صناعة هوية سورية
Oca 21, 2019 5556

صناعة هوية سورية

Font Size

صناعة هوية سورية
المثقفون والتجار في بيروت القرن التاسع عشر

The Making of Syrian Identity
Intellectuals and Merchants in nineteenth century Beirut

صدر الكتاب عن دار بريل Brill  عام 2005 من تأليف فروما ساخس Fruma Zachs أستاذة التاريخ في جامعة حيفا- قسم دراسات الشرق الأوسط، وهي مهتمة بالجوانب السياسية، الإقتصادية والإجتماعية لسورية القرن التاسع عشر. لدى زاخس ثلاث مؤلفات في هذا الحقل: 
- صناعة هوية سورية: موضوع بحثنا
- ثقافة الجندرة في سورية الكبرى: المثقفون والأيديولوجيا أواخر العهد العثماني. تأليف فروما زاخس بالإشتراك مع شارون هاليفي. 
Gendering Culture in Greater Syria: Intellectuals and Ideology in the late Ottoman period.
- الإصلاح العثماني والنهضة المسلمة. تحرير فروما زاخس وإسحاق وايزمان. 
Ottoman Reform and Muslim Regeneration 

------------------------------------------------------ 

بقلم : باسل وطفه

في دراستها المتعلقة بتكوّن الهوية السورية، ترى زاخس أن الطور الأولي لنشوء هذه الهوية لم يحظ بما يستحق من بحث.لا تتناول الكاتبة المسألة القومية، إنما ما يمكن تسميته ’’ النزعة القومية الأولية‘‘ Proto-Nationalism  كما تمظهرت في أعمال المثقفين العرب المسيحيين؛ الأرثوذكس والبروتستانت تحديداً في بيروت وفي طرابلس أيضاً. يشير مصطلح ’’النزعة القومية الأولية‘‘ في هذا الكتاب إلى الطور الأولي لتعريف الذات الذي قاد لاحقاً إلى تحديد معالم هويتها و معالم الهوية الثقافية لهؤلاء المثقفين تحت المظلة السياسية للإمبراطورية العثمانية. كان التحول من الهوية المناطقية الضيقة إلى الهوية الإقليمية أحد أهم التغيرات المفاهيمية في أوساط المثقفين العرب المسيحيين خلال القرن التاسع عشر. فبعد أن سادت التسمية العربية ’’ بلاد الشام‘‘ لقرون طوال كتسمية للرقعة الجغرافية الممتدة بين الشاطئ الشرقي للمتوسط والبادية السورية، حيث خلت هذه التسمية من أية مضامين قومية، عادت تسمية ’’سورية‘‘ – التي تشير إلى إقليم سورية الكبرى بحدوده المعرفة والذي يشمل الإيالات العثمانية الثلاث : دمشق، حلب، وصيدا- إلى التداول قبل أواسط القرن التاسع عشر. تسعى المؤلفة هنا إلى سبر السردية السورية التي بقيت خارج نطاق البحث حسب رأيها، ولا تضعها في مقارنة مع السرديات الأخرى  إنما تمضي إلى معاينة هوية مسيحيي إقليم سورية العرب، وتركز بصورة رئيسية على التحول في وضعهم الإقتصادي والإجتماعي وإسهاماتهم في الهوية اللبنانية، الهوية العربية، والحركة القومية العربية فضلاً عن دورهم الرئيسي في إحياء اللغة والثقافة العربيتين. بينما اعتبرت معظم الأبحاث في هذا السياق أن نشوء الهوية السورية والوطنية السورية كان ردّ فعلٍ من قبل المسيحيين العرب تحت وطأة حاجتهم إلى هوية جديدة تعيد تعريف موقعهم ضمن مجتمع ذي أغلبية مسلمة عقب حرب الستين الأهلية 1860 والرضة النفسية التي رافقتها، تحاجج زاخس بأن تكوّن الهوية السورية كان سابقاً لتلك الحرب وتقدم استقراءً للدعائم الثقافية والإقتصادية والإجتماعية لهذه السيرورة وللطبقة الوسطى التي أطلقتها ( تنويه: تعني الطبقة الوسطى في هذا المقال مجموعة المتعلمين والمثقفين المسيحيين في معظمهم الذين وضعوا أسس تكوين الهوية السورية وهي تنقسم كما سنرى إلى طبقة وسطى أصلها من الجبل وأخرى بيروتية). تركز المؤلفة على المواد الكتابية لهؤلاء المثقفين ونعني هنا الصحف العربية في القرن التاسع عشر، إضافة إلى الدوريات والروايات التاريخية والأقاصيص والأعمال الأدبية لعدد من النوادي الثقافية التي ازدهرت آنذاك. خلافاً للدراسات السابقة التي اعتمدت على الوثائق الأوروبية (الأرشيفات الفرنسية تحديداً) والأرشيفات العثمانية في تناولها للمسيحيين العرب، تستعين الكاتبة بالأرشيفات الأمريكية مولية اهتماماً خاصاً للمواجهة بين ’’ السكان المحليين‘‘ والبعثات التبشيرية. أثرت المواجهة مع الغرب والتدخلات الغربية في وضع المسيحيين، إذ أبدى هؤلاء إعجابهم بالإنجازات الغربية وكانوا على وعي تام بحقيقة تصويرهم ’’كضحايا‘‘ بطريقة ما فضلاً عن المنافع التي جنوها من الإختراق الغربي، لكنهم أخذوا في التحول إلى ’’آخر‘‘ في نظر الأغلبية المسلمة. بالنتيجة، عرّف المسيحيون أنفسهم في إطار تحديد هويتهم الذاتية كعرب في المقام الأول، ثم غربيين أو مسيحيين، وآثروا في هذا المنحى أن يكونوا ’’عرباً فخورين‘‘ على أن يكونوا ’’أوروبيين منقوصين‘‘. لم يكن في مساعي المسيحيين العرب  لبناء إطار جديد لهويتهم ما يتعارض مع ’’ الآخرين‘‘ ( المسلمين )، بل ترى زاخس أنهم سخروا جهودهم لخلق هوية تجمعهم مع الآخر المسلم، وبناء ذات جديدة أو ذات جمعية تضم سكان الإقليم جميعاً مسلمين ومسيحيين. 
