فايروس يشل الكوكب تداعيات المواجهة الدولية مع كوفيد 19
مارس 20, 2020 2900

فايروس يشل الكوكب تداعيات المواجهة الدولية مع كوفيد 19

حجم الخط

فايروس يشل الكوكب: تداعيات المواجهة الدولية مع كوفيد 19 

د. علي باكير 

قرّر أحد ما في مدينة ووهان الصينية أكل وجبة وطواط مقلي في حساء يشمل كل ما إستخرج من أحشائه فأصاب الكوكب بشلل تام.! هكذا تربط الرواية "الشعبية" بطريقة فكاهيّة بين مصدر الفايروس وكيفية إنتشاره في محاولة للتخفيف من تأثير المشهد المأساوي الذي يلّف العالم. وبالرغم مما تحمله من دلالات، إلا أنّ القضية أكثر تعقيداً بالتأكيد من هذه الصورة المبسّطة.
الوطواط هو أحد المتّهمين بنقل الفايروس الى الإنسان لكنّ هذه الفرضية لا تحظى بالإجماع، إذ يعتقد كثيرون أنّها غير صحيحة. وبغض النظر عن ذلك، لا يختلف إثنان على أنّ فايروس كورونا –كوفيد-١٩- الذي يجتاح العالم اليوم ويثير الذعر في كل مكان، خرج من مدينة ووهان، حيث تشير صابع الإتّهام الى سوق الحيوانات البريّة فيها والذي يصنّفه البعض على أنّه الأكثر بشاعة في العالم نظراً لطبيعة ما يحتويه من أنواع من الحيوانات والحشرات المخصّصة للأكل في بيئة متفلّتة على ما يبدو من أي معايير صحّية.
المثير للسخرية أنّ الفايروس الذي إمتطى وسائط العولمة للإنتشار سريعاً في سائر أنحاء الكوكب في زمن قياسي، قام بتدمير جسورها بعد أن أيقنت العديد من الحكومات حول العالم أنّه بات يستوطن أراضيها قادما إليها من الخارج. وسرعان ما فرضت العديد من الدول حزمة من الإجراءات الحمائية كمنع الطيران وإغلاق المعابر والحدود أمام التنقّلات ومنع تصدير عدد من المنتجات التي تتعلّق بالوقاية من الفايروس كالأقنعة والمعقّمات والمطهّرات وملابس الحماية وغيرها من المواد.
بدا أنّ الفايروس لا يستهدف البشر فقط، بل المفاهيم أيضاً إذ أنّه إستطاع خلال أيام أن يدمّر مفهوم العولمة الى حدّ كبير، وكحال المفاهيم المتعلّقة بالمؤسسات الدولية والتضامن الجماعي والسوق الحرة. وفي بعض ثناياه، بدا الفايروس مناصراً لأساليب غالباً ما تتّبعها الأنظمة الديكتاتورية، إذ أنّه فرض على العديد من الحكومات حول العالم إعلان حالة الطوارئ الصحّية إن لم تكن العامة، وأجبر مئات الملايين من البشر على الإنعزال عن العالم وعن ذاتهم، فدخلوا في حجر صحّي إجباري.  

