعكس رؤيته الخاصة للديمقراطية الإسلامية، وفي المقابل تبنت العديد من الأحزاب الإسلامية تركيا كمصدر إلهام ودعم لها.  

لقد قاتلت الدول العربية بشدة من أجل سحق الحركات الإسلامية في بُلدانها، مما جعل تلك الدول تتواجه مع تركيا. وفي النهاية انتصرت الدول العربية. إنّ الوضع في سورية كان الأكثر أهمية وحساسية بالنسبة لتركيا؛ حيث كانت المخاطر التي تواجهها هناك هي الأكبر مقارنة بأيّ مكان آخر. فقد دعمت بنشاط جزءاً من المعارضة، التي شملت فصائل ذات توجُّه إسلامي، واحتضنت ملايين اللاجئين الفارين من الحرب. وفي هذه المعركة، كانت روسيا وإيران هما مَن أحبطا جهود تركيا للإطاحة بالأسد.  

رغم أن الدول العربية كانت ترى في الأسد عميلاً لإيران، وأداروا ظهورهم له كان بقاؤه يتماشى مع هدفهم في منع أي صعود للإسلاموية. ومؤخراً اتخذت تلك الدول خُطوات لإعادة بناء العلاقات مع الأسد وترحيبها بعودة سورية إلى الحضن العربي.  

الآن بعد حوالَيْ 14 عاماً من بَدْء الثورة السورية، فازت تركيا أخيراً بمعركتها للإطاحة بالأسد وإقحام نفسها في سورية. إن هذا الانتصار يُشكِّل فصلاً متأخراً من الربيع العربي، في هيئة إحياء للإسلاموية كقوة سياسية تسيطر على دولة عربية حيوية.  

إنّ ارتفاع حظوظ قوّة إقليمية مُعينة سيؤدي حتماً إلى إعادة ترتيب التحالُفات، ثم إلى إستراتيجيات لاحتوائها وعكس تأثيرها، وستتطلب تلك الجهود استغلال الانقسامات داخل سورية. إن الهيئة تُسيطر على الحكومة السورية والطريق المهم الذي يربط شمال البلاد بجنوبها، من حلب إلى دمشق، لكن قبضتها على باقي أجزاء البلاد ليست مضمونة.  

هناك قُوى إسلامية وقومية أخرى تعمل في سورية، إضافة إلى الوحدات الكردية التي تسيطر على شمال شرقي البلاد. وقد تكون لهذه القُوى أسبابها الخاصة لتحدي السلطة الجديدة في دمشق، وستكون جهودها أكثر قوة إذا وجدت دعماً من فاعلين خارجيين مستعدين لمساندة قضيتها.  

إنّ أفضل ما يمكن أن تُحقّقه سورية بعد سنوات من المعاناة، هي دولة قوية ومستقرة تركز على إعادة بناء البلاد التي مزَّقتها الحرب، ولكن إذا تورطت سورية في دوّامة التنافُس الإقليمي، فقد تجد نفسها أمام مستقبل لا يختلف كثيراً عن مستقبل ليبيا، حيث أدت المنافسة بين القُوى الخارجية إلى تفتيت البلاد وإطالة معاناتها.  


المصدر: مجلة فورين بوليسي  
ترجمة: عبد الحميد فحام