تأثير "الألباني" في السلفيّة المعاصرة
تأثير "الألباني" في السلفيّة المعاصرة
قراءة في أطروحة ستيفان لاكروا
عرابي عبد الحي عرابي
مدخل :
يفترض الأكاديمي الفرنسي "ستيفان لاكروا" قراءة مكثّفة لأثر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (1914- 1999م) في السلفيّة السعودية إثر ظهور تيّار "مدرسيٍّ" داخلَها باسم "أهل الحديث الجُدُد" متبنٍّ لأطروحاته بشكلٍ كامل، لينقسم ذلك التيّار إلى فروع متباينة في الداخل السعودي بين التوجهات الجهاديّة، والجاميّة المدخليّة، وبين السلفية المحتسبة الرافضة لحكم آل سعود دون التسويغ لمواجهتهم.
ويبدو أن الأكاديميّ في معهد العلوم السياسيّة في باريس استطاع الوصول إلى هذه النظرية من خلال أطروحته التي قدّمها لنيل درجة الدكتوراة حيث خصّصها لدراسة الصحوة الدينية في السعوديّة ، ومن ثمّ جاءت أعماله التالية تأكيدًا لما توصّل إليه فيها، فكانت دراسته "سلطة الحديث في السلفية المعاصرة" –على سبيل المثال- مطابقة في آليات التحليل والبناء لما قدّم في أطروحته المذكورة، كما كانت مشاركته مع توماس هيغهامر في كتاب "حتى لا يعود جهيمان" بدراسته حول تأثير الألباني في السلفية المعاصرة مؤكدة لرؤيته السابقة، وقد جاءت مشاركته في المؤلّف الجماعيّ "السلفيّة العالميّة، الحركات السلفية المعاصرة في عالم متغير" مؤكّدة لأطروحته التي بسطها في الكتب آنفة الذكر.
أوّلًا: السلفيّة بين الإصلاح والجمود
بُنِيت السلفيّة المعاصرة على توجّهين كبيرين، عُرف أحدهما باسم السلفية الإصلاحيّة، وقد برزت أسماء عديدة في المشرق والمغرب العربيين ممثّلة لها، كالشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا أو كالشيخ جمال الدين القاسمي وحلقته من تلاميذه المقربين كالشيخ محمد بهجة البيطار أو كالشيخ علال الفاسي وغيرهم، أما التوجه الثاني فعلى الرغم من مشاركته التيّار الأول في رفض البدع والخرافات إلا أنه رأى في محاربة هذه البدع باليد –إن اضطر الأمر- والوقوف عند النصوص القرآنية والحديثيّة أمرًا جوهريًّا لا يمكن المحيدُ عنه، ويمثل الشيخ محمد عبد الوهّاب هذا التيّار الذي انتشر في أواسط القرن الثامن عشر وامتد بشكل واسع في القرن العشرين، يشير "لاكروا" في هذا السياق إلى أن الشيخ محمد بن عبد الوهّاب على الرغم من معارضته التقليد ودعوته لممارسة الاجتهاد الفقهي إلا أنه لم يحد عن أحكام مدوّنات الفقه الحنبلي، مما يعني قراءته شبه الحرفية للأحكام الفقهيّة المستقرّة في المذهب الحنبلي، فلم يقدّم البتّة رأيًا عقَديًّا مختلفًا عن آراء ابن تيمية كما أنه لم يعلن عن أيّ رأيٍ فقهيٍّ جديدٍ له، بل قصر نفسه على الاجتهاد النسبي ضمن نطاق المذهب الحنبلي .
