اقتصاد النظام السوري المقاربات والسياسات 1970 – 2024
مقدمة
لازمت صفةُ الاشتراكية الاقتصادَ السوري نظرياً، بعد استحواذ حزب البعث العربي الاشتراكي على الحكم؛ والذي وصف اقتصاد البلاد بالاشتراكي المخطّط في دستور 1969 والدساتير التي تلته، وبقي هذا التوصيف ملازماً له حتى أزال دستور عام 2012 وصف الاشتراكية بشكل نظري، مع استمرار النظام بالعمل ببعض السياسات الاقتصادية الاشتراكية انتقائياً. لم يُحدّد دستور عام 2012 سِمَة الاقتصاد، بل عرّفه بأنه وطني يقوم على تنمية النشاط الاقتصادي العامّ والخاصّ، بهدف تلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع والأفراد لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.
عملياً، لم تكن سياسات الأسد الأب اشتراكية حادّة، ولم تقع بعهده أيّ إجراءات اشتراكية جذرية، بل حدثت جميعها؛ من تأميم وإصلاح زراعي وضمان اجتماعي ومجانية خدمات الصحة والتعليم وتوسيع للقطاع العامّ الإنتاجي، في عهد حزب البعث بين عامَيْ 1963 و1970 بقيادة صلاح جديد الذي انقلب عليه الأسد الأب، واتّبع سياسات اشتراكية شكلية، مثل سياسة التوظيف لاستيعاب القُوَى البشرية والسيطرة عليها، مع تدرُّجه بسياسات قريبة من الليبرالية خاصة لصالح برجوازيات المدن الكبرى كدمشق، وتُوّجت سياساته بقانون الاستثمار لعام 1990، الذي ساهم في تراكُم الثروات لصالح شخصيات تابعة للنظام السوري [1] .
بعد وصول الأسد الابن للسلطة، وتحديداً عام 2005 أقرّ حزب البعث الاشتراكي بمؤتمره القُطري التحوُّل إلى اقتصاد السوق الاجتماعي؛ وكان الهدف المعلَن جَعْل القطاع الخاص شريكاً بعملية التنمية الاقتصادية، بينما كان الهدف الضِّمْني تحقيق مزيد من مراكمة الثروات لصالح الشخصيات التابعة له عَبْر الاستثمارات الخارجية، مما فاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وقزّم الطبقات الوسطى، ولم تتحقق خُطَط التنمية المستدامة وغابت العدالة الاجتماعية.
لا تمتلك سورية نظاماً اقتصادياً – اجتماعياً معرّفاً، أي لا تمتلك نموذجاً يُمكن تسميته بالاشتراكية ولا نموذجاً يُمكن تسميته بالرأسمالية، فقد كان للنظام تركيبة اقتصادية خاصة به، خلافاً لادعائه بتبني الاشتراكية المخطَّطة المطلَقة؛ حيث ركّز الأسد الأب على الاشتراكية كشعار أكثر من كونها تطبيقاً، وراح الأسد الابن للسوق الاجتماعي في سبيل منح رجال أعمال محسوبين عليه مزيداً من الصلاحيات والقدرة على العمل بحرية ومراكمة الثروة لصالح وكلائه.
بعد عام 2011 اتخذ النظام سلسلة من الإجراءات المختلطة بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي، رغم تعريف حزب البعث لاقتصاد البلاد باقتصاد السوق الاجتماعي، وبدئه بتطبيق هذه الإجراءات دون مراعاة للدستور الذي كان يتبنّى الاشتراكية المخطّطة بينما كانت سياسة الحكومة تتجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، فضلاً عن ظهور مؤشرات لبشار الأسد بعد عام 2020 لاعتماد نموذج اقتصادي مشابه للنموذج الصيني الموصوف برأسمالية الدولة [2] .
أولاً: مقاربة النظام السوري للاقتصاد
لم يكن حافظ الأسد عندما تسلَّم السلطة يتبنّى أيّ نهج اقتصادي خاص، وتبنّى نظريات حزب البعث الاشتراكي، الذي كان يرى أن الاشتراكية هي نقيض للرأسمالية، وهدف للمجتمع الاشتراكي الذي يسعى لتطبيقه على أرض الواقع، وتم تضمين ذلك في الدستور الذي نصّ أن نظام سورية الاقتصادي هو نظام اشتراكي [3] .
تُعَدّ نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي إحدى أسوأ الفترات في تاريخ سورية الاقتصادي المعاصر؛ حيث ارتفع الدَّيْن العامّ للدولة إلى أعلى مستوياته، وخرجت رؤوس أموال كبيرة من سورية على خلفية الأحداث الأمنية التي شهدتها تلك الفترة؛ وتصاعد القمع في الوقت ذاته [4] . كما شهدت تلك الفترة تراجُعاً في قيمة رواتب موظفي مؤسسات الدولة؛ بسبب التضخم المتصاعد، ووصل سعر صرف الليرة السورية إلى 50 مقابل كل دولار عام 1986، بعدما كان 4 ليرات لكل دولار في 1980، مما انعكس بشكل كبير على الأسعار [5] .
1. مقاربة النظام السوري للاشتراكية:
تُعرّف الاشتراكية [6] بأنها "إلغاء المِلْكية الفردية، بمعنى أنه لا يجوز للفرد أن يمتلك أرضاً، أو معملاً، أو منجماً، أو ثروة تحتاج في استغلالها إلى عامل أو عمال"، حيث إن الملكية لوسائل الإنتاج تكون جماعية، بالتالي إن قضية الملكية يمكن الاستدلال من خلالها في كون النظام الاقتصادي اشتراكياً. مع وصول حافظ الأسد للحكم عام 1973 كانت الاشتراكية أساس النظام الاقتصادي نظرياً، فقد نصّ الدستور على أن "الثقافة القومية الاشتراكية" أساس بناء المجتمع، وعلى أن الاقتصاد في سورية هو اقتصاد اشتراكي مخطط يهدف للقضاء على جميع أشكال الاستغلال، وجاءت المادة 14 لتقسم المِلْكية إلى 3 أقسام هي: مِلْكية الشعب من ثروات ومنشآت ومؤسسات مؤمَّمة تديرها الدولة، ومِلْكية جماعية تشمل الممتلكات العائدة للجمعيات التعاونية والمنظمات الشعبية ويكفل القانون رعايتها، ومِلْكية فردية تشمل الممتلكات الخاصة بالأفراد ويحدد القانون وظيفتها الاجتماعية في إطار خدمة الاقتصاد الوطني، ولا يجوز أن تتعارض في طرق استخدامها مع مصالح الشعب.
أشار الدستور إلى المِلْكية في إطار المِلْكية الفردية وليس المِلْكية الخاصة، ومع أنّ المِلْكية الفرديّة يجب أن تخدم الاقتصاد الوطني، ولا يجوز أن تتعارض مع مِلكية الشعب. لكنّ النظام السوري ترك هامشاً للقطاع الخاص لضمان عدم تحالُفه مع القُوى المعارضة له خاصة "الإخوان المسلمين" نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات؛ حيث دعا حافظ الأسد في رسالته لحزب البعث عام 1978 إلى "تنشيط القطاع الخاصّ والعمل على إزالة العوائق التي حالت في المرحلة الماضية دون أن يؤدي القطاع الخاص كامل الدور الذي خُطّط له في مختلف القطاعات الاقتصادية وإيجاد الأساليب المختلفة التي تكفل قيام هذا القطاع بالمسؤوليات المسنَدة إليه وضمان الأموال الخاصة المستثمَرة في بناء الاقتصاد الوطني وحمايتها من جميع المخاطر وضمان ربحية مقبولة له [7] "، أي أنّ الأسد حاول جرّ القطاع الخاص للتحالف معه، وترك له هامش التحرك دون أن يُسلّط عليه الاشتراكية، بل هدّده بها وجعل من نفسه المنقِذ والحامي للمِلْكية الخاصة. فعلياً كانت المِلْكيات في سورية موزَّعة على عهد الأسد الأب، وَفْق ما يلي:
• المِلكية العامة: تُعتبر جميع مؤسسات الدولة الإنتاجية مشمولة بها، مثل مؤسسة السكر والغزل والنسيج والصناعات الغذائية، والأسمدة والأسمنت، وغيرها. كانت هذه المؤسسات تُمنح إدارتها لموظفين من أصحاب الولاء المرتفع للنظام، ويتم التغاضي عن تكوينهم للثروة عَبْرها؛ بشرط أن تسير بالحدّ الأدنى للأهداف المَرجوّة منها، ومن الأمثلة عليها، مؤسسة الإسكان العسكري، التي كانت تقوم بإنشاءات لصالح الدولة، وتبني مساكن عسكرية ومنشآت، وكانت تُدار من قِبل آل شاليش (أبناء عمة الأسد الأب) والذين استطاعوا أن يُكوّنوا ثروة كبيرة من هذه المنشآت العامة، في المقابل كان "ذو الهمة شاليش" يقوم بحماية رئيس النظام.
• مِلكية الأسرة الحاكمة: كانت الثروات الطبيعية وشِبه الطبيعية، مثل النفط والتبغ وبعض الثروات الأخرى، يتم إخفاء مواردها تماماً لصالح آل الأسد والمقرَّبين منهم، ويُعتقد أن محمد مخلوف -أخا زوجة حافظ وخال بشار الأسد- كان المدير الفعلي لعدد كبير من هذه الثروات.
• مِلكية الشعب: تعود ملكية المؤسسات التي تُدار من قِبل الدولة للشعب؛ حيث تعطي خدمات بأسعار مخفَّضة لصالح عموم السوريين، مثل مؤسسات الأفران، والجمعيات الاستهلاكية التي كانت تُقدّم السكر والأرز والزيت، وكذلك مؤسسات الكهرباء والمياه والاتصالات، والمشافي العامة التي وفَّرت خدمات جيدة لعموم السوريين. وكانت خدمات هذه المؤسسات تُقدَّم على صيغة دعم اجتماعي، أي خدمات بأسعار مخفضة.
• المِلكية الخاصة: وهي محالّ تجارية ومؤسسات لأنشطة صناعية صغيرة أو متوسطة تعمل تحت رقابة أمنية، ويتم استغلال ملاكها أو الضغط عليهم عَبْر مؤسسات حكومية كالضرائب، أو مؤسسات أمنية، أو رقابية مقابل تخصيص جزء من الموارد أو مبالغ كبيرة لصالح مسؤول يحمي أنشطة هذه المؤسسة، وتختلف المبالغ بحسب حجم هذه المِلكية، ويمكن توضيح شكل المِلْكية الخاصة في سورية في عهد كل من الأسد الأب وتطوُّرها مع قدوم الابن، وفقاً لما يلي:
1. المِلْكية في القطاع الحيواني: في عهد الأسد الأب، كانت محصورة لدى القبائل البدوية التي امتلكت معظم مخزون سورية من الثروة الحيوانية من أغنام وعجول، وامتلك الفلّاحون الجزء الباقي من الثروة الحيوانية خصوصاً الأبقار والدواجن. مع ذلك كانت هناك مؤسسات حكومية تمتلك مَباقِرَ ومَداجِنَ يتبع معظمها وزارة الزراعة أو وزارة الدفاع. بالنسبة للثروة السمكية لم تكن هناك مِلكية خاصة تُذكر، بل كانت المِلكية بالمجمل للحكومة التي استفادت بشكل رئيسي من الثروة السمكية في الأنهار والبحيرات دون الاستفادة المَرجوّة من سمك البحر. ولدى قدوم بشار الأسد للسلطة حصلت تغيُّرات طفيفة؛ حيث بدأت بعض المنشآت بإنشاء واستثمار مَداجِنَ ومَباقِرَ خاصة بها لخدمة معامل اللحوم والدجاج. لكن بشكل عامّ لم يتغيّر شكل المِلكية لمعظم الثروة الحيوانية ولم تخضع لتطوُّرات تُذكر؛ حيث إن البدو هم مكوِّن مهم بالنسبة للنظام السوري، وكان يحاول عدم مزاحمتهم في أرزاقهم بهدف استمالتهم وكسبهم لصفه؛ ولم تطرح هيئةُ الاستثمار أو المستثمرون الكبار مشاريعَ كثيرةً وكبيرةً في مجال الثروة الحيوانية حتى لا يؤدي ذلك لحدوث أيّ شكل من أشكال التغيُّر في توزيع المِلْكية.
2. المِلْكية في القطاع الزراعي: اعتمد حافظ الأسد منذ قدومه على مِلكيّات صغيرة تم تفتيتها تحت شعار الأرض لمن يعمل بها، والذي رفعه حزب البعث بناءً على أُسُس اشتراكية. وبالفعل أُصدر قانون الإصلاح الزراعي ليُكرّس هذه الفكرة ويساهم في تطبيقها، وتم توزيع عدد كبير من الأراضي على أبناء الساحل والأرياف المهمّة بالنسبة للنظام. بالمقابل حافظ فلاحو شمال سورية وشرقها على الحصة الأهم من الزراعة، ولم يزاحمهم أحد فعليّاً في هذا القطاع، سوى مؤسسات الحكومة التي كانت المحتكِر الوحيد لشراء سلع زراعية رئيسية مثل القطن والقمح والشوندر، ولا يُسمح لمشترٍ آخر أن يقوم بعملية الشراء، مما جعل الفلاح عاملاً لدى مؤسسات الحكومة بشكل غير مباشر، وفي عهد بشار الأسد لم تحصل تغيُّرات تُذكر في طبيعة مِلْكية هذا القطاع.
