هل ينقلب الأسد على قيم حزب البعث؟
ألقى بشار الأسد في 4 أيار/ مايو 2024 كلمة في مطلع اجتماع اللجنة المركزية الموسَّع لحزب البعث، الذي كان من المقرَّر له أن يكون ختاماً للعملية الانتخابية التي أطلقها النظام السوري نهاية شباط/ فبراير، ونتج عنها تغيير شِبه كامل في هيكلة القيادة المركزية، التي حلّت مكان القيادة القُطْرية الموجودة منذ نيسان/ إبريل 2017، وغيّرت تسميتها عام 2018 من قيادة قُطْرية إلى قيادة مركزية بعد إلغاء القيادة القومية للبعث في أيار/ مايو 2017.
على غير عادة المؤتمرات القُطْرية التي كان يقوم بها حزب البعث جاء اجتماع اللجنة المركزية الموسَّع ببرنامج انتخابي فقط، وتحدّث بشار الأسد خلاله بكلمة وصفها إعلام الحزب بغير المبرمَجة والطويلة، لم تتطرق إلى الحالة السورية بشكل عامّ والحل السياسي ولا إلى وجود القوات الأجنبية في سورية ولا للوضع الاقتصادي خارج مناطق النظام باستثناء المناطق الخاضعة لسيطرته. شملت الكلمة 3 محاور رئيسية بما يُشبه جدول أعمال الاجتماعات الحزبية، وهي: الحالة التنظيمية، والحالة الاقتصادية، والحالة السياسية.
1. الحالة التنظيمية:
• طرح الأسد في خطابه -ودون مناقشة جمهور الحضور بخلاف العادة الحزبية- جملة من المصطلحات الجديدة على واقع البعث؛ حيث تحدّث عن تموضع جديد للحزب والدولة، في محاولة لتأكيد ابتعاد قيادة الحزب عن الحالة التنظيمية القومية على المستوى العربي، على أمل أن يسترضي في هذه الخُطوة الدول العربية المنخرطة معه في مسار التطبيع.
• تحدّث عن الحريات وعلاقة الحزب بالدين، وأكد على علمانية الدولة، في دعاية سياسية تهدف لإعادة توصيفه ضِمن تيار اليسار السياسي العالمي في مواجهة خصومه الموصوفين ضِمن تيارات يمينية أو إسلامية، وبالتالي تعزيز تطبيعه مع التيارات اليسارية الغربية؛ بحيث تدعم في خطابها فرص فكّ العزلة الدولية عنه.
• دافع عن الأحزاب العقائدية وضرورتها، في محاولة واضحة لاستدعاء الحامل الفكري السياسي لمشروعه في الحكم؛ حيث اعتبر أن الأحزاب غير العقائدية هي أحزاب براغماتية زائلة، مطالباً ببناء العقيدة الحزبية على الفكر القومي الإنساني الحضاري، منتقداً ما وصفه بغرائزية الحزب القومية.
• انتقد الانتخابات المركزية كدائرة واحدة للحزب، وأشار إلى إمكانية العودة للقوائم التي اعتبرها في خطابات سابقة له من أسباب الفساد السياسي للحزب. في تناقُض واضح يُثبت عدم رغبة الأسد في إيجاد حلّ للفساد داخل الحزب.
• عرض العديد من المشاكل التنظيمية التي تواجه الحزب دون سماع محاوريه من جمهور قيادات الحزب، بينما غابت الحلول عن خطابه في أهم اجتماع تنظيمي منذ أكثر من عقد؛ حيث لم يُحدّد أي مسؤوليات ولم يتّخذ أي قرارات بخلاف ما عُرف عن مؤتمرات الحزب، في محاولة من الأسد لعدم تحميل نفسه نتائج أي تغييرات جوهرية مستقبلاً، ونسبها إلى آراء حزبية، وبما يزيد من مرونته في اتخاذ القرارات أو التراجع عنها وتحميل الفشل للآخرين.
2. الحالة الاقتصادية:
• قدّم الأسد شرحاً مطولاً عن اقتصاد السوق وانتقد السياسات الاجتماعية القديمة، كما مدح التجربة الاقتصادية الصينية المبنية على اقتصاد السوق داخل منظومة شيوعية. فيما يبدو أنه ترويج من قِبله لنهج اقتصادي جديد سيطبقه النظام، وهو ما يُعتبر نكوصاً عن فكر الحزب الاشتراكي ونسفاً لهدفه، دونما الاعتراف بفشل الحزب الذي حكم منفرداً لأكثر من 50 سنة ولم يُحقّق أهم أهدافه.
