موقف النظام السوري من حرب غزّة
يناير 19, 2024 1617

موقف النظام السوري من حرب غزّة

حجم الخط

مقدمة         

تشنّ إسرائيل منذ 9 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 حرباً مستمرة على قطاع غزة؛ حيث أطلقت عملية عسكرية باسم "السيوف الحديدية"، عقب هجوم "طوفان الأقصى" الذي نفذته حماس وجناحها العسكري كتائب القسام في 7 من الشهر ذاته. في الأثناء كان النظام السوري قد تجنب تسجيل مواقف واضحة من الحرب، والتزم الصمت السياسي، بينما لم تكفَّ إسرائيل عن توسيع ضرباتها على الأراضي السورية، وزادت من وتيرتها بعد اندلاع حرب غزّة؛ حيث ارتفعت من 6 إلى 11 ضربة مقارنةً بالفترة الزمنية ذاتها بين عامَيْ 2022 و2023.         

عسكرياً لم يُؤثّر تزايُد الهجمات المنطلقة من سورية باتجاه الجولان المحتل بعد الحرب على غزة في الوضع الميداني على الأرض ولا على سياسات النظام تجاه الحرب؛ نتيجة موقفه منها وبسبب الرد السريع والمُركّز على مصادر النيران الذي نفذته إسرائيل، حيث أظهرت استعدادها وجاهزيتها لخيار القتال البري في سورية، لا سيما أنّ جيشها نفّذ خلال عام 2023، عدداً من عمليات التوغُّل البري داخل الأراضي السورية شقّ خلالها الطرقات وأقام النقاط العسكرية اللازمة لأي عملية عسكرية.         

أولاً: الموقف السياسي تجاه الحرب في غزّة         

تفاعل النظام السوري بفتور مع الحرب في غزة؛ حيث اكتفى بعد عملية "طوفان الأقصى" بإصدار بيان إنشائي، ربط فيه بين عملية "طوفان الأقصى" وحرب تشرين، في محاولة للتذكير بإنجازاته في مواجهة إسرائيل، دون أن يخرج عن اللغة الدبلوماسية ونطاقها المتمثل بالإدانة والاستنكار.         

بعد بَدْء الحرب على غزة، انتهج النظام سياسة التجاهُل على المستوى السياسي؛ حيث لم يَقُمْ بشار الأسد منذ ذلك الحين بأي ظهور إعلامي، وينطبق الأمر ذاته على وزير الخارجية، الذي لم يُجرِ سوى عدّة تصريحات ولقاءات خجولة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر.         

على المستوى الإعلامي، اكتفى النظام بتغطية الحرب، والتركيز على ما تقوم به إسرائيل من فظائع هناك، مع تجاهُل تامّ لحركة حماس، التي تتصدّر المشهد السياسي الفلسطيني خلال الحرب بشكل مطلق، في هذا السياق يُلاحظ غياب اسم "حماس" في وكالة "سانا" للأنباء الرسمية منذ أعوام، ولم يظهر هذا الاسم خلال السنوات الماضية إلا مرتين، الأولى عند تغطية خبر زيارة وفد لها دمشق برئاسة عضو المكتب السياسي خليل الحية أواخر عام 2022، والثانية عندما اغتالت إسرائيل صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية مطلع كانون الثاني/ يناير 2024؛ حيث اكتفى خبر الوكالة بوضع صفته كنائب لرئيس المكتب السياسي للحركة.         

لكن التغطية الإعلامية لوسائل الإعلام التابعة للنظام السوري تُميز بين حماس وكتائب القسام، حيث يتم ذكر اسم الكتائب، عبر وصفها بـ "كتائب القسام في المقاومة الفلسطينية" -مع أن "سانا" تتجنب ذكر الاسم ما أمكن- حيث لم يذكر منذ بداية كانون الثاني/ يناير 2024 -وحتى تاريخ إعداد هذا التقرير- سوى مرة واحدة. وهو ما ينسجم مع موقف النظام الذي اعتمده منذ سنوات، والذي يقوم على التمييز بين ما يصفه بـ "الجناح المقاوم" و"الجناح الإخواني" في حركة حماس[1].         

يُؤكد هذا التجاهل المتعمَّد للحركة، والتي تتصدر المشهد الفلسطيني بشكل كامل خلال الحرب، أن النظام السوري لم يتمكن من الخروج من حالة النقمة على الحركة، نتيجة لما يعتبره النظام غدراً وطعنة في الظهر تعرض لها من حركة حماس، بعد رفض قيادات الحركة في عام 2011 تقديم الدعم له، وقيام بعض هذه القيادات بتأييد المعارضة ورفع رموزها.          