3. المِلْكية التجارية: اعتمدت التجارة في عهد حافظ الأسد بشكل رئيسي على التُجّار الصغار والمتوسطين، وكان كبار التجار مرتبطين بشكل مباشر وغير مباشر بالنظام، كما هو الحال مع مهران خوندة الذي كان يورّد المنتجات لصالح الجيش، وصائب نحاس الذي كان مرتبطاً بإيران بشكل رئيسي، إضافة لوجود عدد لا بأس به من التجار من مستويات صغيرة ومتوسطة الحجم دون أن تكون لهم مزايا حكومية أو أيّ دعم، ولم يحاول النظام تقديمهم ليكونوا أكثر حضوراً على مستوى التجارة الدولية مثلاً. ومع قدوم بشار الأسد للسلطة، أصبحت هناك طبقة جديدة من التجار خرجت من رحم السلطة بشكل رئيسي، وتقدمت طبقة من الأثرياء الجُدُد من أبناء المسؤولين وأقاربهم إلى الواجهة التجارية وواجهة الخدمات لتحقيق مكاسب جديدة بدعم من القانون والأفرع الأمنية ومؤسسات السلطة.
بالنتيجة، لم يتغير الوضع كثيراً في المِلكيّة ضِمن القطاع التجاري سوى عَبْر منح السلطة والنفوذ المعطاة للمسؤولين في إدارة المؤسسات العامة أيام الأسد الأب، إلى أبنائهم أو أقاربهم أو مَن ينوب عنهم، لكي يتابعوا العمل تحت اسم القطاع الخاص الجديد. لكن أبقى النظام على مِلْكية الأسرة، ويُعتقد أن جزءاً من أموال مِلْكية الأسرة بدأ استثمارها في السوق السورية، بدلاً من خروجها للخارج أو بقائها في البنوك؛ عَبْر شخصيات مثل رامي مخلوف، كما بقيت المِلكية الخاصة لكن مع ابتزاز أكبر من الواجهات الاقتصادية الجديدة في القطاع الخاص، وكذلك المسؤولون الأمنيون وشِبه الأمنيين في الدولة، فيما لم تتعرّض مِلْكية الشعب لأيّ نوع من التغيير أو التعديل، وإنِ اخْتلفت مع سياسات اقتصادية أخرى أحياناً مثل سياسة تقديم الدعم كاختفاء بونات السكر وظهورها في بونات المازوت وطرح فكرة البطاقة الذكية وغيرها.
4. المِلْكيّة الصناعية: لم يَنْمُ القطاع الصناعي في سورية فعلياً في عهد الأسد الأب؛ حيث كانت أغلب المعامل الكبرى للتجميع، مع وجود للمعامل الصغيرة والمتوسطة للتصنيع؛ بسبب حاجة هذا القطاع لعمليات تمويل كبيرة ووجود عقوبات على سورية. حصلت النقلة في هذا القطاع في عهد الأسد الابن، وكان ذلك مرتبطاً بإنشاء المدن الصناعية وبالاستثمار الصناعي، الذي كان لمساهمات أبناء مدينة حلب القسم الأكبر منه؛ حيث استثمروا المليارات في معامل النسيج والألبسة، واستطاعوا التصدير لأنحاء العالم، ولعلّ رغبة هؤلاء الشباب الجُدُد كانت في تبييض الأموال والبقاء في عمليات تجارية سريعة وخفيفة تضمن لهم التحرك لتحقيق أموال وليس بناء مستقبل لهم ولأبنائهم.
2. مقاربة النظام السوري للرأسمالية:
تُعرّف الرأسمالية بأنها نقيض الاشتراكية من حيث المِلْكية في معظم الحالات، لكن ليس بالضرورة أن تعارضها في كل شيء، فمن حيث المِلْكية تعتمد الرأسمالية على مِلْكية خاصة لوسائل الإنتاج بهدف تحقيق الربح، ومن جهة الأدوات فإن الرأسمالية أوسع بكثير من الاشتراكية، ففي حين أنّ الأخيرة تعتمد على التخطيط المركزي ومتابعة الخطط بشكل تنفيذي، فإن الأولى تقوم على التملُّك في قطاعات مختلفة مثل أدوات السياسة النقدية، والمالية، والاستثمارية وغيرها.
رأى النظام السوري سواء في عهد الأسد الأب أم الابن أنّ الرأسمالية هي حالة من حالات تملُّكه للأصول، أو تملُّك مَن هم محسوبون عليه للأصول؛ حيث أعطى رامي مخلوف حق الاستثمار في قطاع الاتصالات، فضلاً عن منحه حقوقاً واسعة في مجال العقارات والبنوك. وكاد أن يحصر المِلكيّة المتعلقة بالدولة في 5 أو 6 شخصيات في سورية، على خلفية التحوّل إلى ما أسماه نظام السوق الاجتماعي بهدف التقرّب من النهج الرأسمالي.
إذاً تقوم مقاربة النظام للرأسمالية والسوق على تغيير نوع التملُّك، عَبْر نقل أموال الدولة من حالة الإدارة لحالة التملُّك، ففي النهج الاشتراكي الذي اتبعه الأسد الأب كانت سياسة النظام تعتمد فقط على إدارة ممتلكات الدولة (المِلكية العامة)، بينما اتبع الأسد الابن سياسة الإدارة والتملُّك تماهياً مع النهج الرأسمالي الذي بدأ يتوجّه له؛ حيث تم استثمار جزء من أموال العائلة الحاكمة داخل الاقتصاد.
أمّا عن مِلكيّة الشعب فلم تتغيّر مقاربة النظام لها حتى عام 2011؛ حيث استمر في تقديم الدعم، وكانت هناك حالة مستقرة من الخدمات الرئيسية مع الحفاظ على التوظيف في مؤسسات الحكومة، وإدخال بعض المؤسسات الاجتماعية التي تمثل حالة قريبة من حالة المجتمع المدني المُدار من قِبل أسماء الأسد، على أساس أنه نوع من الحراك الاجتماعي الداعم للطبقات الفقيرة، وخاصة أبناء الريف من الطائفة العلوية المتأثرين من الانتقال من نظام إلى آخر؛ نتيجة لتسريح عدد كبير من الضباط القدامى أو تقاعُدهم، وبالتالي توقُّف قدرتهم على الحصول على المدخول الإضافي. وترك القطاع الخاص للتنافسية المحميّة من الدولة، بحيث تبقى الأصول مملوكة لأبناء كبار المسؤولين.
مع قدوم بشار الأسد للسلطة ساد اعتقاد بأنّه سيقوم بفتح الاقتصاد على أساس تحرير الأسواق بكل ما فيها، أو على الأقل تحرير الأسواق بدرجة أكبر من تحرير السياسة، لكنّه بدأ بالترويج لمصطلح السوق الاجتماعية والتي فسّرت بالرأسمالية الاشتراكية، وهي رأسمالية من جهة رغبة النظام بالتخلي عن مؤسسات القطاع الحكومي والعامّ والتعهّد بها إلى رجال الأعمال الجُدُد، ومن جهة أخرى اشتراكية بالحفاظ على قِيَم حزب البعث وحضوره عَبْر توزيع المعونات التي كان له فيها دور بارز.
3. مقاربة النظام السوري لاقتصاد السوق الاجتماعي:
يُعرّف اقتصاد السوق الاجتماعي [8] بأنه نظام اقتصادي يعمل على تحقيق التوازن بين العدالة الاجتماعية واقتصاد السوق الحرّ، الذي بات نظاماً اقتصادياً عالمي الانتشار، ولا يمكن تجاوُزه. يجمع اقتصاد السوق الاجتماعي بين قوانين الاقتصاد الحرّ في الرأسمالية وبين مبادئ مرتبطة بالجانب الاجتماعي في الاشتراكية.
لم يكن هناك تطبيق لاقتصاد السوق الاجتماعي -حتى لو بشكل جزئي- في عهد حافظ الأسد، ولدى وصول بشار الأسد للسلطة ظهرت الحاجة للتحوُّل إلى شكل آخر من أشكال تنظيم المِلْكية؛ حيث أبقى على مصطلح العدالة الاجتماعية كرديف للاشتراكية [9] . وعمل على تطوير شكل المِلْكية، والحفاظ على وجود حزب البعث كحزب عقائدي وإحدى أدوات الحكم الرئيسية، فلا بديل له في التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي استطاع أن يقوم به، وإنّ حلّه أو تهميشه تماماً سيقابله مَلْءُ الفراغ بأحزاب ومؤسسات أخرى أقل انضباطاً، مما يتيح لها الحصول على هامش غير مرغوب به من الحرية.
تركزت أهداف النظام في تلك المرحلة على اتباع نهج اقتصادي يُبقي من خلاله على قوة حزب البعث الاشتراكي وقدرته في التأثير في الجمهور لفترة طويلة، ويدفع الضباط والمسؤولين نحو إخراج أموالهم لوضعها في الاقتصاد السوري عن طريق استثمارات خاصة. كان هذا النهج يهدف إلى تحقيق نقاط عدّة أبرزها:
• جَذْب الاستثمارات الخارجية: سعى النظام من التحوُّل نحو اقتصاد السوق الاجتماعي إلى جَذْب الاستثمارات الأجنبية، وتحديداً الغربية، تماشياً مع شعار "التطوير والتحديث" الذي روّج له بشار الأسد آنذاك. وكان بحاجة إلى المواءمة بين النهج الاشتراكي والرأسمالي، ولو نظرياً، فأبقى على مبادئ الاشتراكية التي يقوم عليها حزب البعث، وجعله يشارك في قيادة هذا التحوّل من خلال "اللجنة الاقتصادية لحزب البعث العربي"؛ حيث شارك رئيسه محمد الحسين [10] في هندسة النهج الاقتصادي الجديد، إلى جانب كل من عبد الدردري الذي كان رئيساً لهيئة التخطيط والتعاون الدولي في سورية حتى عام 2005 حين أصبح نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية [11] ، وأديب ميالة حاكم مصرف سورية المركزي [12] . كان هؤلاء الثلاثة هم مهندسي النهج الاقتصادي الجديد فعلياً، فتمثلت الليبرالية بميالة، والتحفظ بالحسين، والقدرة على تطويع القرارات وتقريب وجهات النظر بالدردري [13] .
• التحفيز على الاستثمار المحلي: دفع النظام أبناء المسؤولين الذين راكم آباؤهم الثروات في عهد الأسد الأب للظهور والمشاركة الاقتصادية في محاولة لضخّ أموالهم في الاستثمارات المحلية؛ تمهيداً للخُطوات التي بدأها نحو التحوّل إلى اقتصاد السوق الاجتماعي. وعليه استثمر أبناء الضباط والمسؤولين أموال آبائهم في كثير من القطاعات، مثل استثمار رامي مخلوف في قطاع الاتصالات، وكذلك تقديم أبناء بهجت سليمان كرجال أعمال صاعدين، وعشرات من الشباب الآخرين الذين برزوا فجأة في واجهة الاقتصاد السوري. من جانب آخر، عمل النظام على تنشيط القطاع الخاص في تلك الفترة؛ بهدف تحفيز أموال الشعب للاستثمار داخلياً؛ حيث نشأت المدن الصناعية في حسياء وعدرا والشيخ نجار مثلاً، وبدأت الشركات الخاصة في الظهور والتوسع تدريجياً.
في تلك المرحلة، لم تكن هناك تعديلات كبيرة فعلياً على المؤسسات الخدمية الرئيسية من أفران ومؤسسة كهرباء ومياه وغيرها، وتم وضع خطة طويلة الأمد لتقليل الاهتمام بها والصرف عليها ورفع الدعم عنها، لكنها كانت خطة تدريجية وبطيئة؛ بحيث لا تترك ردات فعل عنيفة في المجتمع، فمثلاً تم إيقاف إلزامية تعيين المهندس المتخرِّج في مؤسسات الدولة، وأصبح سعر لتر المازوت والبنزين أعلى من ذي قبل. بذلك، بدأ التخلي الحكومي عن مؤسسات الشعب وتركها للوقت لتموت وتندثر مع الحفاظ على شكلها وبعض خدماتها دون المساس به.
ثانياً: سياسات النظام السوري الاقتصادية بعد عام 2011
انتقل النظام السوري بعد عام 2011 إلى اقتصاد الحرب في سياسته المتبعة سواء المالية أم النقدية، نتيجة لتدهور الاقتصاد وتراجُع قدرته المالية، التي عمل على تعزيزها بهدف دعمِ العمليات العسكرية، وبالتالي بقائِهِ في السلطة.
