الهيئة العليا للمفاوضات..... المسار والحصاد السياسي
ديسمبر 14, 2017 2601

الهيئة العليا للمفاوضات..... المسار والحصاد السياسي

حجم الخط

تمهيد
انبثقت الهيئة العليا للمفاوضات عن مؤتمر الرياض الذي عقد في 9 و10/12/2015، بهدف توحيد رؤى قوى المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وأوكلت للهيئة مهمة تشكيل الوفد التفاوضي مع النظام السوري لحضور مؤتمر جنيف 3. 
وشكّلت الهيئة منذ انطلاقتها وحتى موتها الفعلي في مؤتمر الرياض 2 حالة من الاستثناء في الوسط المعارض. فقد كانت جسماً وظيفياً محدد الهدف، على خلاف كل الأجسام السياسية الأخرى القائمة، ولكنها كانت تؤدّي في نفس الوقت أدواراً عابرة لأهدافها. كما شكّلت استثناء في قدرتها على بناء علاقات متميزة مع الفاعلين الإقليميين، في الوقت الذي عانى فيه الإئتلاف من حالات الاستقطاب الإقليمية، وفقاً لتوجهات رئيسه في كل مرحلة من المراحل. 
واستطاعت الهيئة خلال عامين من عمرها تحقيق عدد من الانجازات السياسية، كان أضعفها تلك المتعلقة بالمهمة الرئيسية التي أنشئت من أجلها، والتي اتسم الأداء فيها بعدم المرونة، إلى حدّ يُشكّ فيه أن هذا الجسم يرغب بالتفاوض أصلاً، لا أنه أنشئ لهذه الغاية فحسب!. 
وعاشت الهيئة حالة تقاطع مع الائتلاف الوطني وتصادم معه، واستمر الجسمان في العمل بشكل متوازٍ أحياناً ومتقاطع أحياناً أخرى. كما عايشت الهيئة انطلاق مسار الأستانة، والذي شكّل مساراً تفاوضياً موازياً لمسارها التفاوضي، وغيّبها عن مشهده قسراً.  
وينظر هذا التقرير في ظروف ولادة الهيئة، والمسار الذي اتخذته، وما حققته وما أخفقت فيه خلال عامين من عمرها. 

الأجواء التي مهدت لولادة الهيئة
تولى الائتلاف الوطني منذ تشكيله مهمة التفاوض، وتولى تمثيل المعارضة في "مفاوضات جنيف 2"، والتي بدأت أعمالها في 22/1/2014، وشهدت للمرة الأولى والأخيرة حتى الآن، تمثيلاً متساوياً ومباشراً بين طرف معارض واحد مع النظام السوري. كما شهدت تلك الجولة حضوراً دولياً لم يتكرر بعد ذلك، بما سمح للائتلاف يومئذ بتحقيق إنجاز سياسي قد يكون الأهم في مسيرته. 
لكن أداء الائتلاف السياسي تعرّض لحالات مد وجزر، تبعاً لحالات التجاذب بين مكوناته، إلى أن وصل إلى حالة استدعت من المجتمع الدولي الدفع باتجاه سحب الملف التفاوضي منه. 
وشكّل رفض الائتلاف التجاوب مع "مسودة الإطار التنفيذي لتطبيق بيان جنيف 1" التي قدمها المبعوث الأممي ستيفان ديسمتورا في مطالعته أمام مجلس الأمن بتاريخ 29/7/2015، نقطة مفصلية على ما يُعتقد في خسارة الائتلاف لورقة الملف التفاوضي. 
وكان ديمستورا قد التقى بالائتلاف في استنبول في شهر أيار/مايو 2015، وقال في ذلك اللقاء بأنه سيقوم بالتشاور مع عدد من الشخصيات والكيانات السورية في المعارضة والنظام، وشخصيات مستقلة، لكتابة مسودة لخارطة طريق لتطبيق بيان جنيف، وأنه يرغب بمناقشة هذه المسودة مع الائتلاف بعد الانتهاء منها مطلع تموز/يوليو من نفس العام. لكن الائتلاف رفض العرض، وأصدرت الهيئة السياسية قراراً يمنع رئيس الائتلاف وأعضائه من لقاء ديمستورا قبل عرض المسودة على مجلس الأمن.
كما رفض الائتلاف مقترح ديمستورا الذي قدمه لمجلس الأمن في 30/7/2017، وأسماه "وثيقة حقائق"، والتي قال فيها إنه يرغب بمزيد من المشاورات لمدة ستة أشهر مع السوريين من أجل الحصول على وثيقة قد تكون نهائية وأكثر شمولاً وتفصيلاً وتوافقاً، من خلال إنشاء أربع مجموعات عمل بينية، غايتها تقديم آلية يتمكن من خلالها السوريون من تعريف وتوضيح مفاهيم أساسية لاتفاق جنيف، والتي تم إقرارها في المرحلة الأولية من المشاورات في الفترة الواقعة ما بين أيار وحزيران 2015 والتي اشتملت على لقاءات منفصلة مع سوريين بلغ عددهم (216)، وفاعلين دوليين وإقليميين. وستجمع المخرجات المتوقعة من هذه المجموعات وستلخص في وثيقة واحدة تكون بمثابة أساس للوصول الى اتفاقية بينية سورية لتنفيذ اتفاق جنيف بكافة مناحيه. وستقوم كل مجموعة بالعمل ضمن نطاق مواضيع: 1-الأمن والحماية للجميع 2-الشأن العسكري والأمني ومكافحة الإرهاب 3-القضايا السياسية والقانونية 4-استمرارية الخدمات العامة وإعادة الإعمار والتنمية. وقد رفض الائتلاف مجدداً هذا المقترح ومنع أياً من أعضائه من لقاء أي من رؤساء المجموعات الأربعة.
لكن نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2015 شهدت تغيراً دراماتيكياً في المشهد السوري، بعد أن قامت روسيا بالتدخل العسكري المباشر هناك، بما غير قواعد اللعبة السياسية والعسكرية، وفرض شروطاً مختلفة على الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، وانعكس هذا التغير في قرار مجلس الأمن رقم (2254)، والذي صدر في نهاية العام نفسه، وأصبح مرجعية للحل السياسي فيما بعد. 
وشكّلت المعطيات السابقة مجتمعة دوافع مهمة لتشكيل جسم جديد قادر على التعاطي مع الملف التفاوضي بشكل أكثر مرونة وواقعية، وهو الأمر الذي أفضى إلى الدعوة لانعقاد مؤتمر الرياض الأول. 