عكست تصريحات الأسد نفسه خلال السنوات العشر الماضية موقفه الشخصي بهذا الخصوص[2]، بما يُفسر التموضع الحالي للنظام تجاه الحرب في غزة، وهو تموضع متمايز بشكل واضح عن بقية المحور الإيراني في المنطقة؛ حيث يُلاحَظ أن أمين عام حزب الله حسن نصر الله قدم في خطابه الأول بعد الحرب إشارة يُفهَم منها عدم رضا طهران عن موقف الأسد تجاه الحركة، بقوله: إنّ علاقة حماس بالإخوان المسلمين وانتصارها في حرب غزة لا تعني انتصار الإخوان المسلمين في المنطقة، وإنّ انتصارها هو مصلحة لسورية[3].         

بالمجمل إن التموضع الحالي منسجم مع سياسات النظام خلال الأعوام الماضية، لا تصريحاته فقط، فقد رفض النظام إجراء المصالحة مع الحركة مراراً، رغم الوساطات المتعددة من إيران وحزب الله، ومحاولات تيار في الحركة لتقديم خطاب تصالُحي واعتذاري، مستفيداً من الهامش الذي يملكه في العلاقة مع حلفائه، حيث لا يقوم الحلفاء بالضغط على النظام بقوة للموافقة على سياسات لا تؤثر مباشرة في مصالح الحلفاء.         

على المستوى الداخلي عمل النظام منذ بداية الحرب على فرض رقابة أمنية شديدة على المخيمات الفلسطينية لمنع خروج المظاهرات الرافضة للحرب، كما لم تشهد المدن السورية أي مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، والتي اعتاد النظام على تنظيمها في مثل هذه المناسبات.         

عملياً يتعلّق موقف النظام من حرب غزة أساساً بالموقف من حماس، فالنظام لا يملك أصلاً القدرة على القيام بأي عمل عدائي من الناحية العسكرية تجاه إسرائيل، ولا حتى على وَقْف الأعمال العدائية الإسرائيلية على أراضيه، كما أنه لم يَقُمْ حتى باستخدام الهوامش المتسامَح فيها دولياً، والتي استخدمها كل حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، من السماح بالمظاهرات، ورفع سقف التصريحات.. إلخ، بما يُظهِر رغبة النظام العميقة بتثبيت تموضعه الخاص ضِمن ما يُعرف بـ"محور الممانعة والمقاومة"، من حيث تبني خطاب هذا المحور، مع انتقاء مَن يراهم حلفاء ممكنين من مكوّنات المحور.         

ثانياً: الموقف العسكري تجاه الحرب في غزة         

رفض النظام استعادة حماس لنشاطها العسكري في سورية، والذي توقَّف منذ نهاية عام 2011. بالمقابل ترك المجال لحركة الجهاد الإسلامي، الأقرب إليه وإلى طهران، كي تمارس بعض أنشطتها في سورية، لكن وجود الحركة في سورية محدود أصلاً، ويتم تحت إشراف حزب الله وإيران.   

من جانب آخر استمرّت الميليشيات الإيرانية باستخدام المَرافق والبِنَى التحتية المدنية والعسكرية للنظام من أجل إمداد قواتها المنتشرة جنوب سورية، حيث وسّعت من استخدامها للواء 61، لما يوفّره من قدرة على تجهيزها وإمدادها في حال وقعت أي مواجهة مع إسرائيل من جهة الجولان. نتيجة لذلك تعرّض مطارَا حلب ودمشق إلى قصف متكرّر ومركّز من قِبل إسرائيل، فضلاً عن عمليات التوغل التي قامت بها في القنيطرة بعد حرب غزة، فيما لم يكن هناك أي ردّ من قِبل النظام.         

على أي حال بقي تصعيد الميليشيات الإيرانية ضد إسرائيل انطلاقاً من الجبهة السورية محدوداً للغاية ولم يخرج عن قواعد الاشتباك رغم تصاعُد وتيرة الحرب في غزة. بل مع دخول الحرب شهرها الرابع تراجعت هذه العمليات في عموم الجبهة الشمالية، ويُمكن إرجاع ذلك إلى دور روسيا التي أعادت تسيير دوريات قرب الحدود مع الجولان منذ 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ثم نشرها نقطتين جديدتين في الجولان، لمراقبة وقف إطلاق النار بين النظام وإسرائيل. وكذلك إلى دور إيران التي ركّزت على توجيه أنشطتها العسكرية إلى القواعد الأمريكية في سورية بدل تركيز المواجهة مع إسرائيل انطلاقاً من القنيطرة، ومحاولتها أثناء ذلك تعزيز وجودها العسكري جنوب سورية. وأخيراً دور إسرائيل التي ركّزت على تكتيك الاغتيالات في سورية بدل الدخول في معركة مفتوحة انطلاقاً من الجبهة الشمالية.         