مرحلة الأمير بشير الثاني والتصورات الأولى ’’للرؤية السورية‘‘
مثّل حكم الأمير بشير الثاني بين عامي 1788-1840 نقلة مهمة على طريق تكوّن الهوية السورية، ويعود ذلك لأسباب رئيسية ثلاثة: 1) صعود جبل لبنان ليغدو مركز الثقل الإقتصادي في إقليم سورية، 2) نهوض الإمارة الشهابية والطبيعة المركزية لحكومتها ومؤسساتها، 3) ظهور الطبقة الوسطى المسيحية المتعلمة والمكونة من التجار والفئات المثقفة بصورة رئيسية. في سعيه الحثيث لتوطيد حكمه في الجبل توجب على الأمير بشير تقويض سلطة المقاطعجية (أصحاب الإقطاعات) الدروز الأقوى والأكثر نفوذاً من نظرائهم المسيحيين، وقد دان له الجبل وأضحى حاكمه المطلق بعد سحقه للزعيم الدرزي بشير جنبلاط. استفاد المسيحيون من سياسة الأمير بشير الشهابي الداعمة للتجارة وخاصة تجارة الحرير بين جبل لبنان والداخل السوري ، وبحكم إدراكه لأهمية تصدير الحرير إلى الداخل السوري وأوروبا على السواء، قدّم لهم بشير دعماً كبيراً في هذا المجال. تجدر الإشارة هنا إلى أن بشير وعائلته تحولوا إلى المسيحية بدءاً من منتصف القرن الثامن عشر. تعزز موقع التجار المسيحيين بطبيعة الحال، كما سلمهم الأمير مناصب إدارية ليحتكروا الوظائف العليا لأول مرة في تاريخ المنطقة. شهد الجبل تحت حكم الأمير البشير تحولاً في البنية التقليدية السائدة والمنقسمة بحدة إلى طبقتين: النخبة ( المقاطعجية والأعيان) والعامة ( الفلاحين)، وتمخض عن خلخلة هذه البنية الجامدة ولادة طبقة وسطى جديدة مكونة من التجار المسيحيين إضافة إلى بعض المقاطعجية والفلاحين. لعب جزء من أفراد هذه الطبقة دور الوسيط بين الجبل والداخل السوري، بينما نشط الجزء الآخر في التجارة مع أوروبا وخاصة تجارة الحرير، الحبوب، التبغ، والقطن. 
زحلة ودير القمر 
تحولت زحلة مع بداية التسعينيات من القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التالي إلى مركز اقتصادي هام في الجبل بحكم موقعها الاستراتيجي على الطرف الغربي من سهل البقاع. فقد أصبحت المخزن الرئيسي للحبوب التي يجلبها تجارها من سهلي حوران والبقاع ومن الداخل السوري (حلب وحمص)، والمصدر الرئيسي لحاجة الجبل من الحبوب بالنتيجة. لفت تطور زحلة الاقتصادي انتباه الأمير بشير الذي ساهم بدوره في تطويرها وتحويلها إلى لاعب اقتصادي هام في إقليم سورية. لم يتوقف الأمر على ذلك، بل جعل بشير من زحلة مركز قوته العسكرية وشكل أبناؤها قوات النخبة في جيشه . 
شهدت دير القمر تطوراً مماثلاً بلغ ذروته خلال حكم بشير. كانت أغلبية سكانها من الكاثوليك والموارنة، ولعب موقعها الجغرافي الذي يشكل حلقة ربط بين المناطق الساحلية، جبل لبنان، دمشق، والداخل السوري دوراً رئيساً في ازدهارها، وكان الحرير مصدر دخلها الرئيسي. علاوة على دورها التجاري الذي تعاظم في ظل بشير، فقد أولاها الأخير اهتماماً خاصاً، وجعل منها مركزاً إدارياً أيضاً ودعم تطورها العمراني، كما حظي تجارها بامتيازات ضريبية وعملوا كوكلاء لتجار غربيين. استقطبت دير القمر بفضل ما نعمت به من استقرار وازدهار تجاراً من دمشق وحلب وحتى من اسطنبول. كان العديد من تجار جبل لبنان من الطبقة المثقفة مثل عائلات مشاقّة- سوسة- ثابت- الدوماني- الشدياق، وهذه سمة تنطبق على العديد من أفراد الطبقة الوسطى الوليدة في الجبل الذين جمعوا بين التجارة والنشاط الثقافي. بعد نفي بشير 1840، وقعت أحداث عنف بين المسلمين والمسيحيين والدروز ما دفع تجار الجبل إلى تصفية أملاكهم والانتقال إلى بيروت التي ذاع صيتها سلفاً. 
الحلقة الأدبية 
شجع بشير التعليم والنشاط الثقافي والعلمي في الإمارة، وأحاط نفسه بالأدباء والمتعلمين ليكونوا عوناً له في الحكم. تكونت هذه الحلقة الأدبية من البيروقراط، الشعراء والأدباء، وأكثرهم أهمية مؤرخو البلاط. درس معظم هؤلاء في مدارس الجبل وأبرزها مدرسة ’’ عين ورقة‘‘التي افتتحت أبوابها بعد عام من تولي بشير الحكم 1789 واعتمدت العربية لغة للتعليم. تخرج من عين ورقة اثنين من أعلام النهضة وهما بطرس البستاني وفارس الشدياق. ضم بلاط بشير أسماء أدبية لامعة مثل ناصيف اليازجي- بطرس كرامة- نقولا الترك، غير أن التصورات الأولى للفكرة السورية (التي لم تتبلور كهوية بعد) بدأت لدى مؤرخي البلاط ومنهم: الأمير حيدر أحمد الشهابي – طنوس الشدياق– ميخائيل مشاقة المؤرخ الشهير – عيسى اسكندر المعلوف. امتدح هؤلاء المؤرخون بشير في مؤلفاتهم ورغبوا بأن يتمكن من حكم سورية كما حكم محمد علي مصر، إذ لم يركزوا على جبل لبنان وحسب بل على سورية كلها (ولايتي دمشق وصور تحديداً). جاءت هذه التصورات متناغمة تماماً مع ما أملته الضرورات التجارية في ربط مناطق الإقليم السورية مع بعضها. 
