تموضع تنظيم داعش في سورية خلال عام 2023
مقدمة
تصاعدت عمليات تنظيم داعش في سورية بشكل مُلاحَظ خلال عام 2023 مقارنة مع عام 2022. بدأت عملياته تأخذ وتيرة مرتفعة منذ حزيران/ يونيو 2023؛ حيث يبرز الاختلاف الواضح في مساحة التحرّك وعدد عمليّات الاستهداف عن الفترات السابقة.
نفّذ التنظيم في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 هجوماً على مواقع مختلفة للفرقة 17 من قوات النظام السوري إلى جانب حواجز لقوات الدفاع الوطني المنتشرة على الطريق الواصل بين الكوم والطيبة وبير رحوم جنوبي بادية الرصافة في الرقة وشمال مدينة السخنة في بادية تدمر بريف حمص الشرقي. أدى الهجوم إلى مقتل 34 عنصراً، منهم 6 عسكريين والبقية من قوات الدفاع الوطني إلى جانب إصابة نحو 17 آخرين.
لا يبدو أنّ الهجوم كان مجرد طفرة عمليّاتية إنما نتيجة مسببات سابقة، كعمله للسيطرة على شبكة الطرق الفرعية والرئيسية في البادية السورية، واستغلاله انسحاب معظم مجموعات فاغنر من المنطقة، وسعيه لاستنزاف النظام اقتصاديّاً من خلال السيطرة المتكررة على عدد من حقول النفط والغاز في المساحة الممتدة بين الرقة وحمص وغربي دير الزور.
سبق الهجومَ عملياتٌ أخرى كبيرة للتنظيم أبرزها استهدافه في آب/ أغسطس حافلة مبيت للنظام السوري قُتل فيها ما يقارب 23 عنصراً، في بادية الميادين بريف دير الزور الشرقي، مما يُشير لتنامي خلايا الاستطلاع والعمل الأمني والإمداد اللوجستي في المنطقة، وتركز عملياته في المناطق الجغرافية التي تسمح له بالمناورة والتخفِّي.
أولاً: مساحات التحرُّك والانتشار
تُعَدّ مساحات تحرُّك التنظيم في سورية امتداداً طبيعيّاً لمواقع تمركزه الرئيسية، وهي عبارة عن سلاسل جبلية داخل البادية السورية تُكوّن كُتَلاً (عُقَداً) في مساحات جغرافية وَعِرة، تمنحه مخابئ طبيعيّة، ومواقع قريبة من شبكات الطرق الرئيسية والفرعية في امتداد البادية السورية، إلى جانب سلسلة تلال منتشرة في بادية الصور شمالي دير الزور، والتي تمنحه القدرة للانطلاق منها جنوباً نحو نواحي دير الزور -شرقي النهر- أو شمالاً نحو الحسكة.
تتركز هذه العُقَد في المناطق الآتية:
• سلسلة تلال الباغوز المتصلة ببادية كبيسة وتلال وادي حوران في محافظة الأنبار غربي العراق.
• بادية الصور شمال دير الزور ومنها تنطلق معظم خلايا التنظيم نحو أنحاء المحافظة -في مناطق سيطرة قسد-.
• سلسلة جبال البشري جنوبي الرقة والمتصلة ببادية الرصافة.
• مثلث تلال الوديان، بيوض، حمارين، غربي الرقة القريبة من منطقة مطار الطبقة العسكري.
• سلسلة من المقرات/ المضافات التي تُعَدّ قاعدة متقدمة للتوجُّه نحو طرق أثريا المرتبطة بناحية سلميّة -شمال شرق حماة- وأثريا -جنوب شرق حلب- والطبقة غربي الرقة.
• المثلث المتشكِّل من السخنة - تدمر- القريتين، حيث تنتشر في هذه المنطقة سلسلة جبال تدمر، وهي أطول سلسلة جبال في سورية (240 كم) بعرض (7-15 كم) حيث يتخذ التنظيم في هذه السلسلة العديد من المخابئ والمقرات.
في النصف الأوّل من عام 2023 كان الحراك الأبرز للتنظيم متركّزاً في دير الزور والحسكة والرقة، بواقع 53 عملية، استهدفت أفراداً من قسد -بشكل أساسي- وحواجز ثابتة بشكل ثانوي. مقارنة بـ 34 عملية ضد قوات النظام السوري و3 عمليات ضد الميليشيات الإيرانية، وتركزت هذه العمليات بشكل رئيسي في درعا ثم القنيطرة فدير الزور والرقة ودمشق ضد أهداف فردية أو آليات متحركة تحمل عناصر من قوات النظام في طرق رئيسية بمجملها. علماً أن العمليات ضدّ قوات النظام حتى نيسان/ إبريل كانت في أدنى مستوياتها، لكنها اعتباراً من أيار/ مايو تصاعدت بشكل ملحوظ في المناطق المشار إليها.
