"وثيقة اللاورقة" هل تفتح مسار التطبيع الأوروبي مع النظام السوري؟
مقدمة
في تموز/ يوليو 2024 قدمت 8 دول أوروبية طلباً إلى مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من أجل إجراء مراجعة لإستراتيجية الاتحاد تجاه الوضع في سورية، والتي كان قد تبناها في نيسان/ إبريل 2017 [1] . وهذه الدول هي: إيطاليا والنمسا واليونان وقبرص والتشيك وكرواتيا وسلوفينيا وسلوفاكيا. وقد تم تقديم الطلب عَبْر وثيقة حملت اسم اللاورقة [2] ، وصفت في مقدِّمتها المبرِّرات الداعية لمراجعة الإستراتيجية الأوروبية، وأوردت 10 مقترحات ينبغي مناقشتها وتعديل الإستراتيجية على أساس الأجوبة عنها، ووضعت الأهداف الكبرى التي تسعى لتحقيقها عَبْر الإستراتيجية الجديدة المتوقَّعة.
أولاً: مضامين وثيقة اللاورقة الأوروبية بشأن سورية
استند وزراء خارجية الدول الثماني في طلب مراجعة إستراتيجية الاتحاد الأوروبي في اللاورقة إلى 4 مُعطَيات رئيسية، هي:
1. دعم روسيا وإيران للنظام السوري، والذي بفضله لم يتمكن من البقاء والاستمرار فحَسْبُ، بل استعاد السيطرة على حوالَيْ 70% من أراضي البلاد، بينما استقرت المناطق خارج سيطرته وإنْ كانت في حالة من التأزُّم السياسي، وأصبحت خطوط المواجهة الداخلية رغم عدم التهدئة ثابتة منذ عام 2020.
2. تطبيع الدول العربية مع النظام؛ حيث غيّرت عام 2023 الكثير من الدول العربية بقيادة السعودية نهجها تجاهه، وقررت إعادة منح النظام مقعد سورية في جامعة الدول العربية وفتح حوار معه، مما أدى إلى خلق ديناميكية إقليمية جديدة، كما أدى ذلك إلى جمود فعلي في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والجامعة.
3. تعثُّر العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة؛ إذ لم يتمكن المبعوث الخاص غير بيدرسون من تحقيق تقدُّم في مباحثات جنيف، أو اللجنة الدستورية، ولم يسفر نهجه التدريجي خُطوة مقابل خُطوة عن أي نتائج حتى الآن. وعليه، يبدو أن الحل السياسي وفقاً لقرار الأمم المتحدة 2254 (2015) بات بعيد المنال.
4. تفاقُم الوضع الإنساني في البلاد، نتيجة استمرار انحدار الاقتصاد، وتزايُد الطلب عالمياً على المساعدات الإنسانية، مما يتسبب في مواصلة السوريين مغادرة البلاد بأعداد كبيرة، ويزيد الضغط على البُلدان المجاورة في فترة يتصاعد فيها التوتر في المنطقة، ويهدد بموجات جديدة من اللاجئين.
لقد تضمّنت وثيقة "اللاورقة" بشأن الوضع في سورية 10 مقترحات لمناقشتها في اللجنة السياسية والأمنية التابعة للاتحاد الأوروبي، تم تقديمها على شكل أسئلة وليس وَفْق صيغة مباشِرة، وتدعو إلى ما يلي:
1. إعادة تقييم صلاحية الأهداف الستة التي حددتها الإستراتيجية.
2. تعيين مبعوث أوروبي خاص لسورية لزيادة القدرة الدبلوماسية للاتحاد.
3. إعادة تقييم دور وقدرة المعارضة السياسية التي يدعمها الاتحاد من خلال صندوق مبادرة السلام.
4. ضرورة موازَنة نهج الاتحاد تجاه الأطراف السورية؛ بحيث يستمر بدعم "المعارضة المعتدلة" بينما يبقى على مسافة من النظام السوري.
5. تقييم دور القطاع الخاص، وإمكانية الاتفاق على أن دعم مرونة عمله في البلاد، وخاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة هو أمر ضروري.