بيروت ونشوء ’’ الهوية السورية‘‘– المسيحيون العرب كوسطاء للتغيير
بعد نفي بشير كما ذكرنا، انتقل مسيحيو الجبل إلى بيروت وحققت الطبقة الوسطى (الجبلية) اندماجاً سريعاً مع نظيرتها البيروتية، لتتخذ الرؤية السورية التي تكونت في الجبل شكلاً جديداً أكثر تماسكاً. حصل المسيحيون في بيروت سلفاً على امتيازات هامة  في ظل الحكم المصري 1831-1840 وقويت التجارة بين بيروت والغرب، وتعاظم النفوذ الغربي بشدة بعد توقيع اتفاقية بلطة ليمان التجارية بين العثمانيين والبريطانيين وأصبحت بيروت بوابة سورية الأهم على الغرب، حيث كانت نصف صادرات الإقليم السوري تتم عبر ميناء بيروت. أصبحت بيروت بالمحصلة مركز الإقليم المالي، وأنشِئت بنية تحتية ربطت بيروت مع مدن الداخل السوري: دمشق، حلب، يافا، ونابلس. بفضل هذا المناخ، كانت الطبقة الوسطى البيروتية أكثر انفتاحاً على العالم، وترى زاخس أن اسم ’’سورية‘‘ والتصورات المرتبطة بها بدأت لدى الطبقة الوسطى البيروتية أيضاً وقبل القانون العثماني القاضي بإحداث ولاية سورية، وهذا ما أثبته بحثها في النوادي الثقافية التي تأسست في بيروت: الجمعية السورية لاكتساب العلوم والفنون ( 1847-1852) والجمعية العلمية السورية ( 1858-1860). ضمت هذه النوادي  125 فرداً ينتمون إلى 36 عائلة شكلوا الطبقة الوسطى المثقفة ( بيارتة وجبليين) التي تنقسم بدورها إلى تجار من جهة ومثقفين وكتاب من جهة أخرى وكان منهم من جمع بين الحرفتين ( كان بطرس البستاني على سبيل المثال أديباً كبيراً، وتاجراً ماهراً، وصرّافاً محنّكاً أيضاً). من العائلات المسلمة البارزة في هذه الطبقة عائلة الأسير ومنها يوسف الأسير خريج الأزهر، وأول مسلم عمل مع الإرساليات التبشيرية في ترجمة الأناجيل إلى العربية، وعائلة القباني ومنها عبد القادر القباني مؤسس أول صحيفة مسلمة ’’ثمرات الفنون‘‘ التي كان ابراهيم الأحدب أول محرر فيها. يشار أيضاً إلى مساهمة تجار هذه الطبقة في تمويل مثقفيها حيث ساعد ميخائيل المدوّر (المولود عام 1822) خليل الخوري في تمويل صحيفة ’’حديقة الأخبار‘‘. شكلت هذه التغيرات والتأثير غير المسبوق للغرب وما حظي به المسيحيون من دعم غربي وحماية من قبل القناصل الأوروبيين دافعاً رئيسياً لدى المثقفين المسيحيين العرب لتعريف ذاتهم وسط محيط ذي أغلبية مسلمة، فتطورت الهوية التي قدموها عبر كتاباتهم وأفكارهم وفق مسارين متوازيين سوريّ وعربيّ. وفي مطالبتهم بحكم ذاتي لإقليم سورية ( على غرار الجبل) حرص أبناء هذه الطبقة الوسطى على ألا يشكلوا تهديداً للباب العالي وأن يكون استقلالهم تحت المظلة العثمانية. ومن جانب آخر، حافظوا على التوازن بين الجانبيين العثماني والغربي بحيث لا يفقدوا ثقة الغرب إن حافظوا على ولائهم للعثمانيين ولا يخسروا مكانتهم لدى العثمانيين إن ارتموا في أحضان الغرب، فظلوا عثمانيين مخلصين واستفادوا من الامتيازات الأجنبية. 
