دور الشيعة في تطوّر العراق السياسي
أوَّلاً: تمهيد
تعود أهمّيّة الوقوف عند أثر الشيعة في نسيج السياسة العراقيّة منذ مطلع القرن العشرين إلى اللحظة التاريخيّة الحاليّة لأثرها البارز في تشكيل التاريخ السياسي العراقي على مدى مئة عام تقريبًا، بدايةً من إعلان المرجعية الشيعيّة العليا في العراق فتوى "الجهاد الكفائيّ" ضدّ الاحتلال الإنكليزي عام 1914 وانتهاءً بالسيطرة المطلقة على مفاصل الحكم في البلاد إثر الاستقلال الشيعّي العسكريّ بتكوين ما يشبه "جيش المرجعيّة الشيعيّة" باندماج عشرات الفصائل لتكوّن الحشد الشعبي المقدّس المبنيّ على فتوى مرجعيّة النجف العليا بـ الجهاد الكفائيّ ضد تنظيم الدولة عام 2014 ، مما يجعل للطائفة الشيعيّة في العراق دورًا بارزًا في تشكيل العراق الحديث على مدار قرنٍ من الزمان، حيث أفرزت التفاعلات بين المرجعيّة العليا في النجف والنسيج الشعبي المرتبط بها تيّارات سياسيّة امتدت آثارها منذ مطلع القرن الفائت إلى يومنا المعاصر.
ويلفت مؤلف كتاب " دور الشيعة في تطوّر العراق السياسي" الدكتور عبد الله النفيسي إلى أنَّ هذا الموضوع عولِجَ من قِبَلِ عدّة باحثين وكُتّاب كما فعل السيد جعفر باقر المحبوبة في مؤلّفه "ماضي النجف وحاضرها" والسيد عبد الرزاق الوهّاب في كتابه "كربلاء في التاريخ" والسيد عباس علي في كتابه "زعماء الثورة العراقية" الذي تناول فيه سيرة السيد محمد حسن الصدر مبعوث المجتهد الأكبر إلى قبائل الدليم أثناء اضطرابات سنة 1920، إلاّ أنَّ هذه المعالجات لم تتناول تلك المرحلة بسياق شامل وإنما بحثت نواحي مخصوصة لا تبيّن الدور الذي أدّاه الشيعة في التطوّر السياسي للعراق الحديث.
ومن ثمّ كان اختياره لهذا الموضوع بهدف تقديمه أطروحةً للدكتوراة في جامعة كامبردج وبهدف تسليط الضوء على هذه القضية بصورة شاملة تعرض لسياقاتها المختلفة.
ويُذكر أنَّ د. عبد الله النفيسي يُعدّ من أبرز الباحثين الذين تناولوا الدور السياسي للشيعة في العراق، وكان قد قام أثناء تحضيره لأطروحته بجولات بين العشائر الشيعية هناك، والتقى مع بعضٍ من أهم القيادات العشائرية والسياسية الشيعية في العراق. كما قام لاحقاً بزيارات متعددة إلى إيران، والتقى وحاور العديد من قياداتها الدينية والسياسية.