6. التفكير في استكشاف وتطوير أدوات القوة الناعمة، مثل الدبلوماسية الثقافية.
7. مدى فعالية معالجة الآثار السلبية غير المقصودة للعقوبات على السُّكّان، ومعالجة مشكلة الامتثال المفرط في النظام المصرفي، وسُبل تطوير نهج الاتحاد الأوروبي للتعافي المبكر لتلبية احتياجات السوريين على المدى الطويل.
8. تعزيز الانخراط الإستراتيجي مع دول المنطقة التي قررت إعادة التواصُل مع النظام.
9. تعزيز التعاون مع المبعوث الخاص للأمين العام لأمم المتحدة إلى سورية غير بيدرسون لدعمه في عمله، وكذلك استئناف عمل اللجنة الدستورية وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015).
10. سُبُل مساهمة الاتحاد بشكل أفضل في تحقيق شروط العودة الآمنة والطوعية والكريمة للاجئين السوريين إلى بلادهم.
بالنتيجة يبدو أنّ الدول الثماني ترى أنّ سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سورية لم تتطور رغم التطوُّرات المهمة، مما أدى إلى عدم ترجمة الجهد الإنساني الضخم إلى دور سياسي مكافئ له، وأن الوقت قد حان لمراجعة وتقييم النتائج التي حققتها الإستراتيجية حتى الآن، وفعالية الأدوات والإجراءات التي اتبعتها، وخيارات تعديل النهج القائم بناءً على الحقائق المتغيرة في سورية وما حولها. وعليه تهدف وثيقة اللاورقة إلى وضع سياسة أكثر نشاطاً وتوجُّهاً نحو تحقيق النتائج والعمليات في سورية، بما من شأنه أن يسمح للأوروبيين بزيادة نفوذهم السياسي على النظام السوري وفعالية مساعداتهم الإنسانية ونهج التعافي المبكر، والمساهمة في تحقيق الظروف اللازمة لعودة آمنة وطوعية وكريمة للاجئين السوريين وفقًا لمعايير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
ثانياً: ما الذي يجمع الدول الثماني؟
لا يبدو أنّ السياسات الداخلية والخارجية للدول الثماني متشابهة، وهي لا تُشكّل خليطاً أوروبياً متجانساً، باستثناء محاولتها التوحُّد خلف قضية اللاجئين، التي ساهمت في وصول عدد من الأحزاب للوصول إلى الحكم رغم توزُّع انتماءاتها بين اليمين واليسار؛ حيث يُشدّد اليمين المتطرّف الذي تُمثّله إيطاليا برئيسة حكومتها جورجيا ميلوني رئيسة حزب فراتيلي ديتاليا (إخوة إيطاليا) للفاشيين الجدد على موضوع خطر الهجرة على المجتمع والثقافة في برنامجه الانتخابي، فيما يُشدّد اليسار الشعبوي الموالي لروسيا المتمثل برئيس الحكومة السلوفاكية روبرت فيكو وحزبه "SMER-SD" على موضوع خطر الهجرة على الحدود والأمن، بسبب تغلغل عدد كبير من المقاتلين في صفوف اللاجئين، ليلتقي الطرفان حول معاداة اللاجئين.
لكنّ الموقف العامّ من قضية اللاجئين يُخفي انقساماً بين هذه الدول حول طريقة معالجته؛ حيث توجد مواقف مختلفة من ميثاق الهجرة واللجوء الجديد [3] ، الذي تبنّاه الاتحاد الأوروبي في نيسان/ إبريل 2024، فدول مثل التشيك، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، وكرواتيا تُصِرّ على أنها دول عبور فقط، وترفض سياسة إعادة توزيع المهاجرين على دول الاتحاد، كما ترفض تقديم الأموال وموارد أخرى للدول التي تتعرض لضغوط من جراء استقبال اللاجئين مثل دول الخطوط الأمامية وخاصة إيطاليا واليونان وقبرص.
