المبحث الثالث: تمويل الحرب لدى فصائل المعارضة
أولاً: الدعم الشعبي
اعتمد الحراك الشعبي في الفترة الأولى على جيوب السوريين أنفسهم، سواءً كانوا داخل أو خارج سورية، ففي 2011 كان شباب الأحياء يتكاتفون لشراء مستلزمات المظاهرات، وفي مرحلة لاحقة عندما انتشرت مسألة قتل واعتقال المصابين في المشافي الحكومية، أصبح الميسورون من الأهالي يتبرعون لتأسيس مشفاهم الميداني الخاص بالحي، وتبرع آخرون في وقت لاحق بمدخراتهم من الأموال والذهب لشراح السلاح.
ولم يقتصر الأمر على السوريين في الداخل، إذ كان لسوريي الشتات دور فاعل في جمع مئات الملايين من الدولارات، سواء لدعم العمل الإنساني أو الأعمال الميدانية والعسكرية. وبرز في هذا السياق رجال أعمال تولّوا تقديم تبرعات بحجم كبير، وأسس بعضهم جمعيات خاصة لإدارة هذا الدعم. ومن أبرز هؤلاء رجل الأعمال الدكتور عبد القادر السنكري المقيم في الإمارات، والذي أسس "مؤسسة عبد القادر السنكري"، والتي ما زالت إلى اليوم تقدم خدمات تعليمية وطبية وإنسانية وبمبالغ كبيرة نسبياً، وأيمن الأصفري المقيم في بريطانيا، والذي أسس "مؤسسة الأصفري الخيرية"، وغسان عبود المقيم في الإمارات، والذي أسس "مؤسسة أورينت للأعمال الخيرية. كما تم تأسيس مجالس لرجال الأعمال ومؤسسات أخرى.
وقد وصل الدعم الشعبي من داخل سورية وخارجها إلى أقصى مستوياته في عام 2011، ثم انخفض بشكل تدريجي بمرور الزمن، فقد نضبت الموارد المتاحة بين يدي الأفراد، بالتوازي مع دخول العسكرة والانقسام بين الفصائل، واتساع الاحتياجات بشكل واسع، وفقدان المشهد السوري لجذابيته حتى بين السوريين أنفسهم.
ثانياً: الدعم الخارجي لفصائل المعارضة
مع بداية 2013 بدأت بعض الدول تتحرك لضمان مصالحها في سورية، مما انعكس في أحد أشكاله لدعم فصائل أو مؤسسات المعارضة، وهذا الشكل من التدخل لدعم المعارضة كان عبر ثلاث مسارات:
1. المسار الأول: عن طريق دعم شخصيات محددة ومعروفة على الساحة العامة
عملت بعض الدول على تمرير دعمها عبر شخصيات معينة، أو "تجيير" الدعم الشعبي الذي يتم جمعه من السوريين ومن غيرهم إلى صناديق تديرها هذه الشخصيات. ومن أبرز النماذج على هذا المسار رجل الدين عدنان العرعور، وهو سلفي سوري يعيش في السعودية، وكان يظهر إعلامياً قبل عام 2011 في موضوعات تتعلق بالصراع السني-الشيعي، لكنه تحوّل في 2011 إلى الموضوع السياسي السوري، وكان يظهر بشكل يومي لساعات مطولة على قناة سلفية تبث من السعودية، وعمل النظام على إبرازه وتحويله لرمز للمعارضة، وهو ما استجابت له العديد من المظاهرات الشعبية، والتي رأت فيه رمزاً يستفزّ النظام.
وقد فرضت السعودية على الهيئات والتجمعات التي تجمع أية أموال لسورية داخل السعودية أن تُسلّم هذه الأموال حصراً للعرعور، الأمر الذي حوله إلى شخصية اعتبارية عامة، ووصل به الأمر في شهر أيلول/سبتمبر 2012 إلى رعاية تشكيل "القيادة المشتركة للمجالس العسكرية الثورية"!.
كما ظهرت شخصيات سلفية في مصر والخليج كشافي وحجاج العجمي وزين العابدين البقاعي وسواها من الشخصيات، والتي موّلت الفصائل السلفية العلمية والسلفية الجهادية بمبالغ تصل إلى ملايين الدولارات، على اعتبار أنها أموال تصل من متبرعين، دون أن يُعرف ما إذا كان هؤلاء المتبرعون هم دول أم أفراد فعلاً، لكن حجم المبالغ المالية وسهولة نقل وتحريك الأموال آنذاك كان يؤشر إلى دعمٍ على مستوى الدولة، أو رضى على الأقل في أدنى تقدير.