ثانيًا: عرض مختصرٌ للكتاب
قسّم د. عبد الله النفيسي أطروحته في الكتاب إلى ثلاثة مفاصل عامّة؛ هدَف المفصل الأوّل إلى توضيح العقائد العامة لدى الشيعة بناء على سبر الكتب الحديثيّة الأربعة الأهمّ لدى الشيعة الإماميّة وهي الكافي في الأصول والفروع وكتاب " الاستبصار فيما اختلف من الأخبار" وكتاب "مَنْ لا يحضُرُه الفقيه" إضافة إلى كتاب "تهذيب الأحكام" ، مختصرًا إياها بـ اعتقاد الإمامة ، ولطف الله ووصاية الإمام والمجتهد من بعده على التشريع والتقية وعصمة الأئمة وتعيين الأئمة بالنص وأفضليّة الإمام ووجوب إحاطته بالعلم الشرعي واعتقاد بدء الإمامة بعليّ واستمرارها في أولاده وحقّهم في الخلافة واعتقاد الخلاص والغفران بشفاعة الأئمة وحدهم إضافة إلى بعض العقائد النقلية المتعلقة بالنصوص المتحدّثة عن الشفاعة والصراط ويوم القيامة
يُكمل الكاتب في السياق ذاته عرضه لطبيعة العشائر الشيعيّة العراقيّة وأصولها وتوزّعها ومدى ارتباطها الروحي بالمرجعيّة العليا في النجف إضافة إلى توضيحه عادات العشائر العراقيّة في أحوال السلم والحرب والتخاصم البينيّ وكيفية الترقّي داخلها في سلّم الاعتبار المعنويّ إضافة على تفصيله القضايا التي تقلل من حضور العشيرة اجتماعيًّا ودينيًّا وتشوّه سمعتها اعتباريًّا ، كما توقّف هذا القسم مطوَّلاً عند أهميّة مدينة النجف باعتبارها المركز الثقافيّ والسياسيّ الشيعيّ في العراق وأهمّيتها باعتبارها المدينة المستقلّة عن سلطة السلاطين والزعماء وأنّها مقرّ المجتهد الأكبر فاستعرض في هذا القسم نظام التعليم والترقّي في الحوزات العلميّة وطرق الوصول إلى الرتب الاجتهاديّة العالية ، إضافة إلى الارتباطات الروحيّة والاجتماعيّة والعلميّة التي تربط العشائر الشيعيّة والمرجعيّة الدينيّة العليا في النجف ببعضهما وارتباطهما بـ الأشراف أو السادة من آل البيت وأثر هذه الشبكة من العلاقات وامتلاك النجف لأكبر تجمع لمراقد أهل البيت والأئمة من نسل عليٍّ والعلماء المعتبرين في تاريخ الطائفة ومدارسهم على علوّ المقام الاعتباري والفعلي للنجف ومجتهديها لدى عامة الشيعة في العراق والعالم ثم عرض للنشاط السياسيّ ضد الاحتلال الإنكليزي عام 1917- 1918 الذي قامت جمعية النهضة الإسلاميّة الشيعيّة في النجف وما تلا ذلك من اضطرابات وحصار للمدينة وأثر إهمال الإنكليز لفكرة التواصل مع المرجع الأعلى حينها "محمد كاظم اليزدي" في تفاقم الأمور وبدء الطائفة في العمل لمقاومة الاحتلال والثورة عليه ، أمّا المفصل الثاني في الكتاب فكان عرضًا لأحداث الاقتتال بين العثمانيين والإنكليز 1914- 1918 ودور بعض السياسيّين والمثقّفين الشيعة والمرجعيّة العليا للنجف فيها ، ليختم في المفصل الثالث عرضه لاضطرابات عام 1920 التي تمثّل برأيه ذروة النشاط السياسيّ والثوريّ الشيعيّ العراقي آنذاك وما تلا ذلك من أحداث انتهت بالاتفاق على تتويج فيصل ملكًا على "المملكة الهاشميّة في العراق" ؛ ليختم د. النفيسي في نهاية هذا المفصل تحليلًا مطوَّلاً لسياسة البريطانيّين تجاه الشيعة والكيفيّات التي كان يتم التعامل معهم من خلالها والخلفيّات الفكريّة التي كانوا قد بنوا تصوّراتهم عليها، إضافة إلى بيان سياقات ردود أفعال المرجعيّة العليا والفعاليّات الدينيّة والشعبيّة تجاه سياسات البريطانيّين متبعًا ذلك بملاحق متعددةٍ تعدُّ مرجعًا مهمًّا استند إليها في تحليلاته وآرائه
ثالثًا: الشيعة أكثريَّةً في العراق مطلع القرن العشرين
ينطلق النفيسي من فرضيّة بالغة الأهميّة في مصدر قوّة الممارسة الشيعيّة للسياسة، وهي قائمة على شقّين:
أولهما: أنّ الشيعة كانوا أغلبيّة في العراق عدديًّا بالرغم من تعمّد إبعادهم عن مفاصل الحكم الرسميّة في الإدارات العثمانيّة للألوية التي تشكّل العراق الحديث .