أيضاً إن تأثير روسيا حاضر على نصف هذه الدول التي كانت من دول أوروبا الشرقية سابقاً، وهي التشيك، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، وكرواتيا، والتي ما زالت تعاني من وجود موالين لروسيا هم إما في الحكم كما هو الحال في سلوفاكيا، أو تخشى من دعم روسيا للموالين لها للوصول إلى الحكم أو زعزعة الأوضاع فيها؛ حيث تسعى روسيا خصوصاً بعد الحرب على أوكرانيا لإحداث أي انقسام ممكن داخل الاتحاد الأوروبي، ومن بين ذلك قضية اللاجئين السوريين، وطريقة التعامل مع الأزمة السورية.
كما أنّ الانقسام داخل الدول الثماني حاضر أيضاً في العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري؛ حيث حافظت اليونان وقبرص والتشيك على سفاراتها في دمشق مقابل المقاطعة الدبلوماسية الأوروبية لها منذ عام 2012، وانضمت إيطاليا إلى هذه الدول الثلاث بعد إعلان وزير خارجيتها أنطونيو تاياني عن قرار تعيين المبعوث الخاص حالياً لوزارة الخارجية إلى سورية ستيفانو رافاجنان سفيراً في دمشق [4] .
بذلك باتت إيطاليا التي تتزعم الدول الثماني هي الدولة الأولى من مجموعة الدول السبع الكبرى (كندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة) التي تسمّي سفيراً لها في سورية، ولتصبح الدولة الأوروبية السابعة التي سيكون لها سفارة في دمشق إلى جانب رومانيا، وبلغاريا، واليونان، وقبرص، والتشيك، والمجر، لكن من غير الواضح إنْ كانت إيطاليا ستمضي في هذا القرار نحو إرسال السفير إلى دمشق، أم أنها ستنتظر البتّ في مصير اللاورقة وموقف الاتحاد الأوروبي النهائي منها، وتكتفي في الوقت الراهن بتسميته قائماً بالأعمال دون تقديم أوراق اعتماده كسفير لرئيس النظام، مما يعني استمرار الوضع الحالي للبعثة الإيطالية مع فارق واحد هو أنها ستقيم في دمشق.
بدأت إيطاليا أيضاً مراجعة الدعم المالي المقدَّم للمعارضة السياسية ممثَّلة بهيئة التفاوض السورية، ومراجعة الدعم المالي المقدَّم لمنظمات المجتمع المدني، وخصوصاً المنظمات التي تنتقد سياسات إيطاليا. ومقابل محاولة تخفيض هذا الدعم أو وقفه سيتم التركيز على دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تساهم في الازدهار الاقتصادي، وبما ينسجم مع تحقيق الأهداف الكبرى التي تسعى إليها وثيقة اللاورقة.
أخيراً عمدت إيطاليا إلى وضع سورية على أجندة اجتماع مديري الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA) المقرَّر انعقاده في 13 أيلول/ سبتمبر القادم، وذلك بغرض الحديث عن رؤية مجموعة الدول الثماني في اللاورقة، وسيكون لهذا الاجتماع دور مفصلي في موقف اللجنة السياسية والأمنية في الاتحاد من اللاورقة.
ثالثاً: عناصر الإستراتيجية الأوروبية لعام 2017 المطلوب مراجعتها
تدور عناصر الإستراتيجية الأوروبية لعام 2017 حول إنهاء الحرب من خلال انتقال سياسي حقيقي، يتفاوض عليها أطراف الصراع تماشياً مع قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015) وبيان جنيف، ودعم تعزيز المعارضة السياسية السورية، لا سيما الهيئة العليا للمفاوضات (هيئة التفاوض السورية) والتي تمثل وفد المعارضة في المحادثات، وأنه مع بَدْء سريان الانتقال السياسي استناداً للقرار 2254 (2015) يُمكن للاتحاد الأوروبي مراجعة التدابير التقييدية الحالية ضدّ النظام، والانخراط في مشاريع دعم التعافي المبكر، وإعادة الإعمار، واستئناف علاقات التعاون الثنائية مع النظام، وبما صار يُعرف لاحقاً باللاءات الثلاث: لا للتطبيع، ولا لرفع العقوبات، ولا لإعادة الإعمار.
