سورية الدولة المتوحشة
ميشيل سورا محلِّلًا بنية النظام السوري- مراجعة لكتاب (سوريا، الدولة المتوحشة)
مراجعة: عرابي عرابي
الوصف البنيوي للكتاب:
يتألَّف كتاب سورا في أصله من عدة فصول كتبها في أوقاتٍ متفرقة بعد انقلاب الأسد (التصحيحي) لمسيرة حزب البعث التقدمية، وما جرى إثر ذلك من حركات احتجاجية على نظام السلطة الجديد تهدف إلى استرجاع الهوية الحضارية للمجتمع، والتي وُوجِهَت بحرب القمع العنيفة، على أساس الطائفة والقوة والتحالفات المتناقضة لتتشكل حالة من "العصبية" بمفهومها الخلدوني، والتي كان لها أثر بالغ في استمرار حكم الأسد الأب.
وقد أنتج ميشيل سورا دراسات عديدة عن الحرب اللبنانية الأهلية إلا أنه لم يوفَّق في إكمال مشروعاته البحثية بسبب الاجتياح الإسرائيلي واعتقاله ومن ثمَّ وفاته.
قُسِّم الكتاب -إبان إعداده للنشر- إلى أربعة أقسام، خُصّص الأول منها لفهم "الطغيان الحاصل اليوم" و"إرهاب الدولة" و"الفِرَق والطوائف والمجتمع في سورية" لينتقل في القسم الثاني إلى دراسة "الحركة الإسلامية" في سورية بين عامي (1963-1982) ضمن عدة فصول، أما الثالث فكان لدراسة "السكان"، و"الدولة والمجتمع" و"الطبقة السياسية التقليدية" في الدولة السورية، لينتهي الكتاب في قسمه الرابع الذي خُصِّص لدراسة عن "المدينة العربية الشرقية" وعصبية "حيِّ باب التبَّانة في طرابلس".
أولاً: (السلطة والمجتمع) سرد تاريخي :
لم تكن الحركة الإسلامية أو الأصولية –بحسب سورا- محض رد فعل في وجه السلطة، وإنما كانت جزءاً لا يتجزأ من المجتمع السوري ، فقد نبت غرسها الأول في ظل الانتداب بشكل سري، لتتدرج في التطور والتجذر في العقد الأول من الاستقلال، وذلك على نحو يميزها عن الحركة الأم في مصر على يد د. مصطفى السباعي الذي استطاع أن يصبغ الحركة بصبغة خاصة ، مشيراً إلى أنه من المهم للغاية فهم طبيعة الصراع بين الحركة والسلطة على أساس الإقصاء الذي قام به البعث، أو (الجناح العلوي) في السلطة الذي جيَّر مقدرات الدولة ليتملّك السيطرة المطلقة بلا منازع.
لتبيُّنِ ذلك كلّه استفاض سورا في بيان الأدوار التي مرّت بها العلاقة بين المجتمع والسلطة إثر الاستقلال عن الانتداب الفرنسي إلى القمع الذي أخمِدت فيه جذوة الانتفاضة الاجتماعية في مدينة حماة .
فكيف كانت العلاقة بين السلطة والمجتمع منذ انقلاب البعث في الثامن من آذار عام 1963م؟
تُعَدُّ كلمة (الثورة) التعبير الرسمي للانقلاب العسكري الذي قاده زياد الحريري الذي لم يكن له أي برنامج سياسي محدّد، كما أن مجموعة "الضباط الأحرار" لم يكونوا في غالبهم من حزب البعث، وإنما كانوا مستقلين أو ناصريين، أما حزب البعث ذاته، فإنه حزب جديد أُعيد تشكيله بعد انتهاء الوحدة بين مصر وسورية، ولذا فإنه لم يكن جاهزاً لاستلام السلطة باعتراف ميشيل عفلق -أحد مؤسسيه- الذي صرَّح بأن الانقلاب المنفَّذ كان خارجاً عن إرادته، ومن ثمَّ كان هذا الانقلاب –بحسب سورا- التعدي الأول من الجناح العسكري في البعث على المدني .
البعث والمسألة الدينية:
انطلقت في عام 1964 احتجاجات طلابية في مدينة حماة سرعان ما أيّدها علماء الدين وأعلنوا الجهاد ضد النظام الحاكم، وللرد على ذلك قام أمين الحافظ رئيس المجلس الثوري بقمع الاحتجاجات فهُدِم جامع السلطان الأثري في حماة، في تصرف لم يقم به سوى (المغول) بحسب التعبير الساري آنذاك، لتنتقل حركة الاحتجاجات إثر ذلك إلى المدن الكبرى كدمشق وحلب، فأغلقت المحال التجارية وبدأت سلسلة من المظاهرات المطالبة بالحريات ورفع حالة الطوارئ، إلا أن هذه الحركة الاحتجاجية كُسِرت في مهدها، إذ شُكِّلت محكمة عسكرية للنظر في كل القضايا المتعلقة (بتخريب النظام الاشتراكي) ثم ما لبثت الاضطرابات أن عادت بين السلطة والمجتمع عندما قام الضابط إبراهيم خلاص بنشر مقال في مجلة (جيش الشعب) يدعو فيها إلى الإلحاد، فكانت ردود الفعل قوية نتج عنها مظاهرات كثيفة بقيادة علماء الدين في حلب وحماة وحمص ودمشق، مع مواجهات متفرّقة استمرت عدة أيام، إلى أن سُحبت أعداد المجلة من الأسواق، وأحيل الضابط إلى المحاكمة .
