هيئة تحرير الشام: من الجماعة إلى السُّلطة
May 29, 2025 5801

هيئة تحرير الشام: من الجماعة إلى السُّلطة

Font Size

تمهيد        

قادت هيئة تحرير الشام في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 هجوماً كبيراً شاركت فيه فصائل المعارضة المسلحة ضدّ نظام الأسد، وانتهى الهجوم بهروب رأس النظام بشار الأسد من البلاد في 8 كانون الأوّل/ ديسمبر 2024، ومع تغيُّر وضع السلطة في سوريا طالب قائد هيئة تحرير الشام بشطب الهيئة من قوائم التصنيف الأمريكية والأوروبية.        

تُوصَف هيئة تحرير الشام بأنها جماعة جهادية، استقلت فكرياً وتنظيمياً، وتحولت إلى فصيل عسكري محلي، وأسّست ذراعاً مدنياً (حكومة الإنقاذ) يُسيّر الشؤون المؤسساتية والخدمية في مناطق سيطرتها المجاورة لتركيا.        

بعد سقوط نظام الأسد؛ ولأنها كانت تقود معركة إسقاطه، باتت هيئة تحرير الشام في موقع القيادة على مستوى سوريا، ممّا جعلها أمام استحقاقات التعامل مع متطلبات إدارة الدولة في مرحلة ما بعد النظام، وسط تحدّيات مركبة تشمل أبعاداً إدارية واقتصادية وسياسية، فضلاً عن تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي.        

أظهرت الهيئة رسائل إيجابية في إدارة العملية السياسية خلال معركة "ردع العدوان" التي أدت إلى سقوط النظام، فضلاً عن مساعيها في ضبط الأمن، ثم اجتمعت مع شركائها في غرفة عمليات المعركة لقيادة سوريا وتشكيل السلطة الجديدة فيها، وأخذت دور القيادة السياسية وإدارة الدولة، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول مآلات الجماعة وتماسُكها بعد انخراطها في الدولة، وكيف يمكن أن تتكيّف مع الواقع الجديد؟ وما السيناريوهات المستقبلية التي قد تفرض نفسها في سياق هذا المشهد المتغيّر؟        

أولاً: بِنْية هيئة تحرير الشام        

تُعَدّ الهيئة قوة عسكرية غير تقليدية مقارنة مع الفصائل العسكرية المعارِضة لنظام الأسد؛ حيث تطورت عَبْر سنوات إلى كيان مُرَكَّب، يمتلك جهازاً أمنياً قوياً وذراعاً عسكرياً كبيراً وإدارة مدنية متشعبة.        

عسكرياً، امتلكت الهيئة قوات منظمة ومسلحة بمعدّات ثقيلة من الدبابات والراجمات وكتائب الطائرات المسيرة، والأسلحة المتوسطة، وقوات النخبة (المهام الخاصة) وقوات المشاة، وأعادت منذ آب/ أغسطس 2020 هيكلتها، فانتقلت من التنظيم عَبْر القطاعات والجيوش إلى التنظيم عَبْر الألوية والكتائب التخصصية، مما منحها مرونة تكتيكية عالية مكنتها من تعزيز صفوفها عبر التجنيد (التطوعي) والتدريب المستمر، إلى جانب تعزيز سراياها بالتجهيزات النوعية مثل المناظير الليلية والقناصات، فصارت القوة المهيمنة في الشمال السوري، وقد أدت هيكليتها الصارمة إلى المحافظة على انضباط قواتها وتماسُكها البنيوي.        

مدنيّاً، استطاعت الهيئة تعزيز إدارتها الحوكمية من خلال بناء سلطة محلية متمثّلة في حكومة الإنقاذ السورية، مما مكنها من فرض سيطرتها الإدارية على إدلب وما حولها، بما يشمل القطاعات الحيوية من القضاء والأمن والشرطة المحلية، والتعليم والعمل الإنساني، والخدمات الأساسية كالماء والكهرباء، وقد شملت الحكومة التابعة للهيئة بِنْية اقتصادية من خلال إدارة الموارد، كالضرائب، ورسوم التجارة، والمعابر الحدودية مع تركيا، ورغم الانتقادات الموجهة لطريقة إدارتها، فإن الهيئة استطاعت توفير حدّ أدنى من الخدمات للسكان، مما أكسبها تحقيق رضا نسبي لدى شريحة كبيرة من المدنيين.        