يشكّل هذا المأزق بداية الانطلاق نحو التميّز الذي قام به الألباني -الذي اشتهر بلقب محدّث العصر- للتأثير في السلفية المعاصرة عمومًا والسلفية السعودية الرسمية خصوصًا، فقد كان لتنشئة الألباني ضمن حلقة الشيخ محمد بهجة البيطار أثر كبير في التعرف إلى السلفية الإصلاحية، إضافة إلى اعتماده الكبير على مجلة المنار التي استمدّ منها التوجه نحو تنقية الحديث النبوي من الأحاديث الموضوعة والضعيفة لتكون نقطة انطلاق نحو إعادة توازن الأمة ونهضتها، إلا أن تأثره تطوّر إلى نحو مخيف تجاه معاداة التصوُّف ورفض التمذهب بأيٍّ من المذاهب الأربعة والاقتصار على دلالات ما صحّ من الأحاديث النبوية في سبيل تشريع الأحكام الفقهية وقد كان –بطبيعة الحال- على خلاف ما عمل به أساتذة السلفية الإصلاحية عمومًا، حيث كان نقدهم وتسويغهم لدعوى تجديد الاجتهاد تقنيًّا وعقلانيًّا أكثر من كونه جذريًّا، وقد تشابه عمل الألباني بالمبادئ التي قامت عليها السلفية الهنديّة، حيث كانت السطوة فيها لأهل الحديث، على الرغم من توافقهم في كثير من النقاط مع السلفية "الوهابية" إلا أن نقطة الخلاف الأولى بينهم وبين عموم المسلمين لم تكن في العقيدة وإنما في تجديد الاجتهاد في الفقه ونبذ التقليد، ولذا فإن اهتمام السلفية "الحديثيّة" في الهند كان منصبًّا على ما سمّوه نقد التقليد الفقهي والدعوة للاجتهاد المطلق من خلال آيات القرآن والأحاديث النبوية على وجه الحصر دون وجود الوسيط المشارك
يبرز –في هذا السياق- اسم الشيخ "السعودي" سعد بن عتيق (1580- 1930م) الذي تتلمذ على يد مشايخ الحديث في الهند بين عامي 1881-1890 م ليعود إثر ذلك قاضيًا في الرياض وإمامًا في جامعها الكبير بطلب شخصيّ من ابن سعود ، وهو منصب مكّنه من التأثير المباشر على الشباب المتديّن فيها، فقد كان عبد الله بن باز أحد أبرز طلبته المتأثرين بمنهج "أهل الحديث" حيث صار نافذة فيما بعدُ لرفض التقليد عمليًّا وفتحِ الباب لدعم الشيخ ناصر الدين الألباني الذي سيشكّل بمنهجه الحديثي / الفقهي ورؤيته التربوية المتقدّمة على العمل السياسي تأثيرًا فعّالاً ابتداءً من الستينات فصاعدًا .
ثانيًا: الألبانيّ في السعوديّة بين قوّة الحضور ورفض الوجود
حين نعرّف السلفيّة بأنها عملية الاقتداء بالسلف الصالح عبر استنباط الأحكام الفقهية من القرآن والسنة فحسب كما فسرها رجال القرون الثلاثة الأولى فإن ذلك يعني المفهوم العام لها، أما السلفية في الفكر الإسلامي الحديث فإنها تكاد تنحصر –حين الإطلاق- بأن تكون رمزًا للوهّابية ذاتها إضافة لما انبثق عنها من تيّارات متعددة.
يحضر اسم الألباني واحدًا من أهم رموز السلفية "الوهابية" الجديدة في العالم الإسلامي، فقد كان يوم وفاته في 1/تشرين الأول/ 1999 كئيبًا عند عموم السلفيين في العالم، إذ هو أهمّ الأشخاص في هذا الميدان بعد مفتي السعودية "عبد العزيز بن باز" والشيخ "محمد بن صالح آل عثيمين"، فقد سكِب الدمع بحرارة على غياب "مجدد علوم الحديث" و"محدّث العصر" بلا منازع .
لقد ساهم تخصص الألباني في الحديث ودوره مع خلفائه في "المملكة" إلى نشوء تيّار جديد داخل السلفية الوهابية، ويعود ذلك ابتداء إلى سمعته التي انتشرت في بلاد الحرمين حول مهارته في علم الحديث ومجالسه التي يعلّم الطلاب هذا العلم، بالتوازي مع مضايقة الحكومة السورية له رغم عدم اتخاذه أي موقف سياسي ضدها، إضافة إلى اقتراح صديقه الشيخ "عبد العزيز ابن باز" لاسمه ليشغل مقام التدريس علم الحديث فيها نظرًا لاهتمامه في تجديد هذا العلم وطرق عرضه والتصحيح والتضعيف فيه.