أما الثانية فهي كون أغلب القبائل العربية "السنّيّة" التي قطنت في بادية العراق الجنوبية إثر توطّنها هناك كان قد تحوّلت إلى المذهب الشيعيّ على فترات متباعدة .
وبالرغم من عدم معرفة تواريخ محدّدة توضح أزمنة هذا الانقلاب المذهبي، إلا أنّه أشار إلى أهمّ القبائل التي كانت سُنّيّة ثم انقلبت شيعيّة في تلك المنطقة، كقبيلة "الخزاعل" و"تميم" و"زبيد" و"ربيعة" و"البو محمد" و"الجبور" و"الشليحات" ويعزو أسباب ذلك الانقلاب إلى نشاط المرجعيّة الدينيّة العليا في النجف التي كان ترسل الدعاة والوعّاظ إلى أماكن استقرار هذه القبائل للعمل التبشيريّ فيها .
استفاض المؤلّف بدراسة قضيّة وطنيّة التشيّع في العراق وعدم تأثّره بالمدّ الشيعيّ في إيران إضافة إلى بيان كيفيّة انتشار الشيعة في العراق في العهد العباسيّ ثمّ انتقال تأثير مدارسهم من خلال العلماء والمجتهدين الذين انتقلوا من منطقة "جبل عامل" والمدن "المقدّسة" ككربلاء والنجف إلى إيران -الذين استدعاهم حكّامها- إبّان العهد الصفوي لنشر المذهب الإماميّ فيها بناءً ضرورة استئصال وجود المذهب السنّي في إيران بالرغم من كون معتنقيه أكثريّة في تلك البلاد
ويشير النفيسي إلى أنّ من أهمّ العوامل التي استطاعت المرجعيّة نشر التشيّع فيها بين القبائل النازحة إلى بادية جنوب العراق هو استقلال مدارس المرجعيّة ماليًّا عن الوظائف الرسميّة بخلاف رجال العلم والتشريع في المذهب السنّيّ الذين كانوا ينتظرون الخطط والرواتب من الباب العالي ، كما أنَّ رمزيّات الشيعة كالأئمّة والقيمة المعنويّة التي عمل الدعاة على ربط المتشيّعين بها كشجاعة عليّ وإقدام أبي الفضل العبّاس وتقديس المراقد التي باتت محجًّا للشيعة من شتّى بقاع العالم ومنحت المرجعيّة العليا سلطةً ونفوذًا كبيرين في العلاقات العامّة إضافة إلى العلاقات التجارية التي ارتبطت بمواسم الطقوس الدينيّة ومواكب البكاء والتعازي والإنشاد والارتباط العاطفيّ بأبعاده الدينيّة والاجتماعيّة والهويّة المشتركة بين المجتمعين في هذه المواسم، كانت بمثابة عوامل متوازية تدفع للارتباط مع المرجعيّة العليا حيث يتشكّل مجتمع جديدٌ لا ينصبغ بالخضوع لسلطة العثمانيّين المغتصبين للسلطة في المخيال الشيعيّ
رابعًا: المقاومة الشيعيّة المسلّحة للاحتلال مطلع القرن العشرين
لتبيّن الدور الذي قامت به الشيعة في العراق سياسيًّا لا بد من التوقّف مليًّا عند المقاومة المسلّحة التي قادتها قبائل وشخصيّات شيعيّة استنادًا إلى تفاهمات وتوجيهات مع المرجعيّة العليا؛ التي أصدرت فتوى الجهاد ضد الاحتلال البريطانيّ عام 1914 من قبل المرجع الدينيّ الأعلى الشيخ "محمّد كاظم اليزدي" .
