معارك الطائرات على الأرض السورية
تمهيد
أسقطت الولايات المتحدة طائرة حربية تابعة لقوات النظام السوري بالقرب من مدينة الرقة. وتُعد هذه المرة الأولى التي يتم فيها إسقاط طائرة حربية تابعة للنظام السوري من قبل الولايات المتحدة طوال الأزمة السورية منذ بدايتها قبل ست سنوات.
لكن إسقاط الطائرة شكّل الاستهداف الخامس لقوات النظام خلال أقل من شهرين، في تطور دراماتيكي للاستراتيجية الأمريكية في سورية. وهو تطوّر يثير قلق الرعاة الأساسيين للنظام في موسكو وطهران، ويظهر حزماً أمريكياً غاب عن المنطقة لسنوات طويلة.
ويمثّل استهداف طائرة مقاتلة نقطة تحول مهمة في العلاقة بين الطرفين، فعلى خلاف استهداف القوافل البرية وحتى الطائرات دون طيار، فإنّ استهداف الطيران الحربي كان خارج نطاق قدرة المعارضة، وحتى خارج نطاق قدرة قوات سورية الديموقراطية وتنظيم داعش، واقتصرت حوادث إسقاطها على بعض الحالات النادرة رغم الاستخدام المكثّف للطيران بشكل يومي.
وتستند قوات التحالف قانونياً إلى فكرة محاربة تنظيم إرهابي قام بمهاجمة مواطني دولها، ولم تتمكن الحكومة المركزية التي يتخذ من أرضها مركزاً لانطلاق عملياته من محاربته. لكن استهداف التحالف لقوات النظام يمكن أن يغيّر من التوصيف القانوني لمهام قوات التحالف في سورية، ويحوّل المعركة في سورية لأول مرة إلى "صراع دولي" ضمن مفاهيم القانون الدولي. وهو ما يمكن أن يستدعي طلباً روسياً لإعادة التفاهم بشكل كامل مع واشنطن حول شكل العلاقة بين الطرفين في سورية، وإعادة النقاش حول تقاسم النفوذ بينهم، وهو نقاش قد ترغب واشنطن أيضاً به، حيث لا تودّ أن تحصر خياراتها في اتفاقات تعود لحقبة سابقة بأولويات تختلف عن أولويات اليوم.
وإلى جانب روسيا، حمل استهداف الطائرة رسائل عديدة إلى أطراف عديدة، أهمها إيران والنظام السوري وقوات سورية الديموقراطية.
ويحاول هذا التقرير قراءة هذه الرسائل في سياق الضربات الأمريكية المتكررة للنظام السوري وحلفائه الأجانب خلال الشهر الماضي، والتداعيات الممكنة لهذه الحادثة وإمكانية حصولها مرة أخرى.
تسلسل الضربات الأمريكية للنظام السوري
في 6/4/2017 شنت الولايات المتحدة هجوماً بـ(59) صاروخاً نوع (توماهوك) من مدمرتين حربيتين في البحر المتوسط باتجاه مطار الشعيرات العسكري قرب مدينة حمص في سوريا ضد قوات النظام السوري رداً على هجوم النظام السوري المتعمد على خان شيخون بالسلاح الكيماوي، والذي قتل فيه المئات من المدنيين، وكانت هذه المرة الأولى التي يعطي فيها البيت الابيض أوامر بعمل عسكري مباشر ضد قوات النظام السوري.
وفي 18/5/2017 أعلن مسؤولون في وزارة الدفاع الأمريكية أنّ طائرات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قصفت قافلة موالية للنظام يبدو أنها كانت تنقل عناصر من الميليشيات الشيعية في سوريا بينما كانت متّجهة إلى موقع عسكري للتحالف قرب الحدود الأردنية.
وفي 6/6/2017 حاولت قوات يُعتقد أنها ميليشيات إيرانية برفقة ضباط من النظام السوري خطوط وقف التصعيد على الطريق الواصل بين منطقة السبع بيار وحاجز ظاظا في البادية الجنوبية الشرقية لحمص، حاولت الوصول إلى قاعدة التنف العسكرية، وكان الرتل يحتوي على دبابة ومدافع وأسلحة مضادة للطائرات ومركبات مسلحة وأكثر من 60 جندياً، فقامت الولايات المتحدة بتوجيه تحذيرات عبر الخط العسكري الساخن مع روسيا، لكن لم يتم هناك استجابة لتقوم طائرات أمريكية تابعة للتحالف الدولي بقصف الرتل وتدمير مدفعيتين وسلاح رشاش مضاد للطائرات ودبابة".