قانون التنظيمات والإصلاح العثماني
أثارت حملة ابراهيم باشا خوف العثمانيين حول مستقبل سورية، كما أعطت حرب القرم 1854-1856 بريطانيا وفرنسا -اللتان ساعدتا العثمانيين في الحرب- ذريعة للتدخل والمطالبة بحماية الرعايا غير المسلمين. عمد العثمانيون إثر ذلك إلى تنظيم علاقة الإمبراطورية مع الرعايا بناء على قانون العثمنَة Ottomanism وكان ذلك جزء من إصلاحات التنظيمات 1856-1876. ويعتبر خط همايون للعام 1856 نقطة تحول بالغة الأهمية حيث ساوى بين المسلمين وغير المسلمين في كثير من المناحي، وحصل عدد من أفراد الطبقة الوسطى البيروتية على وظائف حكومية مرموقة.أتاح مناخ الحرية هذا ظهور صحف ودوريات كثيرة شرعت في الترويج للهوية السورية والوطنية السورية كما هو الحال في صحيفة حديقة الأخبار 1858 التي رأسَ تحريرها سليم الخوري، وأسس بطرس البستاني نفير سورية عام 1860-1861 على سبيل المثال لا الحصر. من الجدير بالذكر أن كثير من هؤلاء المثقفين وعلى رأسهم بطرس البستاني لم يرَ تعارضاً بين العثمنة والهوية السورية. تحت وطأة خوفهم من قيام نزعات انفصالية بين الأقليات غير المسلمة تحت تأثير الضغوط الغربية ورغبة منهم في دمج الأخيرين وضمان ولائهم، اهتمّ فؤاد باشا وزير الخارجية وعلي باشا الصدر الأعظم ( رئيس الوزراء)  بتعزيز مبدأ العثمنة وكان من شأن ذلك تعزيز الهوية المحلية بين أفراد الطبقة الوسطى البيروتية. ترافقت العثمنة مع إصدار ثلاثة قوانين رئيسية لعبت دوراً هاماً في توطيد الهوية المحلية (السورية). القانون الأول: قانون الأرض عام 1858 الذي قنّن ملكية الأرض وعمّق صلة الأفراد بأرضهم التي  تتبع لهم بموجب سجل رسمي. القانون الثاني: قانون الولاية عام 1864 الذي كان ثمرة جهود فؤاد باشا وعلي باشا لإلغاء المركزية في الإمبراطورية، وتعيين الولاة على أساس الكفاءة ومنحهم هامش حرية أكبر فيما يتعلق بقضايا القانون، الإقتصاد، الإدارة، والسياسة. القانون الثالث: قانون المواطَنة العثمانية عام 1869، حيث أسقطت بموجبه صفة ’’الرعايا‘‘ عن سكان الإمبراطورية ليصبحوا ’’مواطنين عثمانيين‘‘ بالمعنى الغربي للمواطنة. دعم القانون الأخير تطور الهوية العثمانية، لكنه ساهم في الوقت نفسه في توليد تصورات ومفاهيم جديدة حول الهوية المحلية بين السكان الأصلاء. 
إحداث ولاية سورية ( 1860-1880) 
كانت سورية من أولى الولايات التي طُبق عليها قانون الولاية عام 1865. ضمت ولاية سورية ولايتي دمشق وصيدا وتمتد من جنوبي حلب وصولاً إلى شبه جزيرة سيناء؛ أي سورية الكبرى تقريباً : سورية الحالية، شرق الأردن، فلسطين ولبنان ( باستثناء حلب ودير الزور ومتصرفية جبل لبنان). ليس معروفاً سبب اختيار تسمية ’’سورية‘‘ بديلاً عن ’’ الشام أو برّ الشام‘‘، وتجدر الإشارة إلى أن تسمية سورية ظهرت في العصر الحديث للمرة الأولى في المراسلات بين محمد علي باشا والباب العالي. لم يكن القانون خطوة إدارية وحسب بل سياسية أيضاً. فقد خشي العثمانيون من انفلات الوضع في سورية إثر حرب الستين، وأفضت المباحثات بين القوى الغربية والباب العالي إلى إمكانية إعطاء سورية نوعاً من الاستقلال. ومن ناحية أخرى، خشي العثمانيون أيضاً من مطالبة المناطق الأخرى في الإقليم بالحصول على الاستقلال على غرار جبل لبنان وما يتضمنه ذلك من امتيازات، فآثروا إحداث ولاية واحدة تحت قيادة حاكم قوي يلبي رغبات تلك المناطق بما يشمل إشرافه على جبل لبنان. ولتهدئة الأصوات المعارضة لهذا الإجراء في دمشق واسطنبول، اختيرت دمشق عاصمة للولاية.ساعد ذلك في ترسيخ التصورات الأولية للهوية السورية، وبدأ المثقفون المسيحيون بدءاً من ستينيات القرن التاسع عشر بالدعوة إلى الوطنية السورية كجزء من الإمبراطورية العثمانية، وفي هذا الباب، تناغمت سياسات فدرلة الإمبراطورية مع تبني بعض المثقفين المسيحيين النموذج الفيدرالي الأمريكي، وتجلى ذلك فيما روج له بطرس البستاني وابنه سليم في صحيفة الجنان مثلاً: ’’الإمبراطورية هي وطننا، وسورية هي بلدنا‘‘ فليس ثمة تضارب بين ’’العثمنة والسورنة‘‘ في رأيهما. 