إلاّ أنه يجدر قبل عرض ذلك الإشارة إلى أنَّ القبائل العراقيّة الشيعيّة كانت على خلاف مستمرّ واقتتال متكرّر مع الولاة العثمانيّين إبّان حكمهم العراق إلى مرحلة ما قبل الاحتلال البريطانيّ، حيث كانت هذه القبائل تتوزّع على سبعة ألوية تشمل عدة نواحٍ ومناطق وأقضية مختلفة، وهي لواء الحلّة، وكربلاء، والديوانيّة، والمنتفق، وكوت، والعمارة، والبصرة، إضافة إلى وجود أقلّيات معتبرة من الشيعة في بغداد وديالى، مما يعني أنَّ الكثافة السكانية للشيعة مرتبطة بالقبائل المنتشرة على ضفة الفرات لا على ضفاف دجلة، ومن ثمّ يلاحَظ أنّ ثورات الشيعة ضدّ الحكم العثمانيّ والبريطانيّ لاحقًا كانت في منطقة الفرات الأوسط والأسفل غالبًا ، وبالتالي يستنتج النفيسي –من خلال بحثه- أنَّ هذه القبائل تمتلك أصالة عربيّةً في نسبها على نحو يزيد على القبائل المنتشرة في ضفاف دجلة والتي سعت للتوطّن في المدن والبلدات والقرى، ممّا دفعهم للاعتراف بالسلطات المركزيّة التي عانَت بالمقابل من ثورات عشائر الفرات "المترحّلة" ضدّها ورفضها لها، والتي كانت تدين بالولاء للمجتهد الأعلى والمرجعية الدينيّة في النجف، كقبائل البوصالح، وخفاجة، وبني زيد، والبوحسن، والجبور، والمعامرة، والعمارات، والخزاعل، وغيرها إضافة إلى الأفخاذ المتفرّعة عن هذه القبائل .
قامت هذه العشائر بالعديد من الثورات ضد الوجود التركيّ قبل القرن الثاني عشر الهجري، مثل واقعة المنتفق "983ه" وثورة الغرّاف "1083ه" وثورة الخزاعل وخفاجة "1016ه" وثورة البوصالح، وثورة زبيد، وثورة البوسلطان وثورة قبائل الديوانية إضافة إلى عدة ثورات وقعت ضد الولاة العثمانيين قبل الاحتلال البريطاني والتي قاد الولاة العثمانيون حملات قمعٍ شديدةٍ لإخمادها فعُرفت بأسمائهم مثل حرب "نجيب باشا" ضد ثورة كربلاء سنة "1268ه" وحرب سليم باشا ضد عصيان "النجف الأشرف" سنة 1268ه" وحرب "شبلي باشا" في أبو صخير سنة "1292ه" وحرب "يوسف باشا" في "الغرّاف" سنة 1269ه"، إضافة إلى اصطدامات متفرّقة بين الجنود الأتراك وسكان النجف وبعض القبائل والبلدات الشيعيّة في عام 1915م .
أما المقاومة الشيعيّة ضدّ الاحتلال البريطاني فكانت حينًا على شكل مقاومات متفرّقة من قبل بعض القبائل من خلال هجمات الاستنزاف وحروب العصابات، أو من خلال الاستعصاء الذي تمّ في النجف من قبل جمعيّة النهضة الإسلاميّة والذي أدّى إلى حصار المدينة عدّة أشهر وقصفها بالهاون أو من خلال تحالف العشائر الشيعيّة لمساندة الجيش العثماني في مقاتلة البريطانيين في مرحلتي انسحاب العثمانيين من الجنوب العراقيّ ثم عودة تقدّمهم ودحرهم البريطانيين في معارك كوت العمارة ثم قيام ما عُرف بالثورة العربية الكبرى التي دفعت العثمانيين للتراجع إلى بغداد ثم إلى الموصل ثم الاتفاق على الانسحاب من العراق .