وفي 8/6/2017 أسقط التحالف الدولي بقيادة واشطن طائرة بدون طيار تتبع لقوات داعمة للنظام السوري، بعد قيامها بمهاجمة قوات تابعة للتحالف الدولي دون وقوع أي أضرار.
وفي 18/6/2017 قامت طائرة أمريكية بإسقاط طائرة سوخوي 22 تابعة للنظام السوري جنوب مدينة الرقة.
وفي 20/6/2017 قام التحالف الدولي بإسقاط طائرة مسلحة مسيرة تابعة للنظام السوري على الحدود السورية-العراقية، بعد أن "أظهرت نية معادية وتقدمت صوب قوات التحالف" وفقاً للتحالف.
إسقاط الطائرة
ذكر بيان للتحالف الدولي أن الطائرة العسكرية التابعة للنظام وهي من نوع سوخوي 22 قامت في تمام الساعة 18:43 من مساء يوم الأحد 18/6/2017 باستهداف مواقع لقوات سورية الديموقراطية جنوب مدينة الرقة، مما استدعى قيام مقاتلة أمريكية بإسقاط الطائرة. لكن النظام السوري ادّعى أن الطائرة استهدفت مناطق تنظيم داعش داخل الرقة1.
وقد أدّى إسقاط الطائرة إلى تصاعد التوتر بين روسيا والولايات المتحدة، حيث رأت موسكو أن هذا العمل يُشكّل تعدياً على القانون الدولي وعملاً عدائياً من جانب القوات الأمريكية2. وأعلن وزير الخارجية الروسي أن الرد الروسي سيكون عبر إيقاف عمليات التواصل والتنسيق بين روسيا والولايات المتحدة في سورية3.
وانعكس توتر الموقف بين البلدين في حادثة غريبة من نوعها عندما اقتربت مقاتلة تابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) من طائرة تُقلّ وزير الدفاع الروسي فوق بحر يوم 22/6/2017، ثم انسحبت بعد أن طاردتها طائرة روسية. وحملت الولايات المتحدة روسيا مسؤولية الحادث، لكن روسيا ردت بالقول إن طائرة التجسس قامت بحركة استفزازية4.
ويُلاحظ أن الإعلام التابع للنظام السوري قام بتغطية عملية إسقاط الطائرة بشكل خجول، حيث اكتفى بتناول الخبر ضمن سياق ردود الفعل الروسية، دون نشر أي تصريحات رسمية أو ذكر تفاصيل الحادثة.
الرسائل والمضامين
انتهجت القوات الأمريكية في سورية سياسة أكثر مواجهةً منذ قدوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولم تتردّد هذه القوات في إرسال الرسائل السياسية أو رسم حدود السيطرة من خلال الاستهداف المباشر لفاعلين غير تنظيم داعش، والذي كان استهدافه المهمة الوحيدة المسموح بها في عهد الرئيس السابق أوباما.
وأظهر قيام طيران النظام باستهداف قوات سورية الديموقراطية جنوب الرقة محاولة من طرف النظام، وربما من طرف طهران أو موسكو، لاختبار حدود المعركة وشكل التحالف بين القوات الأمريكية والميليشيات الكردية، ضمن المحاولة المستمرة من طرف داعمي النظام للحصول على حصة من "كعكعة معركة الرقة"، وإعادة التفاوض الميداني على محاصصات السيطرة في المنطقة الشرقية.
وبالمقابل فإنّ إسقاط الطائرة شكّل رسالة حزم أمريكية تجاه هذه الأطراف، لإظهار أن الولايات المتحدة لن تتردّد في اتخاذ الخطوات اللازمة لمنع أي طرف من التدخل في مناطق سيطرتها.