ثانياً: مراحل التحول وتسلُّم السلطة        

مرت هيئة تحرير الشام بمرحلتين رئيسيتين في الحكم والسلطة:          

· الحكومة المحلية في إدلب        

كانت الإدارة المحلية المدنية حاجة ضرورية في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، وهي شكل من أشكال السلطة؛ لذلك تنافست عليها الفصائل العسكرية، ومع تحوُّل هيئة تحرير الشام من جماعة جهادية إلى فصيل عسكري محلي، كان أمام هذا الفصيل فرصة كبيرة بعوامل داخلية وخارجية مكنته من التحول إلى شكل الحكومة المصغرة على مستوى إدلب وما حولها.        

التحول إلى الإدارة والحكم كان قد بدأ فعلاً مع تشكيل "حكومة الإنقاذ" في إدلب مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وبدأت الهيئة منذ ذلك الوقت استقطاب أكبر عدد ممكن من الناشطين والإعلاميين الذين يحظون بقبول شعبي بين الناس، وكانت قد وافقت على ترفيق الأرتال العسكرية لإنشاء نقاط المراقبة التركية في مناطق سيطرتها في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، وعملت "الإدارة السياسية" برئاسة أسعد الشيباني على فتح المجال لعلاقات أوسع مع أطراف ومؤسسات خارجية.        

· السلطة في دمشق وحكم البلاد        

دخلت "إدارة العمليات العسكرية" التي تقودها هيئة تحرير الشام إلى دمشق، وتولى قائد الهيئة أحمد الشرع مهامه في قصر الشعب رئيساً للبلاد إثر مقرَّرات مؤتمر النصر بتاريخ 29 كانون الثاني/ يناير 2025، لتبدأ مرحلة تسلُّم السلطة وبسط السيطرة على معظم الجغرافيا السورية.        

بدأت الهيئة بالعمل على ترسيخ حالة القبول الداخلي لها، ودمج فصائل الجيش الوطني والمعارضة سابقاً ضِمن فِرَق تابعة لوزارة الدفاع، وإنجاز مؤتمر للحوار الوطني يصدر توصياته للمرحلة الانتقالية، والسيطرة تدريجياً على مفاصل الدولة، والعمل على رفع العقوبات الخارجية المفروضة على مؤسسات الدولة السورية.        

كانت الهيئة أمام استحقاق رئيسي على المستوى الداخلي، فهي متجهة إلى الانتقال من كيان عقائدي مسلّح إلى سلطة تمسك بمفاصل الدولة الحديثة، وهي بحاجة إلى امتلاك المقومات السياسية والاجتماعية للانفتاح على كافة أطياف المجتمع السوري، والمضيّ في عملية انتقال سياسي حقيقي نحو دولة مدنية تعددية.        

كشف العقد الماضي قبل سقوط النظام عن قدرة قيادة الهيئة على اتخاذ قرارات مفصلية، مما يُعَدّ مؤشراً على وجود إرادة وقدرة داخلية للانتقال نحو إرساء حالة جديدة، سواء من خلال تفكيك البِنْية التنظيمية القديمة لصالح مشروع أوسع، أو من خلال الضبط الصارم لسلوك المقاتلين الأجانب في مناطق سيطرة الهيئة قبل إطلاق عمليات ردع العدوان، وتحييد الفصائل التابعة لتنظيم القاعدة أو المرتبطة به عن التأثير في قرارات العمليات العسكرية والحكومية في منطقة سيطرتها.        

هذه التحولات التي شهدتها الهيئة تخلق حالة من الثقة ضِمن قيادتها وضِمن المجتمع، بقدرة قائد الهيئة الذي أصبح رئيساً للجمهورية على تفكيك الهيئة وما يتبع لها ضِمن الدولة والمجتمع، وإدارة هذا الانتقال الداخلي الجديد بالتوازي مع الانتقال السياسي الذي تشهده البلاد، رغم وجود التحديات في الانتقالين معاً.        