1. السياسات المالية – سياسة الدعم والضرائب نموذجاً:
مع مطلع 2011 كان النظام يتمتع باستغلال مؤسسات الدولة أو المِلْكية العامة لصالح مواجهة المتظاهرين؛ حيث زجّ بموظفي القطاع العامّ في الشارع، ونشر القناصين على أسطح المؤسسات العامة، وجيّر المشافي لخدمة الجيش والأمن مقابل قتل وإهانة ورفض معالجة مطالب المتظاهرين، كما بدأ إعطاء إجازات مفتوحة لبعض الموظفين الذين يمثلون خطراً عليه مقابل استدعاء موظفين آخرين. كانت البداية لحشد الموارد هي السيطرة على موارد الدولة، ثم استخدام ما لدى المصارف وخاصة المركزي في شراء تجهيزات الجيش ودفع مستلزماته، وبدأ يستخدم أموال رجال الأعمال المحسوبين عليه كرامي مخلوف وغيرهم لتشكيل ميليشيات مسلّحة، وجعل المتعهدين يستفيدون من أموال القرى المسيطر عليها لتمويل عملياته العسكرية، وبدأ استدعاء كل ما يمكن من مؤسسات ورجال أعمال ومؤسسات حكومية وشِبه حكومية لجمع التمويل وفَرْض قوانين لتوريد قطع أجنبي كما في قانون الخدمة العسكرية ومسألة جواز السفر، ثم أصبحت سياساته ترتكز على تأمين المال وجعل الغاية الرئيسية من كل سياسة هي جمع الأموال وتأمين مستلزَمات الحرب.
بدأ النظام عام 2019 استخدام ما يُعرَف بالبطاقة الذكية (Takamol)؛ حيث حصل المواطنون عَبْرها على المشتقات النفطية مثل المازوت والبنزين والغاز المنزلي [14] ، ثم بعد عامين تقريباً أُدخلت المواد التموينية عليها مثل الرز والسكر والشاي وغيرها بسعر مخفّض ولشرائح معينة محددة مسبقاً وَفْق ضوابط معينة.
عمل النظام بعد ذلك على التخلص من سياسة الدعم التي استمرت لعقود؛ وكانت سياسة غير معلنة لتحوّله من الدعم العامّ إلى الدعم المخصوص، في ظل تراجُع قدراته المالية من الخزينة، فقام تدريجياً باستبعاد فئات معينة من دعم المواد الاستهلاكية ضِمن مشروع إعادة توزيع الدعم الحكومي وتقليص شرائح المستفيدين. فمثلاً أصبح كل مالك سيارة بحجم محرِّك معيَّن مستبعَداً من الدعم؛ باعتباره من الفئات التي لا تحتاج الدعم.
يُحاول النظام التحوُّل نحو الدعم النقدي عِوَضاً عن نظام دعم السلع الاستهلاكية المعمول به؛ حيث أصدر مجلس الوزراء في 25 حزيران/ يونيو 2024 قراراً ألزم بموجبه حاملي بطاقات الدعم الإلكترونية بفتح حسابات مصرفية خلال مدة 3 أشهر، تبعه إصدار وزارة المالية تعميماً في 30 حزيران/ يونيو 2024 للمصارف العامة بزيادة عدد ساعات الدوام الرسمي في فروعها، إضافةً إلى الدوام يوم السبت لتمكين حاملي بطاقات الدعم من فتح حسابات مصرفية.
بالمقابل، شهدت السياسات الضريبية عدة تغييرات؛ حيث عملت وزارة المالية على إجراء تعديلات جذرية بهدف الانتقال إلى الضريبة على القيمة المضافة والضريبة الموحّدة على الدخل –وهي الضريبة المطبقة في النظام الرأسمالي– من خلال إنجاز المُسَوَّدة الأولى لمشروع قانون الضريبة على القيمة المضافة عن طريق لجنة فنية متخصصة، ويُتوقّع أن يكون نافذاً بداية عام 2025، وهي خُطوة تتزامن مع تسلُّم الإدارة الضريبية للبرمجية الخاصة بالفوترة الإلكترونية [15] ، والتي ستكون الأداة التنفيذية للسياسة الضريبية الجديدة.
أيضاً عمل النظام على تقليص عجز الموازنة العامة الذي شهد تراجُعاً من 30% عام 2023 إلى 26% من إجمالي اعتمادات الموازنة العامة للدولة، إضافة إلى هدفه بالوصول إلى العجز المستهدَف بحدود 20%، من خلال قيام وزارة المالية بالاقتراض من المصرف المركزي لتأمين التمويل المطلوب، والاعتماد على الاقتراض الداخلي من القطاع المالي عن طريق إصدار سندات الخزينة التي تُعَدّ إجراءً غير مُجْدٍ؛ كونها لا تؤدي دورها الحقيقي كأدوات مالية توفر التمويل، بل تزيد من التضخم وتؤدي إلى خسارة مشتريها.
بالنتيجة، بقيت السياسات المالية المتبعة من النظام تحمِل توجُّهاً مختلطاً بين الاشتراكية والرأسمالية؛ عَبْر ضبط الإنفاق العامّ وزيادة الإيرادات الحكومية وسط تراجُع الإنتاج وغياب الإيرادات النفطية عَبْر 3 مسارات يعمل عليها وهي: تحسين العائدات من الضرائب والرسوم، وتعزيز الفوائض من مؤسسات القطاع العامّ الاقتصادي، وزيادة العائدات من استثمار أملاك الدولة بإدارة هذه الأصول بطريقة اقتصادية تحقق ربحاً للخزينة العامة.
2. السياسات النقدية – المصرف المركزي نموذجاً:
استندت رؤية مصرف سورية المركزي وفقاً لما هو معلَن [16] إلى الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي، بما يُسهم في تحقيق أهداف السياسة الاقتصادية الكلية، من خلال بناء سياسة نقدية فاعلة ومؤثرة تستهدف الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة السورية، ومعدَّل تضخُّم منخفض ومستقِر، يُسهم في توفير البيئة الملائمة للاستثمار ودعم النمو الاقتصادي، إلى جانب تبنِّي استخدام أدوات الدفع الإلكتروني؛ لتحقيق الأهداف قصيرة وطويلة الأجل.
لكن، عملياً لم يَعُدِ المصرف يمتلك سياسات حقيقية فعّالة، فهو مثلاً يستخدم سياسة سعر صرف ثابت لليرة السورية أمام العملات الأجنبية دون تركه مَرِناً أمام آلية العرض والطلب في السوق، إضافة إلى استخدامه سياسة سعر الفائدة والتي يُعوّل عليها في الاقتصادات الرأسمالية في كبح جماح التضخم؛ حيث أصبحت غير فعّالة في ضبط تدهور نسب التضخم المستمر، كما يشارك المصرف المركزي بإدارة المزادات التي تُصدرها وزارة المالية وأصبحت سياسة غير مُجْدِية؛ تلحق خسارة بحاملي هذه السندات، ولا تؤدي دوراً فعالياً بتمويل عجز الموازنة أو خفض التضخم. وكذلك توقف عن إصدار شهادات الإيداع التي أصدرها بين عامَيْ 2019 و2020 [17] ، وكان يتم من خلالها إيداع الأموال لديه لفترة معينة ثابتة وبسعر فائدة محدد؛ بسبب عدم الإقبال عليها، كما أن سياسة التحول نحو الدفع الإلكتروني ما زالت تعاني من الكثير من المعوّقات المرتبطة بالنظام المالي والتقني العامّ لدى وزارة المالية.
من الواضح، أنّ السياسات النقدية التي يتبعها النظام لا تعني تطبيقاً لاقتصاد السوق الاجتماعي، ولا تعود به إلى السياسة الاشتراكية، إنّما يتم استخدامها كأداة لإبقاء الوضع الاقتصادي تحت السيطرة، وبالتالي لا تخدم هذه السياسات أيّ توجُّه نحو نموذج اقتصادي ممنهَج ومعرَّف.
3. سياسة إدارة القطاع العامّ – دمج الشركات نموذجاً:
أصدر النظام المرسوم التشريعي 29 لعام 2011 [18] ، والذي يُمكِّنه من بيع جميع المؤسسات والمنشآت المملوكة للدولة بشكل كلي أو جزئي؛ حيث وضع نوعاً جديداً من الشركات هي "الشركات المساهمة المملوكة بالكامل للدولة"، بما يجيز للدولة بيع الأملاك العامة بعد تحويل تلك المؤسسات إلى شركات مساهمة شرط موافقة مجلس الوزراء. ثم أصدر النظام نهاية 2023 مجموعة من القوانين التي تم من خلالها دمج مختلف الشركات وتغيير صفتها القانونية، وفقاً لما يلي:
• القانون رقم 22 لعام 2024 [19] ، القاضي بإحداث “الشركة العامة للصناعات الغذائية” لتحل محل كل من المؤسسة العامة للصناعات الغذائية والمؤسسة العامة للسكر، وجميع الشركات التابعة لهما؛ حيث دمج القانون الجديد مؤسستين و25 شركة إنتاجية بشركة واحدة جديدة جعل مقرها الرئيسي بحماة.
• المرسوم التشريعي رقم 98 لعام 2024 [20] ، القاضي بإحداث “الشركة العامة للطرق والمشاريع المائية” لتحل محل كل من "الشركة العامة للطرق والجسور" و"الشركة العامة للمشاريع المائية"، في كل ما لهما من حقـوق ومـا عليهما من التزامات، ومقرها الرئيسي مدينة حماة. ومن المعلوم أن الشركة العامة للمشاريع المائية تكوَّنت عام 2003 بمرسوم دمج ما كان يُعرَف بالشركة السورية لاستصلاح الأراضي مع الشركة السورية للري ومياه الشرب ريما.
• القانون رقم 3 لعام 2024 [21] الخاص بإحداث وحَوْكَمة وإدارة الشركات المساهمة العمومية والشركات المساهمة العمومية القابضة والشركات المشتركة، وهي زمرة اقتصادية جديدة تضخّ بدم الاقتصاد النظام مع غياب الإعلان عن الإحصاءات ودراسات الجدوى وتحليل لآليات السوق وانعكاساتها.
• القانون رقم 11 لعام 2024 [22] ، القاضي بدمج المؤسسة العامة لحلج الأقطان وتسويقها بكافة فروعها مع المؤسسة العامة للصناعات النسيجية وجميع الشركات التابعة لهما وعددها 40 شركة لتنشأ "الشركة العامة للصناعات النسيجية".
• القانون رقم 26 لعام 2024، القاضي باستثمار الأموال المنقولة وغير المنقولة والمصادَرة من المواطنين بموجب حكم قضائي وإدارتها وبيعها، ومنح عملية الاستثمار تلك لوزارة المالية وإدارة العقارات خارج التنظيم لوزارة الزراعة.
• القانون رقم 43 لعام 2023 [23] ، القاضي بإحداث الهيئة العامة لإدارة وحماية واستثمار أملاك الدولة والممثلة لجميع العقارات المبنية وغير المبنية والحقوق العينية التي تخصّ الدولة بصفتها الاعتبارية العامة.
بشكل عامّ، يعمل النظام على استخدام سياسة الفرز والدمج للشركات وفقاً للقطاعات؛ حيث يأخذ كل ما يتعلّق من شركات مرتبطة بقطاع معيَّن من صناعات مثل الغذاء ويدمجها بهدف إعادة هيكلة الشركات التابعة للوزارات كوزارة الصناعة من أجل خلق بيئة تنظيمية وقانونية تساعده على تحويل هذه الشركات إلى شركات مساهمة أو مساهمة قابضة أو مساهمة مشتركة لطرح قسم من أسهمها للبيع أو طرحها مباشرة للبيع عَبْر التخصيص، فيتم من خلال سياسة الدمج طرح شركة واحدة كبيرة بدلاً من مجموعة شركات، إضافة لتجميع طاقات هذه الشركات في مكان واحد لتعزيز عملها تحضيراً لاستقبال العقود من الجهات المانحة الدولية في حال وصول تمويل مشاريع التعافي المبكر وإعادة الإعمار لتلبية شروط المانحين.
بمعنى أنّ النظام يُطبّق في إدارة القطاع العامّ سياسات اقتصادية تتجه للتحوّل نحو الرأسمالية غير المخطّطة، بعدما كان يُطبّق سياسات اشتراكية وسياسات السوق الاجتماعي.
4. سياسة إدارة القطاع الخاص واقتصاد الظلّ:
أصدر النظام قانون الاستثمار رقم 18 لعام 2021؛ بدعوى "إيجاد بيئة استثمارية تنافسية لجذب رؤوس الأموال، والاستفادة من الخبرات والتخصصات المختلفة، لتوسيع قاعدة الإنتاج وزيادة فرص العمل ورفع معدلات النمو الاقتصادي"، بزعم الوصول إلى تنمية شاملة ومستدامة. لكن لم يتجاوز عدد المشروعات الممنوحة وَفْق هذا القانون أكثر من 89 مشروعاً في مختلف القطاعات، وبتكلفة إجمالية وصلت إلى 4.32 تريليون ليرة سورية و8133 فرصة عمل منذ تاريخ إصداره [24] .
بالنتيجة، إن سياسة النظام في القطاع الخاص الهادفة لجذب رؤوس أموال جديدة لم تُحقّق جدواها؛ حيث بقيت كمية الاستثمارات منخفضة بشكل كبير، مع تراجُع في نسبة مساهمة القطاع الخاص في الدخل المحلي. ورغم مساعي النظام لزيادة حصة القطاع الخاص في الاقتصاد إلّا أنّ تضارُب السياسات وغياب نموذج اقتصادي واضح وعدم الاستقرار السياسي ما زال يحول دون خلق بيئة استثمارية منافسة ومناسبة، مما يجعل سياساته غير مُجْدِية في تعبيد الطريق أمام تطبيق نموذج السوق الاجتماعي الذي يتطلّب سياسات واضحة تحقق الاستقرار وتدعم فرص الاستثمار.