في عام 1970 اكتملت سيطرة الجناح (الطائفي) في الجيش السوري، بنجاح انقلاب اللواء حافظ الأسد وزير الدفاع، لينتخب رئيسًا للجمهورية في عام 1971، في حادثة لها دلالاتها الرمزية، إذ كان الرئيس الأول للجمهورية منذ الاستقلال من خارج الطائفة السنية، وقد بدأت الاضطرابات تهز كرسيّ حكمه في عام 1973، إثر أزمة الدستور التي لم يُشَر في مواده إلى دين الدولة أو دين الرئيس، ودخل علماء الدين الاحتجاجات العنيفة في حماة فاضطر إلى إضافة مادة تؤكد على أن دين الدولة والرئيس الإسلام؛ وذلك ليمنع الاحتجاجات من التوسع إلى أطوار أخرى ، ثم ما لبثت الاحتجاجات أن عادت مرة أخرى إبان تحالف النظام مع القوى المسيحية في لبنان في الحرب الأهلية عام 1976 لضرب الجبهة الإسلامية / التقدمية هناك، الأمر الذي قرئ على أنه تحالف بين الطائفة العلوية والمسيحية لإقصاء السنة والمقاومة الفلسطينية وضربهما، مما استوجب منه الإيضاح في خطاب له نصّ فيه على أن الأهمية لا تعود للطائفة أو الجماعة أو الدين، وأن الصلة الوحيدة والرابط الأهم بين الطوائف هو الوطن والعروبة، ليفهم ذلك على أنه إعلان صريح عن سلطويته الطائفية، مما دفع مجموعات من المسلحين الأصوليين إلى تنفيذ عمليات اغتيال لشخصيات ورموز مهمة في النظام .
عملية حلب:
بعد سلسلة من الاغتيالات التي وقعت في دمشق وحلب جاءت عملية مدرسة المدفعية عام 1979، فأسفرت عن مقتل نحو 83 تلميذاً من الضباط (جميعهم من العلويين) لتعلن السلطة على لسان جريدة البعث إثر أيام أن الجريمة المروعة التي حدثت في حلب كانت "بتنسيق الإمبريالية الصهيونية وتنفيذ ربيبتها من جماعة الإخوان المسلمين، وذلك بهدف بذر الشقاق الطائفي بين أبناء الوطن الواحد وضرب صمود الأمة وتصفية القضية الفلسطينية" ، لتشكل السلطة –في إجراء سريع- محاكمةً لـ 15 عنصراً –معتقلين للتواطؤ مع المخابرات العراقية- بتهمة الانتماء لحركة أصولية محظورة، ونفذ حكم الإعدام بحقهم، لتبدأ بعض المسيرات (العفوية) المطالبة بإنهاء وجود جماعة الإخوان المسلمين، ونادى خطباءٌ مشهورون بذلك في مساجد حلب ودمشق في لغة بعثية واضحة تشير إلى (لا عفوية) هذه المطالبات والمناشدات ، لتتدهور الأوضاع الأمنية في عموم البلاد بصورة مطَّردة، علماً أن حركة الاحتجاجات الشعبية والنقابية لم تتوقف، مما استدعى السلطة وحزب البعث للتداول في سبل إنهاء الأزمة، وقد برز ههنا تياران مختلفان في رؤية التعامل مع الاحتجاجات وأعمال العنف، طرف يميل إلى المصالحة وإرساء الديمقراطية، وطرف يدعو إلى الحل السريع عبر (العنف الثوري).
سياقات التعامل الداخلية مع الأزمة
في هذا السياق سعت شخصيات بعثية (سنية) كـ عبد الله الأحمر، ومحمود الأيوبي رئيس مجلس الوزراء، إلى إنقاذ واجهة النظام المدنية، فقامت الجبهة الوطنية التقدمية بنشر بيان من (37) نقطة يوضح الحال الذي وصلت إليه السلطة من الفساد والمحسوبيات وغياب العدالة وتنفيذ القانون وتردي الحريات مع السخرية من الادعاء بأن سورية تتعرض لمؤامرة إمبريالية، خاصة وأن الأزمات الاقتصادية الداخلية لا علاقة لها بالخارج وإنما بفساد المسؤولين، مع التأكيد على أن اللوم الأول موجّه إلى المتحكمين بالآلة العسكرية (الطبقة العلوية المسيطرة) وأنشئت عدة لجان للتحاور مع المثقفين والمفكرين لإبداء الرأي والتشاور في سبل الحل وتوسيع الجبهة الوطنية بضم مختلف القوى إليها، وقد أيدت جماعة الإخوان البيان إلا أنها أعلنت استياءها من عدم التعرض للسبب الأساسي لهذه الحرب التي "تهاجم الإسلام، والتي تديرها الطائفة في السر والعلن" .
في المقابل فإن أشقاء حافظ الأسد كانوا يميلون إلى مناصرة الطريقة الثانية، وقد أعلن رفعت الأسد في المؤتمر القطري السابع للحزب عن اقتراحات عديدة لاحتواء الأزمة الاحتجاجية، منها: إصدار قانون التطهير القومي وتطبيقه على كل من يحيد عن طريق الصواب، مع تشديده على ضرورة إعادة تأهيل النظام التعليمي والمدرسي .
وصلت ذروة الاحتجاجات الشعبية عام 1980، إذ نفذت المدن السورية إضراب شاملٍ، واستثنى هذا الإضراب مدينة دمشق التي بقيت خارجه بشكل ملحوظ، مناقضة بذلك حلب التي كانت خارج سيطرة الأجهزة الأمنية وتقود التحركات الشعبية.
إن ما حدث في حقيقة الأمر لا تختص به جماعة الإخوان المسلمين، وإنما كانت الاحتجاجات شعبية تشارك فيها القطاعات المختلفة مع الجهود التي تبذلها "الجماعة"، لكن الرئيس السوري وجّه في خطاب له في 8/ 3/ 1980 اللوم على الحركة الأصولية فقط، واستخدم في خطابه عبارات مليئة بالدلالات الدينية، مركزاً على إسلامه والتزامه بالخط القومي والوطني والبعثي في مواجهة الأزمة ، لتقوم قوات الأسد (الطائفية) كسرايا الدفاع، والقوات الخاصة، والفهود الحمر،....إلخ، باللجوء إلى (العنف الثوري في مواجهة العنف الرجعي) فبدأت عمليات انتقامية بهدف القمع في مدن عدة، أولها مدينة جسر الشغور التي قُصفت بالطائرات الحوامة، مع إخضاع المعتقلين فيها إلى محاكمات ميدانية وإعدامهم الفوري ، أما حلب فكانت من نصيب القوات الخاصة والفرقة الثالثة بقيادة شفيق فياض، الذي وقف على برج دبابته -بعد اعتقال نحو 8 آلاف شخص- مهددًا حلب بأنه سيقدم ألف قتيل منها يومياً إن لم يخبروه عن أماكن الفارين والمختبئين من جماعة الإخوان المسلمين .