اتّسمت العمليات ضدّ قسد بالمرونة العسكرية والتكتيكية، والاستمرارية -بشكل شِبه يومي- إلا أنّ المستهدفين منها بشكل أساسي كانوا عناصر اعتياديين، مما يجعل استهدافهم داخلاً في إطار الاستنزاف البشري. في حين أن استهداف قوات النظام تركّز على ضرب بعض الحواجز والمتعاونين الأمنيين في الدرجة الثانية، وكان الاستهداف الأساسي لقوات النظام -ضباط وصف ضباط وعناصر قتال مدربة- في مناطق درعا أساساً والطرق الرئيسية -بوادي دير الزور وحمص والرقة-.
في النصف الثاني من عام 2023 نفذ التنظيم خلال الفترة بين حزيران/ يونيو وتشرين الثاني/ نوفمبر 593 عملية، منها 298 استهدفت قوات النظام -وحلفاءَه من الميليشيات الإيرانية- في حين استهدف قسد بواقع 295 عملية، أما بقية العمليات فتفرقت في مناطق المعارضة في محيط رأس العين والباب وجرابلس.
تركزت عمليات التنظيم في النصف الثاني من عام 2023 في محافظة درعا، ثم بوادي دير الزور والرقة وحمص وصولاً لمثلث طريق أثريا وانتهاءً بحوالَيْ 17 عملية في دمشق ومحيطها.
أما عمليات التنظيم في مناطق قسد فلم يطرأ على انتشارها تغيير كبير، إنما استقرّت في مناطق ذيبان وحوايج والبصيرة وجنوب الحسكة بشكل أساسي. في غضون ذلك، يُلاحَظ أن عمليات التنظيم ضد قوات النظام في السخنة والبوكمال والرصافة كانت أكثر عدداً وتأثيراً -من حيث عدد القتلى والسيطرة الفعلية- من عملياته ضدّ قسد في مناطق شرقي دير الزور بالمجمل.
بالمحصّلة إنّ تصاعُد عمليات التنظيم الميدانية تُشير بوضوح إلى اتساع مساحة تحرُّكه، مما يؤكد زيادة أعداد خلاياه وأفراده المدربين المنخرطين في العمليات، سواء كعناصر تنفيذ أو عناصر إسناد أو أجهزة استخبارات وجمع معلومات وإمداد لوجستي، مما يعني أنّ التنظيم دخل المرحلة الثانية بعد انتهائه من المرحلة الأولى التي كانت تركّز على إعداد معسكرات تدريبية وتشكيل خلايا نوعية للعمل على مواجهة النظام أو تثبيت نقاط متقدمة في مناطق أقرب للمدن الحضرية من القواعد الجبلية التي ينتشر فيها عناصر التنظيم.
ثانياً: الأهداف والآليات
ركزت عمليات تنظيم داعش في سورية ضِمن مناطق قسد خلال عام 2023 على 3 أنواع من الأهداف الأساسية وهي: الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش في مداخل المدن ومحيطها وعلى الطرق الواصلة بين محافظة دير الزور والحسكة، والسيارات أو الدرّاجات النارية التابعة لقسد التي تقلّ عناصر عسكريين من مجنديها، إضافة للمباني العسكرية التابعة لقسد في مناطق دير الزور في معظم الهجمات المنفذة من هذا النوع. يلاحَظ في هذا الصدد تنفيذ عمليتين بآليات مفخَّخة في منبج والحسكة، استهدفت عناصر من قسد، إلى جانب عمليات اغتيال مركَّزة بعبوات ناسفة لبعض القيادات الثانوية من قسد.
أما آليات الاستهداف فقد تركزت على استخدام العبوات الناسفة في الدرجة الأولى، ثم استخدام الأسلحة الرشّاشة في الدرجة الثانية، إلى جانب استخدام محدود في حوالَي 7 عمليات لقذائف صاروخية وفي عملية واحدة لقذائف هاون ضد قاعدة مشتركة بين التحالف وقسد، وصولاً للتصفية المباشرة بعد المداهمة أو الاختطاف لبعض المتعاونين الأمنيين مع قسد وعناصر منها، واستمرت على هذا المنوال في المرحلة الأولى والثانية دون طُروء تغيير مُلاحَظ في آليات الاستهداف.