لقد كان دور العلماء والمجتهدين والمراجع الدينيّين حاسمًا في قضيّة مقاومة الاحتلال البريطاني فقد أعلن المجتهد الأكبر فتوى الجهاد ضدّ المحتلّ ووجوب مساندة العثمانيّين، ممّا دفع القبائل لتناسي خلافاتها مع الولاة العثمانيين وإرسال المؤن والرجال الذين بلغ عددهم قرابة 21 ألف فردٍ عدا آلاف المتطوّعين الذين لم يجدوا سلاحًا للانضمام إلى صفوف الجيش في المعارك الدائرة جنوبيّ العراق ، كما كان -إلى جانب فتوى المجتهد الأكبر- لعلماء الكاظمين وكربلاء والحلّة والبصرة دور بارزٌ في دفع العشائر العراقيّة الشيعيّة لمقاومة الاحتلال البريطاني فكان المجتهد "مهدي الحيدري" يكتب البرقيات إلى العشائر والعلماء يطلب منهم الانضمام إلى كتائب المقاومة المشكّلة في النجف، وقد استجاب له المجتهد شيخ الشريعة الأصفهانيّ والسيّد مصطفى الكاشانيّ وعلي الداماد وميرزا محمد تقيّ الشيرازيّ الذي أرسل أولاده لقتال من وصفهم بـ "الكفّار" وكذا أرسل المجتهد الأكبر آية الله محمد كاظم اليزدي أكبر أولاده للالتحاق بالوحدات العسكريّة وقام المجتهد محمّد سعيد الحبوبي والشيخ باقر الحكيم والسيد محسن الحكيم بالانضمام إلى القوّات المتّجهة إلى الجنوب وقاتلوا معهم في تلك المعارك ، وعلى الرغم من المقاومة والجهود الكبيرة التي بذلها الجيش العثمانيّ والقبائل العربيّة "سنيّة وشيعيّة" لمساندته انتهت إثر احتلال البريطانيّين بغدادَ وقيام اتفاقيّة مودروس بين الطرفين والتي تتضمّن إعلان الهدنة في 30/ تشرين الأوّل/1918م.
خامسًا: الشيعة في مضمار السياسة "المرجعيّة والاستفتاء"
أدخل تغيّر الواقع السياسيّ في العراق ورضوخه للاحتلال البريطانيّ فكرةً جديدة مفادها وجوب قيام إدارة مركزيّة في بغداد تكوّن "حكومةً وطنيَّةً" تدير البلد وتكفل استقلاله عن الانتداب بشكل كاملٍ وقد استند كثير من أعيان العراقيّين آنذاك إلى الوعود التي أطلقها الجنرال الإنكليزي "مود" إبّان توقيع الهدنة واحتلال بغداد والتي تتضمن إطلاق سراح أسرى الحرب، وإعادة 107 أشخاص حُكم بنفيهم إلى الهند سابقًا وجلّهم من أعيان الشيعة وعلمائها، إضافة إلى رفع القيود عن التجارة من وإلى النجف والسماح للحجّاج بزيارة الأماكن المقدّسة في النجف وكربلاء، حيث عمّمت خطبة الجنرال في الصحف الصادرة آنذاك باللغة العربية
وصلت خطط الفِرَق البريطانيّة المعنيّة بمتابعة الوضع العراقيّ إلى واقع مسدود إثر تناقض سياسات كلٍّ منها مع الآخر، حيث كان فريق يصرّ على تقسيم العراق وفق إدارات عرقيّة إضافة إلى مراعاة خطط سايكس/ بيكو وإلحاقه بالتاج البريطاني، بينما كان فريق آخر يرى ضرورة منح العراق حقّه في إدارة ذاته من خلال استخدام حق تقرير المصير وربطه مع التاج البريطاني بعدّة معاهدات وقد جاء قرار مكتب الهند المنتدَب من قبل وزارة المستعمرات البريطانية بمنح المفوّض السامي البريطاني الحقّ بإجراء استفتاء عام حول ثلاث نقاط:
1. رأي الأهالي في إقامة دولة عربية من شمال الموصل إلى الخليج الفارسي تحت وصاية البريطانيين.