وقد لاحظت السلطة أن استخدام الجيش لا يكفي لتفتيت البنية الاجتماعية للاحتجاجات، فقررت التعبئة الأيديولوجية للشعب بأكمله، ليتأتى بذلك سحق النواة القاسية للمجتمع المدني، فراحت السلطة تعقد المؤتمرات وتنشئ التشكيلات المسلحة والمنظمات الشبيبية والتعاونية بقصد الدفاع عن (مكتسبات الثورة) مع الحرص على مخاطبة الشباب بلغة لا يخفى استمدادها من التراث الإسلامي ، ليعلن الأسد في 9/4/1980 حل جميع النقابات التي كان لها أدوار مهمة في قيادة الحركة الاجتماعية، بالتزامن مع اغتيال عدد من الرؤوس المفكرة في تلك النقابات، خاصة تلك التي تشكل خطراً وجودياً على النظام من خلال وظائفها الاجتماعية
مجزرة تدمر:
ليس من الخفي أن المجزرة قد حدثت بقيادة معين ناصيف صهر رفعت الأسد ردًّا على محاولة اغتيال الرئيس الأسد أثناء استقباله رئيس جمهورية مالي، علمًا أن أغلب الروايات لم تكن متأكدة من حقيقة المجزرة، إلا أن الاتفاق واقع على أن أمراً مروعاً قد حدث، ليكتشف الناس عبر مقابلة بثها التلفزيون الأردني لبعض المعتقلين التابعين للمخابرات السورية الذين قبض عليهم أثناء تحضيرهم لعملية اغتيال رئيس الوزراء الأردني مضر بدران، والتي جاء فيها تفاصيل كثيرة عن المجزرة التي حدثت في سجن تدمر ، ليعلن رفعت الأسد إثر ذلك بأيام في صحيفة تشرين بأنه لن يتردد في سعيه لإيقاف المؤامرة ولو اضطر الأمر خوض مئة حرب وتقديم مليون قتيل .
وقد كانت الحركة اللاحقة في مواجهة الاحتجاجات من قِبَل البرلمان السوري، إذ شُرِّع قانون يتيح إعدام كل من ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، على أن الأمر لا يعدو كونه غطاءً قانونيًّا هدفه احترام قواعد اللعب في (الدولة الحديثة) مع أن القصد الأساس من القانون إتاحة الهامش لتنفيذ القمع دون الخوف من التبعات القانونية، فقد كانت الممارسة الفعلية لعمليات القمع عمياء، وأشبه ما تكون بعمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية، حيث وردت شهادات عن بعض الناجين في بعض أحياء حماة "أنهم لم يتركوا أحداً حيًّا" ، إذ استمرت القوات الخاصة وسرايا الدفاع (العلوية بكامل أفرادها) في قصف المدينة شهراً كاملاً حتى استعادت السيطرة عليها بعد تدمير أحياء كاملة كحي الكَيلانية، وقد اجتمعت القوى السياسية بعد مأساة حماة بما فيهم الإخوان للتوقيع على ميثاق التحالف الوطني لتحرير سورية، والذي لم ينتج عنه أي أثر فعلي، مما يعني أن آلة القمع قد نجحت في تفكيك الحركة الاحتجاجية، وأنها ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، من السيطرة المطلقة على الدولة والسلطة وتفكيك فاعلية التيارات الأخرى
فهل كان الإخوان راديكاليين أم سياسيين؟
يشير سورا إلى صعوبة التعرف إلى طبيعة الحركة الأصولية في سورية، مع إمكان التمييز بين تيارين يتنازعان السلطة في جماعة الإخوان المسلمين، فيتركز التيار المناصر للكفاح المسلح في الشمال (حلب/حماة) وقد تبنى أغلب عمليات الاغتيال حتى عام 1977، أما التيار السياسي فيتركز في دمشق وينكر علاقة الجماعة بأحداث العنف، خاصة حادثة مدرسة المدفعية، ويتزعمه الأستاذ عصام العطار مرشد الجماعة ، وقد حرص التيار السياسي بقيادة العطار على الدعوة إلى الحوار مع النظام، حتى إنه في عام 1980 دعا إلى تطبيع العلاقات معه بشرط عودة الحريات والديمقراطية إلى الحياة السياسية، إلا أن هذا الدعوة انتهت بإقصاء العطار وحلول المجلس الثلاثي محله في رئاسة الجماعة .
ثانيًا: (مفاتيح التحليل والمصطلحات التأسيسية) لدراسات سورا
ثمة مجموعة مهمة من المصطلحات التي يصدر عنها سورا في تحليلاته باعتبارها أهم الركائز التي تدور عليها دراساته وأبحاثه، كالعصبية والأزمة، والأمة، والطائفة، والسكان، والسيطرة، والمماليك الجدد، والمدينة، وجماعة الإخوان المسلمين، وقد استفاض سورا في دراساته التي تضمنها الكتاب في تحليل مفاهيم هذه الكلمات مع الاعتناء الواضح بتتبع ارتباطاتها وتمثُّلاتها على أرض الواقع وأثر ذلك في توحُّش الدولة والسلطة على المجتمع والسبل المتبعة لتحقيق ذلك .