تسعى وثيقة اللاورقة لمراجعة 3 عناصر رئيسية وهي: العلاقات الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي مع النظام، والعلاقة السياسية مع المعارضة والدعم المالي المقدّم لها، والعقوبات المفروضة على النظام.
1. مراجعة العلاقات الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي مع النظام:
منذ كانون الأول/ ديسمبر 2012 يرأس بعثةَ الاتحاد لدى سورية قائمٌ بالأعمال بالنيابة في غياب رئيس بعثة معتمَد، وتعمل البعثة من بيروت وعمّان وبروكسل، مع اقتصار عملها داخل سورية على زيارات ميدانية كانت إلى عام 2022 تشمل فقط مناطق المعارضة، إلى أن أجرى القائم بأعمال البعثة دان ستوينيسكو في 8 آب/ أغسطس 2022، زيارة إلى مدن تحت سيطرة النظام لأول مرة؛ حيث زار مدن حلب وحمص وحماة، بالاشتراك مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، وبسببها أصدر الائتلاف الوطني السوري بياناً عبّر فيه عن رفضه للزيارة، وحذّر فيه من أن أي تقارُب وقبول بالنظام يناقض الحلّ السياسي ويُفقده جدواه، وأكد على ضرورة "استمرار العزلة الدولية للنظام، وهو ما دعا رئيسَ البعثة للتصريح بأن خُطوته لم تتمَّ بالتنسيق مع النظام السوري، وأنها لا تعني شَرْعَنته، وأنها كانت فقط ضِمن خُطوات دعم مشاريع التعافي وَفْق قرارات المساعدات الإنسانية الأممية.
حالياً تدعو اللاورقة إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي مع النظام من خلال تعيين مبعوث خاص مقيم في دمشق، بدعوى أنّه سيعمل على مقابلة جميع الأطراف من النظام والمعارضة، وسيساعد في الحدّ من الانطباع بوجود انقسام داخلي في الاتحاد الأوروبي، حيث تتفاعل بعض الدول مع دمشق بينما تظلّ دول أخرى معارِضة تماماً. علماً أنّ ولاية القائم بأعمال الاتحاد الحالي -وهو الدبلوماسي الروماني دان ستوينيسكو- تنتهي في 31 آب/ أغسطس 2024، وقد تم تعيين الدبلوماسي الألماني مايكل أوهنماخت ليخلفه في منصبه.
2. مراجعة العلاقة السياسية مع المعارضة السورية:
تدعو وثيقة اللاورقة إلى ضرورة أن يوازن الاتحاد الأوروبي بشكل أفضل بين مقارَبته للأطراف في النزاع السوري؛ حيث يدعم الآن "المعارضة المعتدلة" بينما يبقى على مسافة أبعد من النظام، ومع التغيُّرات الكبيرة التي تسبَّبت في ضعف المعارضة، سواء على الأرض التي استعاد النظام معظمها، أو في علاقاتها ومكانتها الدولية بعد التطبيع العربي مع النظام، وإعادته للجامعة العربية، وفي ظل الحديث المتسارع عن إمكانية التطبيع التركي مع النظام. وهذا يتطلَّب من جانب آخر إعادة تقييم دور وقدرة المعارضة السياسية التي يدعمها الاتحاد الأوروبي مالياً من خلال صندوق مبادرة السلام، والنظر في جدوى هذا الدعم وحجمه.
3. مراجعة العقوبات المفروضة على النظام:
رأت وثيقة اللاورقة أن العقوبات كانت متوخَّاة كأداة ضغط أساسية على النظام، لكن بعد أكثر من عَقْد، ومن خلال التأثير غير المقصود للإفراط في الامتثال، أصبحت تُؤثِّر سلباً على السكان بشكل عامّ دون ممارسة نفوذ كبير على صُنّاع القرار، إضافة إلى أنّ النظام يُروّج بشكل خاطئ للسَّرْدِيّة القائلة إن العقوبات هي سبب الانهيار الاقتصادي والمعاناة في البلاد، متجاهلاً مسؤوليته الخاصة في ذلك.