على جانب أخر كان لشخصيات سورية مثل أمجد البيطار
(26) دور كبير في دعم مجموعات المعارضة وبحجم مالي يفوق بكثير قدراته المالية التي يعرفه بها أهل حمص، وذلك بعد زيارات متعددة لدول خليجية أبرزها زياراته لقطر. كما تلقى لواء الحق (الذي تأسس في حمص وامتد ليشمل القلمون في ريف دمشق وبعض مناطق ريف إدلب) دعماً كبيراً من أحد رجال الأعمال القطريين يقال له أبو ريان. واستفاد زهران علوش من علاقاته السابقة في السعودية (كونه درَس في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض) بتلقي دعم من مشايخ سعوديين، كما حصلت جبهة الأصالة والتنمية (التي أسستها كتائب أهل الأثر) على دعم قوي من التيار السلفي المدخلي في السعودية.
ولا يمكن بطبيعة الحال إثبات علاقة أي دولة بتقديم دعم مالي مباشر لهؤلاء، إلا أنها ربما غضت الطرف أو سمحت لبعض المحسوبين عليها بتمرير الدعم اللازم للتحكم بمسار الحرب في سورية وبما يضمن مصالحها، فعلى سبيل المثال كان أحمد التركاوي، وهو أحد وجهاء محافظة حمص يُقيم في دولة خليجية عندما بدأ بدعم أول تنظيم عسكري في مدينة حمص
(27) ، ومع تضخم النفقات لم يعد قادراً على تأمين المبالغ اللازمة إلا عبر حملات تبرع، لكن حكومة الدولة التي يقيم فيها أوقفت هذه الحملات، مما أنهى وجود الفصيل الذي كان يدعمه، وسمح بتمدد فصيل آخر يعتقد أنه مدعوم من ذات الدولة.
2. المسار الثاني: الدعم الدولي المباشر
ظهر الدعم الدولي بشكل علني في مرحلة ما بعد 2014 من خلال تقديم تدريبات للمقاتلين، ودعم الأعمال الطبية والإعلامية وبعض المبالغ لإنشاء مطابخ طعام للمقاتلين، ثم تطور الأمر لاحقاً لقيام غرف العمليات المشتركة (الموك في الأردن والموم في تركيا) بمنح رواتب غير ثابتة لما يقارب خمسين فصيلاً عسكرياً في جنوب وشمال سورية، وكان أبرزهم المجالس العسكرية في درعا، وفيلق الشام في الشمال، وجيش المجاهدين وتجمع فاستقم، وغيرها(28) .
وكانت معظم الفصائل التي تحصل على الدعم من غرفة الموم في الشمال تقوم بتقديم نسبة من المبالغ والأسلحة التي تحصل عليها إلى هيئة تحرير الشام، مقابل امتناع الهيئة عن استهدافها، وقد قامت بإنهاء كل الفصائل التي امتنعت عن تقديم هذه النسبة، أو عملت على التحايل في دفعها.
وقد أوقفت غرف العمليات المشتركة دعمها بشكل كامل في شهر تموز/يوليو 2017. وتحوّلت فصائل درع الفرات بعد ذلك إلى الرعاية التركية المباشرة، حيث تحصل على مخصصات شهرية، يتم اقتطاعها من عوائد المعابر الحدودية في منطقة درع الفرات.
وإلى جانب غرف العمليات، قامت بعض الدول بتقديم دعم مالي مباشر لفصائل بعينها، وكان الدعم يُقدّم بصورة نقدية وباليد (في تركيا والأردن)، ويتم تسليمه من قبل ممثلي الدول الداعمة مباشرة، واستمرّت بعض الدول الداعمة في تقديم الدعم المباشر حتى بعد تأسيس غرف العمليات المشتركة، الأمر الذي سبب خلافات داخل الغرف، لما اعتبر أنه تشتيت للأهداف التي أنشئت من أجلها.