أثار حضور الألباني جدلًا في أوساط المجتمع الوهّابي الحنبلي فقد كانت دعوته منصبّة آنذاك على رفض التمذهب مطلقًا، الأمر الذي عرّض سطوة "الإفتاء وعلماء الوهّابية" للخطر، تلت تلك الدعوات إطلاق الألباني لفتاوى متعددة تناقض اجتهاد مؤسسة الإفتاء مما دفع المؤسسة للرد عليه، إلا أن شعبية الألباني كانت في تزايد دائم، إلى أن لاحت فرصة التخلص حين أصدر حكمًا له في نقد الأحاديث التي توجب النقاب على النساء وإباحته ترك غطاء الوجه ودعوته للعمل بذلك مما دفع الإفتاء لطلب عدم تجديد عقده عام 1963 حيث عاد الألباني إلى سوريّة إلا أن الأحداث المتلاحقة أدت إلى سجنه مرتين وانتقاله في نهاية المطاف إلى الأردن عام 1979 وعلى الرغم من عضويته "الرمزيّة" في المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ومدّته القصيرة التي لبثها في "السعودية" إلا أن تأثيره كان حاضرًا بقوّة فيها وفي غيرها من الأقطار الإسلاميّة، فقد شجّع بصورة جذريّة على إحياء علم الحديث وإعادة النظر في الأحاديث الموجودة في كتب السنّة، مما أثر في التيّارات الدينيّة وجعل بين مناهجها ودروسها وبين الشارع انفصامًا واضحًا، فما أن يستدل أحدٌ بحديث ما حتى يتبادر السؤال: "هل أثبت الألباني صحّة هذا الحديث أو حكم بضعفه"؟ ومن ثمّ فقد كان تأثير الألباني في الوهّابية السعوديّة منطلقًا من هذه النقطة، حيث سيؤثر منهجه دورًا ثانويًّا في تيّار الصحوة، بينما سيؤدي –بالمقابل- دورًا أساسيًّا في تيّار السلفية التقليدي خاصة في الجماعة التي لُقِّبت باسم "أهل الحديث الجُدُد"
ثالثًا: من الألباني إلى أهل الحديث
على الرغم من سلفيّة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلا أن الألباني ألمح إلى أن سلفيّته منقوصة من ناحية الفقه لا العقيدة، فالسلفية تقتضي الاجتهاد لا التأطّر بمذهب معيّن، ولذا كان الألباني في نظر تلاميذه والمتأثرين بمنهجه في الاجتهاد سلفيًّا مجدِّدًا يفوق إلى حدٍّ ما الشيخ ابن عبد الوهّاب الذي ألمَح إلى ضعفه في علم الحديث ، وبذلك فإن الألباني لا يتضارب مع السلفية خصمًا لها، بل يتفاعل معها ليصفّيها من العناصر المناقضة لمعنى اسمها الحقيقي الذي يتخيله، ومن ثمّ فقد كان لتبنّي طلابه هذه الآراء دورًا مهمًّا في ظهور تيّار يرفض الانصياع للمؤسسة الدينية الرسمية في السعودية، ويدعو للاجتهاد المباشر في كل ما يستجدّ من قضايا يومية، إلا أن ذلك لا يعطي انطباعًا عن تحرّر هذا التيّار من الناحية الاجتماعيّة ، بل هو أشد في مسائل فقهية متعددة إضافة إلى خلافهم الشديد في مسألة شرعية حكم "آل سعود" بين مستكين وداعم ومهاجم وفقًا لمدى تأويلهم لمنهج الألباني وتأثرهم به .
كان تيار الصحوة الخصم الأول لتيار أهل الحديث، وقد برر هؤلاء معاداتهم للصحوة بالإشارة إلى الألباني الذي كان رافضا لموقف الإخوان والمتأثرين بهم من تيار الصحوة الرامين إلى الفاعلية الحركيّة السياسيّة ، فقد عُرف عن الألباني انتقاده المتكرر لسيّد قطب الذي لم يسبق أن انتقدته المؤسسة الدينية الرسمية في المملكة بل قامت بتسهيل أوضاع اللاجئين إليها من الإخوان وذوي الخلفيات الإسلامية، كما عرف عنه أيضًا اتهامه للشيخ حسن البنّا بأنه لم يكن عالمًا واتهامه تيار الإخوان باهتمامهم بالسياسة دون الالتفات للعلم "الشرعي" وهي الأولوية التي يعكسها الألباني حيث الأولويّة للقضيّة التي سماها بـ "التصفية والتربية" و"التكوين العلمي الشرعي الصحيح"
لقد كوّنت هذه الآراء بذرة لأيديولوجيّة أهل الحديث الجدد في رفض الحركيّة الإسلامية وامتداداتها، ويمكن التمثيل لذلك بتصنيف الشيخ مقبل الوادعي للجماعات الإسلامية ووضعه الإخوان في أسفل الهرم باعتبارها أكثرهم إساءة وبعدًا عن المنهج الحق –الذي يمثله الألباني بطبيعة الحال- ، وقد تسببت هذه الأيديولوجية التي غذّاها الألباني بدروسه ومواقفه المهاجِمة لمنهج سيد قطب وعقيدته وضرورة "تفنيده" بالوصول إلى الدعوة للبعد عنه ومقاطعته من قبل تيّار الصحوة والإخوان في الأردن
على الرغم من ذلك فقد شكّل أهل الحديث هويّة خاصّة بهم في المجال الديني، فقد كانت لهم فتاواهم المميزة لهم -المأخوذة أساسًا من اجتهادات الألباني- كقضيّة اللباس الشرعي للرجال وهيئة الصلاة وانتعال الأحذية في المسجد ورفض وجود المحراب في جهة القبلة من المسجد، مما أثار المزيد من الخصومات بينهم وبين المتبعين للمذهب الحنبلي التقليدي .