التشكيل والمكونات
جاء قرار تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات وفقاً لكثير من المراقبين خلال اجتماعات فيينا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2015، بطلب مباشر من وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري إلى وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، والذي كان مفاده أن تستضيف السعودية اجتماعاً موسعاً للمعارضة لتشكيل وفد موحد للمعارضة يشمل أطيافها المختلفة. 
ورغم الرغبة الأمريكية الواضحة، تجنّبت الرياض دعوة حزب الاتحاد الديموقراطي إلى المؤتمر، لما يعتقد أنه رغبة سعودية بعدم إزعاج أنقرة بمثل هذه الخطوة. 
شارك في مؤتمر الرياض الأول (102) شخصية سورية، يمثلون ثلاث كيانات رئيسية، هي الإتئلاف الوطني وهيئة التنسيق الوطني وبعض الفصائل المسلحة، إضافة إلى مستقلين. وشاركت منصة القاهرة باعتبارها ممثليها من ضمن المستقلين. 
وشارك في أعمال المؤتمر عدد من الفصائل العسكرية، من بينها حركة أحرار الشام وجيش الإسلام. لكن حركة أحرار الشام انسحبت من المؤتمر في يومه الثاني احتجاجاً على ما قالت إنه "إعطاء دور أساسي لهيئة التنسيق الوطنية وغيرها من الشخصيات المحسوبة على النظام السوري". 
مثّلت مشاركة الفصائل في الهيئة، ومن ثمّ في الوفد التفاوضي، أول حضور سياسي فعلي لهذه الفصائل. فيما اختارت فصائل أخرى عدم المشاركة وتأييد من شارك، واختارت أخرى رفض المشاركة. 
واختار المشاركون (34) شخصاً ليكونوا في الهيئة العليا للمفاوضات. وتوزّع أعضاء الهيئة بواقع (11) شخصاً من الفصائل العسكرية، و(9) من الائتلاف الوطني، و(8) شخصيات مستقلة، و(6) من هيئة التنسيق. 
وتم انتخاب رياض حجاب منسقاً للهيئة، والعميد أسعد الزعبي رئيساً للوفد التفاوضي، ومحمد علوش كبيراً للمفاوضين. 
وحمل وجودُ حجاب على رأس الهيئة العليا منذ تأسيسها وحتى استقالته في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2017 الكثيرَ من الأهمية للهيئة ودورها، حيث استطاع التعامل كزعيم سياسي مع الأطراف المختلفة، وتمكّن من الإمساك بزمام الهيئة ومنحها هيبة وحضوراً سياسياً. لكنه وفي نفس الوقت اتهم بالتفرد في اتخاذ القرار، كما اتهم بميله نحو الخيارات المتشددة وغياب المرونة لديه، لإثبات "حُسن انشقاقه"، وهو ما قد لا يضطر له من كانت له سابقة في المعارضة قبل الثورة!.
كما اتُهم حجاب بتحييد أولئك الذين امتلكوا خبرة التفاوض في مفاوضات جنيف 2، وضعف معرفته بتفاصيل القرارات الدولية وظروف إقرارها ومزاج المجتمع الدولي الذي لم يكن مستعداً لدفع ثمن من أجل وقف المأساة السورية، كما اتهمه البعض بضعف القدرات السياسية، وقصر النظر.