من جانب آخر، زاد انتشار اقتصاد الظل [25] ، وساهم في ذلك تنامي الفساد في الاقتصاد الحقيقي الذي ضعف بدوره بسبب العقوبات الدولية وهجرة اليد العاملة ورؤوس الأموال، مما دفع النظامَ لاستغلال اقتصاد الظل؛ حيث لم يعمل بشكل جِدّيّ على فرض رقابة على أنشطة اقتصاد الظل ومنتجاته رغم الإعلان مراراً عن التوجّه نحو إعادة النظر بالإطار التشريعي الناظم لممارسة الأعمال في مناطق سيطرته بما يتعلق بالإجراءات الضريبية والقانونية المتعلقة بمنح التراخيص والموافقات اللازمة؛ فمثلاً نفذت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك الكثير من حملات التفتيش على المحالّ والمصانع بهدف ضبط المخالفات، لكنها غالباً ما تتغاضى عن المخالفات بسبب تقاضي المفتشين للرشاوى.
بعد عام 2024 حاول النظام إظهار توجُّهه نحو مكافحة اقتصاد الظلّ عَبْر استخدام بعض السياسات الهيكلية؛ حيث أعلنت إدارة الضرائب عن قرب إطلاقها لمنظومة فَوْتَرة ومنظومة ترميز السلع [26] في محاولة لضبط التهرُّب الضريبي الناشئ عن اقتصاد الظلّ، والذي يستهدف تحديداً أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة دون غيرهم. لكن هذه المحاولة غير كافية؛ كون مساعي إعادة إنعاش الاقتصاد الحقيقي تبدو عسيرة في ظل الظروف السياسية والاقتصادية التي أدّت إلى انحداره بشكل غير مسبوق، فضلاً عن أنّها محاولة غير مُجدِية؛ لعدم قدرة النظام أساساً على تحجيم اقتصاد الظل، الذي ما زال يتمدد ويعمل به أصحاب الأعمال سواء الكبيرة أم الصغيرة عَبْر تهريب البضائع التجارية والموادّ الأولية وغسيل الأموال. بالتالي فرض اقتصاد الظل نفسه بسبب الحرب وجَعْله أكثر جاذبية للنظام مقارنة مع الاقتصاد الحقيقي.
ثالثاً: رجال الأعمال في اقتصاد النظام السوري
اعتمد النظام السوري خلال مراحل حكمه على مجموعة من رجال الأعمال والشخصيات الاقتصادية، التي اختلفت بين فترة حكم حافظ الأسد وابنه بشار الأسد قبل عام 2011 وبعده، وكان لهؤلاء دور رئيسي مشترك في العمل على استمرارية الموارد المالية والمحافظة عليها، وبالتالي استمرار وجود النظام في الحكم بجانب استخدامه لنماذج وسياسات اقتصادية مختلفة؛ حيث عمل النظام على تقريب رجال الأعمال منه بعد أن يضمن ولاءهم عَبْر تقسيم بعض النشاطات الاقتصادية وتوزيعها عليهم.
1. رجال الأعمال في عهد حافظ الأسد:
كانت طبقة الأغنياء التقليدية التي حافظت على وجودها في سورية آخِذة بالتقلص من حيث النفوذ والثراء في عهد حافظ الأسد، إلا أنها بقيت ذات مِلْكيات واسعة، وحظيت بمنزلة اجتماعية مرموقة، وبقيت أعمالاً مفتوحة، وتدرّ عليها مبالغ طائلة مقابل عدم الانخراط في أيّ نوع من الأنشطة السياسية. وفي حالات كثيرة، ظهر نوع من التقارُب بين شخصيات مدعومة من النظام وطبقة الأثرياء التقليديين؛ حيث تقاربت أنماط حياتهم وسلوكهم، لتصل أحياناً إلى الزواج بين أبناء الطرفين [27] . اعتمد حافظ الأسد على شخصيات عديدة لتثبيت حكمه، فمنهم مَن كان له دور أمني وعسكري، مثل محمد ديب دعبول [28] ، ومصطفى طلاس [29] ، وعلي حيدر [30] ، وآصف شوكت [31] ، وغازي كنعان [32] ، وبهجت سليمان [33] ، وفواز الأسد. ومنهم مَن كان له دور إداري أو اقتصادي. وفيما يَلِي أبرز الشخصيات التي أدّت دوراً اقتصادياً في عهد الأسد الأب:
• محمد مخلوف: شقيق أنيسة مخلوف زوجة حافظ الأسد، أصبح مدير المؤسسة العامة للتبغ في سورية عام 1972 بعد عامين من مجيء حافظ الأسد للحكم، وبدأ بعد ذلك تكوين إمبراطوريته الاقتصادية، وتوسّعت لتشمل مجال النفط من خلال شركة الفرات للنفط وشركة ليد النفطية، ومجالات الكهرباء والنسيج والمصارف. وأصبح عام 1985 مدير المصرف العقاري، وهو والد رامي مخلوف، الذي ورث إمبراطورية أبيه الاقتصادية.
• علي ومحمد دوبا: عَمِلَا في تجارة النفط، وكان محمد يدير الشركة السورية للنفط حتى عام 1990، وأَوْرَثا أعمالهما التجارية إلى أولادهما سامر وأكثم وأمجد.
• جميل الأسد: شقيق حافظ الأسد، بدأ بناء إمبراطوريته الاقتصادية بتأسيس شركة الساحل للتخليص الجمركي، التي فتح لها أفرعاً في المنافذ الحدودية البرّية والبحرية، وتسلَّم ملفّ التخليص الجمركي، وهو والد فواز الأسد الذي اشتهر بعمله في تهريب الدخان والمخدرات في عهد حافظ الأسد.
• عبد الرحمن العطار: رجل أعمال ورئيس منظمة الهلال الأحمر السوري السابق في عهد كل من حافظ الأسد وبشار الأسد حتى عام 2016. كان والده مصطفى العطار تاجر مواد غذائية وأمين سر رابطة العلماء السوريين. أسَّس عبد الرحمن مجموعة العطار التجارية، التي تنشط في مجالات عديدة مثل الصناعات الدوائية، والمشاريع الزراعية والسياحية وصناعة الكرتون والتعهدات المدنية. وامتلكت المجموعة عدة وكالات سوني وأريكسون وآي بي أم، والعديد من الفنادق مثل فندق الكارلتون وبرج الفردوس في دمشق، وزنوبيا في تدمر.
• صائب نحاس: رجل أعمال بارز، بدأ عمله التجاري عام 1953، وامتلك مجموعة كبيرة من الشركات التي تعمل في مختلف القطاعات الاقتصادية، مثل السياحة والمواد الغذائية والطبية وغيرها. وتولى منصب القنصل الفخري للمكسيك وكازاخستان في سورية. واستحوذ على العديد من الوكالات الدولية؛ حيث كلّفه النظام بتعزيز العلاقات التجارية مع إيران وحزب الله، وفي عهد بشار الأسد وسّع نطاق أعماله في عدد من الدول العربية كالإمارات ولبنان والأردن والسودان، إضافة إلى دول أخرى كالمكسيك وكازاخستان.
• عثمان العايدي: رجل أعمال بارز، عمل رئيسَ مجلس إدارة الشركة السورية للمنشآت السياحية التي أُسست عام 1977، ورئيساً للمجموعة الفندقية الفرنسية لو رويال مونسو، وتسلّم منصب رئيس الاتحاد الدولي للفنادق والمطاعم السياحية بين أعوام 1993 و2021، ورئيس منظمة السياحة الأوروبية المتوسطية، وشارك في تأسيس بنك البحر المتوسط في فرنسا ولبنان، وكان عضواً في مجلس إدارته، وساهم في العديد من المشاريع التنموية مثل تدقيق الدراسات الهندسية لبناء سَدَّي الرستن ومحردة وتنفيذ شبكات الري في سهل الغاب، وقلّده حافظ الأسد وسام الاستحقاق السوري.
أخيراً، إنّ الخلاف الذي وقع بين حافظ ورفعت الأسد، وأَخرج إثره من سورية الملايين من الدولارات من موارد الدولة من العملات الأجنبية وتملّك فيها العقارات الفاخرة في كل من لندن وفرنسا وإسبانيا وغيرها من دول أوروبا، ساهم في تشكيل طبقة جديدة من المسؤولين الذين انتهت أدوارهم، مما دفعهم لإخراج جزء من أموالهم خارج البلاد، ليبدؤوا حياة جديدة في قطاع المال والأعمال [34] . ولم تستطع هذه الطبقة التي بقيت فصل مِلكيتها الخاصة عن المِلكية العامة وإخراجها للعلن لأسباب مختلفة [35] .
2. رجال الأعمال قبل عام 2011:
بعد قدوم بشار الأسد إلى الحكم عام 2000 بدأت فئة من الشخصيات الاقتصادية بالظهور، وهي أولاد المسؤولين الأمنيين والاقتصاديين والعسكريين الذين كانوا في فترة حافظ الأسد، مستفيدين من السلطة التي امتلكها آباؤهم وقدرة الوصول المرتفعة. استخدم الأسد الابن هذه الفئة في هيكلة الاقتصاد وسياسته المختلطة بهدف تنميته والتصرُّف في الأموال الداخلية وعقد شراكات مع الدول الخارجية لجذب الاستثمارات، ولعل أبرز هذه الشخصيات [36] :
• رامي مخلوف: ابن محمد مخلوف وابن خال بشار الأسد، وهو رجل أعمال بارز، وأحد أهم الشخصيات الاقتصادية في سورية خلال فترة حكم الأسد الابن؛ حيث استفاد من نفوذ والده، واستثمر في العديد من القطاعات الاقتصادية مثل الاتصالات في شركة سيريتل في سورية وفي قطاع الاتصالات في اليمن، وامتلك حصصاً في مصرف المشرق الاستثماري وشركة الكورنيش السياحية، ودخل في قطاعات الأسمنت والغاز والنفط، واستولى على وكالة BMW وأسس شركة لفحص السيارات بالتعاون مع نجل الرئيس اللبناني السابق. وأدّى دوراً بارزاً في تمويل النظام بعد عام 2011 من خلال جمعية البستان، إلى أن تم إبعاده عن الواجهة الاقتصادية بشكل كامل نهاية عام 2019.
• إيهاب مخلوف: ابن محمد مخلوف وابن خال بشار الأسد، عمل في عدة مناصب بارزة، كمدير وشريك في مجموعة متنوعة من الشركات، منها الشركة الإسلامية للوساطة والخدمات المالية وبيشاور للاستثمار وسيريتل وغيرها، ويُعتبر اليد اليمنى لشقيقه رامي مخلوف.
• سليم دعبول: ابن محمد ديب دعبول، يمتلك أكثر من 25 شركة في مختلف القطاعات الاقتصادية مثل شركة النبراس وجامعة القلمون الخاصة، وهو شريك مؤسِّس في عدة شركات أخرى، وتمتع بعلاقة وثيقة مع بشار الأسد.
• فراس وسارية وناهد طلاس: أولاد مصطفى طلاس، أسس فراس مجموعة من الشركات التجارية والاستثمارية، مثل شركة بالميرا للتطوير العقاري ومجموعة ماس الاقتصادية، التي نشطت في تجارة حبوب البن وإنتاج المعادن والأغذية المعلبة. بدوره امتلك طلاس عدداً كبيراً من الشركات المتخصصة في قطاعَي الغذاء والعقارات، إضافة لامتلاكه شراكات إستراتيجية مع شركات دولية، مثل شركة لافارج الفرنسية المتخصصة في إنتاج الأسمنت. أمّا فراس فاشتهر بكونه أحد أبرز المحتكرين لتجارة السكر في سورية قبل عام 2011، بينما تُعتبر كل من ناهد وسارية طلاس شركاء ومؤسسين في العديد من الشركات مثل شركة ماس للاستثمار وشركة ماس للأغطية المعدنية والشركة السورية لصناعة اللحوم.
• حمزة شوكت: ابن آصف شوكت، عمل في العديد من القطاعات الاقتصادية مثل الطيران والتجارة وغيرها، وكان شريكاً ومؤسساً في العديد من الشركات مثل شركة شوكت والحسيني وشركة فيجن بلس.
• نضال وسامر كنعان: أولاد غازي كنعان، عملوا في العديد من القطاعات الاقتصادية، كما كانوا شركاء ومؤسسين في العديد من الشركات مثل شركة الشرق الأوسط للتقنيات الحديثة، وشركة الشرق الأوسط للمنتجات النوعية.
• أكثم وسامر دوبا: أبناء علي ومحمد دوبا، عملوا في العديد من القطاعات الاقتصادية مثل قطاعَي الرياضة والإعلام وغيرهما، وكانوا شركاء مؤسسين في عدة شركات، منها شركة أمانة خير سورية وكواليس وزُحل لخدمات الدعاية والإعلان، وعمل سامر في مجال تهريب النفط، وتولى إدارة أموال العائلة بعد اختفاء محمد دوبا في مايو 2012.
• محمد حمشو: صديق ماهر الأسد، وهو رجل أعمال بارز، عمل في قطاعات الاتصالات والدعاية والإعلان والتسويق والإنتاج الفني، والدعاية والإعلان، والتسويق، والإنتاج الفني، وقام بتأسيس سورية الدولية للإنتاج الفني، وموقع شام برس الإخباري، وكان شريكاً في تلفزيون الدنيا أيضاً، وأسس مجموعة حمشو الدولية التي عملت في مجال المقاولات والتعهدات السكنية والحكومية وتتبعها العديد من الشركات.