رابعًا: ميراث الألباني في سلفية "المحدثين الجدد"
يتوازى ظهور "المحدثين الجدد" في المدينة المنورة مع قدوم الشيخ الألباني للتدريس فيها، وقد برزت أولى مظاهر التأثر به من خلال الخصومات التي جرت لمرات عديدة بين تلاميذه "الثوريين" في علم الحديث، وبين أقرانهم من المدارس التقليدية الأخرى ، وقد كسبت الجماعة الفتيّة الأرض فنما عددهم بشكل ملحوظ في عموم الحجاز كمكّة والمدينة، إضافة إلى أماكن أخرى كالرياض وبريدة، إلا أن تزايد هذه الأعداد المتبعة لمنهج الألباني في ضرورة الاجتهاد المباشر والانطلاق من الحديث دافعًا للنهوض سبّبت في الانقسام المباشر بين أطرافها حول الموقف الذي يجب اتخاذه نحو نظام الحكم السعودي، حيث نحت "السلفيّة المحتسبة" إلى رفض دولة السعوديين بشكل مطلق، وقد كانت تجليات هذا الموقف لاحقًا متمثلة باقتحام الحرم المكي ضمن حادثة جهيمان المحسوب على تيار "السلفية المحتسبة"، أما الموقف الثاني فقد تميّز بدعم آل سعود بمدىً غير محدود، وهو التيار الذي اشتهر عقب حرب الخليج باسم "الجاميّة" –نسبة إلى الشيخ محمد أمان الجامي، و"المدخلية" –نسبة إلى الشيخ ربيع المدخلي-
أ. الجماعة المحتسبة:
يشير ستيفان إلى أن مجموعة جهيمان كانت جزءًا من جماعة السلفية المحتسبة التي أسسها بعض تلامذة الألباني في الستينات، وقد تنامى تأثيرها بفعل حماية الشيخ ابن باز لها، حيث صار رئيسًا للمؤسسة الدينية السعودية عام 1969، وقد كان للألباني ارتباط وثيق بها خلال زياراته المتكررة لهم في مواسم الحج وقد كان تطابقهم مع مبدأ الشيخ الألباني في التنصل من السياسة قويًّا، حيث استولى اعتقاده بأن العمل السياسيّ صرفٌ للمؤمن الحقيقيّ عن العلم الشرعي عليهم، ولذا فقد أعلنوا عن رفضهم الحكم السعودي دون تكفيره نظرًا لمخالفته "الهدي النبوي" الذي ينصّ على أن "الأئمة من قريش" ولذا فإن قَسَم البيعة التي تربط رعايا المملكة بالدولة لاغية وباطلة ، إلا أن بعض أعضاء هذه الجماعة اندفعوا بشكل متزايد نحو وضع المجهر على شرعية الأعمال التي يقوم بها النظام السعودي وإمكانية الخروج عليه، في توجه أكثر راديكالية من عموم أبناء هذه الجماعة، والذي قاده جهيمان العتيبي بدءًا من العام 1977، وانتهاء بتمرده الذي أوجد له شرعية دينية تستند إلى تكفير النظام الحاكم ودعوى خروج المهدي ولم يمض وقت طويل على إخفاق هجوم "الحرم" حتى أُشير إلى الألباني بأصابع الاتهام باعتباره المسؤول الفكري عن الأزمة بشكل غير مباشر، ومن ثم حُظِر من العودة إليها، ثم سرعان ما رفع الحظر بتوصية من صديقه ابن باز
ب. المدخلية والجامية:
أدّت الحركة الداخلية ضمن جماعة "المحدثين الجدد" إلى ظهور تيّار آخر يباهي بلا محدوديّة ولائه لآل سعود، وذلك تحت راية الشيخين محمد أمان الجامي والشيخ ربيع المدخلي، حيث يدرس كلاهما الحديث الشريف في الجامعة الإسلامية في المدينة المنوّرة ولم يؤثر عنهما مخالفة لمنهج الألباني سوى قضيّة عدم شرعيّة الحاكم غير القرشي، ومن ثمّ فإن دولة آل سعود في نظرهم "إسلاميّة نقيّة" ، وقد كان السبب العمليّ لظهورهم تيّارًا قويًّا قيامُ حرب الخليج الثانية بقيادة الولايات المتحدة المتحالفة مع نظام الحكم السعودي، مما أثار حفيظة علماء المملكة ودفع تيار الصحوة لمعارضة الحرب والمطالبة برحيل الأمريكيين وإصلاح جوهريٍّ للنظام السياسي السعودي، إلا أن تولّي "الجاميّين" لزمام الدفاع ضد هذه الهجمة المفاجئة منحهم موارد كبيرة من قبل السلطة لمواجهة خصوم آل سعود بالخطابة واستخدام التعليم الشرعيّ لبناء ولاء لا متناهٍ نحو الحاكم
خامسًا: المحدّثون الجُدُد بين "آليّات التأثير" و"مآلات الواقع"
على الرغم من أن تأثير الألباني في السعودية كان منصبًّا على تلامذته إلا أن تكوين تلامذته لتيّار جديد يتفاعل مع محيطه أنتج تصديره نحو الداخل والخارج على حدّ سواء بآليّات متعددة، ومن ثمّة يرصد "لاكروا" آليّتين لتصدير هذا التيّار.
أولهما: أثر الشيخ الألباني ذاته في نشر منهجه التعليمي والسياسي في كل بلدٍ ينزل فيه، حيث سيتكفّل طلبته بإكمال منهجه ومتابعته، فقد كان الألباني على سبيل المثال السبب المباشر لتثبيت منهجه في طلابه في الأردن وسورية والسعودية، بينما كان طالبه مقبل الوادعي السبب الذي نقل منهج "المحدثين الجدد" إلى اليمن حيث برز بوصفه الأب المؤسس لجماعة السلفية المحتسبة في اليمن .
أما ثانيهما: فصعود تيار الجامية إلى مناصب حساسة في حقبة التسعينات، كان أبرزها الجامعة الإسلامية في المدينة التي تحولت بدءًا من 1992 إلى قلعة جاميّة، مما أثر بشكل مباشر في تصدير تعاليم هذه الجماعة إلى الطلاب الأجانب القادمين إليها لطلب العلم، ودور هؤلاء الطلاب –فيما بعدُ- في نقل تيار الجامية إلى بلدانهم المختلفة، الأمر الذي يفسّر انتشار رموز هذه الجماعة وأقوالها في العديد من أقطار البلاد الإسلامية
ما الخلاصة إذن؟
وفّر الألباني الأسس المعرفية "الشرعية" الضرورية لظهور تيّار المحدثين الجدد، سواء من ناحية نقده لتيار الإسلام الحركي أو رفضه ممارسة السياسة، وهذا "الانمياز" الواضح عنده متمثِّل لدى سلفيّة اليوم "غير الجهاديين" في بلدان عديدة، كالسعودية والجزائر ومصر، إلا أن المعضلة التي تواجه هذه الأنظمة هي خطورة انقسام "الخليّة السلفية" على نفسها، فتنقلب بفعل "الاجتهاد" على الحكم والتسويق له، ومثال "جهيمان" واضح للغاية في التدليل على أن الإيمان المطلق بنصّيّة الحرف مع ضرورة الاجتهاد قد تؤدي إلى ذلك.
وعلى الرغم من أن جماعة "الألباني" -المتطوّرة إلى الجاميّة والمدخليّة لاحقًا- قد تماسكت ضدّ الحكومة عبر استكانتها لها ضمن إطار "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" –أي الاحتساب- إلا أن تحوّلها إلى الولاء اللامتناهي للحاكم إثر حرب الخليج وهجمات أيلول 2001 وثورات الربيع العربي قدّم طوق نجاة ثمينٍ لمختلف الأنظمة والحكّام، مما يفسّر أسباب استمرارها والضخّ المستمر في تلميع صورتها ودعمها باعتبارها أحد أهم "المكوّنات الرئيسة لتيّار السلفيّة في الإسلام"