ثالثاً: التعامل مع التحدّيات        

بعد سقوط نظام الأسد، وجدت الدولة السورية الجديدة نفسها أمام أزمة بِنْيوية مزدوجة، تتمثل بانهيار المؤسسات الأمنية والعسكرية التي كانت مبنية على الولاء الأمني والطائفي، مع غياب بِنْية جاهزة وموحَّدة يمكن الاعتماد عليها في ملء هذا الفراغ ضِمن إطار وطني شامل، مما جعل البلاد عرضة لانقسامات داخلية، ومن ثَمّ فرضت هذه الحالة الانتقالية حالة من التهديد الداخلي قائمة على إمكانيّة التفكّك المؤسّسي والسياسيّ في البلاد.        

يمكن الإشارة إلى جملة من مظاهر هذا التهديد، بدءاً من:        

1. محاولة بعض المؤسسات والكيانات السياسية المعارضة إيجاد موقع لها في هرم السلطة بناء على رمزية وجودها الدولي، وهي بطبيعة الحال لا تمتلك القواعد الشعبية أو القدرة الإدارية على الأرض.        

2. مطالبة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" ومجموعات عسكرية أخرى تنتمي للطائفة الدرزية بحصة في السلطة الجديدة، وهكذا وُلدت حالة من "تعدُّد مراكز القرار"، حيث تمسّكت كل جهة بمناطق نفوذها، مطالبة بإدارة محلية مستقلة، أو "حكم ذاتي"، مما أدى إلى تعطيل حركة البناء المؤسسي.        

3. أزمة الملفّ الأمني، فالنظام كان مركزياً في إدارة الملف الأمني، أما بعد سقوطه، فقد حُلّت الأجهزة الأمنية القديمة، وبعض أفرادها قام بعمليات تسوية مؤقتة مع السلطة الجديدة، فيما اتجه قسم منها لتشكيل خلايا مقاومة تعمل سراً، مما أسهم في خلق "أمن مجزّأ" أدى لظهور اغتيالات متفرقة واشتباكات مع قوى الأمن بشكل مستمر.        

4. أزمة على المستوى الإداري، فقد ورثت السلطات الجديدة مؤسسات حكومية فاسدة، وجهازاً بيروقراطيّاً مترهلاً، إلى جانب تشتت الكفاءات السورية في العالم أو تهميشها، مما يستدعي وجود رؤية شاملة لإعادة الهيكلة في هذه المؤسسات.        

5. خلافات على الهُوِيّة السورية، حيث تعرضت لتآكل كبير نتيجة الاستقطاب الطائفي والسياسي الذي رافق سنوات الثورة، مما يزيد من عبء المسؤولية على السلطة الجديدة لإنتاج "سردية وطنية جامعة" توحّد السوريين خلف مشروع سياسي ومجتمعي مشترك، فلكل فئة سياسية أو طائفية أو مناطقية سرديتها الخاصة حول الموقف من النظام السابق، وموقفها المساند أو الرافض له، وحقّ كل فئة في المشاركة الحكومية، وإعادة البناء، مما يجعل مسألة المصالحة الوطنية واحدة من أكثر الملفات تعقيداً وإلحاحاً.        

سَعَت هيئة تحرير الشام بوصفها النواة الصلبة للحكم الجديد، للتعامل مع هذه التحديات من منطلق أن السلطة الجديدة في دمشق هي الإدارة السياسية والحكومة الشرعية التي تحكم كامل الأراضي السورية والسوريين في مرحلة ما بعد نظام الأسد، الأمر الذي كان إحدى أدوات التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية.        

· التحديات الداخلية        

- إعادة تشكيل الصورة العامة والشرعية السياسية: سعت الهيئة إلى تحسين صورتها داخلياً وخارجياً، وأبدت استعداداً لحل نفسها والانخراط في حكومة انتقالية تضم مختلف مكونات المجتمع السوري، كما تم تشكيل لجنة للحوار الوطني عقدت مجموعة من اللقاءات ثم في نهاية المطاف مؤتمراً عاماً قدم توصياته إلى الرئاسة بحل الفصائل المسلحة وتشكيل حكومة كفاءات، وبناء عليه شكلت السلطة الجديدة الحكومة الانتقالية ووعدت بتشكيل السلطة التشريعية، وكِلتاهما تعمل وفق الإعلان الدستوري ريثما يُنجَز خلال سنوات دستور جديد للبلاد.        