• مجد سليمان: ابن بهجت سليمان، عمل في العديد من القطاعات مثل الإعلام والاتصالات والمصارف والسياحة والعقارات، وأطلق المجموعة المتحدة للإعلان والنشر التي تخصصت بإصدار صحف ومجلات فنية وإعلانية في سورية وفي دول عربية مثل جريدة الوسيط وليالينا، وبلدنا، وأصبح المدير التنفيذي لمجموعة الوسيط الدولية.
• سليمان معروف: ابن محمود معروف، وهو صديق بشار الأسد، أسس عدداً من الشركات وأدار بعضها في مختلف القطاعات البنكية والسياحية والإعلام والسيارات وغيرها، وأصبح وكيلاً لشركة هوندا للسيارات في سورية، وكان مساهِماً في تأسيس شركة شام القابضة، ومديراً عاماً لشركة الشهباء للإعلام، وشريكاً مؤسِّساً في بنك سورية الدولي الإسلامي، وغيره من الشركات.
• أيمن جابر: صديق فواز الأسد شقيق حافظ، وهو رجل أعمال بارز، أسس مجلس الحديد والصلب في سورية، ودخل في استثمارات وتعهُّدات ومقاولات، وساهم في تأسيس شركة شام القابضة، وتأسيس قناة الدنيا الفضائية، وامتلك الشركة العربية لِدَرْفَلة الحديد، وامتلك عدة شركات في لبنان مثل شركة الجزيرة المتحدة للنقل العامّ وتجارة المشتقات النفطية والخدمات النفطية وغيرها من الشركات، كما ينشط في مجال التهريب.
بشكل عامّ مع قدوم بشار الأسد إلى السلطة خلفاً لوالده، أدار ظهره للاشتراكية التي مكّنت مئات رجال الأعمال شديدي الولاء لوالده من الحفاظ على مكاسبهم من خلال إدارتهم لمعامل ومؤسسات تمتلكها الدولة، وعمل على تبني نظام السوق الاجتماعي، لينزع من أيدي مديري المعامل الحكومية وكبار المسؤولين حصرية احتكار الموارد. لكنه من جانب آخر أعطى الفرصة لأبنائهم للحصول على استثمارات في مختلف القطاعات التي سمحت القوانين الجديدة بالعمل ضِمنها. وهكذا باتت سورية مفتوحة أمام طبقة جديدة من الأثرياء الذين يجمعون بين المال والنفوذ، دون أن ينهي النظام الطبقة البرجوازية التقليدية المتحالفة مع الأسد الأب، والتي بدأت تتسع بشكل أكبر في عهد الابن، الذي بات أكثر حرصاً على وجود هؤلاء في سورية.
3. رجال الأعمال بعد عام 2011
بعد عام 2011، ظهرت شخصيات اقتصادية جديدة على خلفية الحرب، منهم مَن استغلّ الفراغ الناتج عن خروج عدد كبير من التجار من السوق ليحقق مكاسب، ومنهم مَن مارَس التجارة بمخلفات المنازل المنهوبة التي هجرها أصحابها أو هُجّروا منها. كما عمل بعض رجال الأعمال الجُدُد على تسهيل العلاقات التجارية بين مناطق النزاع، محققين ثروات طائلة. وتشكّلت حالة من التنافس مع الشخصيات التي ظهرت بعد قدوم بشار الأسد للسلطة وحققوا مكاسب ضخمة، فالمنافسون الجُدُد لا ينتمون إلى طبقة رجال الأعمال التقليدية، ولا إلى أبناء المسؤولين الذين استفادوا من سلطة الآباء لتحقيق مكاسب اقتصادية.
ساهمت ديناميكيات الحرب في إرساء دعائم صعود متسارع لشخصيات اقتصادية جديدة، وسمحت لهم مصالحهم باستغلال الظروف للتقدم نحو تحقيق مكاسب ضخمة؛ حيث قاموا بأعمال خَطِرة نسبياً وبَنَوْا شبكة علاقاتهم الخاصة من الصفر، واستفاد بعضهم من مواقع مدنهم أو قُرَاهم على خطوط النار، وبعضهم الآخر من عشيرته أو أسرته، فيما بذل آخرون جهداً كبيراً لتحقيق هذه المكاسب، ومن هؤلاء -على سبيل المثال وليس الحصر- [37 ] :
• يسار حسين إبراهيم: لم يكن لديه نشاط تجاري معروف قبل عام 2011، وحظي بفضل والده الذي كان يشغل رئيس هيئة الاستشعار بعلاقة مع القصر الجمهوري. عمل مسؤولاً في "مكتب شؤون الشهداء" المرتبط بأسماء الأسد، وتولى عام 2018 منصباً تنفيذيّاً في المكتب المالي والاقتصادي المعروف بالمكتب السرّي لأسماء الأسد، حيث كُلف بجمع الإتاوات من التجار والصناعيين تحت طائلة الحجز على أملاكهم أو اعتقالهم، ومن بين الشخصيات التي ضغط عليهم هو رامي مخلوف، فاستولى على أسهم المشغّل الثالث (وفا)، عمل يسار في المكتب السري مع أخته الكبرى نسرين إبراهيم، التي تُعتبر أقرب منه للقصر الجمهوري وشغلت منصب نائب رئيس مجلس إدارة شركة MTN بين عامَيْ 2020 و2021، وكذلك مع أخته رنا الأصغر منه، وبحكم قربهم من بشار الأسد أداروا شركات عديدة في معظم القطاعات الاقتصادية منها شركة البرج للاستثمار، وشركة زيارة للسياحة، والشركة المركزية لصناعة الأسمنت، وشركة كاسل إنفستمنت القابضة، ومؤسسة بازار، وشركة وفا للاتصالات، والعهد للتجارة والاستثمار. ومطلع عام 2024 تم استبعاده عن الواجهة الاقتصادية؛ بزعم تعرُّضه للتسمم.
• حسام قاطرجي: كان لديه نشاط تجاري بسيط قبل عام 2011، حيث عمل في قطاع العقارات، وبعد هذا التاريخ شارك في تأسيس شركات عدة منها شركة قاطرجي للصناعات الهندسية الميكانيكية، وشركة أرفادا البترولية وشركة قاطرجي للتجارة، وشركة مجموعة قاطرجي القابضة، وشركة آراء للدراسات والاستشارات، ومجموعة جذور للزراعة وتربية الحيوان. كسب ثروته من تجارة النفط والحبوب مع تنظيم داعش ثم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وحقق شهرة أوسع من أقاربه وإخوانه مثل محمد براء قاطرجي ومحمد آغا قاطرجي وأحمد بشير قاطرجي ومحمد فاضي قاطرجي ومحمد بشير قاطرجي. وهو عضو مجلس شعب عن محافظة حلب في دورة عام 2016.
• خضر علي طاهر: لم يكن لديه نشاط تجاري معروف قبل عام 2011، حيث عمل في مجال الدواجن، إلى أن أصبح لاحقاً عضواً في المكتب الاقتصادي السري، وبات من رجال الأعمال الذين يستخدمهم النظام لإدارة الشركات والأعمال التجارية، مستفيداً أيضاً من قربه من العميد غسان بلال مدير مكتب ماهر الأسد، ومن علاقته الجيدة مع إيران. عمل على إدارة ملف جباية الإتاوات على الحواجز وعلى المعابر الداخلية ما بين مناطق النظام ومناطق المعارضة، والمعابر الخارجية خصوصاً مع لبنان، إضافة إلى المتاجرة بالنفط. أدار وامتلك شركات في مختلف القطاعات مثل المقاولات والسياحة والفنادق والاتصالات والشركات الأمنية، وجمع ثروته عَبْر الشركات التي أدارها ونشطت بعد عام 2017، وكانت وسيلة تبييض للأموال التي تم جَنْيها من المعابر وعمليات التهريب غير الشرعية. وفي 20 شباط/ فبراير 2019 أصدر وزير الداخلية محمد رحمون تعميماً يقضي بمنع تعامل الوزارة والوحدات الشرطية معه، لكن هذا التعميم لم يستمر إلا بضعة أيام، حتى تم إصدار تعميم آخر في 10 آذار/ مارس، ينص على إلغاء التعميم الأول؛ بسبب تدخُّل ماهر الأسد.
• لينا الكناية: لم يكن لديها نشاط تجاري معروف قبل عام 2011؛ وبعد هذا التاريخ باتت تملك باسمها العديد من الشركات، بفضل عملها معاونة وزير شؤون الرئاسة عام 2021، وقربها من أسماء الأسد. وكوّنت ثروة مع همام المسوتي، الذي ترقّى بعد أن تزوّجها من موظف في أحد المشافي العامة إلى رجل أعمال يعمل في تأمين المناقصات الطبية للجهات العامة، وارتبط بعلاقات مع شخصيات اقتصادية مثل محمد حمشو وسامر الدبس، وأسس شركات عديدة مثل شركة روشانا.
• وائل عقيل: كان له نشاط تجاري بسيط في قطاعَي التجارة العامة والعقارات قبل عام 2011، كونه ابن أسرة غنية نسبياً، وهو لاعب سابق في نادي الاتحاد لكرة القدم (الأهلي الحلبي) ورئيس نادي الشرطة سابقاً. عمل في ملف وساطات في عدة مناطق لإطلاق سراح معتقلين وإجراء تسويات ومصالحات، ممّا ساعده على إقامة أعمال تجارية في مناطق محاصَرة وشراء عقارات في أماكن لديه معلومات أكبر عنها قبل غيره. وشكّل حصوله على جزء من الفِدى في إطار عمليات الوساطة دخلاً إضافياً له، مكّنه من امتلاك أسواق تجارية في قلب العاصمة، وشراكات في مجالات أخرى في حلب.
• علي مهنا: لم يكن لديه نشاط تجاري معروف قبل عام 2011، حيث كان عاملاً بسيطاً، لكن بعد هذا التاريخ قاد مجموعة صغيرة من أبناء قريته لتنفيذ عمليات خطف وسرقة منظمة، وتطورت مجموعته مع دخوله إلى الفرقة 25 – مهام خاصة (قوات النمر) وتسلمه قيادة فوج السحابات. سيطر على أراضٍ واسعة مزروعة بالفستق الحلبي واستفاد من مواسمها، واستفاد أيضاً من وجود قوات النظام قرب بعض المعابر في نقل الوقود بين مناطق المعارضة ومناطق النظام، حجز لنفسه مكاناً في اقتصاد الظل من خلال مطاعم وفنادق وأراضٍ زراعية وشركات نقل، إضافة لامتلاكه أسطولاً من السيارات الفارهة. اعتمد مهنّا على شخصيات أخرى لتوسيع نطاق أعماله مثل طلال الدقّاق الذي ساعده في الاستثمار بقطاع العقارات داخل مدينة حماة، وشراء عدة محطات وقود على الطرق الرئيسية، مع شراء بعض المطاعم ومحلّات الألبسة فيها.
• فراس السلّوم: لم يكن لديه نشاط تجاري معروف قبل عام 2011، حيث قطاع العقارات في محافظة حمص، وبعد هذا التاريخ بنى ثروته من خلال التقرب من أجهزة النظام العسكرية والأمنية، فاستولى على أموال وممتلكات المهجرين. وهو عضو في مجلس الشعب عن محافظة حمص في دورة 2016.
• محي الدين المنفوش: كان له نشاط تجاري معروف في قطاع صناعة الأجبان والألبان قبل عام 2011، هو صاحب شركة المراعي الدمشقية. بعد هذا التاريخ تنامت ثروته من خلال عمليات تجارية بين مناطق المعارضة والنظام، وعمله في قطاعات مختلفة مثل العلف والصرافة والعقارات وتجارة المواد الغذائية.
• ياسر عزيز عباس: لم يكن لديه نشاط تجاري معروف قبل عام 2011، وبعد هذا التاريخ جمع ثروة عَبْر توريد مشتريات عامة لحكومة النظام، وأسس وأدار شركات مختلفة، مثل شركة الملك الشاب، وشركة تفوق للمشاريع السياحية وشركة قمة الأعمال وشركة قدرة للتجارة وشركة البجعة للخدمات التجارية وشركة الخُطوات السبع الاستشارية.
• عامر خيتي: لم يكن لديه نشاط تجاري معروف قبل عام 2011، وبعد هذا التاريخ شارك في تأسيس وإدارة شركات عدة، منها: شركة مجموعة بداية، وشركة العامر للتطوير والاستثمار العقاري، وشركة أرض الخيرات، وشركة الليث الذهبي لخدمات النقل والشحن، وشركة العامر لصناعة المجبول البيتوني والبلوك والبلاط، وشركة العامر لصناعة البلاستيك، وشركة الصقر للحوالات المالية. وهو عضو مجلس الشعب عن محافظة ريف دمشق في دورة 2020.
· أحمد درويش: لم يكن لديه نشاط تجاري قبل عام 2011، وبعد هذا التاريخ استطاع أن يحقق ملايين الدولارات عن طريق تجارة البضائع والبشر في المعابر الداخلية. وهو عضو مجلس الشعب عن محافظة الرقة في دورة 2020.