2. في حال قبل الأهالي ذلك فهل يقبلون بتولية أمير أو أحد الأشراف العرب ليكون رأس هذه الدولة؟
3. من هو الشخص المرشّح لقيادة هذه الدولة؟
ومن ثمّ بدأت إجراءات الدعاية البريطانية للدعوة إلى إجراء هذا الاستفتاء إلا أن المرجعيّة الدينيّة الشيعيّة وعلماءها رفضت إجراءه، حيث أصدر المجتهد "الشيرازيّ" فتوى بتكفير كل من يقبل بحكم غير إسلاميٍّ في العراق ، مما أثر في نفوس العراقيين من السنة والشيعة على حدٍّ سواء ، وقد حضر الحاكم السامي "آرنولد ويلسون" اجتماعًا مع أعيان النجف وعلمائها للتباحث في أمر الاستفتاء وكان الحاضرون بمجملهم شيعةً عدا السيد "هادي النقيب"، كالشيخ عبد الكريم الجزائري، ومحمد جواد، والشيخ باقر الشبيبي، والشيخ محمد رضا الشبيبي، والشيخ عبد الرضا، وغيرهم من أعيان المدينة وعلمائها فتكلّم بعض الحاضرين برفض استمرار الوصاية البريطانية على العراق وتأكيدهم إنشاء حكم عربيٍّ مستقلٍّ فيه ، إضافة إلى تأكيد آخرين أنّ الاستفتاء ومحاوره لا يُبتُّ فيها على هذا النحو من العجلةِ حيث ثمّة حاجةٌ للتروّي والتأنّي، ولذا زاروا المجتهد الأكبر "محمد كاظم اليزدي" الذي طلب من الأعيان أن يعيدوا النظر في اختيار ما يصلح للمسلمين ، ومن ثمّ توافقوا بناءً على نصيحة الشيخ عبد الواحد سكّر بأن الأجدر للعراقيين "اختيار أمير عربيّ يرأس حكومة عربيّةً مستقلّة" .
وعليه بات الرأي العام يميل لقيام حكم عربيٍّ إسلاميٍّ برئاسة أحد أبناء "شريف مكّة" وإنشاء مجلسٍ وطنيٍّ يمثّل شعب العراق . وقد قرّر المجتهد الشيرازي -المقيم في سامرّاء- بمعرفة علماء كربلاء وأعيانها إرسال رسالة إلى "الشريف حسين" يلتمس منه أن يتدخّل في الأمر، وقد كان المجتهد الشيخ "محمد رضا الشبيبي" الرسول الشخصي الذي سيحمل الرسالة كما أشرف الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ الشبيبي على صياغة الرسالة ونقلها إلى قبائل الفرات الأوسط لتوقيعها ومن ثمّ إرسالها إلى الشريف حسين .
لقد كان لإحدى اللجان الوطنية المشكّلة في بغداد من جملة من أعيان العراق -السنة والشيعة- دور بارزٌ في إبلاغ الإدارة البريطانيّة في بغداد جملة من المطالب العراقيّة الأساسيّة وهي:
1. أن تكون حدود العراق ممتدة من شمال الموصل إلى خليج البصرة.
2. الإقرار بأن العراق دولة عربية يحكمها ملك مسلم من أبناء الشريف حسين، إلا أن حكمه مقيد بمجلس تشريعي مقرّه في بغداد التي تعدّ عاصمة البلاد .
كانت مقترحات "آرنولد ويلسون" -الحاكم السياسي البريطاني للعراق- متمحورة حول تقسيم العراق إلى أربعة ألوية "لواء البصرة، ولواء بغداد، ولواء الفرات، ولواء الموصل" ويحكم هذه الألوية مفوّض سامٍ يعاونه أربعة مفوضين آخرين يحكم كل واحد منهم لواءً من الألوية المذكورة ويشارك العراقيّون في الحكم لا عن طريق إنشاء مجلس تمثيلي أو تشريعي وإنما من خلال مندوبي العائلات العريقة وذوي الأنساب، وأشار إلى أن التاج البريطانيّ أرسل موافقته على هذا المقترح في 9 أيار 1919 شرط أن يكون تدبيرًا مؤقَّتًا .