- إدارة ملف السويداء والحفاظ على السلم الأهلي: واجهت الحكومة السورية الجديدة تحديات بارزة في ضبط السلم الأهلي، لا سيما بعد معارك الساحل في آذار/ مارس 2025، وكان التحدي المعقد في إصرار بعض رموز الطائفة الدرزية على إدارة شؤون محافظة السويداء بمعزل عن السلطة المركزية، ومنذ أواخر عام 2024 بادرت الحكومة إلى عقد سلسلة من اللقاءات مع وجهاء الدروز، من بينهم الشيخ حكمت الهجري المدعوم من تشكيلات مسلحة مثل المجلس العسكري في السويداء وبعض الفصائل التي كانت على صلة بالنظام السابق، وأسفرت هذه اللقاءات عن تعيين محافظ جديد للسويداء من قبل السلطة.        

العلاقة بين الشيخ الهجري والحكومة السورية شهدت أول صدام مباشر مطلع عام 2025، حين رفض إدخال قوات أمنية من خارج المحافظة، وقبل هذا التوتر كان عدد من مشايخ الطائفة قد شددوا على ضرورة بقاء السلاح بيد الفصائل المحلية إلى حين تأسيس جيش وطني موحّد "يمثل جميع السوريين". كما قُوبلت آلية تمثيل السويداء في مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في شباط/ فبراير 2025 بانتقادات، بعد توجيه دعوات لشخصيات مستقلة دون تنسيق مسبق مع القيادات المحلية، ما أدى إلى انسحاب بعض الشخصيات مثل المحامي أسامة الهجري، فيما رفض الشيخ الهجري الإعلان الدستوري المؤقت الصادر في آذار/ مارس 2025، منتقداً اعتماده الفقه الإسلامي مصدراً أساسياً للتشريع، واشتراطه أن يكون رئيس الدولة مسلماً، معتبراً ذلك إقصاء لطوائف ومكونات رئيسية وتكريساً لحكم غير تشاركي، ومجدِّداً دعوته لإقامة نظام ديمقراطي علماني ولا مركزي.        

تبرز خطورة هذا المشهد في أن بقاء "الخصوصية الدرزية المسلحة" على حالها قد يشكل نموذجاً مقلقاً لمكونات أخرى تطالب مستقبلاً بامتيازات مشابهة، مما يُنذر بتشكل بِنْية فيدرالية بحكم الأمر الواقع، مفروضة بالقوة العسكرية لا بالتوافق السياسي والدستوري، وهو ما من شأنه تقويض سلطة الحكومة المركزية وفتح الباب أمام سباق تسلُّح مناطقي يهدد وحدة البلاد وتماسكها الاجتماعي والسياسي.        

- تحدي العلاقة مع قسد: عقب انهيار نظام الأسد، وجدت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" نفسها أمام مفترق طرق إستراتيجي، فإما أن تنخرط في الدولة السورية الجديدة وتتخلى عن نموذج الإدارة الذاتية الذي بنته على مدار سنوات، أو تواصل مسارها في كيان شِبه مستقل يفرض واقعاً ميدانياً خاصاً بها شمال البلاد وشرقها، خاصة بعد تفكيكها في مناطق مثل منبج وتل رفعت، مما أنذرها بخطر التآكل التدريجي في هامش سيطرتها الميدانية وانعكاسات ذلك على مشروعها السياسي.        

أمام هذه التطورات، دخلت قسد في مفاوضات تمهيدية مع حكومة الرئيس أحمد الشرع، إدراكاً منها أن عدم الدخول في تسوية سياسية قد يؤدي إلى عزلتها داخلياً وإقليمياً، خاصة مع بَدْء الانسحاب الأمريكي التدريجي من سوريا، الذي كان يشكّل مظلة حماية أساسية لها.        