• فارس كلاس: كان لديه نشاط تجاري معروف قبل عام 2011، فضلاً عن علاقته بالقصر الجمهوري حينها، وأصبح بعد هذا التاريخ الأمين العامّ للأمانة السورية للتنمية، وعضو المكتب الاقتصادي السري، ويُعتقد أن له دوراً رئيسياً في الوصل ما بين قطاع العمل الإنساني والعمل الربحي، أسس وأدار شركات في مختلف القطاعات مثل شركة أوغاريت التعليمية، والمؤسسة الوطنية للتمويل الصغير وجامعة المنارة الخاصة.
• دانا وديع بشكور: لم يكن لديها نشاط تجاري معروف قبل عام 2011، ولاحقاً بعد هذا التاريخ باتت مديرة مكتب أسماء الأسد، وعضوة في المكتب الاقتصادي السري، تمتلك حصة في شركة ألفا الكوربو ريتد، والتي تعمل في قطاع البرمجيات.
تُعَدّ هذه الشخصيات نماذج عن الواجهة الاقتصادية لمئات الحالات التي حققت ثروة بعد عام 2011 ، وكانت مقرَّبة للنظام، ووضعت لنفسها موطئ قدم في قطاع الأعمال في سورية، وبنت شبكاتها الخاصة من العلاقات، ليس بذات طريقة أبناء المسؤولين الذين صعدوا في عهد بشار الأسد مستفيدين من سلطة الآباء، بل من خلال استغلال كل الظروف الممكِّنة للصعود، دون أن يتغافلوا عن أهمية القوة للحفاظ على المكسب الاقتصادي الذي حققوه؛ فحاوطوا أنفسهم بعسكريين وأمنيين من قوات النمر مثلاً أو الفرقة الرابعة، وبعضهم كرافد جروس رسّخ علاقات وشراكات مع حزب الله، أو مع مسؤولين وضباط روس كحالة وائل عقيل [38] .
رغم أن بعض الشخصيات كان لها في الماضي عمل تجاري معروف فقد استطاعوا بعد عام 2011 بناء ثروة ضخمة مرتكِزة على علاقات واضحة مع النظام، واستطاعوا التقدم بفضل ظروف الحرب، وليحظوا أيضاً بمكان في المشهد السياسي؛ كما في حالة عامر خيتي وحسام قاطرجي كأعضاء في مجلس الشعب، وحالة يسار إبراهيم ولينا الكناية اللذيْنِ عملا كأعضاء في المكتب السري التابع للقصر الجمهوري [39] .
رابعاً: آلية اتخاذ القرار الاقتصادي لدى النظام السوري
تُعَدّ آلية اتخاذ القرار الاقتصادي مسألة مهمة في شكل اقتصاد النظام السوري، الذي اتبع مناهج اقتصادية مختلفة أثناء فترة الحكم، مثلما هو موضَّح أدناه:
1. المرحلة الأولى (1973 – 2001):
لم يكن لدى حافظ الأسد رؤية شاملة لشكل الاقتصاد السوري، وكان لوصوله للحكم عَبْر حزب البعث دور في تبنِّي رؤية الحزب وآلياته وسياساته الاقتصادية، التي كان يتخذها من خلال المؤتمرات القومية والقطرية، حيث تتبناها اللجنة المركزية للحزب والحكومة، وتقوم بتحويلها إلى سياسات عملية من خلال الخطط الخمسية والعشرية وأحياناً الثلاثية، بما يُغيّب الرؤية الوطنية للاقتصاد على حساب تنفيذ الأجندات الحزبية. بمعنى أن اتخاذ القرار كان حزبياً وليس حكومياً؛ فالحكومة كانت مجرد أداة تنفيذية لخطط حزب البعث، ولا تخضع لإشراف ورقابة الدولة إنما لرقابة لجان الحزب. وكان يُبرّر ذلك بالاستناد إلى المادة الثامنة من دستور عام 1973 الذي يضع حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع.
منحت هذه الآلية حافظ الأسد مزيداً من التفرُّد باتخاذ القرارات الاقتصادية، فهو أمين عامّ الحزب ورئيس الجمهورية، وتخضع له جميع القيادات الحزبية والحكومية؛ حيث يستطيع تغيير هذه القرارات بناء على توصيات مكتبه الاقتصادي الخاص في القصر الجمهوري المكوّن من عدد من المستشارين شديدي الولاء له.
2. المرحلة الثانية (2001 – 2011):
مع قدوم بشار الأسد للسلطة احتاج إلى إظهار سياسات اقتصادية جديدة، وآليات اتخاذ قرار أكثر حَوْكَمة، بما في ذلك القرارات الاقتصادية؛ حيث دعا إلى المؤتمر القُطري العاشر عام 2005 واتخذ قراراً بتغيير النهج الاشتراكي إلى نهج اقتصاد السوق الاجتماعي، كان من متطلباته إحداث بيئة قانونية وإدارية جديدة، لإصدار هيئات استشارية أو حكومية ومناصب جديدة في مجلس الوزراء مثل منصب المعاون الاقتصادي لرئيس المجلس الذي تسلمه عبد الله الدردري وأدار عَبْره ملفّ التحول الاقتصادي حكومياً.
في غضون ذلك فعّل بشار الأسد المكتب الاقتصادي الخاص، وأطلق سلطته؛ حيث قام باستغلال البيئة القانونية والإدارية لبناء إمبراطورية اقتصادية داخل النظام لصالح عائلة الأسد، بعدما كانت الأموال في عهد والده موزَّعة وغير مركَّزة بالعائلة. بذلك تحوّل المكتب الاقتصادي من مجرد مكتب استشاري إلى مكتب إشرافي وتنفيذي، يلزم كافة الجهات الحزبية والحكومية والفعاليات الاقتصادية بقراراته. بمعنى أنّ اتخاذ القرار في تلك المرحلة كان مركزياً في القصر الجمهوري، وذلك على حساب تراجُع دور حزب البعث، الذي فقَدَ سلطة التخطيط الخمسية والعشرية منذ عام 2005.
3. المرحلة الثالثة (بعد عام 2011):
بقيت آلية اتخاذ القرار الاقتصادي مركَّزة في القصر الجمهوري؛ لكن مع تغيير الأسلوب وَفْقاً للحالة والحاجة، حيث أوكل بشار الأسد إلى زوجته أسماء إدارة المكتب الاقتصادي منذ عام 2016، وتمت إعادة هيكلته ليستبعد الشخصيات التقنية والاستشارية مقابل تعيين موظفين يدينون بالولاء للقصر، وأغلبهم كان في الأمانة السورية للتنمية مثل: لينا محمد نذير الكناية، وخضر علي طاهر، ويسار حسن إبراهيم، ونسرين حسن إبراهيم، ودانا وديع بشكور، وفارس كلاس.
كانت مهمّة المكتب في تلك المرحلة إصدار القرارات التي تؤدي إلى جباية الأموال من تجار الحرب الذي راكموا أو كوَّنوا الثروات بعد عام 2011، فضلاً عن إيجاد منافذ للتهرب من العقوبات الغربية من خلال تقديم واجهات اقتصادية جديدة، وبعد عام 2020 بات المكتب يركز على صياغة القرارات الاقتصادية التي تخلق بيئة لاستجرار الأموال من المانحين الدوليين عَبْر المساعدات الإنسانية والتعافي المبكّر.
أبقى القصر الجمهوري القرار مركزياً فيه حتى عام 2023، وكانت الحكومة وحزب البعث مجرد أدوات تنفيذ للقرارات الاقتصادية. لكن برزت بعد هذا التاريخ توجُّهات جديدة من بشار الأسد مراعاة للضغوط الدولية والعربية بشأن إعادة تطبيع العلاقات معه، وتمثّل ذلك بتغييب المكتب الاقتصادي السري وأسماء الأسد عن المشهد الاقتصادي، مقابل تفعيل القيادة المركزية لحزب البعث ومكتبه الاقتصادي المركزي، في سعي لإعادة الحزب كواجهة في التخطيط واتخاذ القرار الاقتصادي، رغم إسقاط دستور عام 2012 لدوره في قيادة الدولة والمجتمع، وهادفاً بذلك لإبقاء تركيز السلطات إما في القصر أو أدواته مثل الحزب بعيداً عن الأدوات الهيكلية والتنظيمية للدولة، لا سيما الحكومة.
خامساً: موارد النظام السوري
1. موارد قطاع الثروات الباطنية:
ركَّز النظام السوري جهوده على الاستفادة من قطاع الثروات الباطنية، خصوصاً الفوسفات والنفط الخام، التي كانت تُشكّل المورد الرئيسي له منذ نشأته وحتى عام 2011؛ حيث احتكر حافظ الأسد هذا القطاع لتمويل القصر الجمهوري، حيث لا تظهر إيرادات النفط داخل موازنة الدولة، وتقدّم حسابات وزارة النفط للقصر بشكل مباشر، وكان يتم تبرير ذلك بدعوى تغطية الإنفاق العسكري.
عمل حافظ الأسد على زيادة إنتاج الثروات الباطنية وتطويره لتحقيق أكبر قدر من العوائد، فمثلاً زاد إنتاج الفوسفات سنوياً من 857 ألف طن عام 1975 إلى 2163 ألف طن عام 2000، وزاد إنتاج النفط الخام من 9572 ألف متر مكعب عام 1975 إلى 31688 ألف متر مكعب عام 2000. ومع قدوم بشار الأسد استمر على هذا النهج، فزاد إنتاج الفوسفات حتى وصل إلى 3167 ألف طن عام 2010، وحافظ على إنتاج جيد من الخام النفط فبلغ الإنتاج عام 2010 ما قارب 21739 ألف متر مكعب.
بعد عام 2011 وخروج أغلب مناطق الثروات الباطنية من سيطرة النظام لصالح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، إضافة لتضرر القطاع بشكل كبير انخفض الإنتاج لأرقام قياسية؛ حيث وصل إنتاج الفوسفات مثلاً إلى 597 ألف طن والنفط الخام إلى 1562 ألف متر مكعب عام 2015. لاحقاً عاد النظام للتركيز على رفع إنتاج الفوسفات مستفيداً من استثمار الشركات الروسية والإيرانية فيه، فارتفع ليصل إلى 1998 ألف طن عام 2022، بينما لم يتمكّن النظام من استعادة مستوى إنتاج النفط الخام بسبب استمرار خروج الآبار الرئيسية عن سيطرته، فلجأ للاعتماد على بعض الآبار الصغيرة التي لم تنتج أكثر من 4711 ألف متر مكعب عام 2022.
ألزم هذا الواقع النظام منذ عام 2012 بالاعتماد على إمدادات النفط من مناطق الإدارة الذاتية وإيران؛ حيث ينتج في الآبار التي يسيطر عليها ما يقارب 20 ألف برميل يومياً أي 10% من حاجته اليومية، ويعمل على تأمين ما بين 30 و50 ألف برميل يومياً من مناطق قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في أحسن تقدير؛ في حال عدم تأثُّر هذه الإمدادات بأيّ استهداف عسكري أو مشاكل لوجستية أو اختلاف في الاتفاقيات المعقودة، مما يعني أنّ النظام يُؤمِّن داخلياً ما بين 50 إلى 70 ألف برميل، أي ما بين 25 و35% من حاجته يومياً.
بينما تُقدر وسطياً كمية النفط القادمة من إيران شهرياً بـ3 ملايين برميل، أي ما يعادل 100 ألف برميل يومياً؛ لكن تتغير هذه الكميات حسب الإمدادات ومعوّقاتها والاتفاقيات المعقودة؛ أي في أحسن تقدير تُؤمّن إيران للنظام 50% من حاجته اليومية من النفط. لكن ذلك نادراً ما يحدث؛ ففي بعض الأحيان تكاد لا تستطيع تأمين أكثر من 50 ألف برميل يومياً أي ما يعادل 25% من احتياجاته اليومية بشكل وسطي.
أخيراً، لم يَعُدْ قطاع الثروات الباطنية بعد عام 2011 يُشكّل مورداً رئيسياً للنظام، بل أصبح عِبْءُ تأمين الاحتياجات النفطية هاجساً رئيسياً لديه من أجل تغطية احتياجاته في القطاع العسكري والأمني والخدمات العامة من كهرباء ونقل ومواصلات.
2. موارد القطاع الزراعي:
يُعتبر القطاع الزراعي في سورية من أكثر القطاعات مساهمة في حاصل الناتج المحلي، وقد اعتمد الأسد الأب عليه من ناحية الأمن الغذائي ولا يحتاج إلى تكاليف تشغيلية أو تكنولوجيا عالية مقارنة بالقطاع الصناعي، ويمكن أن يحقق عوائد مُرضية؛ فحافَظ النظام على دعم هذا القطاع، من خلال زيادة إنتاج أهم المحاصيل مثل القمح من 2226 ألف طن عام 1980 إلى 3106 ألف طن عام 2000، وإنتاج التبغ من 14 ألف طن عام 1980 إلى 20 ألف طن عام 2000، وإنتاج القطن من 325 ألف قطن إلى 1082 ألف طن عام 2000.
استمرّ بشار الأسد بسياسة دعم القطاع الزراعي من الموازنة العامة، تلبية لاحتياجات الأمن الغذائي، إضافة لرغبته بتمكين القطاع وتأهيله ليكون رافداً للقطاع الصناعي في كثير من مدخلات الإنتاج ضمن خطته لرفع كفاءة هذا القطاع، وكان القطاع الزراعي يمثل أكثر من 19% من الناتج الإجمالي حتى عام 2011، وزاد إنتاج المحاصيل الرئيسية ليصل إنتاج القمح إلى 3858 ألف طن رغم استيراده لأول مرة عام 2008، وزاد إنتاج القطن إلى 671 ألف طن، وحافظ على إنتاج التبغ عند 17 ألف طن.