* الأزمة: امتدت الاحتجاجات الشعبية منذ نهاية السبعينات انتهاء بالحل القمعي الذي اتبعته السلطة المتمثل بشكله الأعنف في مجازر حماة، وقد تكررت كلمة (الأزمة) مدة الأحداث، مع اختلاف واضح في تناولها وتحليل أبعادها ومرتكزاتها. ويذكر سورا ثلاث تحليلات تتناول (الأزمة) مشيدًا في خاتمة المطاف بالتحليل الصادر عن الحركة الإسلامية التي رأت الأمور على ما هي عليه دون رتوش، مؤكدًا على امتداد ذلك التحليل في النسيج الاجتماعي بدءًا بالشباب المهمَّش وانتهاءً بالتاجر الثري، مما يعني أن الأمر لم يكن صراع طبقات، بل كان الأمر معركة سوسيولوجية تهدد النسيج الاجتماعي من خلال سيطرة أقلية على حكم الأكثرية بناء على مرتكزات سيأتي ذكرها، لا كما ذهب الحزب الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش، الذى رأى الأمر محض صراع بين طبقات المجتمع وأن على الدولة الاستمرار في تطبيق الأيديولوجية الاشتراكية لتحقيق النصر على الطبقات الرجعية، بينما رأت الجماعة المنشقة عن الحزب الشيوعي بقيادة يوسف النمر، أن الأمر في حقيقته صراع طبقات إلا أن السلطة مسؤولة عن العنف والفساد والاستبداد
ومن الجدير ذكره أن الرؤية (الإخوانية) فتحت الأبواب لتطبيق الرؤى الخلدونية على كيفية نهوض العصبيات إلى الحكم واستمرارها ، خاصة أنها تقدم الواقع كما هو من حيث بيان حقيقة الواقع في الجيش والحزب والطائفة وسقوط فلسطين والجولان، إلى غير ذلك من القضايا التي شكلت أسساً حقيقية لاستبداد السلطة الحاكمة وطغيانها ، دون أن تستخدم لغة الماركسية الجوفاء ، فقد تمكنت الحرب اللبنانية من هدم الإطار الراسخ عن صورة الوحدة الاجتماعية في بلاد الشام، بينما كانت الحقيقة متمثلة في أن الأقليات عملت على تقوية (عصبياته) لتزيد من تماسكها الطائفي، بينما لم تقم الأكثرية بذلك فغدت الخاسر الأكبر بغياب عصبيّتها وقدرتها على السيطرة والحكم .
* (الطائفة العلويَّة): استطاعت الطائفة العلوية تحقيق ثالوث السيطرة من خلال: (الطائفة، البعث، الجيش) ، وتعود مساكن الطائفة إلى سلسلة جبال الساحل السوري الممتدة إلى شمال لبنان، ولم يكن انعزالهم التام ليهيئ لهم الشهرة لولا سياسات الانتداب الفرنسي وسطوة الحكم البعثي .
تعود الأصول التاريخية لنشوء الطائفة إلى مبادرة ابن نصير الذي أدخل العقيدة الإسماعيلية إلى مناطق شمال سورية وجبالها المحاذية للساحل في عهد الحمدانيين، ويعود شح المعلومات المتوفرة عن عقيدتهم إلى طبيعة التلقين والسرية التي يعتمدها شيوخهم في نشر عقائدهم، خاصة أن التأويل الباطني يعد أحد أهم أركانها، مما فتح الباب إلى إحداث تلفيقات عديدة عن المسيحية وأديان أخرى في العقيدة النصيرية باسم التأويل الباطني .
أنشأ الجنرال غورو للطائفة إقليم حكم ذاتي باسم (إقليم العلويين المستقل) عام 1920وأصبح الانتداب الفرنسي بذلك المخرج الأول للطائفة نحو السلطة والحكم، ثم ما لبث أن أصبح الإقليم دولة (العلويين) عام 1922، ليصبح بمسمى (حكومة اللاذقية) عام 1930، واستطاع الجيل الذي عاش حقبة الاستقلال التكيف مع الوضع الجديد، فسلك أغلب الشباب العلويين طريق المدرسة العسكرية التي كانت توفر منطلقاً سريعاً مليئاً بوعود الثروة والقوة، اتباعاً لتقليد قديم رسخه المماليك باستخدام أبناء الأقليات في السلك العسكري، وقد أخذ الفرنسيون بهذا التقليد أثناء انتدابها لسورية، وذلك ابتغاء إبعاد القدر الأكبر من الأكثرية عن كوادر الجيش الأكثر تأثراً بالفكر القومي، فكانت كتلة الطلبة العسكريين من أصول قروية وأقلية كالدروز والإسماعيليين والعلويين، وهم الذي أشرفوا فيما بعد على عمليات التسريح المتكررة التي بدأت منذ انقلاب حسني الزعيم إلى عام 1963 والتي بدأت إثرها (اللجنة العسكرية) للبعث بملء الجيش بأفراد الطائفة، فقد كان محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد (العلويون) يحيلون ضباط الأكثرية إلى التقاعد المبكر ويستبدلون الأماكن الحساسة بقيادات جديدة موالية لهم، مع جعل الأكثرية في أحسن الأحوال على الأطراف أو في حراسة الحدود، وبعد انقلاب صلاح جديد وإقصاء سليم حاطوم والنواة الدرزية التي كانت تحيط به، باتت الطائفة قادرة على استعمار الجيش وتجييره لمصلحتها الكاملة واستلام الحكم في انقلاب أخير يقوده حافظ الأسد ويستثمر فيه الطائفة في تعيينات مهمة في أجهزة الأمن وسلاح الطيران .