دور محمد رشيد باشا 1866-1871 
رجل دولة أثبت كفاءته في المناصب التي تولاها قبل أن يتسلم ولاية سورية عام 1866. كان محمد رشيد باشا من أنصار الإصلاحات العثمانية وقوانين التنظيمات، وهو أول والٍ يمنح المثقفين المسيحيين إطاراً رسمياً لأنشطتهم وسمح بإصدار الصحف الخاصة في دمشق وبيروت. تبنت صحيفة حديقة الأخبار على سبيل المثال توجهاً وطنياً حاداً موجهة خطابها إلى ’’ الأمة السورية‘‘ و ’’الوطن السوري‘‘ ولم يكن ذلك ممكناً قبل حكم رشيد باشا. فضلاً عن ذلك، أنشأ رشيد باشا مجلس العموم وترأسه بنفسه، وأصدر قراراً بتأسيس الجميعة السورية العلمية التي أصبحت ملتقى هاماً لأفراد الطبقة الوسطى من المثقفين وللدعوة إلى الوطنية السورية. تغيرت الأحوال بعد رحيل محمد رشيد باشا وتولي صبحي باشا وخالد باشا من بعده، إذ انتهج هذان الواليان سياسة معاكسة لرشيد باشا وقوانين الإصلاح. وجاءت حرب الدولة العثمانية مع روسيا عام 1877 لتزيد الأمور سوءاً وتخلق إحساساً من النقمة وسط المسلمين أنفسهم بسبب التجنيد ودفع الضرائب، فتشكلت حركة الأعيان الدمشقيين في العام نفسه بهدف ضمان استقلال سورية وقررت الطلب من الأمير عبد القادر الجزائري تولي حكم الولاية. في غمرة استياء المسلمين من الإجراءات العثمانية في الحرب، شعر المثقفون المسيحيون أن الوقت مناسب لإشهار الهوية السورية (العلمانية) كهوية جامعة لجميع أطياف الإقليم السوري. لعب مدحت باشا الذي تولى حكم سورية بين عامي 1878-1880 دوراً كبيراً في تطور الوطنية السورية على طريقة سلفه محمد رشيد باشا، وكان نموذجه المحتذى الفيدرالية الألمانية كما أحيا فكرة اللامركزية في المادة 108 من دستور 1876 الذي كان مدحت باشا أحد مهندسيه الرئيسيين. رغب مدحت باشا في تحويل سورية إلى كيان قوى واحد ( وطن صغير) ومنح سكان الولاية حكماً ذاتياً، لكنه لم يحظ بدعم السلطان عبد الحميد الذي عزله عن ولاية سورية. نشير أخيراً إلى ما سمّي نادي بيروت السري الذي كان معظم أعضاءه من خريجي الكلية الإنجيلية السورية غالباً، ويرجح أن النادي كان وراء الملصقات التي انتشرت في بيروت ونددت ’’ بالحكم التركي الشرير‘‘ ودعت العرب إلى الثورة. وبحسب ألبرت حوراني:’’ كان هذا النادي السري هو من أطلعنا على مدى الوعي السياسي لدى المسيحيين‘‘. دعت الملصقات الشهيرة أيضاً إلى الاعتراف بالعربية لغة رسمية لسورية ورفع الرقابة والقيود التي اتبعتها السياسة الحميدية. 
البعثات التبشيرية ( الإرساليات المشيخية الأمريكية) 
لا تقر الكاتبة بدور الإرساليات البروتستانتية الأمريكية في النهضة وصعود القومية العربية كما ورد في دراسات كثيرة، بل ترى أن تأثير الإرساليات كان أكبر في الفكرة السورية والهوية السورية. وصلت أوائل البعثات البروتستانتية إلى بيروت عام 1923 تحت إشراف الهيئة الأمريكية لمندوبي الإرساليات الخارجية ABCFM. عرف أفراد البعثات التبشيرية البروتستانت سورية باسمها القديم كما ورد في الكتاب المقدس وكانوا على دراية معقولة بتاريخها الغابر وحدودها الجغرافية. إنها ’’الأرض المقدسة‘‘ التي جاؤوها لأسباب دينية تتلخص في التمهيد لقدوم المسيح ثانية مع ولادة الألفية الجديدة وتحويل سكان الإقليم جميعاً إلى المسيحية لأن المعركة الأخيرة بين النور والظلمة ستقع في هذه الأرض المباركة. وكان من دواعي قدومهم أيضاً حماية السكان من فساد الكاثوليكية (المسيحية الشكلية). فوجئ المبعوثون بحال سورية المزرية ومستوى الجهل ونقص التعليم مقارنة بسورية المجيدة التي قرؤوا عنها في الكتاب المقدس، مذكّرين بأمجاد الفينقيين مثلاً والحضارة العظيمة التي أقاموها. أما ’’سورية الجديدة‘‘ التي رغبوا بخلقها فهي التي ستتطور اعتماداً على الأناجيل والتعليم معاً، واعتماداً على الخصائص والحضارات ما قبل الإسلامية إذ مثّل الإسلام في نظرهم مرحلة سادها التقليد والركود، وليس من تعارض في رأيهم بين أن يكون المرء سورياً وأن يحمل هوية ثقافية عربية لأن الثقافة العربية سابقة على الإسلام. في هذا المنحى رأى المبعوثون البروتستانت أن خلق ’’سورية الجديدة‘‘ يقع على عاتق المسيحيين من أبناء الإقليم، ولم تكن غايتهم المسألة الوطنية بحال إنما أن يتولى المسيحيون ’’العرب‘‘ قيادة المجتمع نحو الحداثة وتحدث بعضهم عن ’’العرق السوري‘‘ الذي ’’ آن أوان يقظته‘‘. بدأت الإرساليات البروتستانتية بإصدار الصحف في بيروت بدءاً من عام 1934 وبنوا العديد من المدارس في أنحاء الإقليم. تركز الكاتبة على اثنين من أهم مشاريع الإرساليات البروتستانتية وهما