أما عمليات التنظيم ضدّ قوات النظام فقد اتَّسمت بالاتِّساق والتعقيد في آنٍ معاً، حيث كثّف من استخدام العبوات الناسفة ثم استهداف الآليات العسكرية التابعة للنظام بالرشاشات، إلا أنه منذ حزيران/ يونيو كثّف -بالتوازي مع استمرار استخدام العبوات الناسفة- من الهجمات واسعة المحاور على قطعات عسكرية ثابتة، مثل الحقول النفطية الممتدة بين غربي دير الزور وحمص -حقل الضبيات، وحقل توينان، وحقل صفيان، وحقل الزملة، وحقل جزّل وحقل حجار للغاز-.
إلى جانب ذلك، استطاع التنظيم خرق خطوط النظام في عدة مدن محيطة بريف دمشق مثل السيدة زينب، ففي 25 و27 من تموز/ يوليو 2023 نفذ التنظيم في المدينة 3 هجمات بدراجات نارية مفخخة، أوقعت نحو 20 ضحية مدنية و6 عناصر من قوات النظام إلى جانب 25 مصاباً من المدنيين. كذلك نفذ التنظيم عمليات أمنية ضدّ عناصر وقيادات سابقة من المعارضة في المنطقة انضمت إلى قوات الدفاع الوطني في كل من: حوش عرب والكسوة. فضلاً عن استهدافه عناصرَ وضباطاً من قوات النظام في محيط دمشق، مما أدى لمقتل بعضهم وإصابة آخرين منهم كما استهدفت عمليات التنظيم بعض عناصر حزب الله قرب الحدود اللبنانية.
أيضاً استطاع التنظيم اعتقال عدد من ضباط النظام وعناصره أو أَسْرهم أو اختطافهم إثر نَصْب حواجز وهمية في البادية السورية؛ حيث تم رصد عدة عمليات من هذا النمط. شكّلت هذه العمليات تصوُّراً واضحاً لدى عناصر داعش عن حالة القطع العسكرية المنتشرة لدى النظام على محاور محطة T2 والشولا وكباجب ومحور بير رحوم، والطيبة والسخنة شرقي حمص، مما مهَّد للتنظيم الطريق لتنفيذ عمليات منسّقة بشكل متتال أواخر تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر ضد هذه القطع العسكرية، وأدى للسيطرة على حقل الضبيات النفطي لمدة أسبوعين، وتمشيط التنظيم المنطقة المنتشرة جنوب الرقة إلى شرقي حمص، ومقتل أكثر من 30 عنصراً من قوات النظام والدفاع الوطني.
عموماً تؤكد عمليات داعش في مساحات نفوذ النظام على عدد من النقاط أبرزها:
• تركيز التنظيم على العمليات النوعية، سواء عَبْر العبوات الناسفة أو الاغتيال أو الهجوم المباشر، من خلال استهداف حافلات النقل العسكرية أو سيارات الضباط أو سيارات الميليشيات الإيرانية.
• العمل على السيطرة على عقد الطرق الرئيسية والفرعية في البادية؛ حيث تظهر حركة مواقع العمليات انتشارها بشكل رئيسي على العقد الرئيسية والفرعية في البادية السورية، مما يشير إلى أن تركيز هجمات التنظيم في هذه المناطق يهدف لبسط النفوذ الناري والقدرة على الاستنزاف على أكبر مساحة ممكنة في البادية السورية، وجعل قواعد التنظيم أكثر قرباً من المدن ذات الكثافة السكانية العالية.
• استغلال الظروف المواتية للتحرُّك الأمني والعسكري؛ حيث تصاعد النشاط الأمني والعسكري لداعش في البادية أثناء انسحاب مجموعات \"فاغنر\" من حقول النفط والغاز وسط سورية، تلا ذلك التحرك المُلاحَظ للميليشيات الإيرانية نحو درعا والقنيطرة في الجنوب السوري خلال تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر إلى جانب اتِّصاف هذه المساحات بالهشاشة الأمنية ومساحة الحرية الواضحة في التحرك المَرِن فيها عَبْر وسائل متعددة -جرارات، درّاجات نارية، سيارات زراعية، رُعاة أغنام وغيرها -.