لقد كانت الأزمة التي عاشتها سورية أحد أهم الأسباب التي دفعت الطائفة للتوحد في مواجهة الأكثرية، علماً أن تيّارات معارضة رئيسية كحركة 23 شباط، ورابطة العمل الشيوعي كان لها قاعدة واسعة في الطائفة العلوية، إضافة إلى وجود انشقاق عشائري داخل الطائفة حيث تتوازن العلاقات على مبدأ الحسب والنسب داخل القبيلة الواحدة، مع التذكير بحالة التنافر بين القبيلتين الكبريين (الحدادين والكلبية) فإن الأسد ينحدر من أصل غير عريق مقارنة بآل جركس أو الخيِّر في الطرف (الكلبي)، ومن ثَمَّ جاء القرار بإنشاء جمعية (علي المرتضى) التي هدفت لتوحيد الطائفة العلوية وجعلها بالتالي طائفة سياسية وليس محض طائفة دينية ، وقد باتت الطائفة إثر ذلك خطاً من خطوط الدفاع عن السلطة ومصير الأسد شخصياً، ففي عام 1980 كان الرئيس على موعد في اجتماع مع أعيان الطائفة حيث شدد على ضرورة التعاضد لتجاوز الأزمة، مطالبا إياهم بالكف عن اعتبار أنفسهم طائفة (التشارك في الأرباح) بل عليهم الدخول إلى المجتمع ومنافسة البرجوازية (الرجعية) مقررًا تحديث الجهاز الديني بمعونة إيران التي ستبني بمشاركته محوراً شيعيًّا من لبنان إلى حدود باكستان، والذي سيجعل دول الخليج وبترولها تحت رحمته .
ويتساءل سورا عن الطريقة التي ينبغي بها رؤية الحيز الاجتماعي للحيز السياسي الطائفي؟
في معرض الجواب يذكر سورا تحليلات عدة تستهوي الغربيين، إلا أنه يرفضها كما يرفض التحليل الماركسي، وذلك لتقسيم هذه التحليلات في الأزمة السورية على أساس طبقيٍّ، بينما يميل إلى رؤية ابن خلدون في تحليله الحيز الطائفي على أساس العصبية، أي القوة المسيطرة على الحكم، ومن ثم فإن اللعب على تناقضات المجتمع وإنشاء التحالفات الاقتصادية تارة، أو التبعية بالانتماء تارة، أو استغلال التشظيات بين الريف والمدينة تارة أخرى، كلها تمنح السلطة عصبية تديم استمرار الملك، وقد استطاع جميل الأسد رئيس جمعية علي المرتضى بعدة وسائل الحصول على بيعة عشائر شرق الفرات وبعض العشائر الكردية في منطقة الجزيرة، مع تحريضه الأرياف على المدن الثائرة، مذكراً الفلاحين بتاريخ الإقطاع وعلاقة الفلاح مع المدينة التي كانت تستغله، وهكذا ضمنت السلطة من خلال اللعب على التناقضات والتوازنات قوة تضاف إلى عصبيتها الداخلية
* (الجيش): لم تُولِ الحركةُ الإسلامية الجيشَ السوري أي أهمية، إن بالانضمام إليه، أو محاولة كسب تأييده في الاحتجاجات القائمة، وذلك للقناعة المترسخة في الأذهان، بأن الجيش لم يعد مؤسسة وطنية، وإنما أداة عنف تسيطر الطائفة عليها، وإن كانت أغلبية عناصره من الأكثرية، إلا أنهم لا يمتلكون الفاعلية والتأثير، نظراً لكون الأكثرية في الجيش سجناء لدى الأقلية .
يشير سورا إلى أن الجيش المكان المهم لتوظيف العصبية المسيطرة، وقد سعت (الأقليات) منذ بداية حقبة الانقلابات إلى التغلغل في الجيش واحتكار العنف المفوَّض له لصالحها، لتتم تصفية المصالح الأخرى على يد الطائفة العلوية، من خلال تصفيتهم أو سجنهم أو تسريحهم أو نقلهم إلى خطوط خلفية، وبذلك تمت السيطرة للأسد على ولاء القيادات العليا في الجيش، الأمر الذي يتيح لنا فهم عدم إمكانية الانقلاب عليه، خاصة وأن المجموعات الكبرى التي تدين بالولاء للقائد من ذات اللون الطائفي، وبذلك أيضا يمكن تخمين الفراغ السياسي أو حال الصراع على السلطة في حال اغتيل الرئيس أو حدث له طارئ ينهي حياته .
إن الميزانية المخصصة للقوى العسكرية والأجهزة الأمنية تتجاوز 50% من الميزانية العامة، ويصعب على أي حال تقليص هذه الحصة، خاصة وأن طبقة القادة ومساعديهم لن يقبلوا المساس بامتيازاتهم، فالطبقة المسيطرة غالباً ما تنفر من الإنتاج، وتفضل أن تؤجر سيفها لخدمة (القضية) وإن أبدت اهتمامًا بالصناعة فذلك لإنشاء وحدة إنتاجية تضمن لها الربح، وتوفر لها قدراً من (الكوميسيونات) التي تترتب على هذه التكاليف والتي تُرَشُّ في الجيش بمهارة ودراية .
وفي ذات السياق تستظهر قيادات الجيش ممارسات (ما قبل) السياسة وما قبل (الدولة) فقيمة كل قائد علوي بعدد حراسه والمخصصات المالية لمرافقته، فللرئيس مثلاً اثنا عشر ألف حارس، بينما خصص لبعض الجنرالات ستون فرداً، وصولاً إلى أسفل السلّم مثلاً، حيث خصص لأسعد علي أستاذ البلاغة والنقد في جامعة دمشق 4 حراس من الطائفة العلوية .
* (الحزب): يختصر ميشيل سورا وصف حزب البعث بالقول: "لم يعد الحزب كمنظمة سوى واجهة مدنية للنظام الحاكم" ويستند سورا في هذا التحليل إلى ضعف فاعلية الحزب في وجه السلطة (المسيطرة)، وما جرى تحديداً في المؤتمر السابع للحزب عام 1979؛ إذ لم تكن الشخصيات القيادية السنية القليلة في الحزب كرئيس مجلس الوزراء محمود الأيوبي، ومصطفى طلاس وعبد الله الأحمر سوى رهائن بيد الأقلية التي تمسك بتوجيه الحزب، وكانوا يتعرضون للسخرية عند التدخل أو المشاركة؛ إذ كان المؤتمر بشكل كامل تحت إشراف رفعت الأسد وإدارته، علماً أن القانون الداخلي للحزب يقر تشكيل القيادات من الأسفل إلى الأعلى بطريق الانتخاب، إلا أن الموجه الخفِيَّ للسلطة شكّل الهرم من الأعلى إلى الأسفل بطريق التعيين، وكان الحضور في المؤتمر بأسْرهم تحت المراقبة والمتابعة، وعلى الرغم من أن لجنة الحزب المركزية تضم 70 عضواً من سائر الطوائف، فقد استأثرت الطائفة العلوية بنحو 30 مقعداً فيها، معظمهم من ضباط الفرق القوية في الجيش .