تركز اللاورقة على أن مستقبل سورية "محوري لأمن أوروبا"؛ نظراً لموقعها القريب، وتحذر من تفاقُم تدفُّقات الهجرة نحو أوروبا، لذا ينبغي التعاون مع الشركاء الإقليميين لضمان بذل كل جهد ممكن للتخفيف من حِدّة الوضع، وخلق ظروف معيشية كريمة، وبالتالي توفير ظروف للعودة الطوعية الآمنة والكريمة وفقاً لمعايير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وأنه في ظل الطلب المتزايد على المساعدات الإنسانية عالمياً، يجب أن تتضمن المراجعة أيضاً فعالية توصيل المساعدات من خلال نهج التعافي المبكر، والنهج المجتمعي. وعليه طلبت اللاورقة النظر في مدى فعالية معالجة الآثار السلبية غير المقصودة للعقوبات على السكان، وكبح تزايُد الامتثال المفرط في النظام المصرفي خوفاً من العقوبات، مما يؤدي إلى نوع من المقاطعة الشاملة لسورية بدلاً من اعتماد نهج العقوبات المستهدفة، وضرورة إيجاد الآلية اللازمة التي يمكن الاتفاق عليها لمواجهة هذا الامتثال المفرط بشكل فعّال.
رابعاً: فرص نجاح وثيقة اللاورقة
ثمّة عدة معطيات تتحكم في ضعف فرص نجاح اللاورقة، وتغيير سياسات الاتحاد الأوروبي استناداً إليها، وهي:
• وجود موقف معاكس تماماً لمعظم ما جاء في الوثيقة من قِبل مجموعة الدول الرباعية الغربية (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا) إضافة إلى كندا، واليابان من مجموعة الدول السبع الكبار؛ حيث تُشكّل هذه الدول كتلة صُلْبة داخل دول الاتحاد وخارجها، ولديها قدرة على حشد موقف داخل الاتحاد ضد الورقة تفوق بكثير قدرة الدول الثماني على حشد موقف مؤيد للاورقة. في هذا الصدد هناك مساعٍ تقودها فرنسا بمساندة ألمانيا لوضع ورقة مضادة للاورقة الإيطالية، والوضع السائد حالياً هو محاولات فرنسية ألمانية لمحاصَرة وعزل رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني عن التأثير في سياسات الاتحاد الأوروبي، وقد تجلَّى ذلك بشكل واضح في قمة دول السبع الكبار التي استضافتها إيطاليا في حزيران/ يونيو 2024؛ حيث استُبعِدت عن المحادثات المتعلقة بإعادة تعيين "أورسولا فون دير لاين" كرئيسة للمفوضية الأوروبية لولاية ثانية، الأمر الذي أغضب ميلوني [5] ، وهذا قد يكون أحد أسباب سعيها لتشكيل وقيادة مجموعة داخل الاتحاد لمواجهة فرنسا وألمانيا، وهو سبب إضافي يدفع هؤلاء لإفشال اللاورقة "الإيطالية".
• اتجاه الدول الرئيسية في الاتحاد الأوروبي بعد غزو أوكرانيا نحو التشدُّد في موقفها من النظام السوري؛ بسبب دعمه لموقف روسيا في الحرب، وكنوع من العقوبة له. وهو موقف معاكس أيضاً تماماً لما جاء من مبررات في اللاورقة في الانفتاح على النظام حيث قالت إن "العدوان الروسي على أوكرانيا انعكس سلباً على العلاقات مع روسيا فيما يخص سورية أيضاً"، مما يعني أن إصلاح العلاقات مع النظام سيسهل إصلاح العلاقات مع روسيا، وهو ليس من التوجهات الغربية الحالية التي تتجه نحو التصعيد في علاقاتها مع روسيا، وليس نحو التهدئة والانفتاح.