• طرح الأسد مشكلات القطاع العامّ الصناعي والزراعي ووصفه بالخاسر، ناسباً الخسارة بشكل رئيسي للفساد وإلى سياسات التوظيف الإلزامي السابقة، مشيراً إلى سياسات جديدة في التوظيف والدعم الحكومي، فما يبدو أنها سياسات جديدة يسعى لها النظام في عملية خصخصة متدرجة تبدأ بالترويج لخسارة القطاع العام اقتصادياً ثم التخلي عن وظائفه وسياساته الاجتماعية وصولاً للانتقال إلى الخصخصة، سواء بمنح حقوق امتياز واستثمار ضمنه أو بالبيع المباشر لأصوله الثابتة من أجل توفير تمويل للحكومة قد يساعدها مع شراكات واتفاقيات امتياز ومنح لحقوق استثمار مع دولة مثل الصين بالانتقال لاقتصاد السوق، جديد طموحات الأسد.
3. الحالة السياسية:
• أهمل الأسد الحديث عن الواقع السياسي السوري ومسار الحل السياسي، باعتبار أنّه لا يتعامل معها كحلول إنما مسارات مفروضة عليه لا يُؤمن بها أصلاً، ويسعى دائماً لتعطيلها، حيث يعمل على كسب الوقت لإنفاذ مسارات وسياسات أخرى يقوم بها بالتعاون مع حلفائه.
• تطرَّق إلى الحرب في غزة، وأكَّد على وجوده في محور المقاومة ودعمه، بينما كان الأسد بالمقابل قد خضع لتهديدات إسرائيل، ولم يرد على الضربات الجوية التي تنفذها والعمليات البرية التي شنتها في مناطق فضّ الاشتباك في الجولان.
• انتقد موقف المعارضة السورية بادعائه عدم تضامُنها مع غزة، واصفاً مساعيها لإقرار مشروع القانون الأمريكي لمناهضة التطبيع مع النظام بالشراكة في العدوان على محور المقاومة، في استثمار جديد من قِبله للقضية الفلسطينية ومزايدات دعائية مستمرة لتشويه صورة المعارضة، واستغلال ذلك في دعايته الموجَّهة للقوميين العرب لإشغالهم عن التفكير في عدم قيامه بأي دور حقيقي مساند للفلسطينيين في الحرب. كما لم تُخفِ تعابير وجهه سعادته بعدم تمرير المشروع بالكونغرس الذي كان سيقف عائقاً أمام مشاريع إعادة تعويم النظام.
يتمسّك الأسد بحزب البعث كحامل وركن رئيسي لنظام الحكم رغم انكماش دوره وتراجعه؛ حيث يجده غطاء سياسياً وشبكة متغلغلة في مؤسسات الدولة تتشكل كيفما أراد تُخفي خلفها منظومة حكمه الشمولي وتمنحه تموضعاً يسارياً وتُعزز من سيطرته.
أخيراً إنّ ذهاب الأسد لاجتماع مركزية البعث وعدم تقديمه لحلول في خطابه سواء حزبية أم سياسية أم اقتصادية يبدو نهجاً متعمّداً؛ باتباعه أسلوب طرح المشكلات والأفكار وتحميل التَّبِعَات للكوادر الحزبية والحكومية، ليس من مبدأ فصل الدولة عن الحزب بل عَبْر اتباع سياسة جديدة تُظهر الأسد بموقع المرشد والموجِّه وتترك التنفيذ للكوادر لتحمُّل التَّبِعَات؛ في محاولة لمحاكاة نظام الحكم في إيران ومبدأ المرشد الأعلى وجعل الحكومة والحزب في دائرة التنفيذ ثم تحمُّل المسؤوليات بخلاف الدستور السوري ونظام حزب البعث.
يسعى الأسد من خلال سلسلة الإجراءات التي اتخذها خلال الفترة الأخيرة إلى محاولة تصوير نفسه أنّه يرشد إلى عملية إصلاح وتطوير وتغيير في سلوك نظام البعث الحاكم في سورية، ضِمن سياسة متعدّدة الأهداف منها تلبية مطالب الدول المطبِّعة معه وملاءمتها مع مطالب حلفائه. كما يحاول رسم جملة من التغييرات في قِيَم حزب البعث وأهدافه؛ حيث حيَّد المبدأ القومي بإلغاء القيادة القومية، وترك من رسالته فقط الاحتفاء بالعُرُوبِيّة الإنسانية، كما أنهى هدفه بالوحدة العربية بتأكيد الحالة الوطنية والخصوصية المحلية وبتحالُفه مع أعداء العرب في إيران، وحارب مبدأ الحرية بتقديمه مثالاً قويّاً في الاصطفاف مع النُّظُم القمعية الشمولية ومحاربة مَطالب الحرية التي ينادي بها السوريون منذ عام 2011، ويبدو جلياً سعي الأسد لصياغة نظام اقتصادي جديد ينسف الاشتراكية بالاعتماد على اقتصاد السوق في محاكاة لتجربة الصين في رأسمالية الدولة، تمهيداً منه لتجربة رأسمالية تستند إلى الخصخصة وبيع أصول الدولة الثابتة وحقوقها في ثرواتها الطبيعية من أجل تأمين موارد جديدة مالية لحكومته من أجل ضمان استمرار نظام حكمه وتعزيزه.