سادسًا: المرجعيّة الشيعيّة وأحداث ثورة "العشرين"
إثر استقرار الأمور بين بريطانيا والعثمانيّين وتوقع الهدنة كان لا بدّ من بناء مؤسّسات الإدارة المدنيّة في العراق، وقد ظهرت لدى البريطانيين في العراق أخطاء كبيرة أدّت إلى ارتفاع الكره الشعبيّ لهم، سواء من حيث عدم التزامهم بالآداب العامة في ملابسهم وأفعالهم إضافة إلى احتلال كثير من موظفي الإدارة الكبار الدور والقصور المملوكة للأعيان وأغنياء البلاد وفتح طرق عسكريّة بالقرب من الأقنية والترع الزراعيّة التي تضرّرت جرّاء ذلك، أو بسبب فرضهم أنواعًا كبيرة من الجباية والضرائب المختلفة، وإقصاء الكفاءات العراقيّة من الدخول في معترك الإدارة وارتفاع نسبة الوافدين من البريطانييّن للإقامة والعمل الحكوميّ في العراق مما أدّى إلى زيادة النقمة الشعبيّة تجاه هذه السياسات، وقد توازى ذلك مع حدوث بعض المناوشات في تل عفر التي قُتل فيها ضابطان إنكليزيّان ممّا دفع السلطة العسكرية البريطانيّة إلى اقتحام وتهجير أهلها منها وإرسالهم إلى الصحراء ممّا زاد في إطلاق حملات من الغضب الشعبيّ والتهاب الوضع العامّ، وعقدت اجتماعات مهمّة بين الأعيان في بغداد والمُدن الشيعيّة المقدّسة ضمّت زعماء الشيعة والسنّة، وكان للمجتهدَين محمد الصدر وجعفر أبو التمن من الشيعة والشيخ يوسف السويدي وعلي البازر من السنّة دور كبير في التقارب بين الشيعة والسنة، وقد تلا ذلك صدور فتوى من المجتهد الأكبر بحرمة التعامل مع البريطانيّين في أي وظيفة حكوميّة مما دفع المستخدمين العرب في الوظائف الرسميّة إلى الاستقالة من الوظائف التي كانوا يشغلونها خاصّة في مناطق الفرات الأوسط والأسفل التي تدين بالولاء للمرجعية العليا في النجف وذلك نزولاً عند فتوى المجتهد وطاعةً لها .
وقد كان قرار تعيين فيصل ملكًا على سوريّة باعثًا لدعوة جماعة من الضبّاط والإداريّين في العراق أخوه الأكبر الأمير عبد الله ليكون ملكًا على العراق، وقد زاد الوضع تعقيدًا إعلان الحلفاء في مؤتمر سان ريمو عن وضع العراق تحت الانتداب البريطاني مما دفع الناس والأعيان والمراجع للتنسيق والعمل على الثورة ضدّ الاحتلال البريطاني .
اندلعت المواجهات بين العراقيين والبريطانيين بدءًا من بلدة الرميثة إثر اتّهام شعلان الجون شيخ عشيرة الظوالم بالتنسيق مع النجف وعلمائها لتنسيق المواقف ضد البريطانيّين وكان اعتقاله سببًا مباشرًا لإعلان الثورة، حيث استطاعت مجموعة من قبيلته تخليصه من سجن الديوانيّة، لتعلن مراجع النجف الشيعيّة إثر ذلك قيام الثورة ضدّ البريطانيّين، ممّا دفع عشيرة الظوالم لمحاصرة حامية الرميثة وقطع الإمدادات عنها إضافة إلى قيام قبائل أخرى بمحاصرة كتائب عسكريّة في السماوة ومناطق متفرقة فيما بين البصرة وبغداد ، كما عملت الآلة الإعلامية والصحف على إذكاء الثورة ودعمها، بالتوازي مع فشل الآلة العسكريّة البريطانيّة في فكّ الحصار عن الكتائب المحاصرة بالرغم من إرسال عدة حملات عسكريّة لهذا الهدف وامتدّت الحملات الثوريّة إلى الحلّة والديوانيّة، ممّا أفقد البريطانيين مئات القتلى والجرحى والأسرى ، كما شجّع بقيّة القبائل في منطقة الفرات الأوسط على تكثيف هجماتها حول مدن البصرة والكوفة وأبو صخير الأمر الذي زاد من أعداد قتلى الجيش البريطاني وأسراه إضافة إلى وقوع مئات القطع من الأسلحة غنيمةً بيد هذه القبائل وقد كان احتلال بلدة الناصرية من قبل عشائر الفرات الأوسط وإرسال المجتهد الأكبر -شيخ الشريعة- رسلاً ودعاة لتحويل ولاء البلدة إلى النجف، وهو ما تحقّق بفعل المدّ الثوريّ وبلاغة الخطباء الذين جاؤوا إليها .