وإن كان الحزب قوميًّا صرفًا إبان نشأته على يد الآباء المؤسسين، فإن القبول به وصيًّا على الحركة القومية الآن أمر مستحيل، فقد غدت دعوته أو أيديولوجيته محض غطاء يبقيه في السلطة، فليس من فائدة كبرى ترتجى منه تجاه (الأمة) أو (الاشتراكية)، فالخط التنويري الذي بدأه ساطع الحصري مثلاً في التعليم غدا من الماضي في عهد حافظ، ذلك أن التعليم يضيع الوقت الذي يجب أن يقضيه الشباب وهم يتجهزون لرد المؤامرة الإمبريالية
لقد كان لهذه السيطرة ما يسوّغها، فقد فشلت القواعد الحزبية -برأي السلطة- في التعامل مع الاحتجاجات التي تعصف في البلاد، بل شاركت مجموعات من حزب البعث فيها ، وكان للقيادات المدنية في الحزب موقف سلبي تجاه الآلة العسكرية -أي الطائفة الحاكمة- ورؤيتها للتعامل مع الأزمة ، إضافة إلى الفشل الذريع الذي مني به مرشحو الحزب في انتخابات النقابات التي جرت عام 1977 .
ويبدو للعيان أن الحزب بعد مؤتمره السابع يعمل كما تعمل العصابات، فثمة صقور وحمائم، ورجعيون وثوريون، يمينيون ويساريون، ومن ينال الفوز هو صاحب العصبية والقوة التي تحدث عنها ابن خلدون
* (المدينة): يختلف الجيش عن المدينة في نظر ابن خلدون، وذلك لما يمثل كل منهما ارتباطاً خاصًّا بالبداوة والحضارة بمعناهما الأوسع، فالجيش بأصوله العسكرية يميل إلى البداوة ويعمل ضد (الدولة) في حكم (العصبيات) .
ولعل قراءة علاقة المدينة والجيش على ضوء الرؤية الخلدونية يسهم في إيضاح سبب التعامل القاسي مع المدينة من قبل أصحاب القوة في (الجيش)، فقد كانت الحركة الاجتماعية التي انتشرت عام 1979 برمتها حركة مدنية، خاصة تلك الإضرابات التي نفذتها حلب وغيرها من المدن ، كما أن واجهة هذه الحركة الاجتماعية كانت مدنية بقيادة النقابات الحرة كالمهندسين والمحامين والأطباء، ولذلك سرعان ما حُلَّت النقابات بمرسوم رئاسي في عام 1980، مع تصفية بعض قياداتها الفاعلة .
لقد كانت المدينة المعقل الذي يواجه تغول الوحشية العسكرية، بينما كان الجيش المعقل الذي تستعمره أقلية صاعدة تخشى مواجهة النسيج المدني، وقد استطاعت الأقلية العسكرية جعل المدينة عاجزة سياسيًّا عن مواجهة القوة التي استخدمت شتى الوسائل لتوطين قادمين جدد في كل المدن المهمة كـ-حمص ودمشق- وتسليمهم شبكات التوزيع والقوة التابعة للدولة كدوائر الخدمات والجمعيات والمدارس والوزارات ودفعهم لممارسة سلطتهم بشكل فاسد وأخرق، وذلك للإيحاء بأن النظام منفك تماماً عن مجتمع المدينة وأنه يمسك زمام الأمور على النحو الذي يرغبه، كأن يسمح لأبناء الأقليات دخول أهم التخصصات الجامعية على الرغم من ضعف مستوياتهم العلمية لكونهم من منتسبي المنظمات البعثية أو ممن أدوا دورات القفز المظلي ، وعليه فليس من المستغرب أن تستمر القوات الخاصة وسرايا الدفاع في قصف حماة شهراً كاملاً وأن تدمر أحياء كاملة ، في صورة واضحة من (ثأر الأرياف) ضد المدينة .
ثالثًا: توحُّش السلطة، وقفة تحليلية:
لقد كانت دراسات سورا بمجملها تبحث عن العوامل التي جعلت من طغيان السلطة وتوحشها أمراً واقعاً لا يمكن نقده في معظم الأحيان، ويشير في هذا السياق إلى الحالة المحرجة التي كان يعيشها العالم إبان حملة الإبادة التي تعرّضت لها مدينة حماة عام 1982 مقابل حالة اللامبالاة والتسويغ -في آن واحد- اللتين سوَّقت لهما الصحف الغربية بدعاوى مختلفة، وعلى الرغم من صدور إدانات متعددة للعنف، إلا أن الغرب كان يرى تلك العملة بمنزلة العملية الجراحية التي لا بد منها للتخلص من معقل الأصولية الإسلامية في سوريا، أو لحماية الدولة الحداثية التي تتعرض لهجمة دينية ظلامية مدعومة من الطبقات المجتمعية الرجعية .
يستخدم سورا تصنيف ديكارت في البحث عن ماهية الشيء، متسائلاً "هل نحن أمام مشكلة طائفية أم صراع طبقات، أم سلطة البعث أم إسلام ثوري أم إسلام رجعي"، ليضرب عن هذا كله صفحاً مقرِّراً أن الأسد لم يهتم يومًا ببناء نظام للحكم- ومن هنا تأتي صعوبة اقتلاعه- بينما كان الغرب ينظر إليه بناء على تصنيفات ديكارت التي تتيح لهم المناورة في الدفاع عن وجوده في السلطة .