سياسياً ، إختبر الفايروس مناعة الحكومات حول العالم أمام الأزمات الطارئة أو غير المتوقّعة وقد وجد أنّها أضعف بكثير ممّا كان يعتقد البعض.  في كثير من الحالات، شكّل ويشكّل إنتشار الفايروس وطريقة التعامل معه تحدّياً رئيسياً للنظام الحاكم في بلد ما وتقويضاً محتملاً لشرعيّته. رأينا ذلك بشكل جلي في الصين وإيران وإيطاليا والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص. في الصين، إرتفعت أصوات منتقدة لطريقة تعامل الحزب الشيوعي مع الأزمة بدئاً من إخفائه المعلومات بداية إنتشار الفايروس وليس وصولاً الى الإجراءات المتّبعة بعد أن سُمح للفايروس بالانتشار عالمياً إنطلاقاً من ووهان. 
وفي نفس السياق، أخضع الفايروس الحديث عن العمل الجماعي والتضامن الدولي والمؤسسات الدولية بالإضافة الى التجمّعات السياسية والإقتصادية الى إمتحانه، فوجد أنّ كلّ دولة تعمل على قاعدة "اللهم نفسي" وقت الشدائد، وهو أمر سيكون له إنعكاساته على الإيمان بهذه المنظومات والكيانات القائمة مستقبلاً. الاتحاد الأوروبي سيكون في عين العاصفة بعد أن تقاعس عن تقديم العون لإيطاليا، مفسحاً بذلك المجال للصين للدخول على خط تفكيك الاتحاد من خلال المساعدات التي قدّمتها. 
الفايروس حمل معه مزيجاً من التناقضات التي سيكون على الجميع تعلّم الدروس منها، كما أنّه حطّم بعض الأساطير المتعلّقة بالصين وعدد من القوى الكبرى حول العالم. تعتبر الصين منذ العام ٢٠٠٩ أكبر مصدّرة للبضائع في العالم، وقد تحوّلت في غضون خمس سنوات فقط من ذلك التاريخ الى أكبر دولة تجارية في العالم. عندما إنتشر الفايروس في مدينة ووهان، اضطرت الصين أن تطلب من دول العالم بيعها الأقنعة وبعض الأدوات الوقائية بما في ذلك تلك التي كانت قد باعتها لهم! هذا يعني ان وضع الصين قد ينقلب رأساً على عقب في أي أزمة حقيقية مستقبلاً.
الدول الغربية الكبرى كالولايات المتّحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها من الدول الأقرب إليها بدت هشّة للغاية ومنكشفة في التعامل مع الأزمة. فوضى سياسية، وتآكل إقتصادي، ورعب إجتماعي. لا قطاع صحي، ولا تكافل إجتماعي، وصراع بين خيار الإقفال والعزل التام مقابل خسائر سياسية وإقتصادية هائلة، وبين تحدّي هذا الاتجاه -وإن لبضعة أيام- للتقليل من هذه الخسائر في مقابل تكلفة بشرية عالية جداً في الأرواح. 
وبين هذا وذلك، بدت الأنظمة الشمولية الاستبداديّة كالصين وروسيا أكثر إستعداداً لمواجهة أزمة من هذا النوع وأكثر قدرة على الحركة وأسرع في اتخاذ القرارات وتحريك الموارد اللازمة لمواجهتها.  أتاح الوباء كذلك للأنظمة الشمولية المستبدّة والمتطوّرة تكنولوجيا كالصين إختباراً عملياً لكيفية تسخير التكنولوجيا في مراقبة مئات الملايين من البشر والسيطرة عليهم. بالنسبة لها، لقد كان ذلك بمثابة تدريب أو مناورات واقعية عملياً للكيفية التي يمكن من خلالها قمع أي اعتراض أو معارضة جماعيّة في المستقبل. 

إقتصادياً ، علينا أن ننظر إلى تداعيات انتشار الفايروس عالمياً كهزّة أرضية بالغة الشدّة ضربت عمق المياه، وسينتج عنها من دون شك تسونامي عظيم. إحدى الموجات العاتية لهذا التسونامي ستكون على شكل أزمة إقتصادية كبرى من المتوقع أن يشهدها العالم عُقب الانتهاء من الجولة الأولى من الصراع مع الفايروس. 
على سبيل المثال، فإنّ الأضرار الاقتصادية الناجمة عن بضعة أشهر من تفشي فايروس كوفيد١٩ في مناطق محدودة من الصين أدّى إلى أضرار اقتصادية تفوق بحجمها الأضرار التي نجمت عن الأزمة الاقتصادية العالمية قبل عقد ونيف من الزمن. وفقاً لأحدث الأرقام، فإنّ الناتج الصناعي في الصين تقلّص خلال (يناير –فبراير فقط) حوالي 13.5%، وهي المرّة الأولى التي ينكمش فيها منذ حوالي 30 عاماً.  

 

 

معظم الحكومات تحاول الآن قدر المستطاع أن تضخ السيولة في السوق وأن تخفّض سعر الفائدة وأن تتّخذ تدابير إضطرارية لمحاولة السيطرة على الهلع الحاصل عند شرائح كبيرة من الناس و/أو للتعامل مع صدمة الضغط الحاصل على بعض القطاعات الانتاجية أو القطاعات الخدمية والصحّية. علاوةً على ذلك، فإنّ إجبار   الناس على الحجر الذاتي أو عزل المدن والدول بأكملها يحتاج إلى تكاليف مالية عالية جداً لأنّه يتطلّب من الحكومة تأمين كل شيء أساسي للناس دون أن يكون هناك عمل. 
ستتكبّد الدول مئات المليارات من الدولارات، آلاف الشركات الكبرى ستتعرّض للإفلاس وعلى رأسها شركات الطيران، ملايين البشر ستفقد مدّخراتها وستصبح من دون مدخول أو عمل، من ينجو من الدول من الوباء قد يقع صريع تصاعد الديون، ومن سينجو من الناس أيضاً سيكون عليه تحمّل تكلفة مواجهة الفايروس إقتصادياً في وقت لاحق.  

إجتماعياً ، ترك الفايروس ردود أفعال مختلفة عند كثير من الناس وإن اتّسمت بنفس الخصائص لدى العديد من الشعوب. ردّة الفعل الأساسية هي الخوف والهلع، وهو العامل الأوّل الذي دفع بشريحة واسعة منهم إلى الهرع باتجاه المحلّات التجارية لتخزين أنواع مختلفة من السلع والمنتجات كالأقنعة الواقية والمعقّمات والمطهّرات وأدوات التنظيف والكولونيا وبعض المأكولات المعلّبة أو القابلة للتخزين كالمعكرونة، وأوراق الحمّام....الخ. في الغرب، بدت الكثير من المجمّعات تحت ضغط الإقبال الشديد من الناس لتخزين هذه الأنواع من المنتجات وظهرت العديد من الرفوف فارغة.  