بعد عام 2011 تأثر القطاع الزراعي وما يحتويه من محاصيل زراعية وصناعية بشكل كبير؛ نتيجة التوسُّع بالأعمال العسكرية التي تطورت بين عامَيْ 2012 و2013، ثم بعد عام 2014 بدأت هجرة للمزارعين، مما أدى لانخفاض إنتاج المحاصيل، فمثلاً عام 2022 انخفض إنتاج القمح ليصل إلى ما يقارب 1551 ألف طن، وإنتاج القطن وصل إلى 6.7 ألف طن، وإنتاج التبغ وصل إلى 9.8 ألف طن.
بالمحصِّلة تحوَّل القطاع الزراعي من مَوْرِد رئيسي لاقتصاد النظام السوري ومن دوره في تغطية الاحتياجات الرئيسية لباقي القطاعات؛ حيث يحتاج إلى إعادة تأهيل وهيكلة، ولا يبدو أنّ ذلك ممكن في ظل غياب الإستراتيجية الكلية وعدم قدرة الموازنة على تحمُّل تكاليف ذلك.
3. موارد القطاع الصناعي:
تُعدّ الصناعة القطاع الثاني الرئيسي في سورية، ولم توفّر سياسات النظام في عهد حافظ الأسد بيئة قانونية واقتصادية لرفع مستوى هذا القطاع، بدعوى ارتفاع التكاليف والحاجة الكبيرة للتكنولوجيا والخبرات التقنية، بينما كانت التوجُّهات تقوم على استقطاب الفئات الضعيفة من مزارعين، لا سيما مناطق الساحل للخدمة في المؤسسة العسكرية والأمنية، مع عدم اهتمامه بتحقيق تنمية صناعية تعيد للفئات المتمكنة اقتصادياً في المدن الكبرى نفوذها الذي كانت تمتلكه قبل عام 1970.
ركّزت سياسات الأسد الأب على تنمية الصناعات الغذائية لسدّ الاحتياجات المحلية، فمثلاً زاد إنتاج السكر من 117 ألف طن عام 1975 ليصل إلى 158 ألف طن عام 1995. كما أنّ قانون الاستثمار الذي أصدره عام 1991 توجّه نحو قطاع الخدمات، ولم يُحدث أثراً حقيقياً في القطاعين الصناعي والزراعي.
بعد عام 2000 كان الواقع الاقتصادي قد تغيّر لصالح الفئات الداعمة للنظام في الجيش والأمن والقصر الجمهوري، وباتت الشخصيات النافذة فيها تمتلك ثروات كبيرة، مما دفع بشار الأسد مع قدومه للاستجابة إلى مطالبات هذه الفئات بخلق بيئة تنظيمية وقانونية تسمح لهم بالدخول إلى الاستثمارات في القطاع الصناعي، فبرزت شراكات الضباط مع رجال الأعمال في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص، بعد أن تبنّى النظام عام 2005 مبدأ اقتصاد السوق الاجتماعي، فقدم تسهيلات للصناعيين، وأنشأ المدن الصناعية وخدّمها بالبِنْية التحتية اللازمة، وبدأ القطاع الصناعي بالنمو التدريجي البطيء. وقد أراد النظام تغطية تكاليف البِنْية التحتية الاقتصادية للقطاع الصناعي من خلال محاولته جذب الاستثمارات الأجنبية.
بعد عام 2011، تضرر القطاع الصناعي بسبب العمليات العسكرية، وتراجع إلى حافة الانهيار، فخرج أغلب الصناعيين منه لغياب الأمان وبقية متطلبات الاستثمار، فتوقف القطاع بشكل شِبه تامّ عن الإنتاج بين عامَيْ 2014 و2017؛ حيث تراجع -حسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء- من 355 ملياراً إلى 61 ملياراً وَفْق أسعار السوق عام 2014 مقارنةً مع عام 2010، مما يعني أنّ إنتاجية القطاع قريبة من الصفر قياساً على الأسعار الحقيقية بعد الأخذ في الاعتبار لنسب التضخُّم. وعلى مستوى الناتج المحلي تراجعت نسبة مساهمة قطاع الصناعة السوري من 25% تقريباً إلى أقل من 8%، بين عامَيْ 2010 و2014 مع الأخذ بالاعتبار أن الناتج المحلي الإجمالي هو ذاته قد تراجع عدة أضعاف [40] .
بالمحصلة، تراجعت استفادة النظام من موارد القطاع الصناعي حتى انعدمت تقريباً؛ حيث لم يُقدم أي سياسة أو خطة أو حلول استثمارية بعد عام 2018 ، وبقيت المدن الصناعية غير آمِنة، ولم يَسْعَ لتحقيق شروط الاستثمار فيها؛ بسبب استمرار مزاعمه بالحاجة للتمويل من أجل تأهيل البِنْية التحية للصناعة في الوقت الذي لا يتجاوب فيه مع ضرورة خلق شروط البيئة الآمنة التي تُمكّن أو تجذب المستثمرين.
4. موارد القطاع التجاري:
جعل الموقع الجغرافي لسورية من التجارة واحدة من أبرز القطاعات التي اعتمد النظام قبل عام 2000 على عوائدها المالية كمورد له، خاصة من تنشيط التجارة الداخلية على حساب الخارجية، التي لم يَسْعَ لتشكيل بيئة قانونية واستثمارية تطوّرها؛ حيث قيّد حافظ الأسد حركة الاستيراد والتصدير بشخصيات مقرّبة منه، تضمن الإبقاء على سورية دولة معزولة عن محيطها، وهو ما يتعارض مع متطلبات التجارة الدولية بالانفتاح والاستقرار والتعاون.
بعد عام 2000 حاول بشار الأسد تطوير السياسات الاقتصادية والانفتاح بشكل أكبر من والده نحو العالم الخارجي، استجابة لمتطلبات نهج السوق الاجتماعي الذي تبناه وللضغوط الدولية، فوضع شروطاً قانونية تسهّل من حركة التجارة والنقل الدولية، واستفاد من الاستثمارات الخارجية في تحسين شبكة الطرق والمواصلات وتأهيل المنافذ الحدودية، مما ساهم مع زيادة أعداد التجار في ارتفاع حجم الصادرات والواردات أكثر من السابق وتطور الأسواق وزيادة حجمها.
بعد عام 2011، ومع فرض عقوبات اقتصادية على النظام السوري والشخصيات القريبة منه، ودخول لبنان بأزمة مالية انخفضت الصادرات والواردات بشكل كبير، وبقيت محدودة في بعض الدول الإقليمية، وبالتالي انخفضت موارد القطاع التجاري بشكل قياسي، وأصبحت أهميته منحصِرة بالتجارة الداخلية بشكل رئيسي، مع انكفاء عوائد هذا القطاع على الموارد غير الشرعية القادمة من عمليات التهريب عَبْر المعابر الخارجية والداخلية ومن خلال تجارة المخدرات التي تنامت عائداتها ووصلت عام 2021 فقط إلى 5.7 مليار دولار [41] .
عوائد القطاع المالي:
يُشكّل القطاع المالي بما يحتويه من رسوم وضرائب، ورسوم جمركية، من مختلف الأعمال الاقتصادية، إضافة لأرباح السندات عائداً مهمّاً للنظام السوري منذ عهد الأسد الأب، فضلاً عن القروض والمنح الداخلية والخارجية لا سيما المقدمة من دول الخليج العربي.
لكن بقي القطاع المالي في عهد الأسد الأب محصوراً بالقطاع العامّ دون الخاص، فلم يسمح بخلق بيئة مناسبة لعمل القطاع المصرفي الخاص ومؤسسات التمويل الخاصة. ومع قدوم الأسد الابن للحكم، سعى لتوسعة عوائد القطاع استجابة لمتطلبات نهج السوق الاجتماعي الذي تبنّاه وللضغوط الدولية، فكان لا بد من إيجاد الوسائل المالية اللازمة لتخديم التوسّع في القطاعين الصناعي والتجاري، خاصة بعد خروج القوات السورية من لبنان بعد عام 2005 التي كان يعتمد على نفوذها في النظام المصرفي اللبناني لتأميل التسهيلات التمويلية في سورية، فأقدم على خلق بيئة قانونية وتنظيمية تسمح بإنشاء نظام مصرفي تابع للقطاع الخاص ومؤسسات تمويل خاصة.
كما سعى النظام بعد عام 2005 لتطوير عمل وزارة المالية لتحقيق عائد أكبر في الضرائب والرسوم والمحاسبة المالية، وتجلى ذلك بإطلاق مشروع التحوُّل لضريبة القيمة المضافة التي تهدف إلى الاقتطاع عند المنبع وتعديل سياسة الضرائب على الدخل بالتوسعة لتشمل فئات جديدة. كما قدّم نماذج جديدة من سندات الخزينة منها الصكوك الإسلامية، وأنشأ هيئات لتعزيز بيئة التعاون الدولي ومتطلباته والحصول على القروض والمنح الدولية خاصة الأوروبية. وكذلك منح امتيازات استثمارية محلية مقابل اقتطاعات مالية ثابتة من الأرباح مثل عوائد ترخيص مشغلي الهاتف الخليوي في سورية.
بعد عام 2011 تراجعت المداخيل المتأتِّية من السياسة الضريبية لأسباب الحرب والهجرة وفقدان المواقع الضريبية، كما تراجعت الرسوم الجمركية لحدودها الدنيا مع فقدان المعابر الخارجية، وكذلك الرسوم غير الجمركية لتراجُع الخدمات. إضافة إلى تراجُع عوائد السندات مع عدم الثقة بالليرة المرافق لانهيار قيمة صرفها، وحرمانه بسبب العقوبات من إصدار سندات خارجية، مما دفعه للاعتماد على القروض والمنح، لا سيما من إيران، التي قدمت له 3 قروض كبيرة، وهي القرض الأول بقيمة مليار دولار والقرض الثاني بقيمة 3.6 مليار دولار عام 2013، والقرض الثالث بقيمة مليار دولار عام 2015، كما اعتمد بشكل أقل على عوائد منح امتيازات الاستثمار التي قامت بها روسيا وإيران في مختلف القطاعات الاقتصادية مثل الموانئ والفوسفات.
بعد عام 2022 بدأ النظام مساعيَ لإعادة تفعيل عوائد السندات الداخلية من خلال إصدار الصكوك الإسلامية وتقديم التسهيلات الائتمانية، دون أن تظهر أيّ جدوى لها بعدُ، مستغِلّاً مسارات التطبيع العربي والإقليمي معه، التي ما تزال محدودة بالإجراءات الأمنية والسياسية دون أن تشمل الجانب الاقتصادي.
سادساً: شكل اقتصاد النظام السوري عام 2024
لا يُوصف اقتصاد النظام عام 2024 بأنّه يقوم على النهج الاشتراكي، كما أنه قطعاً ليس رأسمالياً. بل يتّبع نهجاً اقتصادياً مختلطاً؛ بسبب عدم وضوح السياسات الاقتصادية إضافة إلى حالة الحرب التي خلقت اقتصادَ ظلٍّ موازياً؛ حيث يقوم على الركائز التالية:
• شكل المِلْكيّة: تغيَّر شكل المِلْكيّات في اقتصاد النظام؛ حيث تراجعت المِلْكيّة العامة، التي يديرها أشخاص ذَوُو نفوذ محميون من قِبل النظام، ويقدمون خدمات لصالحه عن طريق تعزيز ولاء الفئات التي تتبعهم أو تقديم الدعم المالي اللازم، لحساب المِلْكية الخاصة المحتكَرة من قِبل النظام وحلفائه. واستمر شكل مِلْكيّة الأسرة التي يتم استثمار أموالها عَبْر شبكة واسعة داخل البلاد وخارجها. وأمّا مِلْكيّة الشعب للمؤسسات ذات الطابع الاجتماعي الخدمي فقد تراجع دورها بشكل كبير مع تخفيض الدعم لصالح المِلْكيات الأخرى. وبالنسبة للمِلْكيّات الخاصة أصبحت محتكَرة أكثر من قِبل رجال أعمال محسوبين على النظام، مقابل فئة صغيرة مشتتة يتم الاستفادة منها في دفع الضرائب وتحميلها أعباء الفشل الاقتصادي في البلاد، وهذا الشكل من المِلْكيّة يعني أن اقتصاد النظام بات أقرب إلى رأس مالية الدولة.
• شكل السوق: ما زال النظام يعتمد سوق احتكار القلّة، لكنه بات أكثر احتكاراً على حساب المنافسين الآخرين؛ حيث أصبحت التنافسية شِبه معدومة في سورية، وهي ميزة نسبية فرضها الواقع الأمني والعقوبات الاقتصادية، فلا يمكن لشخص أن ينافس في السوق بشكل حرّ، وتدخّل النظام في ضبط بعض الأسعار كما هو الحال في سعر صرف الليرة الذي يضبطه بتحديد مسبق له.