• احتمال إهمال اللاورقة من قِبل مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الذي سيغادر منصبه نهاية العام الجاري. فيما ستتولى التعامل مع الوثيقة المسؤولة الجديدة كايا كالاس رئيسة الوزراء الإستونية المعروفة بعدائها الشديد لروسيا، والتي أصدرت بحقها في شباط/ فبراير 2024 مذكرة توقيف وإحضار ووضعتها على قائمة المطلوبين بتُهَم جنائية [6] ، إضافة إلى أن إيطاليا لم تكن مرتاحة لهذا التعيين، الذي عبّر عدد من السياسيين الأوروبيين عن مخاوفهم من أنّه يهدف إلى تصعيد حِدّة التوتُّر مع روسيا، وجَعْل السلام أمراً مستحيلاً، وجَعْل نشوب حرب عالمية ثالثة أقرب [7] . بذلك يُتوقَّع أن تقف كالاس ضدّ أيّ مقارَبة في سورية يحتاج تنفيذها إلى وجود تفاهُمات مشتركة مع روسيا.
• احتمال عدم صمود المبرِّرات والأهداف والنتائج المتوقَّعة التي تُسوّقها اللاورقة في أيّ مناقشة داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصاً مع تعثُّر مسار التطبيع العربي، رغم ثِقَل دوله الكبير في التوصل إلى أيّ تقدُّم في القضايا ذاتها التي تطرحها اللاورقة على الصعيد السياسي والأمني والإنساني، وعلى رأسها عودة اللاجئين، إضافة إلى تعثُّر التطبيع التركي رغم الإيجابية والمرونة التي تبديها تركيا، فضلاً عن ثقلها الإقليمي الكبير. هذا عدا أنّ النظام لا يملك فعلياً قراره؛ بحيث يجب أن تتم الاتفاقات مع روسيا وإيران بشكل مباشر، مما يعني أنّ الاتحاد الأوروبي سيواجه صعوبات لا يُتصوَّر تجاوُزها في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، لا سيما مع غياب أيّ توجُّه أوروبي حقيقي يتقبل فتح أي مفاوضات مع روسيا في الوقت الراهن.
• وقوف الاتحاد الأوروبي خلف الولايات المتحدة؛ حيث يحتاج أي تغيُّر في سياسات الاتحاد تجاه النظام إلى دعم من واشنطن، أو في أقل تقدير التنسيق معها، وهو ما يستلزم انتظار الإدارة الأمريكية الجديدة عام 2025؛ لأنّ حدوث أي تغيير في الإستراتيجية الأوروبية دون دعم أو تنسيق مع أمريكيا سيجعلها تصطدم كما اصطدم التطبيع العربي بالعقوبات الأمريكية المفروضة على النظام، مما يعني أن الانفتاح على النظام أو التطبيع معه سيبقى في إطار رمزي دون أن يحقق تقدُّماً في رفع العقوبات أو إعادة الإعمار، وهو ما سيقابله النظام بالامتناع عن قبول إعادة اللاجئين ما لم يحصل على أموال مقابل ذلك، على غرار ما حصل في التطبيع العربي، وبالتالي فإن مشكلة اللاجئين التي تُعتبر محورية في اللاورقة يمكن إيجاد حلول لها دون الحاجة إلى أن يكون النظام شريكاً فيها.
بالنتيجة تبدو فرص نجاح اللاورقة في تغيير إستراتيجية الاتحاد الأوروبي تجاه سورية ضعيفة؛ بسبب الانقسام الذي سيظهر بين دوله عند وضعها على طاولة المناقشات؛ حيث تميل كِفّة القوة إلى جانب الدول المناهِضة للوثيقة، والتي بدأت مدعومة من الولايات المتحدة بالتحضير لحشد الموقف داخل الاتحاد ضدّها، خصوصاً مع حديث عن تأثير روسيا على عدد من الدول المشاركة في التوقيع على اللاورقة، والتي كانت تنتمي لدول أوروبا الشرقية سابقاً.