سابعًا: إقرار الحكومة المؤقتة وتتويج فيصل ملكًا
عمل المفوض السامي بيرس كوكس إثر وصوله مطلع تشرين الأول عام 1920 على تهدئة الوضع السياسيّ والعمل على نزع الأسلحة والوصول إلى تسوية بين الثوّار وبريطانيا عبر إنشاء حكومة عربيّةٍ مؤقّتة في العراق إلاّ أنَّ لجنة من مجتهدي الشيعة وأعيانهم في الجنوب كانوا يقومون ببثّ التحذيرات من الانسحاب من المناطق التي آلت لسيطرة "النجف" في منطقة الفرات الأوسط وجنوب العراق، أو الانسحاب من المناطق التي يحاصرونها كالكوفة والسماوة إلا أنّه جرّاء انتكاساتٍ عسكريّة متوالية إضافة إلى مفاوضات منفصلة سبّبت في استسلام كلٍّ من كربلاء والرميثة والنجف وقد تمّ التوافق على إعلان مجلس مؤقت لإدارة الدولة مشكّل من قبل أعيان العراقيين برئاسة نقيب الأشراف في بغداد وعدد من العلماء والأعيان المقبولين اجتماعيًّا إلاّ أنَّ الشيعة في الجنوب كانوا يرون في الشخوص الذين نالوا التعيينات الإداريّة ظلمًا لهم، حيث كان أغلب قائمي المقام في مناطقهم من السنّة، إضافة إلى أنَّ نسبة السنّة في مجلس الدولة تزيد على النصف بالرغم من أنَّ الشيعة هم الأكثرية آنذاك ، إلاّ أنَّ هذا الأمر لم يستلزم إعلان العصيان، بل أظهر الشيعة التعاون مع ذلك إلى حين إعلان فيصل ملكًا على العراق في شهر آب عام 1921 .
عملت الدعاية الشيعية آنذاك على اعتبار فيصل "أهون الشرين" لأنه لا ينتمي لأي حزب سياسيٍّ إضافة إلى احترامهم لنسبه وأخيه عبد الله ووالده، كما كان فيصل ذاته يظهرُ احترامًا باديًا لسلطة المجتهد الأكبر وجماعات المراجع الشيعيّة في العراق .
على الرغم من فتور الاستقبال الذي جرى لفيصل إثر وصوله إلى مناطق الفرات الأوسط والأسفل، نظرًا لوجود استياءٍ شعبيٍّ من فيصل الذي يعتبَر في تلك الفترة "امتدادًا لسلطة الوجود البريطاني" إلاّ أنَّ فيصل كان يشترط على البريطانيين أن يكون حكمه للعراق استقلالاً عن الانتداب البريطاني مع إبدائه الرضا بعقد تحالف مع بريطانيا ليحل محل الانتداب وبذلك يحافظ على هيبته أمام الناس .
اختار فيصل يوم 23 من آب لإعلان تتويجه حيث كان ذلك اليوم يصادف ذكرى الغدير التي يقدّسها الشيعة نظرًا لاعتقادهم بأنه اليوم الذي عيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلّم خليفةً له وإمامًا للناس، كما أمر فيصل الخطباء بالدعاء له في خطبة الجمعة على غرار ما كان يُخطَبُ للخلفاء في العهود السابقة ، إضافة إلى تأكيده في خطاب التتويج على أنَّ أول مهامّه ستكون إجراء الانتخابات الحرّة والنزيهة والدعوة لبدء انعقاد أعمال المجلس التأسيسيّ .
لم تعلن المراجع الشيعيّة رفضها لفيصل ملكًا على العراق، كما أنّ موقفها المهادن لوجوده كان مبنيًّا على نسبه الرفيع إلاّ أنّ علاقته بالبريطانيّين –برأيهم- كانت تفسِد الودّ الذي يجب أن يكون الحال عليه فيما بينهم وبالرغم من ذلك فقد أفسح وجود فيصل على رأس الحكم لمدة اثنتي عشرة سنة المجال للعراقيين أنفسهم للتعرّف إلى بعضهم البعض وإيجاد روابط واسعة من العمل السياسيّ المشترك وتجنّب خياراتٍ دامية .