أسفر حوار قسد مع حكومة دمشق عن اتفاق مبدئي يقضي بانخراط قسد في بنية الدولة السورية، من خلال إدماج عناصرها العسكرية ضِمن الجيش الوطني الجديد، وتوحيد المؤسسات المدنية، مع ضمان احترام الحقوق لكافة المكونات السورية، لكن تطبيق هذا الاتفاق يواجه عقبات جوهرية على عدة مستويات، من أبرزها: هيمنة قيادات مرتبطة بـحزب العمال الكردستاني PKK على القرار داخل قسد، ما يحد من قدرة القيادة السياسية في قسد على الالتزام الكامل بتعهداتها، خصوصاً في حال تعارضها مع توجُّهات الأجنحة العسكرية والأيديولوجية الأكثر تشدداً.        

إلى جانب ذلك، تبرز الحساسية التركية، إذ تعتبر أن استمرار الوجود المؤسساتي لقسد والكيانات المرتبطة بها يشكل تهديداً مباشراً لأمنها القومي، وقد عبّرت أنقرة عن رغبتها في استغلال لحظة انهيار النظام لإنهاء ملف قسد عسكرياً، لا سيما في ظل تراجُع الدعم الأمريكي.        

على الرغم من توقيع اتفاق رسمي في10  آذار/ مارس 2025 بين الرئيس أحمد الشرع وقائد قسد مظلوم عبدي، إلا أن تنفيذه يشهد تباطُؤاً ملحوظاً على المستوى الميداني الأمني والعسكري، فضلاً عن أنَّ الخطوات الأوسع المتعلّقة بدمج مؤسسات قسد والإدارة الذاتية في هيكل الدولة المركزية لا تزال معلقة وغير محسومة.        

في ضوء هذه الوقائع، تعاملت حكومة دمشق مع قسد بوصفها كياناً غير متجانس، يمتلك نفوذاً فعلياً، ويقوم على سلطة محلية غير رسمية، وهو يواجه معضلة الاندماج الكامل وَفْق شروط الدولة الجديدة، لكن في الوقت نفسه فإن خيار المقاومة للحفاظ على المكتسبات السياسية والعسكرية يبدو خياراً صعباً بالنسبة لقسد، حيث تخشى خطر التفكك الداخلي نتيجة التوترات العِرْقية والضغوط الداخلية متعددة الأطراف فضلاً عن الضغوطات الخارجية الإقليمية والدولية.        

- تحدي الضبط العسكري: بعد سقوط نظام الأسد، شرعت الحكومة السورية الجديدة في عملية شاملة لإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، تمثلت في دمج أكثر من 130 فصيلاً مسلحاً ضمن وزارة الدفاع، بهدف بناء جيش وطني موحد، بعيداً عن الولاءات الفصائلية، مع التركيز على الكفاءة والانضباط.        

تضمنت عملية الدمج مراحل متعددة، شملت إحصاء الأسلحة والعناصر، وتوزيعها على وحدات عسكرية نظامية، وتم استيعاب عدد من الضباط المنشقين عن النظام السابق، مع إخضاعهم لتقييمات مهنية، ورغم التقدم المحرَز ما تزال التحديات قائمة، وأبرزها التباينات الأيديولوجية بين الفصائل، والمطالب الخاصة لبعض المكونات العسكرية، مثل فصائل السويداء وقسد بالاحتفاظ بكيانها العسكري ضِمن الجيش الجديد في حال القبول بالانضمام إليه.        

تسعى الحكومة إلى تجاوُز هذه العقبات من خلال الحوار والتفاوض، مع التأكيد على ضرورة وحدة القرار العسكري واحتكار السلاح بيد الدولة، وتُعد هذه الجهود جزءاً من مسعى أوسع لإرساء الاستقرار وبناء مؤسسات دولة حديثة في مرحلة ما بعد الصراع.        