الكلية الإنجيلية السورية (الجامعة الأمريكية في بيروت اليوم) التي افتتحت عام 1866 والنوادي الثقافية مثل الجمعية السورية لاكتساب العلوم والفنون 1847-1852. استقبلت الكلية الإنجيلية السورية الطلبة بغض النظر عن ديانتهم واعتمدت العربية لغةً للتدريس، وأخذت تستقل شيئاً فشيئاً عن توجهات البعثة التبشيرية لتركز على المناحي الثقافية والعلمية والعلمانية، وسعى المدرسون العاملون فيها من المبعوثين على مدار سنوات إلى خلق إحساس بالمواطَنة السورية بين الطلبة الشبان يجمع أطياف السوريين وبشروا في محاضراتهم بمجتمع ’’سوريّ‘‘ صالح. أما الجمعية السورية لاكتساب العلوم والفنون فقد أسسها أعضاء من الإرساليات بالتعاون مع المسيحيين العرب المحليين، واهتمت هذه الجمعية بجمع الكتب  والمخطوطات وترأسها إيلي سميثEli Smith أحد أكثر الشخصيات تأثيراً وتفاعلاً مع المثقفين المسيحيين. تخرج إيلي سميث من جامعة يال Yale ويحمل شهادة في علم اللاهوت، واهتم بتعلم العربية واللغات السامية أيضاَ و كُلف عام 1847 بترجمة الكتاب المقدس إلى العربية وكرس جزءاً من وقته لدراسة سورية وطبيعتها الجغرافية . عمل على نحو لصيق مع بطرس البستاني حيث لجأ إليه الأخير بعد تحوله إلى البروتستانتية خوفاً من ملاحقة الكنيسة الكاثوليكية وتأثر به تأثراً بيّناً. نشر البستاني 18 محاضرة مختارة جمع فيها مجريات اجتماعات النادي والمحاضرات والأفكار التي تمت مناقشتها، وتعكس هذه المحاضرات التركيز على سورية الجديدة (وفق المفهوم التبشيري) ككيان جغرافي واحد له تاريخه الخاص وثقافته المميزة. تتناول المؤلفة محاضرة إيلي سميث التي ألقاها أمام أعضاء النادي عام 1852 لأهميتها في هذا السياق، حيث شرح مفهومه ’’لسورية‘‘ كوحدة جغرافية، واستعرض المفاهيم الجديدة: ’’البلد‘‘، ’’العِرق‘‘،’’اللغة‘‘، ’’التاريخ‘‘، و’’الثقافة‘‘ موجهاً سامعيه إلى ضرورة إحياء هذه المقومات التي حققت لهم المجد في الماضي. تتردد أصداء ما تناوله سميث في خطبة بطرس البستاني التي تتناولها الكاتبة أيضاً بشئ من التفصيل وعنوانها : خطبة في أدب العرب. وكان من تجليات هذا التأثر (الذي لم يتوقف على البستاني بل شمل مثقفين آخرين كميخائيل مشاقة وخليل الخوري) تأسيس البستاني للمدرسة الوطنية التي قامت على أسس وطنية علمانية مفتوحة للجميع. بالمحصلة، لم تكن علاقة الإرساليات البروتستانتية الأمريكية مع المثقفين العرب المسيحيين محصورة في إطار المؤثر والمتلقي فقط، بل هي جملة تفاعلات ثقافية متبادلة على درجة من التعقيد شارك بها الطرفان ولا ينبغي أبداً التقليل من شأن المثقفين المسيحيين العرب ودورهم الحيوي، وخلافاً للإرساليات ، لم يكن هدف هؤلاء المثقفين خلق سورية مسيحية بل سورية علمانية.
سردية الهوية: أدبيات جديدة وهوية جديدة 
كان ظهور مفهوم ’’الوطن‘‘ كنقيض ’’للأمة‘‘ أو ’’الملة‘‘ عاملاً حاسماً في تغير النظرة إلى العالم ما أفضى إلى نشوء ضروب جديدة من الخطاب. شكلت ثلاثة أنماط أدبية جديدة ميداناً رئيسياً للتعبير عن الهوية السورية، وقد تكونت هذه الأنماط على يد الطبقة الوسطى البيروتية أول الأمر ولم تكن معروفة من قبل وهي: الصحافة، علم التّأريخ الجديد، والروايات التاريخية. 
اشتهرت أربع صحف انتشرت في بيروت ذكرناها آنفاً : حديقة الأخبار، الجنان، ونفير سورية إضافة إلى صحيفة ثمرات الفنون التي كان ناشروها مسلمون. اتخذت الصحف الثلاث الأولى صبغة علمانية في جميع المناحي الثقافية التي تناولتها، ومنحت أفراد الطبقة الوسطى وحتى بعض الأعيان حيزاً واسعاً للترويج لأفكارهم ووطنهم الجديد وهويتهم الجديدة بشكل أوضح وتناول مواضيع شتى بهدف تنوير المجتمع السوري كالشعر، الأدب، الزراعة، الطب، الحيوانات إلخ... ساعدت البنية التحتية التي تمّ إنشاؤها سلفاً تلبية لضرورات الحركة التجارية على سهولة التنقل وإمكانية وصول الصحف إلى أماكن بعيدة عن بيروت، كما قُرأت الصحف في المقاهي بصوت عالٍ لتوعية أولئك العاجزين عن شرائها وكان عدد المشتركين في عدد من الصحف كبيراً قياساً لعدد السكان الكلي. لم يكن مفهوم الهوية السورية المطابق للجغرافية القومية، ولا موضوع حب الوطن أموراً يمكن للقراء استيعابها بسهولة، وهذا ما حدا بأرباب الصحافة والكتابة إلى الاستفاضة بالحديث عن الحدود الجغرافية ’’لسورية الكبرى‘‘ والتأكيد على مصطلحات مثل ’’أبناء الوطن‘‘، ’’الحقوق الوطنية‘‘ وشعار ’’حب الوطن من الإيمان‘‘ الذي أطلقه بطرس البستاني في صحيفته نفير سورية.  إضافة إلى ذلك، وفي سياق سعي المثقفين إلى تعزيز الهوية المشتركة، ألقى هؤلاء الضوء على ’’الجنس السوري‘‘ ومفاخره وإمكانياته الهائلة على شتى المستويات، والمقارنة بين الماضي ’’العربي‘‘ وأمجاده من جهة والحال المزرية لشعوب الأمة في العصر الحالي وطرح أسئلة من قبيل : من نحن؟ إلى أين نحن ماضون؟ 