بالنتيجة لم يكن للنظام موقف عسكري تجاه الحرب في غزة، فهو لا يمتلك قرار شنّ الحرب أو الهجمات ضد إسرائيل انطلاقاً من سورية أو حتى التحكُّم بحركة وقرارات قوات الحلفاء والميليشيات التابعة لهم على أرضه؛ بعدما بات القرار العسكري خاضعاً لإيران وروسيا أو مرتبطاً باستمرار دعمهما له على أقل تقدير، فضلاً عن أنّ قوات النظام غير قادرة أصلاً على الدخول في مواجهات إقليمية في ظل الاستنزاف الذي تعرّضت له خلال العَقْد الماضي واستمرار التهديد لها من قِبل فصائل المعارضة شمال البلاد وتنظيم داعش وسطها، كما أنّه ليس في صالح النظام توسُّع الحرب في غزة؛ لأنّ ذلك قد يكون على حساب المكاسب التي حققها خلال سنوات التهدئة الماضية.         

على أيّ حال لا يُشكّل موقف النظام من الحرب في غزة ثِقَلاً أو أهمية لدى الغرب وإسرائيل؛ لأنّ تحريك الجبهة السورية مرتبط بقرار إيران وروسيا، ولأنّ التهديد الأساسي بالنسبة لإسرائيل والغرب يأتي من الميليشيات الإيرانية، وليس الفصائل الفلسطينية الموجودة في سورية.         

ثالثاً: هل يتغيّر موقف النظام السوري من الحرب في غزّة؟         

في حرب لبنان 2006 هدّدت إسرائيل النظام بالردّ بقوة إذا انضمت سورية إلى الحرب إلى جانب حزب الله، ورغم استمرار الحرب 34 يوماً وإعلان بشار الأسد في أسبوعها الثاني نيته الدخول بها في حال اجتاحت إسرائيل لبنان إلا أنّه لم يُشارك بشكل مباشر وفعليّ[4].         

في حرب غزة 2023 لم يُبدِ النظام موقفاً سياسياً أو عسكرياً تجاه إسرائيل، وهو فعلياً بخلاف عام 2006 غير قادر على توجيه أي تهديد عسكري لها؛ فقواته تعاني بعد مرور 12 عاماً على النزاع من نقص كبير في العتاد والقوى البشرية وتحوّلت العديد من وحداته العسكرية لأماكن تجميع العتاد المدمَّر، أو مقرات ومستودعات للميليشيات الإيرانية، فضلاً عن أنّ القرار العسكري الفعلي بات خارج قدرته على التحكم، بما في ذلك شنّ هجوم عسكري على إدلب، ناهيك عن استهداف إسرائيل.         

من جانب آخر وإنْ كان النظام قد حدّ من أنشطة الفصائل الفلسطينية في سورية، سواء حماس أم الجهاد الإسلامي والفصائل التي لا تمتلك أصلاً وجوداً في فلسطين، وأصبحت جزءاً من الهياكل الأمنية والعسكرية لقواته، لكنه خسر قرار السلم أو الحرب لصالح روسيا والميليشيات الإيرانية التي تُحاول الإمساك بقرار المواجهة مع إسرائيل انطلاقاً من جنوب سورية، في ظل وجود روسيا، مستفيدة من التسهيلات التي يقدمها النظام لها جنوب سورية؛ عَبْر جعل الوحدات العسكرية والمنشآت والبنى التحتية التابعة لها تقوم بتخديم أنشطتها وتحرُّكاتها؛ على أمل أن يُسهم ذلك في إبقاء حضوره في المشهد الفلسطيني السياسي والإعلامي وعلى نحو أقل العسكري.         

فعلياً خسر النظام لصالح إيران إحدى أبرز أدوات القوّة التي كان يُسوّق لها إقليمياً ودولياً وهي التأثير في القرار العسكري والأمني للفصائل الفلسطينية انطلاقاً من الجبهة السورية، على غرار ما حصل معه بعد خروج قواته من لبنان عام 2005 الذي أضعف قدرته على التأثير في حزب الله على حساب إيران.          