الإئتلاف والهيئة: المهام المتعارضة
اتسمت العلاقة بين الائتلاف الوطني والهيئة العليا منذ البداية بالتوتر، رغم وجود عدد كبير من أعضاء الإئتلاف داخل الهيئة، بما فيهم حجاب نفسه، والذي دخل الهيئة على مقاعد الائتلاف بعد أن فشل في الحصول على مقعد كمستقل، حيث تنازل بدر جاموس في مؤتمر الرياض الأول عن مقعده لصالح حجاب.
ويعود مصدر التوتر في العلاقة بين الإئتلاف والهيئة إلى أن الائتلاف تعامل مع الهيئة منذ بداية عملها باعتبارها جسماً منافساً، فيما اعتبرت الهيئة نفسها جسماً جديداً ورث كل أجسام المعارضة بكل مهامها، وليس وريثاً لملف المفاوضات فحسب. 
وانعكس هذا التعارض في أداء المؤسستين، حيث بدأت الهيئة منذ تأسيسها بإصدار البيانات والمواقف السياسية في كل ما يتعلق بالشأن السوري، بغض النظر عن ارتباطها بالعملية التفاوضية أم لا، كما أن قيادة الهيئة بدأت بسحب مهمة التمثيل الخارجي للمعارضة، من خلال الزيارات والجولات التي كان يقوم بها رئيس الهيئة، والتي كانت تحظى باهتمام من الدول المستضيفة أكثر مما تحظى به وفود الإئتلاف. 
وحصل توتر بين قيادة الائتلاف وهيئته السياسية من جهة؛ وبين أعضاء الائتلاف الممثلين في الهيئة العليا، باستثناء رياض سيف، من جهة أخرى. فقد استطاع رياض حجاب كسب ولائهم الى جانبه في كل القرارات التي اتخذها على عكس إرادة الائتلاف، وأصبحوا يعتبرون أنفسهم أعضاء في الهيئة العليا بشخوصهم لا بتمثيلهم للائتلاف في الهيئة.
كما كان الجو متوتراً بين الوفد المفاوض الجديد الذي تم تعيينه في مطلع 2017 برئاسة نصر الحريري وبدعم إقليمي، وتأييد رئيس الائتلاف الحالي رياض سيف، وبين الهيئة العليا وخصوصاً ممثلي الائتلاف فيها وعلى رأسهم سهير الأتاسي.

ماذا حققت الهيئة؟ 
يُحسب للهيئة أنها حافظت على الثوابت التي قامت عليها، الأمر الذي انعكس في تأييد شعبي ملموس، لم ينله الائتلاف ولا المجلس الوطني من قبل إلا عند تأسيسه؛ ولا يعتقد أن هيئة المفاوضات السورية الجديدة ستحظى به.
وشكّل انسحاب وفد الهيئة العليا للمفاوضات من جنيف في شهر نيسان/أبريل 2016 احتجاجاً على استمرار القصف والقتل في سورية ذروة الشعبية بالنسبة للهيئة، ونال خطاب الانسحاب الذي ألقاه حجاب من جنيف استحسان الفصائل والجمهور المعارض، رغم أن الهيئة تراجعت عنه بعد وقت قصير دون أن يتحقق أي من مطالبها التي انسحبت من أجلها!. 
كما يحسب للهيئة أنها كانت منضبطة في عملها، حيث لم تشهد تصريحات عشوائية من أعضائها، على غرار الائتلاف الوطني ومن قبله المجلس الوطني. ويستثنى من هذا الأمر تصريحات خالد المحاميد، وهي حالة استثنائية وحيدة. 
وتمكّنت الهيئة من استقطاب عدد من الشخصيات ذات الخبرة العالية في إدارة الدولة، وأبرزهم رئيسها رياض حجاب، ورياض نعسان آغا ويحيى العريضي، وتمكّن هؤلاء من التصرف كرجال دولة، ومنحوا الهيئة بالتالي صفة الكيان المقابل للدولة، وهو أمر لم تتمكن بقية مؤسسات المعارضة من امتلاكه أو التصرف على أساسه. 