خُلاصة
إنّ تقديم اللاورقة بصيغة أسئلة للمناقشة يدلّ على الصعوبة التي تشعر بها الدول الموقِّعة عليها، لذا لم تخاطر بطرحها على صيغة مقترحات مباشرة، كما يُشير ذلك إلى افتقار هذه الدول لصورة واضحة حول آليات تنفيذها، وهو ما يزيد من ضعف موقفها حين بَدْء مناقشتها.
أمّا المعارضة السورية فينبغي عليها صياغة موقف من اللاورقة وبيان مخاطرها على تعطيل العملية السياسية وَفْق القرار 2254 (2015) ومخاطرها على اللاجئين السوريين حال إعادتهم قسرياً قبل الانتقال السياسي، وعلى أنها يُمكن أن تتسبب بانهيار الاستقرار النسبي الذي تمرّ به خطوط التماسّ منذ عام 2020 بما يؤدي إلى رفع وتيرة الأعمال القتالية من جديد، ويهدد بموجة لجوء جديدة بدل أن تعالج ملفّ اللاجئين الحاليين. كما ينبغي على المعارضة الدعوة لاجتماع عاجل مع الرباعية الغربية، ومع المبعوث الخاص لتأكيد التزامهم بالقرار 2254، ولبيان تعارُض اللاورقة مع العملية السياسية الأممية، وبالتالي اتخاذ موقف مشترك ضدّها.
تُشبه اللاورقة الأوروبية اللاورقة الأردنية لعام 2021 التي انطلقت من مبدأ استعادة النفوذ العربي الجماعي في سورية، وعرضت حزمة من العروض للنظام، مقابل حزمة مَطالب منه، ومع أن اللاورقة الأردنية فتحت ثغرة في موقف الجامعة العربية وصلت إلى إعادة مقعد سورية إلى النظام وتطبيع العلاقات العربية معه، إلا أنها لم تحقق ما تطلعت إليه على أرض الواقع، وانتهت بتشكيل لجنة وزارية عربية لتطبيق بيان عمّان 2023. وهي النهاية المتوقَّعة للاورقة الأوروبية، التي يمكن أن تُحدث ثغرة في الموقف الأوروبي، لكنها هي الأخرى لن تحقق الأهداف التي تتطلع إليها. لذا فمن القضايا التي يمكن للمعارضة السورية اقتراحها على الاتحاد الأوروبي لوقف مثل هذه المبادرات، هي تشكيل لجنة وزارية أوروبية لتطبيق القرار 2254 تعمل إلى جانب المبعوث الخاص في التواصُل مع جميع أطراف النزاع في سورية للتوصُّل إلى حلّ سياسي شامل وَفْق القرار 2254 وليس وَفْق لاورقة الدول الثماني.
أخيراً يُكافح الاتحاد الأوروبي ضدّ صعود اليمين المتطرف الذي يهدد قِيَمه ويُهدد وجوده كمنظومة، ولن يسمح لليمينية المتطرفة رئيسة الحكومة الإيطالية وحزبها بتشكيل كتلة وقيادتها داخل الاتحاد تبدأ فيها بمحاولة تغيير إستراتيجيته تجاه الأزمة السورية، التي هي واحدة من أَعْقَد القضايا الموجودة في العالم حالياً.
[1] “Council adopts EU strategy on Syria”. European Council, 03/04/2017, Link .
[2] “Eight EU member states call for Syria policy reset”. Euractiv, 22/07/2024. Link .
[3] “Pact on Migration and Asylum”. European Commission, 21/05/2024, Link .
[4] “Italy appoints ambassador to Syria to 'turn spotlight' on country, foreign minister says”. Reuters, 26/07/2024. Link .
[5] “She’s angry, but Italy’s PM Meloni is short of numbers to veto a second von der Leyen term at EU summit”. Brussels Signal, 26/06/2024, Link .
[6] “Russia puts the leader of NATO member Estonia on a wanted list over the removal of Soviet-era monuments”. AP News, 13/02/2024, Link .
[7] "الوطنيون الفرنسي: تعيين كالاس مفوضة للخارجية الأوروبية سيقودنا إلى حرب عالمية ثالثة". روسيا اليوم، 25/06/2024. الرابط .