· التحديات الخارجية        

- العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية: سعت الهيئة إلى إعادة تعريف دور سوريا الجيوسياسي، والسعي في إطار ذلك لتحقيق توازُن بين الحفاظ على استقلالية القرار السوري والانخراط في المنظومة العربية والدولية، وقد واجهت الهيئة تحفظات من المجتمع الدولي، بسبب خلفيتها الجهادية، ومع ذلك كانت القوى الإقليمية والدولية ومؤسساتها مستعدة للتعاون مع الحكومة الانتقالية بشرط اتخاذ خُطوات نحو الحوار والمشاركة السياسية واحترام حقوق الإنسان.        

الجهود الدبلوماسية من الحكومة السورية بدعم من تركيا وبعض الدول العربية لرفع العقوبات قد أظهرت آثاراً تدريجية إيجابية في هذا المضمار، وصولاً إلى الرفع النهائي للعقوبات من قِبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من قِبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أيار/ مايو 2025.        

بنفس درجة أهمية رفع العقوبات الاقتصادية والتصنيف السياسي عن سوريا ومؤسساتها الحكومية جاء الاعتراف السياسي من واشنطن وحلفائها بنظام الحكم الجديد الذي تشكل هيئة تحرير الشام نواته الأساسية، وشكَّل لقاء الرئيس الشرع مع الرئيس الأمريكي في العاصمة السعودية نقطة فارقة على مستوى تموضع الهيئة ضِمن الحكم الجديد في سوريا.        

- التدخل الإسرائيلي: مثّل سقوط نظام الأسد تحوُّلاً مُقلِقاً لإسرائيل، التي كانت ترى في بقاء النظام -رغم عدائه الظاهري- ضمانة غير مباشرة لنوع من "الاستقرار السلبي" على حدودها الشمالية، وقد فجّر سقوطه تخوُّفات جديدة دفعت إسرائيل إلى تبنّي نهج وقائي مباشر في التعامل مع المتغير السوري، على خلفية الفراغ السلطوي ووصول قوى إسلامية إلى الحكم، أو تمدُّد النفوذ التركي بما يهدد بكشف وتعطيل أنشطتها الأمنية والعسكرية في الجولان وجنوب لبنان.        

في هذا السياق، أطلقت تل أبيب عملية "سهم باشان"، وهي حملة عسكرية جوية وبرية استهدفت أكثر من 250 موقعاً داخل الأراضي السورية، بدعوى تدمير ترسانة الأسلحة الإستراتيجية السورية. ثم اتسعت رقعة العمليات منذ 11 كانون الأول/ ديسمبر 2025 لتشمل توغُّلات عسكرية على عمق يصل إلى 25 كم جنوب غرب دمشق، بما في ذلك السيطرة على قمة جبل الشيخ ومناطق داخل المنطقة منزوعة السلاح، في خُطوة تنذر بفرض واقع ميداني جديد.        

لم يقتصر النشاط الإسرائيلي على الجانب العسكري، بل شمل أيضاً توظيف البُعد الطائفي والإثني، حيث أطلقت إسرائيل تصريحات داعمة للأكراد والدروز، في محاولة لاستمالة هذه المكونات وإضعاف تماسُك السلطة السورية الجديدة. هذا التوجّه يكشف عن إستراتيجية "التشتيت الناعم"، عَبْر تقديم إسرائيل نفسها ضامناً للأقليات، في لحظة تعاني فيها الحكومة السورية من أزمات بناء الثقة والتمثيل.        

انطلاقاً من هذه المعطيات، يمكن توصيف السلوك الإسرائيلي بأنه مزدوج، فهو يسعى لتقويض تعافي الدولة السورية عسكرياً وإستراتيجياً عَبْر ضرب بِنْيتها الدفاعية، وينفتح على تفعيل أدوات التفتيت الأهلي والمناطقي بما يعمّق هشاشة السلطة المركزية.        

رغم ما يتيحه المشهد من فرص لإسرائيل لفرض معادلات أمنية جديدة، فإن انخراطها الميداني يضعها أمام تحديات بنيوية، على رأسها تحوُّل الجنوب السوري إلى ساحة صراع مُزمِن مع فاعلين محليين وإقليميين، ما قد يُقيّد هامش تحرُّكها مستقبلاً.        