فكيف استطاعت السلطة بناء قوتها في هذه المنظومة:
أولاً: العصبية واللعب على التناقضات:
أسَّس الأسد في سلطته تحالفاً براغماتيًّا يدمج فيه التعدديات والتناقضات، فقد قام على سبيل المثال بتعبئة كل المنظمات والنقابات وبعض التيارات السياسية ووضعها تحت مظلة الجبهة الوطنية التقدمية، وجعل حزب البعث القائد في هذه المنظومة، إضافة إلى علاقاته مع الغرب والاتحاد السوفييتي وتمويله المستمر من دول الخليج وعلاقاته القوية مع إيران، وتوحُّده الكامل مع الطائفة التي ربط مصيرها بشخصه .
لقد أدَّت هذه التحالفات دور العصبية التي تتكافل فيما بينها بروابط الدم المشترك (الطائفة) أو الانتماء (العروبة)، وذلك للوصول إلى السلطة باستغلال الدعوة (الدولة الحديثة)، ومن ثم فقد كانت الأكثرية خاسرة لكونها أكثرية بلا طائفة أو عصبية سياسية وعسكرية .
لقد استطاع النظام توظيف العصبية التي يمتلكها (الطائفة، الريف في مواجهة المدينة، المدني/ العسكري، تناقضات النسيج الاجتماعي) ليصنع وسيلة ملك أو سيطرة بدائية، ليستقر في وعي العصبية المرتبطة بالنظام مقولة (إما نحن أو هم) (إما حاكمون أو محكومون) (الثورة أو الرجعية) إلى آخر تلك الثنائيات التي جعلت من عصبية النظام غير مستعدة للقبول بأي تنازل يفقدها مكتسباتها .
ثانيًا: العنف القمعي وسيلة في استمرار السلطة:
تمثل الحالة السورية وضعًا سلطويًّا يمكن وصفه (إرهاب الدولة)؛ إذ إن عمليات النظام القمعية ذات دلالة واضحة للنظم الغربية، فإرهاب الدولة بقدر ما تساق في الغرب حجةً تسويغيةً للقمع الأسدي، إلا أنها في الوقت نفسه تبين الواقع الذاتي لبنية النظام الاجتماعي وموقف السلطة منه، إضافة إلى كونه علامة نفي الدولة لا علامة وجود الدولة ، إذ لم يتح للشعب السوري بأكثريته المشاركة في بناء السلطة ومؤسسات الجيش والحكومة، فقد كان يعيش في الواقع تحت سيطرة الدولة بكتائبها ونقاباتها ومؤسساتها الثورية والأقلية، مما يدفع للبحث في علاقة الدولة بالمجتمع ، وهنا يستند سورا إلى حنا آرندت في تحليلها لمكونات السلطة الطاغية، والتي يشكل الإرعاب مكونها الأساس وجوهرها المستمر ، فإن الرعب كفيل بجعل العلاقة بين الشعب والدولة محكومةً بالحذر والخوف الدائمين، وتتصحر في هذه الأرضية الممارسة السياسية لتعود السلطة في الحقيقة إلى ما قبل الدولة الحديثة.
إن نماذج العنف التي أداها النظام تشير إلى تجاوزات خطيرة على المدى الداخلي والخارجي، وذلك لشبهها الكبير بالبنية التي اشتُهِرَت بها فرقة الحشاشين الإسماعيلية التابعة (لشيخ الجبل)، وخاصة بأساليبها في إرهاب الخصوم، ففي الحالة السورية، لدينا الكتائب ذات الأسماء الرنانة (الفهود الحمر) (سرايا الدفاع) ذات اللون الطائفي الواحد، والتي لا تسأل عن جرائمها التي نفذتها لمصلحة (المعلم) -كإعدام المئات في حلب وجسر الشغور ومجازر تدمر وحماة-، وتخضع بالقول للقائد الأعلى فقط الذي تدين له بالولاء الأعمى والطاعة المطلقة ، وكلما كانت القيادات الصغرى قريبة بالدم من القيادات العليا فإن سلطتها ستكون أكبر نظراً لقرابتها من صاحب السلطة لا لرتبتها الميدانية ، وكذلك الإعلام الذي ينتج البروتوكول الخاص في معاداة الإمبريالية على النحو الذي يراه (المعلم) ويصدر توجيهات يومية للمانشيتات والأخبار التي يجب أن تذاع بعناية في الأيام القادمة، والتي تركز بمجملها على السيد الرئيس وأفعاله .
ولا يقتصر استخدام العنف القمعي على الداخل وإنما كان للسلطة دور في إنشاء الإرهاب الدولي واستخدامه وسيلة دبلوماسية من نوع عنيف للضغط على الدول الأخرى ، كما جرى في محاولة اغتيال رئيس وزراء الأردن مضر بدران، انتقاماً (للمعلم)، أو كما قالت الصحافة السورية: "إنه أمر مشروع لإعادة الأردن إلى طليعة الأمة العربية" ، فالرؤية البعثية التي تصف العرب بأنهم شعب واحد في دول متعددة، صارت مرتكزاً لتسويغ طغيان السلطة التي باتت توزع شهادات حسن السلوك والرضى أو التوبيخ والتقريع، باسم (جماهير شعبنا العربي) مستندة بذلك إلى شرعية عصبية تجعلها رمزاً يتيح لها التصرف وتقرير القواعد ورسم الخطوط، وتصنيف الأبطال والخونة، والمصالح والمضار، إذ إنهم "أسياد القومية العربية، وأهل الحل والعقد، والنبلاء وأصحاب الهيئات الشرعية" .