• شكل الإنتاج: لم ينتج النظام سلعة تنافسية؛ حيث تراجع القطاع العامّ باستثناء بعض المشاريع مثل الطاقة المتجدِّدة التي لم تُغَطِ الحدّ الأدنى اللازم الذي تحتاجه المدن الصناعية، والمشاكل التي يعاني منها القطاع الخاص. ومن جانب آخر، عمل النظام مثلاً على تحويل شركات من القطاع العامّ لشركات مساهمة، بينما لم يستطع تقديم ما يحتاجه القطاع الخاص لضعف إمكانياته، لذلك ترك للقطاع الخاص نطاقاً ضيقاً لينتج أو يتاجر بشرط تقديم عائد للنظام. كما بقي الإنتاج محصوراً ببعض السلع الاستهلاكية للمقيمين. وقد أدى هذا الواقع لتراكم الثروة لدى النظام والأسرة الحاكمة وتجار الدائرة الضيقة، حتى بات شكل الإنتاج لدى النظام أقرب للنموذج الاقتصادي المختلط.
• شكل النظام المالي: لم يحصل تغيير كبير فيه، فالتعامل مع الضرائب ما زال بدائياً؛ حيث يعتمد على التقدير بالمجمل، ولا تُوجد أَتْمَتة تضمن الرقابة على الربح أو معرفة الفواتير، كما أن النظام المصرفي والتحويلات والدفع الإلكتروني ضعيف للغاية. لذلك لا يُعْتَدّ بالشكل الحالي للضرائب سواء ارتفعت نسبة الضريبة أم قلّت. كما أنّ حالة الفقر التي يعيشها السوريون في مناطق النظام جعلتهم غير قادرين على تقديم أدنى أنواع الضرائب باستثناء رجال الأعمال الكبار الذين قدموا إتاوات تحت مسمى الضرائب، بالتالي إنّ التقدير والابتزاز هو عنوان النظام الضريبي في سورية، أي أنّ الضريبة تُستخدم كأداة أمنية أكثر منها أداة مالية. وأمّا الدعم فقد انخفض عن المؤسسات العائدة مِلْكيتها للشعب، بالتزامن مع انخفاض أدائها، مثل المشافي والأفران والتعليم والخدمات الرئيسية، ورغم استمرار عملها إلّا أنّ النظام يُحاول خصخصة بعضها مثل المشافي والتعليم؛ للتخلص من الأعباء المالية، كما أنّه خفّض الدعم على بعض السلع مثل الوقود، وغيّر شكل الدعم من دعم السلع والمواد إلى الدعم النقدي [42] ؛ لأسباب تتعلّق بالتضخم وعجز الموازنة والوضع الاقتصادي وجذب أموال التعافي المبكر. وأّما سندات الخزانة [43] التي بدأ إصدارها عام 2020 فلم تُحقّق أهدافها الحقيقية؛ سواء في تمويل عجز الموازنة أم في خفض التضخم، بل كانت سياسة مالية خاسرة فعلياً.
خُلاصة
لا يتبنَّى النظام نظاماً اقتصادياً - اجتماعياً موصوفاً ومعرَّفاً، بل يطبّق نظاماً مختلطاً، ويحاول دائماً العمل على سياسات خاصة تناسب ضرورات المرحلة؛ حيث إن عمليات جمع الضرائب ورفع الدعم تناسب مرحلة عجز مؤسسات الدولة، ورغبة النظام بتحقيق مزيد من الموارد، كما أن سياسة التحرير الجزئي لسعر الصرف تهدف لحصد مزيد من الموارد بالقطع الأجنبي، وسياسته نحو تحويل بعض المؤسسات العامة لشركات تهدف إلى تسديد الديون المترتبة عليه لبعض الدول مثل إيران.
كانت طبقة الأثرياء والشخصيات الاقتصادية لدى النظام مكوَّنة من 3 فئات رئيسية توزعت حسب المرحلة؛ حيث كانت الفئة الأولى في عهد حافظ الأسد مكونة من البرجوازية الثرية التقليدية في سورية والمسؤولين والضباط، وكانت الفئة الثانية في عهد بشار الأسد قبل 2011 مكونة من أبناء المسؤولين والضباط من عهد الأسد الابن، بينما كانت الفئة الثالثة بعد عام 2011 مكونة من رجال الأعمال الصاعدين بشكل رئيسي مع استمرار وجود بعض الشخصيات قبل عام 2011.
لعلّ الثابت الوحيد عند النظام هو التمسُّك بمركزية الاقتصاد وإدارته وجَبْي موارده، فهو يتحكّم بمفاصله فعلياً عَبْر شخصيات أو مكاتب خاصة تابعة له، كمكتب القصر الجمهوري المرتبط ببشار الأسد، والأفرع الأمنية التي تُجرِي عمليات التسويات الضريبية للتجّار، وتفرض رقابة على عمليات التحويل من وإلى سورية، كما أعاد تشكيل المكتب المركزي الاقتصادي لحزب البعث ليكون المُشرِف على السياسات الاقتصادية. لقد فشلت مؤسسات النظام في أداء دورها، حيث تم استهلاكها كلياً، وأصبحت الوزارات والمؤسسات متهالِكة وغير قادرة على تأدية واجباتها الحيوية الرئيسية، وفي ظلّ رغبة النظام بتحقيق مزيد من الموارد لتمويل الحرب بشكل رئيسي فإنه مستعدّ للقيام بخُطوات عملية تخفض نفقاته وتزيد موارده، دون فتح الاقتصاد للتحرُّر، بل للرقابة الشديدة والعمل بجانب المستثمر لابتزازه أو مشاركته.
[1]جوزيف ضاهر، الاتحادات العمالية في سورية تحت المجهر.. التاريخ والتوظيف والمعارضات العمالية، مؤسسة فريدريش إيبرت، 01-07-2023، الرابط .
[2] لقاء بشار الأسد مع أساتذة جامعيين بعثيين في الاجتماع الموسع للجنة المركزية لحزب البعث، وكالة سانا، 04-05-2024، الرابط .
[3] 1973 دستور الجمهورية العربية السورية، هيئة التفاوض السورية، الرابط .
[4] خالد تركاوي، أثرياء سورية في زمن الحرب، مركز جسور للدراسات، تموز/ يوليو 2021، ا لرابط .
[5] المصدر السابق.
[6] سلامة موسى، الاشتراكية، دار هنداوي، 2017، ص17.
[7] فؤاد السيد، التعددية الاقتصادية: اتجاهات المستقبل، جمعية العلوم الاقتصادية السورية، 03-04-2001، الرابط .
[8] الموسوعة السياسية، اقتصاد السوق الاجتماعي، هديل القطامين، 09-07-2023، الرابط .
[9] لقاء بشار الأسد مع أساتذة جامعيين بعثيين في الاجتماع الموسع للجنة المركزية لحزب البعث، وكالة سانا، 04-05-2024، الرابط .
[10] شغل محمد الحسين منصب رئيس اللجنة الاقتصادية لحزب البعث العربي، وكان وزيراً للمالية، وعضواً في القيادة القطرية للحزب، بجانب عضويته في القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية. وأحد أبرز مهندسي الاقتصاد السوري والمؤثرين فيه؛ حيث أدى دور مستشار اقتصادي لمعظم الأفرع الأمنية السورية، وكان على مقربة من بشار الأسد الذي اختاره بنفسه.
[11] شغل عبد الله الدردري منصب مسؤول البرامج في المكتب القطري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سورية بين أعوام 1994 و1997 وعُين عام 2003 رئيساً لهيئة التخطيط والتعاون الدولي في سورية حتى عام 2005 حين أصبح نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وكانت مهمته حينها هي ترسيخ الشكل الاقتصادي الجديد لسورية وشرحه، وإيجاد مبررات العمل عليه من خلال الخطة الخمسية العاشرة بين أعوام 2006 و2010، وعُين عام 2023 في منصب مساعد الأمين العام للأمم المتحدة ومديراً مساعداً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومديراً للمكتب الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي للدول العربية؛ ويُعتقد أنّ له دوراً أساسياً في هندسة خطة التعافي المبكر لسورية عام 2022.
[12] شغل أديب ميالية منصب حاكم مصرف سورية المركزي بين أعوام 2005 و2016، وكان في الفترة ذاتها رئيس هيئة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في سورية، وكان مسؤولاً عن إدارة النقد الأجنبي والمحلي.
[13] الحديث عن الكادر التدريسي في جامعة دمشق، المثلث الاقتصادي السوري، مقابلة الباحث خالد التركاوي، مؤسسة الذاكرة السورية، 30-07-2019، الرابط .
[14] سورية تطلق مشروع البطاقات الذكية للآليات العاملة على البنزين، روسيا اليوم، 10-01-2019، الرابط.
[15] ياغي لـلزميلة «الاقتصادية»: الدعم بشكله الحالي يشكّل خطراً على الموازنة العامة للدولة، الوطن السورية، 01-07-2024، الرابط .
[16] مهام المصرف، مصرف سورية المركزي، الرابط .
[17] شهادات الإيداع، مصرف سورية المركزي، الرابط .
[18] المرسوم التشريعي 29 لعام 2011 قانون الشركات، مجلس الشعب، 14-02-2011، الرابط .
[19] الأسد يصدر قانون إحداث “الشركة العامة للصناعات الغذائية”، رئاسة مجلس الوزراء، 11-06-2024 ، الرابط .
[20] الأسد يصدر مرسوماً بإحداث الشركة العامة للطرق والمشاريع المائية، رئاسة مجلس الوزراء، 11-05-2024، الرابط .
[21] القانون رقم /3/ لعام 2024 الخاص بإحداث وحوكمة وإدارة الشركات المساهمة العمومية والشركات المشتركة، رئاسة مجلس الوزراء، 14-02-2024 ، الرابط .
[22] القانون رقم /11/ لعام 2024 المتضمن إحداث “الشركة العامة للصناعات النسيجية” لتحل محل كل من المؤسسة العامة للصناعات النسيجية والمؤسسة العامة لحلج الأقطان وتسويقها، رئاسة مجلس الوزراء، 13-03-2024 ، الرابط .
[23] القانون رقم /43/ لعام 2023 القاضي بإحداث هيئة عامة ذات طابع إداري، رئاسة مجلس الوزراء، 28-12-2023، الرابط.
[24] بكلفة 4.3 تريليونات ليرة 89 إجازة استثمار وفق قانون الاستثمار 18 في مختلف القطاعات، الوطن السورية، 06-03-2024، الرابط .
[25] اقتصاد الظل يعبر عن الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية وغير المسجلة قانونياً في الاقتصاد الحقيقي وتؤدي إلى التهرب الضريبي.
[26] إدارة الضرائب تطلق قريباً منظومة الفوترة الإلكترونية وأخرى لترميز السلع في التجارة الداخلية، صحيفة تشرين، 11-09-2024، الرابط
[27] خالد تركاوي، أثرياء سورية في زمن الحرب، مركز جسور للدراسات، 05-07-2021، ا لرابط .
[28] محمد ديب دعبول: مدير مكتب رئاسة الجمهورية في عهد حافظ وبشار الأسد، والده سليم دعبول، ويُعرف محمد ديب بأنه كاتم أسرار القصر الرئاسي؛ حيث كانت مهمته تنفيذ القرارات الرئاسية والربط بينها وبين الهيئات والمؤسسات الحكومية.
[29] مصطفى طلاس: وزير الدفاع في عهد حافظ وبشار الأسد، حيث تم تعيينه عام 1972 واستمر في منصبه حتى عام 2004 حينما أعفاه بشار الأسد من المنصب وأحاله للتقاعد، وهو والد كل من سارية وناهد وفراس طلاس.
[30] علي حيدر: قائد القوات الخاصة السورية، كان من المقربين إلى حافظ الأسد، وهو والد حسين حيدر.
[31] آصف شوكت: زوج بشرى الأسد بنت حافظ الأسد، كان رئيس شعبة المخابرات العسكرية السابق، ونائب وزير الدفاع السابق، وهو والد حمزة شوكت.
[32] غازي كنعان: رئيس جهاز الأمن السوري في لبنان في عهد حافظ الأسد، ووزير الداخلية في عهد بشار الأسد بين عامَيْ 2004 و2005، وهو والد نضال وسامر كنعان.
[33] بهجت سليمان: قائد أمن سرايا الدفاع تحت قيادة رفعت الأسد، ثم رئيس فرع مكافحة التجسس في أمن الدولة الفرع 300، ثم قيادة الفرع الداخلي في أمن الدولة 251، ثم مدير شعبة المخابرات العامة عام 2005، وكان سفير النظام في الأردن بين عامَيْ 2009 و2014.
[34] خالد تركاوي، أثرياء سورية في زمن الحرب، مركز جسور للدراسات، 05-07-2021، الرابط .
[35] المصدر السابق.
[36] مصدر سابق. الرابط .
[36] مصدر سابق. الرابط .
[38] المصدر السابق.
[39] المصدر السابق.
[40] هل ينجح النظام السوري في إحياء قطاع الصناعة، جسور للدراسات، 08/05/2024، الرابط .
[41] بعوائد بلغت 5.7 مليار دولار عام 2021 "دولة الكبتاغون" بمناطق النظام السوري، الجزيرة نت، 27/09/2022، الرابط .
[42] ماذا وراء قرار النظام السوري بالتحوُّل نحو الدعم النقدي؟ جسور للدراسات، 03-06-2024، الرابط .
[43] سندات الخزانة السورية تقييم الجدوى من عملية الإصدار، جسور للدراسات، 03-05-2024، الرابط .