التأريخ السوري
ترافق التحول من المفهوم التقليدي لبلاد الشام إلى المفهوم الجغرافي لسورية مع ولادة تأريخ سوريّ جديد. ارتكز التأريخ التقليدي في سورية على ثلاثة محاور رئيسية: مدن بلاد الشام الكبرى كدمشق وحلب مثلاً، المدن الأصغر كزحلة وطرابلس وحمص، سير المشايخ والأعيان في هذه المدن وتوصيف عادات أهلها وتقاليدهم، ولا يمكن اعتبار ذلك تأريخاً بالمعنى الحديث إذ أنه اقتصر على تسجيل الحوادث اليومية غير المترابطة. خلافاً لذلك ركز التأريخ الحديث على سورية كبلد واحد. ذكرنا قبلاً أن مجموعة المؤرخين في ديوان الأمير بشير الثاني كانت أول من وضع تأريخاً جديداً أو مغايراً على الأقل للنمط التقليدي، وبدأت باستخدام تسمية ’’سورية‘‘ للإشارة إلى بلاد الشام. تتناول الكاتبة خمسة كتب تعتبرها الأمارة الأبرز على ولادة التأريخ السوري الحديث. الكتاب الأول: خرابات سورية لخليل الخوري ( من مثقفي الجبل وانتقل إلى بيروت 1841) ، نشر في بيروت عام 1860 وهو أشبه بمذكرات رحالة إنما يمكن اعتباره معجماً جغرافياً- آثارياً لكل المهتمين بتاريخ سورية، رتب كاتبه المواقع التاريخية لسورية الكبرى وفقاً لأهمية مدنها، وقد حاول الخوري في عمله هذا تكوين ذاكرة مشتركة للسكان المحليين. الكتاب الثاني: الجواب على اقتراح الأحباب لميخائيل مشاقة، وقد كتبه عام 1873 لكنه نشر في العام 1955. يؤرخ الكتاب قرناً من الزمان بدءاً من فترة حكم أحمد الجزار، ويقدم مشاقة فيه مدخلاً إلى تاريخ ولاية سورية وجبل لبنان باعتبارها كياناً واحداً، ووصف الأمير بشير على سبيل المثال ’’بحاكم لجبل لبنان الذي يراه أبناء العشائر السورية أباً لهم‘‘. فضلاً عن ذلك، اعتبر مشاقة أن السوريين على اختلافهم يشكلون ’’كتلة سكانية واحدة‘‘ واستخدم  مصطلحات جديدة مثل ’’رجال سورية‘‘، ’’سكان سورية‘‘ أو ’’أهل المدن السورية‘‘. بناء على ذلك تعتبره زاخس أول مؤرخ في سورية الحديثة. الكتاب الثالث : العقد الدريّة في المملكة السورية لإلياس مطر ( جبلي هاجرت عائلته إلى بيروت بعد حرب الستين). خلافاً لمشاقة والخوري حاول مطر أن يقدم تعريفاً أكثر دقة لسورية الجغرافية ووضع تصنيفاً لسكان الإقليم حسب طبيعتهم وخصالهم، ولطبيعة سورية المناخية والمناحي الإقتصادية لها كما بحث في مصدر تسمية ’’سورية‘‘ عبر التاريخ. الكتاب الرابع: تاريخ سورية لجورجي يانّي ( خريج المدرسة الوطنية التي أسسها البستاني) ونُشر عام 1881. تناول الكتاب الضخم تاريخ سورية منذ ما قبل الإسلام ( تاريخ الفينقيين على وجه التحديد)، واعتبر يانّي سورية وحدة تاريخية متماسكة بالنظر شكلت نقطة التقاء وتفاعل بين حضارات عدة عبر التاريخ. الكتاب الخامس: تاريخ سورية للمطران الماروني يوسف الدبس ( 1833-1907) أحد خريجي مدرسة عين ورقة التي تقدم ذكرها. ويعتبر عمله المكون من ثمانية أجزاء أكثر الكتب شمولاً حول سورية في القرن التاسع عشر. تتمظهر في هذه الأجزاء معالم التأريخ الحديث وهو أكثر تطوراً وتميزاً في هذا المنحى عن الكتب الأربعة السابقة ويشمل تاريخ سورية بدءاً من الخلق الأول وصولاً إلى القرن التاسع عشر. تأخذ الكاتبة على هؤلاء المؤرخين تقليلهم من شأن الحقبة الإسلامية وإغفالهم الخلافة الأموية التي كانت دمشق عاصمتها، متجاهلين بالنتيجة جزءاً هاماً من تاريخ المنطقة.  
الرواية التاريخية: دور التراث والأسطورة والمرأة في الوطن
تطورت الرواية التاريخية كجنس أدبي في الغرب خلال القرن الثامن عشر في أوساط الطبقة الوسطى ولعبت دوراً كبيراً في تحديد المواقف إزاء الطبقة، الجندر والأمة، علاوة على دورها في تأسيس الأمة ’’كمجتمع مُتخيَّل‘‘. تأثر المثقفون المحليون العرب بهذا التطور وتمكنوا من قولبة الرواية التاريخية بما يتناسب مع هويتهم الجديدة. كان سليم البستاني أول من أولى اهتماماً كبيراً للرواية التاريخية واتّكأ عليها لتحفيز مخيلة قرائه وتعليمهم وتوعيتهم بمجتمعهم ووطنهم، معتقداً أن من شأن هذا النوع من الكتابة تعزيز فكرة المواطنة لدى الأجيال الشابة بصورة أكثر فاعلية. كانت صحيفته الجِنان المنبر الذي شرع من خلاله في نشر الروايات التاريخية وهي أول صحيفة عربية تكرس جزءاً من صفحاتها لذلك. نتناول مثالين من تلك الروايات حسب أغراض كل منها. 