لقد استطاع سورا -بما تقدَّم- ومن خلال الخطوط العريضة التي اعتمدها في دراساته تفكيك البنية السلطويّة التي أنشأها الأسد في سورية، وإظهار النماذج التي تتأسّس عليها، كاستثمار الآلة العسكرية التي تحتكر الدولة تملّكها واستخدامها وَفقَ نموذجِ (العصابة)، وتدمير إرادة المقاومة الداخلية وَفقَ سياسةِ الأرضِ المحروقة، إضافة إلى استخدام السلطة التناقضات الاجتماعية لخلق قوى متوازية، تستخدمُها في وجه من يتّهمُها بـأنها (أقلية تتحكم بالأكثرية)، مستخدمًا للوصول إلى هذه النتائج مقارباتِ ابن خلدون في فهم الحكم؛ إذ استطاع الأسد الحصول على الملك باستخدامِ العصبية (العلوية) من خلالِ الدعوةِ إلى (الدولة الحديثة)، وذلك بتسليم (الأقلية)- مقاليدَ الدولة، مع العمل على التماسُكِ الداخلي في مقابلِ تفكيكِ "الأكثرية" تحت شعارِ العروبة والوطنية، ولذا كان على السلطة العمل على كسرِ مقاومة المدن، بتغييرِ بنيتها الطائفية، إن بهدوءٍ كما حصل في حمص من خلال توطين أقلية علوية فيها، أو بعنفٍ كما حصل في مجزرة حماة.
المراجع:
2- أشير إلى ملحوظتين متعلقتين بدراسات سورا:
أولاها: أن سورا يكثر من التكرار في الأمثلة والاستشهادات، ولعل ذلك مُتَقبَّل نظراً للتوظيف الذي يدلل سورا عليه بأمثلة متاحة بين يديه، إضافة إلى أن دراساته نشرت في الأصل متفرقة لا على هيئة كتاب، فمن الطبيعي جدا أن يكثر الباحث من التكرار والإحالة إلى أمثلة واحدة وأن يستمد الأحكام التقويمية بناء على قواعد منهجية ثابتة.
أما الثانية، فتتعلق في هيئة الكتاب كله، إذ كان الأجدر بالناشرين وضع القسم المخصص لدراسة المعطيات عن الحركة الإسلامية في بداية الكتاب، كونه يغطي مساحة تاريخية بشكل سردي يقلُّ فيه التحليل، وأن يتبعوه بالقسم الثالث المخصّص لدراسة المجتمع والسكان والدولة، على أن يختم بالقسم المخصص لدراسة توحش الدولة وتحليل بناها التكوينية.
3- ينظر: "سوريا، الدولة المتوحشة" ص: 111
4- ينظر المصدر السابق، ص: 103
5- ينظر المصدر السابق، ص: 103- 145
6- ينظر المصدر السابق، ص: 111
7- ينظر المصدر السابق، ص: 112- 114
8- ينظر المصدر السابق، ص: 114
9- ينظر المصدر السابق، ص:115- 116
10- ينظر المصدر السابق، ص: 116
11- ينظر المصدر السابق، ص: 117
12- ينظر المصدر السابق، ص: 118
13- ينظر المصدر السابق، ص: 118- 120
14- رفعت الأسد بشكل خاص، إذ كان يمثل التيار المتشدد في حزب البعث.
15- ينظر المصدر السابق، ص: 120- 122
16- ينظر المصدر السابق، ص: 125- 128
17- ينظر المصدر السابق، ص: 128
18- ينظر المصدر السابق، ص: 128- 129
19- ينظر المصدر السابق، ص: 129
20- ينظر المصدر السابق، ص: 129
21- ينظر المصدر السابق، ص: 130- 131
22- ينظر المصدر السابق، ص: 131- 133
23- ينظر المصدر السابق، ص: 133- 135
24- ينظر المصدر السابق، ص: 144- 145
25- ينظر المصدر السابق، ص: 141- 142
26- ينظر المصدر السابق، ص: 143
27- على الرغم من التكرار والتداخل الكثير الذي امتلأت به دراسات سورا، فإني سأحاول جمع ذلك دون إخلال أو تكرار ما أمكن.
28- ينظر المصدر السابق، ص: 149- 152
29- ينظر المصدر السابق، ص: 149
30- ينظر المصدر السابق، ص: 156- 173
31- ينظر المصدر السابق، ص: 150
32- ينظر المصدر السابق، ص: 152- 153
33- ينظر المصدر السابق، ص: 208، ويذكر سورا أنه يمكن تحليل طريقة عمل المجتمع السوري من خلال هذا الثالوث.
34- ينظر المصدر السابق، ص: 208
35- ينظر المصدر السابق، ص: 209
36- ينظر المصدر السابق، ص:211، 212
37- ينظر المصدر السابق، ص: 28- 29، على سبيل المثال.
38- ينظر المصدر السابق، ص: 33
39- ينظر المصدر السابق، ص:29، 87-88
40- ينظر المصدر السابق، ص: 29
41- ينظر المصدر السابق، ص: 34
42- ينظر المصدر السابق، ص: 35
43- ينظر المصدر السابق، ص: 95
44- ينظر المصدر السابق، ص: 84، 85
45- ينظر المصدر السابق، ص: 40- 41، 77-81
46- ينظر المصدر السابق، ص: 44، 45
47- ينظر المصدر السابق، ص: 42
48- ينظر المصدر السابق، ص: 42، 118
49- ينظر المصدر السابق، ص: 42
50- ينظر المصدر السابق، ص:43
51- ينظر المصدر السابق، ص:37
52- ينظر المصدر السابق، ص: 38
53- ينظر المصدر السابق، ص:38
54- ينظر المصدر السابق، ص: 99
55- ينظر المصدر السابق، ص: 38- 39
56- ينظر المصدر السابق، ص: 144- 145
57- ينظر المصدر السابق، ص:29، 30، 55، 56
58- ينظر المصدر السابق، ص: 27، 28، 50، 199
59- ينظر المصدر السابق، ص: 28
60- ينظر المصدر السابق، ص: 28
61- ينظر المصدر السابق، ص: 29، 54، 55
62- ينظر المصدر السابق، ص:45
63- ينظر المصدر السابق، ص:54- 56
64- ينظر المصدر السابق، ص: 50
65- ينظر المصدر السابق، ص:51، 52
66- ينظر المصدر السابق، ص:51، 52
67- ينظر المصدر السابق، ص: 57، 89، 90
68- ينظر المصدر السابق، ص: 84
69- ينظر المصدر السابق، ص: 85، 86
70- ينظر المصدر السابق، ص:59
71- ينظر المصدر السابق، ص: 65
72- ينظر المصدر السابق، ص: 66