من المرجَّح أن تستمر تل أبيب في دور الفاعل غير المباشر المزعزع للاستقرار، عَبْر ضربات جوية محددة، أو عَبْر دعم قوى محلية لجعلهم أداة ضغط على السلطة الجديدة، وصولاً إلى طاولة مفاوضات تفرضها الضغوطات الإقليمية والدولية.        

في ضوء ذلك اتبعت الحكومة السورية الجديدة نهجاً مزدوجاً يقوم على تجنُّب المواجهة المباشرة مع إسرائيل من جهة، والعمل على تحصين الجبهة الداخلية وتعزيز التحالفات الإقليمية والدولية من جهة أخرى، فسارعت الحكومة إلى توجيه رسائل رسمية لمجلس الأمن والأمم المتحدة عَبْر وزارة الخارجية، تُحمّل إسرائيل مسؤولية خرق السيادة السورية وتهديد الأمن الإقليمي، كما سعت في خطابها إلى التذكير بأنها حكومة تسعى إلى بناء دولة ذات سيادة لا تشكل تهديداً لجيرانها، لكنها ترفض الإملاءات الأمنية الإسرائيلية، بموازاة ذلك، عزّزت دمشق علاقاتها مع قوى إقليمية فاعلة أهمها تركيا والسعودية وقطر لضمان نوع من الدعم السياسي والاقتصادي يمكن استخدامه لتحقيق توازُن في وجه الضغط الإسرائيلي، كما أبقت حكومة دمشق الجديدة قنوات تواصل مع روسيا، ولو على نطاق ضيق، مع الحذر من توريط سوريا في أجندات إقليمية متضاربة.        

بناء على ذلك، فقد اختارت الحكومة السورية الجديدة تبنِّي إستراتيجية "الانكفاء المؤقت"، بمعنى تجنُّب الاصطدام العسكري، مقابل العمل على بناء شرعية داخلية تسمح لها مستقبلاً بخوض مفاوضات سيادية أكثر قوة، سواء مع إسرائيل عَبْر وساطات دولية، أم من خلال إعادة التوازن في قواعد الردع.        

رابعاً: أدوات التماسُك الداخلي        

أمام التحديات المختلفة الداخلية والخارجية تبنت هيئة تحرير الشام بعد تسلُّمها السلطة في دمشق أدوات متعددة لتحقيق التماسك الداخلي في بِنْيتها التنظيمية وَفْق المرحلة الجديدة، أي بعد تحوُّل الهيئة إلى السلطة الحاكمة، وهذه الأدوات تبقى قَيْد التطوير بما يناسب المرحلة الراهنة وتحديات المستقبل، وأهم هذه الأدوات نشر الكوادر في صلب السلطة المركزية.        

سعت الهيئة إلى دمج كوادرها ضِمن مؤسسات الحكومة المركزية التي ستدير سوريا في مرحلة ما بعد نظام الأسد، مع تقديم خطاب معتدل يهدف إلى نَيْل الاعتراف الدولي والإقليمي.        

حكومة تصريف الأعمال خلال الأشهر الثلاثة الأولى بعد سقوط النظام كانت منبثقة عن حكومة الإنقاذ، وكانت قد كلفت لتضبط الدولة، وتحصي جميع المعلومات الخاصة بالمؤسسات والهيئات، وتم تشكيل لجان وهيئات ومعاوني وزراء ومديرين ومعاونيهم من فريق الإدارة السابق في إدلب، وتم تشكيل إدارة عامة للشؤون السياسية تشرف بشكل أساسي على الأنشطة السياسية والثقافية في المحافظات جميعاً، وتتابع أعمال المحافظ ومجالس إدارة المدن، وتقوم برفع تقاريرها إلى وزير الخارجية.        

حين أعلن الرئيس الشرع في 30 آذار/ مارس 2025 تشكيل حكومة جديدة موسَّعة برئاسته، تضم 23 وزيراً تم اختيارهم على أساس الكفاءة والخبرة (حكومة تكنوقراط)، بقيت وزارات مهمة ضِمن حصة الحكومة السابقة (حكومة تصريف الأعمال)، واستمرت اللجان والهيئات ومعاونو الوزراء والمديرون بمجملهم من كوادر هيئة تحرير الشام السابقين أو من العاملين في إدارة إدلب سابقاً، ينطبق ذلك على كثير من مفاصل الدولة ومنها وزارة الاقتصاد والصناعة، ووزارة التربية، ووزارة التعليم العالي، ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ووزارة النقل، رغم شغل وزراء لا ينتمون للهيئة لهذه الوزارات، إلا أن معاونيهم والبِنْية البيروقراطية المسؤولة عن تشغيل الوزارة وتسيير أعمالها تابعة بجزء واسع منها لكوادر الهيئة السابقين.        