ما سبق يُشير إلى أنّ التنظيم لم يستطع تطوير شبكة تحرُّكه أو نوعية استهدافه في مناطق قسد خلال عام 2023، وهذا ما يُفسّر استمراره باستهداف عناصر قسد بطرق اعتيادية دون خرق أمني واضح في معظم النقاط التقليدية التي ينتشر فيها عناصره شرق الفرات. بالمقابل يبدو أنّ التنظيم استطاع تطوير تكتيكات مرنة وأكثر تأثيراً لعملياته في مناطق النظام؛ بالاعتماد على الاختراق الأمني وتفكيك شبكات خلايا القوات التي انضمت لقوات الدفاع الوطني في درعا بهدف محاربة داعش بدرجة أولى، إلى جانب تنسيق عمليات متقاطعة مع خلايا قواطع متعددة في البادية بهدف السيطرة العسكرية والاستنزاف البشري لعناصر النظام، والاستنزاف الاقتصادي من خلال السيطرة المؤقتة والمتكررة على عدد من حقول النفط والغاز، واستمرار ضرب خطوط إمداد النظام بالنفط عَبْر مهاجمة صهاريج النقل الخاصة والعامة في البادية.
خُلاصة
اعتمدت إستراتيجية داعش عام 2023 في سورية -فضلاً عن العراق- على إدامة الاستمرارية -وإنْ تراجعت العمليات العسكرية إلى الصفر مدة من الزمن- بهدف الحفاظ على الوجود من ناحية والحفاظ على مكتسبات الشرعية الجهادية العالمية التي نالها منذ إعلانه الخلافة ومبايعة فروع متنوعة من التنظيمات الجهادية له بها.
ورغم تعرُّض التنظيم في مناطق نفوذ قسد لاعتقالات متتالية من قِبل التحالف لعدد من ميسريه الماليين والخلايا المسؤولة عن الموارد البشرية واللوجستية، إلا أن هذه التحوُّلات لم تُؤثِّر بشكل جوهري في معطيات الميدان، بل كانت سبباً في إعادة تقييم الواقع العسكري والميداني من قِبل القيادة في العراق وسورية ورسم هيكلة جديدة تسمح بتصعيد العمليات والتجنيد باستمرار دون الوصول إلى قيادة التنظيم في المنطقة، وهو ما تُرجم فعليّاً بتصاعُد العمليات في مناطق قسد خلال عام 2023 رغم استمرارها على ذات التكتيكات الاستنزافية السابقة، وعدم نقلها إلى مرحلة جديدة.
ويبدو أنّ هدف التنظيم -بحسب أيديولوجيته المُعلَنة بعيدة الأمد- تحقيق انبعاثٍ جديد يعيد السيطرة المكانية كما كان الحال عام 2014، ومن هنا بدأ التنظيم بالتوسُّع في مرحلة مبدئية وتوسيع قاعدته في عمق البادية السورية ضدّ قوات النظام باعتبارها أقرب خصومه إليه في تلك المنطقة.
إنّ توجُّه التنظيم للتوسُّع في هذه المنطقة يعود إلى سعيه المستمر لبناء خلايا وقواعد متقدِّمة قريبة من المناطق الحضرية في كُلٍّ من سورية والعراق، وهو ما يظهر بوضوح باستمرار تحرُّك عناصره في درعا بشكل رئيسي وعُمق البادية بين دير الزور وحمص والرقة كخُطوة مبدئية للتحكُّم الميداني وسط سورية.
مع ذلك إنّ القُدُرات الحالية للتنظيم -البشرية والعسكرية- لا تعطيه أفضلية المناورة المستمرة، رغم تحقيقه نجاحاتٍ متعددةً في السيطرة على عدد من مواقع قوات النظام وتطوير تكتيكاته في استهداف ضُباطه وعناصره، إلا أن هذا ليس تحرُّكاً نهائيّاً يؤهله للعودة إلى مساحة 2014 ، بقدر ما يمكن وصفها كخُطوة أولية في إعادة ترتيب صفوفه وأوراقه، ثم التركيز على استمرار وجوده في البادية السورية باعتبارها مَلاذاً آمِناً يمنحه أفضلية المناورة الميدانية، ونقطة انطلاق وتحكُّم في استنزاف النظام على طرق الإمداد الرئيسية والفرعية.
وعليه قد يتطور الواقع الميداني عام 2024 من خلال سيطرة التنظيم على عُقَد مرورية ومدنية مهمة في البادية السورية، كالسيطرة على مدينة السخنة -ولو مؤقتاً- أو مدينة مهين في الريف الشمالي لدمشق -قرب بادية حمص- في ظل سَعْي التنظيم للتحكُّم بعقدة الطرق الرابطة مع العراق وسط سورية، إلا أن تحقيق ذلك ليس مرهوناً بالضرورة بالاستمرار، فقد يتراجع داعش عن الخُطوة لقاءَ مكاسب مادية أو عسكرية -مثل تأمين دعم معلوماتي ولوجستي ضدّ قسد- تزيد من تفوُّقه في منطقة شرق الفرات.
لقراءة التقرير كاملاً بصيغة PDF يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية: ( اضغط هنا )