بالنتيجة لا علاقة للنظام بقرار تجنُّب الدخول المباشر في الحرب، وإنّ عدم تغيير تموضعه منها مرتبط بالظروف السياسية والميدانية والداخلية المفروضة عليها، وليس خياراً متاحاً له بالأصل.         

خُلاصة         

لطالما استخدم النظام السوري بعهد الأسد الأب والابن ورقة القضية الفلسطينية، في محاولة تصديره باعتباره ركناً أساسياً فيما يُسمَّى "محور المقاومة"، ولكسب الحلفاء والأنصار في المنطقة العربية، في الوقت الذي يرتكب فيها انتهاكات جسيمة بحق شعبه وشعوب دول الجوار، خاصة من اللبنانيين والفلسطينيين.         

إلا أن عدم قدرته على تغيير موقفه من حماس، بعد أن رفضت عام 2011 التموضع في مواجهة السوريين المنتفضين على النظام، مثلما فعلت بعض الفصائل الفلسطينية الأخرى، أُجبِرَ النظام على التخلي عن الاستثمار في القضية الفلسطينية عندما يتعلق الأمر بغزة وحماس، وهو ما ظهر جلياً بشكل غير مسبوق في حرب غزة، التي تميزت بضخامتها من جهة وطول مدتها من جهة أخرى، بما كشف توجُّهات النظام الفعلية، بشكل لم تنجح في كشفه الهجمات الإسرائيلية السابقة على القطاع، والتي لم تكن تأخذ صفة الحرب المطلقة مع حماس تحديداً، ولم تكن طويلة بما يكفي لكشف السلوك الممنهج للنظام في هذا الصدد.          

يرتبط التموضع الحالي للنظام أساساً بموقفٍ حادٍّ منه، وفي الغالب ذو بُعد شخصي من بشار الأسد، تجاه القيادة السياسية لحماس، إلا أن النظام سيعمل في الغالب على استثمار هذا التموضع غربياً، من أجل التسويق لصواب نهج تعويمه، الذي تدعو له العديد من دول المنطقة والعالم، والدعوة لفكّ العزلة الدولية عنه وتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، وهو يتطلع إلى قيام بعض الفاعلين الإقليميين في المنطقة بتسويق موقفه الحالي من الحرب بفاعلية.         

لا شك أن نتائج الحرب على غزة سوف تُلقي بظلالها على النظام في الفترة اللاحقة، بغضّ النظر عن النتيجة التي ستنتهي إليها الحرب، فتموضع النظام داخل ما يُسمّى "محور المقاومة" لا يمكن أن يستمر على حاله بعد الأداء "الهزيل له حتى على مستوى الجهد الإعلامي والسياسي، بما سيُضعف من حُجَج التيار المتحمِّس للتطبيع مع النظام داخل حماس، ويُضعف من حجم المتأثرين بدعاية النظام في الشارع الفلسطيني عموماً.     

على المستوى الخارجي من الممكن أن يقوم بعض الفاعلين الإقليميين بتسويق موقف النظام من الحرب باعتباره دليلاً آخر على سلامة نهج تعويمه، إلا أن ذلك لن يكون مؤثراً بشكل كبير، على اعتبار أن النظام لا يملك من سياسته الداخلية والخارجية إلا هوامش ضيقة، تسمح له بالامتناع عن الفعل السياسي والإعلامي، وبالحدود الدنيا.         

 

[1] القيادة السورية تستقبل قريباً وفد فصائل فلسطينية ضمنه «حماس المقاومة»، صحيفة "الوطن" السورية، 10/10/2022، الرابط .         

[2] انظر على سبيل المثال:         

الأسد: السياسة السعودية سترتدّ عليها وتدمرها والعلاقة مع حماس ماتت، قناة "الميادين"، 19/04/2015، الرابط .         

الرئيس الأسد في مقابلة مع قناة العالم: العلاقة السورية الإيرانية إستراتيجية، الوكالة السورية للأنباء، 13/6/2018، الرابط .         

[3] نص كلمة نصرالله خلال الاحتفال التكريمي للشهداء الذين ارتقوا على طريق القدس، تلفزيون المنار، 3/11/2023، الرابط .         

[4] بشار الأسد: سندخل في حرب ضد إسرائيل إذا اجتاحت لبنان، الأخبار، 24/3/2011، الرابط .         

          



 

الباحثون