إلى جانب ذلك فقد تم إنشاء مؤسسات وهيئات حكومية ذات اختصاص وشخصيات اعتبارية، مثل الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، والمؤسسة العامة للطيران المدني، وهيئة الاستثمار، وفُصِلت عن الوزارات الخاصة بها، وأُسنِدت مسؤوليتها إلى شخصيات من الهيئة.        

أظهرت الهيئة مرونة في إعطاء بعض المناصب الحكومية لشركائها في الفصائل المسلحة مثل الجيش الوطني، مع مرونة أقل فرضتها الحاجة لمكونات أخرى مثل أعضاء الائتلاف الوطني أو شخصيات من النظام السابق، ويُعتقد أنها ضِمن خُطوة استباقية لإثبات إشراك باقي الأطراف في السلطة، حيث يتوقع أن تدفع بعض الأطراف الدولية بذلك.        

خُلاصة        

تطوّرت هيئة تحرير الشام من جماعة جهادية إلى فصيلٍ مسلّحٍ ذي بِنْية مركَّبة، يمتلك ذراعاً عسكرياً منضبطاً ومدعّماً بأسلحة ثقيلة ووسائل قتالية حديثة، إضافةً إلى إدارة مدنية واسعة عَبْر حكومة الإنقاذ السورية، وقد تمكّنت الهيئة من بناء مؤسسات خدمية محلية إلى جانب فرض سيطرتها الإدارية على إدلب ومحيطها، وتأمين حدّ أدنى من الخدمات، ما أكسبها درجة من القبول الشعبي النسبي، والأهم أنه هيَّأ لها حالة الانتقال من فصيل مسلح إلى فاعل سياسي يمتلك تجربة الحكم المحلي وأدواته.        

شكَّل إسقاط نظام الأسد على يد فصائل مسلحة تقودها هيئة تحرير الشام نقطة تحوُّل كبرى على مستوى تموضع الفاعلين المحليين ومدى نفوذهم الداخلي وعلاقاتهم الخارجية، بالتوازي مع تغيُّرات كبرى على مستوى نفوذ الفاعلين الخارجيين وأدوارهم في سوريا والمنطقة، إلا أن الهيئة ورغم نجاحها العسكري، تواجه تحديات ضخمة في إدارة المرحلة الانتقالية، لعل أهمها هو تحوُّلها من جسم موحَّد إلى نواة صلبة تتحكم بِبِنْيَة دولة.        

مع وجود مشاركة لمكونات أخرى خارج الهيئة وحلفائها المقربين في إدارة بعض مفاصل الدولة، إلا أنها بقيت حريصة على توزيع كوادرها وجعلهم مسؤولين عن مفاصل السلطة المركزية، فدمجت قواتها ومؤسساتها ضِمن هياكل الدولة المستقبلية، ونالت اعترافاً دولياً وشرعية سياسية بذلك، بالتوازي مع رفع العقوبات عن الحكومة السورية وكياناتها ومؤسساتها، مقابل ظهور تغيُّرات جوهرية في خطاب مسؤولي الهيئة تجاه الداخل والخارج.        

في المجمل، أظهرت هيئة تحرير الشام قدرة على التكيّف مع الواقع الجديد وقراءة الواقع السياسي والإستراتيجي والتصرف بناءً على مصالحها بما يتوافق مع مصالح الدول الإقليمية والمجتمع الدولي، بما يكفل لها الإمساك الكامل بمفاصل هيكل الدولة السورية حاليّاً ومستقبليّاً، إذا ما بقيت قادرة على تجاوُز التحديات الداخلية والخارجية، وبقيت تحظى بالدعم الإقليمي والدولي لذلك.