في المقابل، أظهرت شريحة أخرى من الناس حالة عدم مبالاة أو تهاونًا أو حتى رفضاً لإتّباع التعليمات الضروريّة للحد من انتشار الفايروس ومن تبعاته مُعرّضةً نفسها والآخرين لخطر الإصابة بالعدوى وزيادة الضغط بشكل كبير وسريع على أجهزة الدولة الخدمية لاسيما على القطاع الصحي، وارتفاع عدد المتوفّين من أصحاب الفئات الأكثر ضعفاً وتأثرّاً بالفايروس. ونتيجة لذلك، قامت دول بعزل مدن بأكملها تضم عشرات الملايين من البشر، فيما إضطرت أخرى إلى فرض حالة الطوارئ في البلاد فيما يشبه إعلان الأحكام العرفية.
أعداد كبيرة من الناس إختبرت مثل هذا الأمر لأوّل مرّة، وقد تحتاج إلى أن تتأقلم معه مستقبلاً إذا ما استمر الوضع الحالي لفترة طويلة أو أصيب العالم بفايروس جديد. العمل عن بعد أو من المنزل قد يزداد مستقبلا وكذلك التعليم عبر الإنترنت، وهذا يترك تساؤلات عن مصير الدول التي لا تتمتّع ببنية تحتية مناسبة لمثل هذا الأمر، وكيف من الممكن لها ولسكّانها أن يتخطّوا مثل هذه المصاعب. 

لم يغب الطابع الأمني عن تداعيات الفايروس بطبيعة الحال، فأصل هذه التداعيات هي الشق الأمني، سواء شمل ذلك الأمن الصحّي أو الأمن الغذائي أو حتى الأمن البشري، كلّها تعرّضت لضغط هائل وفجائي، الأمر الذي ترك آثاره أيضاً على الأمن السياسي والاقتصادي في البلدان التي تفشى بها. 
وبموازاة ذلك، وبالرغم من الطابع العالمي للخطر الذي يتهدّد الإنسانيّة، لم تتوقّف العديد من الأنظمة عن استكمال حروبها الخاصة، وعلى رأس هؤلاء الصين وروسيا وإيران ونظام الأسد. ما أن فرغت الصين من إحتواء الفايروس حتى قامت بحملة إعلامية ودبلوماسية شرسة لإعادة إنتاج رواية جديدة حول الفايروس ولتحسين صورتها حول العالم، وذلك بالتوازي مع نشر نظرية المؤامرة من خلال إتّهام الجيش الأمريكي والولايات المتّحدة الأمريكية بالوقوف وراء الفايروس (قبيل إنتشاره في الولايات المتّحدة الأمريكية).
أمّا روسيا فقد كانت سبّاقة في إطلاق حملة تضليل معلوماتية ونشر المعلومات الزائفة ونظريات المؤامرة حول هذا الموضوع مشيرة إلى أنّ الوباء قد يكون نتاج الحرب البيولوجية الأمريكية. موسكو ركّزت أيضا على نشر الخوف والذعر في أوروبا وعلى محاولة تسليط الضوء على حالة الفوضى القائمة هناك من أجل زيادة حالة التشكيك في جدوى الاتحاد الأوروبي والدفع قدماً في مصالحها التي تقتضي تفكّكه وتقوية الإتجاهات اليمينية المتطرّفة داخله. 
وفيما يتعلق بإيران، فبالرغم من تسبّب نظامها بأكبر كارثة بشرية للإيرانيين منذ إنشاء الجمهورية الإيرانية قبل حوالي ٤٠ عاماً، فإن إنتشار الوباء في البلاد، وانهيار أسعار النفط، وتدهور الوضع الاقتصادي لم يُثنه عن مواصلة تجنيد المزيد من الميليشيات الطائفية في سوريا ودفع بعضها باتجاه إدلب، وتصعيد المواجهة غير المباشرة مع أمريكا في العراق، وزيادة الوضع سوءاً في لبنان واليمن. النظام الإيراني لم يكتف بذلك، بل راح يروّج بدوره للأكاذيب عن حرب بيولوجية أمريكية تستهدف النظام وما يسمى بالمقاومة، ومستغلاً الوضع السيء للإيرانيين للمطالبة بحملة دولية لرفع العقوبات عنه بحجّة أنّها تعرقل عمله في مواجهة الوباء. 

خلاصة القول: ليس من الواضح متى يمكن احتواء الوباء كلّياً، وما هو حجم الأضرار التي سيتركها عند انتهاء الجولة الأولى من المعركة معه، لكن الأكيد أنّ الخسائر ستكون كبيرة وأنّ الوضع العالمي سيسوء كثيراً على أكثر من صعيد لاسيما على الصعيد الإنساني قبل أن يبدأ بالتحسّن رويداً رويداً خلال المرحلة المقبلة.  

الباحثون