أين أخفقت الهيئة؟ 
لم تتمكن الهيئة خلال مسار عملها من إدراك بوصلة التوجهات الدولية، ولم تكن مرنة بما يكفي لمنع استهدافها وإلغائها، الأمر الذي انتهى بها إلى إعادة الهيكلة الشاملة في مؤتمر الرياض 2، والذي أنهى عملياً الهيئة القديمة بالكامل. 
وانعكس غياب المرونة منذ الأيام الأولى للهيئة في اختيار أسعد الزعبي رئيساً للوفد ومحمد علوش كبيراً للمفاوضين، حيث أعطى وجودهما على رأس الوفد رسائل سلبية حتى قبل بدء الوفد لمهامه التفاوضية. 
ومن المهم ملاحظة أن فترة خدمة الهيئة، والتي استمرت منذ بداية عام 2016 وحتى نهاية عام 2017 جاءت بالكامل بعد التدخل العسكري الروسي، وشهدت هذه الفترة أكبر خسائر عسكرية للمعارضة، وخصوصاً سقوط حلب. ويرى بعض المراقبين أن الهيئة لو تمتعت بشيء من المرونة لتفادت الكثير من هذه الخسائر، وأن الهيئة كان عليها أن تؤسس لعلاقة سياسية مع موسكو، لمحاولة التوصل معها الى تفاهمات، لكن الهيئة رفضت فعل هذا الأمر، بل لم تقم بزيارة موسكو ولا لمرة واحدة.
كما فشلت الهيئة في تحقيق أي نجاح في أي من الملفات العالقة، وبالأخص ملف المعتقلين والمناطق المحاصرة، بل اكتفت بدغدغة مشاعر الناس واستثارة عواطفهم. 
ولم تقم الهيئة بتقديم إجابات جدية على أسئلة ديمستورا العشرة المتعلقة بالمبادئ الأساسية الدستورية الواردة في قرار مجلس الامن 2254. كما أن رؤيتها للحل في سوريا التي قدمتها في لندن في أيلول/سبتمبر 2016 شابتها الكثير من التناقضات، وخلّفت الكثير من الاعتراضات لدى أطياف مهمة من المعارضة، وخاصة الكرد والآشوريين والتركمان بعد أن أغفلت الحقوق القومية للمكونات السورية، وأصرت على الإعلان الدستوري في المرحلة الانتقالية.

دروس النهاية
جاء مؤتمر الرياض 2 لينهي الهيئة العليا للمفاوضات، بعد أن كان مؤتمر الرياض الأول هو من أوجدها. وسعى الوفد التفاوضي المنبثق عن مؤتمر الرياض 2 إلى قطع الصلة مع الهيئة التي سبقته، فبدأ عمله بتقديم إجابات على أسئلة ديمستورا خلال أقل من يومين من وصول الوفد إلى جنيف، ليؤكّد امتلاك الوفد الجديد لرؤية تفاوضية مختلفة عن الجسم السابق.
ويُظهر تتبع مسار الهيئة العليا عدم امتلاكها لرؤية تفاوضية متكاملة، الأمر الذي انعكس في تصرفات ومواقف غير مترابطة، وفشل في تحقيق أي هدف تفاوضي يذكر. ويستدعي ذلك من الوفد التفاوضي الجديد بناء رؤيته بشكل واضح ومرن وشامل. 
كما استُغرقت الهيئة في الخطاب الشعبوي، والذي حقق بلا شكّ اختراقاً لدى الجمهور المعارض، لكنه فشِل عملياً في تحقيق اختراق في العملية التفاوضية، وهي الهدف الحقيقي أصلاً. وتُظهر السياسة التي اتبعتها الهيئة خطورة الارتهان إلى ردود الفعل الآنية من الجمهور، دون حساب لردود الفعل طويلة المدى.
ورغم أن الهيئة ضمّت بعض الفصائل المسلحة الرئيسية في صفوفها منذ تشكيلها، إلا أنها فشلت في بناء علاقة استراتيجية مع الفصائل، فخسرت تأييد بعض الفصائل التي كانت معها في البداية، وتعاملت بارتباك واضح مع مسار الأستانة الذي انطلق في عهدها، وضمّ فصائل مسلحة، بعضها في الهيئة وبعضها كان مؤيداً لها.