- بناء الذات الجديدة: زنوبيا ملكة الصحراء
أول رواية نشرها البستاني عن ملكة تدمر العربية المحاربة زنوبيا، وقد اختيرت حكايتها لاشتمالها على كل الجوانب التي يتطلبها تعريف الذات الجديدة. بينما يعتبر الفينيقيون رمزاً لسيطرة السوريين على البحر، فزنوبيا هي رمز سيطرتهم على الأرض والطرق التجارية البرية. تنتمي كلتا الحضارتين إلى الفترة ما قبل الإسلامية وتمثلان الماضي العربي/ المجيد للسوريين، وترجح الكاتبة أن حكاية زنوبيا مستمدة من كتب الرحالة الغربيين والإرساليات الأمريكية. كتب سليم البستاني روايته عن زنوبيا وشدد على بعض الجوانب فيها، فزنوبيا في الرواية عربية سورية، وجيشها عربي سوري وتدمر نفسها جزء من التراث العربي السوري. كحال روايات البستاني الأخرى، تنطوي هذه الروايات على رسائل هادفة واضحة: الملكة القوية التي لا شك في وطنيتها، الساعية إلى الاستقلال، والمستعدة للتضحية بحياتها في سبيل الوطن والتضحية بسعادة ابنتها جوليا ( وهذا هو الجزء الأسطوري الذي أدخله البستاني على الرواية) التي أحبت أحد أفراد العائلة الحاكمة في روما، ومنعتها من الزواج منه لأن ’’ حبّ الوطن أهم من حب الجسد‘‘. شعب تدمر عنصر أساسي في الرواية أيضاً، فحبه لبلده السوري وملكته السورية راسخ لا يتزعزع. والرسالة الأخيرة تتلخص في أن تقدم المملكة ونجاحها يعتمدان دوماً على تعليم الأجيال الجديدة، وأن الخلاف بين أبناء البلد سبب في إضعافها.  تمثل زنوبيا في هذا السياق ’’أسطورة العصر البطولي‘‘ أو الحقبة الذهبية في التراث السوري. الجدير بالذكر أن البستاني كتب هذه الرواية في عهد محمد رشيد باشا وضمن هامش الحرية الكبير الذي أتاحه، فتمكن البستاني دون عوائق من تسليط الضوء على العهد ما قبل الإسلامي كأساس للذات الجديدة وتوصيف الوطنية السورية، بينما كتب روايتين أخريين في الفترة التي قلّت فيها الحرية وتركز نشاط المثقفين المسيحيين فيها على قراءة جديدة لتراث ’’الآخر‘‘ المسلم. 
- بناء ذات جديدة مع ’’الآخر‘‘: الأندلس وفتح بلاد الشام
نشر البستاني روايتيه التاليتين في الجنان: بُدور ( 1872) و الهيام في فتوح الشام (1874). في قراءته الجديدة لتراث ’’الآخر‘‘ عمل البستاني على قولبة عناصر هذا التراث لتتناغم مع الهوية الجديدة، إذ أن الثقافة الإسلامية هي تراث المسيحيين العرب، والإسلام هو فضاء ثقافي يتشاركه الطرفان وليس ديناً لسورية والسوريين. تقع أحداث رواية بدور في الأندلس خلال ما يمكن تسميته الفترة الذهبية للحكم العربي (الأموي) حيث سادها مناخ من التعاون والتناغم بين المسلمين، المسيحيين، واليهود الذين حققوا معاً ازدهاراً وتقدماً على جميع الأصعدة. بطل القصة هو الأمير الأموي عبد الرحمن الداخل ’’صقر قريش‘‘، الذي نجا من مذابح العباسيين وخاض رحلة طويلة ليؤسس في النهاية حكماً أموياً في الأندلس. ركز البستاني على الحكم الأموي لأنه قام أولاً على يد القبائل العربية وبمعونتها وتميّز بطابع عربي خالص خلافاً للحكم العباسي، وثانياً لأن عاصمة حكمه كانت دمشق ودعائم ملكه هم ’’العرب السوريون‘‘. في الجانب الأسطوري ( الرومانسي إن صح القول) الذي يدخله البستاني دائماً في قصته، تبدأ قصة الحب بين صقر قريش وبدور الأميرة الأموية العربية الذين يفترقا إثر البطش العباسي ثم يلتقيان في الأندلس بعد رحلات مليئة بالتفاصيل المثيرة. أما رواية الهيام في فتوح الشام فيستهلها البستاني بأشعار للمتنبي الذي يجسد شعره الكرامة والعنفوان العربيين ويتناول فيها الفتح الإسلامي لبلاد الشام ونهاية الحكم البيزنطي. تشكل القصة مزيجاً جمع فيه البستاني عدداً من حكايا الأبطال المسلمين والبطلات المسلمات كخولة بنت الأزور ومآثرها وشعرها على سبيل المثال. بالمحصلة، تشدد الرواية على إنشاء كيان عربي في سورية، وجمع المسلمين والمسيحيين تحت مظلة ’’العروبة‘‘. بقي أن ننوه في الختام إلى دور المرأة في بناء الوطن كما سعى سليم إلى تقديمه لقراءه عبر الروايات الثلاث. لم يتأثر سليم بوالده بطرس وحسب بل بأمه راحيل أيضاً التي درست في إحدى مدارس الإرساليات البروتستانتية وأتقنت العربية والإنكليزية، وشكلت مثالاً يحتذى لابنها سليم الذي قال: ’’ إن التي تهز السرير بيسارها تهز الأرض بيمنيها‘‘. أبرز البستاني في رواياته المرأة السورية صاحبة النزعة الوطنية وموقعها في المجتمع. فقدم زنوبيا باعتبارها أمّاً للأمة السورية، وقدّم المرأة السورية أيضاً في صورة المقاتلة التي تحارب حبّاً بالعروبة وملكها المنتظر عبد الرحمن الداخل ( شخصية بدور). لم يتوقف الأمر عند هذه الروايات بل تحدث البستاني عن الدور البطولي للمرأة العربية السورية بصورة أوسع في مقال نشره في المقتطف على مرحلتين في عامي 1882-1883. دعّم البستاني رواياته بالرسومات التي تظهر المرأة بزيها العربي التقليدي وهي تمارس أعمالها سواء في البيت أو على صهوة الفرس لإيمانه بقوة الرسائل التي توصلها هذه الرسومات. 
تكرس الكاتبة الفصلين الأخيرين من الكتاب لسبر تسمية سورية عبر التاريخ والأصول المختلفة للتسمية، ثم تقدم فهرساً تفصيلياً لعائلات الطبقة الوسطى السورية ’’الجبلية والبيروتية‘‘ وأفرادها البارزين الذي أسهموا في صناعة الهوية السورية الجديدة.