وشكّل الرد الأمريكي محاولة أيضاً لطمأنة شركاء المعركة على الأرض، والذين تعرّضوا لقصف من حليف الأمس الذي يشعر بالغيظ من تحالفات اليوم، وبالقلق من تموضعات المستقبل الذي يمكن أن تنتج عن هذه التحالفات.
لكن الملاحظ أن الموقف الأمريكي في استهداف الطائرة بعد استهداف قوات سورية الديموقراطية لا ينطلق من أهمية هذه القوات بل ينطلق من أهمية المعركة التي تخوضها بالنيابة عن قوات التحالف. فقد سبق وتعرّضت مقرّات هذه القوات لقصف تركي مماثل في 25/4/2017، لكن القوات الأمريكية لم تقم بأي عمل عسكري للدفاع عنهم، رغم أن القصف كان قريباً جداً من قاعدتها العسكرية، مما يُشير إلى الولايات المتحدة لا تقوم بتأمين الحماية للميليشيات الكردية بقدر ما تقوم بحماية مخططها لمعركة الرقة والمنطقة الشرقية.
وأظهرت الضربة غياباً للتوافق بين الولايات المتحدة وروسيا حول تقاسم النفوذ في المنطقة الشرقية، أو ربما خلافاً حول تفاصيل مرحلة ما بعد داعش.
وعزّزت الضربة، والتي جرت أثناء وجود وزير الدفاع الروسي في قاعدة حميميم، من شعور عدم الارتياح لدى الطرف الروسي من الأسلوب الأمريكي الجديد، فبعد أن كان الدور الامريكي خافتاً وملتزماً بالحدود المتفق عليها مع موسكو، جاء الرئيس ترامب ليوسّع من نطاق المعركة ومن منطقة النفوذ دون اتفاق مسبق مع الروس المتواجدين على الأرض، والذين يعتقدون بأن لهم الحق في تحديد مساحة نفوذ الطرف الأمريكي وليس العكس، وأن التمدد شرق وجنوباً ينبغي أن يكون ضمن صفقات تضمن للطرفين حقوقهم، وهو ما لا يبدو موضع تفهّم أمريكي، حتى الآن على الأقل.
ورغم التوتر وحالات الشد في سورية، فإنّ "شعرة معاوية" الروسية-الأمريكية، ستمنع الاصطدام المباشر بين الجانبين، وستبقي الصراع بينهم ضمن لعبة عض الأصابع، والاستمرار في استهداف الحلفاء الأقل شأناً (قوات النظام وقوات سورية الديموقراطية)، دون أن يصل الاستهداف بأي شكل إلى الطرفين مباشرة.
ويظهر الطرف الروسي رغبة على ما يبدو في الاستمرار في اختبار الإرادة الأمريكية مجدداً عبر مناورات محدودة، فروسيا ترغب بمنطقة واسعة من سورية تضم دمشق (من دون ريفها الشرقي) وحمص وحلب (من دون ريفها الشرقي والغربي والشمالي) والساحل، شريطة أن تكون هذه المنطقة متصلة. في حين ترغب الولايات المتحدة بالحصول على المناطق الشرقية في سورية وريف دمشق الشرقي وريف حلب وإدلب.
وسيكون الخلاف بين القوتين الأمريكية والروسية متعلقاً بتقاسم النفوذ في المناطق الجنوبية (درعا والسويداء) ومناطق دير الزور والرقة حيث تتواجد المصادر المائية والنفط.
وسيؤجل حسم القضايا الشائكة من مناطق آمنة أو مناطق تقليل التوتر أو النزاع، ومصير المناطق الجنوبية والرقة ودير الزور، ومستقبل الأكراد إلى مرحلة لاحقة تأتي بعد حسم معركة الرقة، والتي قد تنتهي قبل نهاية شهر تموز/يوليو 2017.
الهوامش
(1) US shoots down Syrian government fighter jet that dropped bombs near coalition-backed forces fighting Isis, The independent, 18/6/2017
(2) Russia warns US its fighter jets are now potential target in Syria, The guardian, 19/6/2017
(3) Russia warns US its fighter jets are now potential target in Syria, The guardian, 19/6/2017
(4) Russian defence minister's plane buzzed by NATO jet over Baltic, Reuters, 21/6/2017