3. المسار الثالث: الدعم الفني واللوجستي
حصلت فصائل المعارضة على مساعدات لوجستية وعسكرية من قبل التحالف الدولي أو تركيا في إطار دعمها في الحرب على تنظيم داعش، وفي بعض الأحيان حصلت أيضاً على مبالغ مالية أثناء عملياتها العسكرية على التنظيم. وكانت أبرز حالات هذا الدعم في المعركة على التنظيم في معركة كوباني أواخر 2014، وأثناء المعركة في المناطق التي أصبحت تُعرف لاحقاً بمناطق "درع الفرات" منتصف عام 2016، وفي إطار عملية غصن الزيتون مطلع عام 2018.
وحصل فصيل أحمد العبدو في جنوب شرق سورية على دعم كبير لقتال داعش، حيث قامت القوات الأميركية بمساندته في معارك عدة وفي أكثر من مناسبة، إضافة إلى أن القوات البريطانية نسقت مع قوات من "جبهة الأصالة والتنمية" للقيام بعمليات صغيرة ضد داعش قرب دير الزور، منها عمليات إنزال مظلي لاعتقال مطلوبين لبريطانيا.
ثالثاً: الغنائم والفدى
تمكّنت فصائل المعارضة بدءاً من النصف الثاني من عام 2011 من الحصول على الغنائم من حواجز النظام ومراكزه ومؤسساته الأخرى، كما بدأ المنشقون من العسكريين بإحضار ما يتمكنون من إحضاره من أسلحة خفيفة وثقيلة.
كما بدأت المعارضة المسلحة منذ عام 2012 بالحصول على موارد مالية مقابل الإفراج عن معتقلين أجانب لديها. ففي بداية 2012 أسرت كتائب الفاروق ضباطاً إيرانيين
(29) ، وتلقت الفاروق مقابل الإفراج عنهم مبلغاً مالياً لا يقل عن خمسة ملايين دولار أميركي، وكذلك فعل لواء عاصفة الشمال عندما حصل في تشرين الأول/أكتوبر 2013 على مبلغ قدّرته بعض المصادر بعشرات ملايين الدولارات مقابل الإفراج عن إيرانيين احتجزهم في ريف حلب، وقد سجلت حالات أخرى تمكنت فصائل المعارضة من تحصيل مبالغ مالية مقابل الإفراج عن معتقلين وأسرى لديها.
رابعاً: التجارة والاستثمارات
مع توسع المعارك ونتيجة المشروطية التي كانت توضع في أغلب المبالغ المالية التي حصلت عليها فصائل المعارضة في السنوات الأخيرة، بدأت بعض الأصوات تنادي بضرورة استقلال دعم المعارضة وطرحت أفكار من قبيل الاستثمار والتجارة وإعادة تفعيل الدعم الشعبي المنهك نتيجة سنوات الحرب الطويلة، الأمر الذي دفع معظم الكتائب للبحث عن عمليات استثمار وتجارة تدر عليها دخلاً جيداً، وبدأت التشكيلات الكبرى تنشىْ ما يعرف بـالوحدة الاقتصادية، والتي تُعرف اختصاراً بـ"الاقتصادية"، وهي مسؤولة عن مهمتين أساسيتين:
1. الأولى: تنمية موارد التنظيم أو الحركة، ومحاولة "التفلت" من الدعم المشروط.
2. الثانية: القيام بمشروعات تحسن صورة هذه الكتيبة أو التنظيم في المنطقة التي تعمل ضمنها.
ومن أبرز الوحدات الاقتصادية في فصائل المعارضة، كانت "اقتصادية" حركة أحرار الشام، التي أدارت سلسلة من المطاعم والمطابخ، ومحلات استيراد السيارات، وقطع الغيار، والمشاريع الزراعية، والورشات الصغيرة. كما استثمرت الوحدة الاقتصادية في أحرار الشام في مجال العقارات، فقامت ببناء عقارات تجارية قرب باب الهوى، وقامت بتأجيرها للمنظمات الراغبة في العمل داخل المنطقة بمبالغ جيدة نسبياً، فالمكتب المقدرة مساحته بحوالي 100م2 سعره يقدر بحوالي أربعين ألف دولار أميركي، وأجرة المكتب الواحد زادت عن مائتين وخمسين دولاراً شهرياً، كما استوردت "الاقتصادية" مئات السيارات من ماركة "كيا سيراتو" السيارة المطلوبة في الشمال السورية، والتي يصل سعرها لحوالي 15 ألف دولار أميركي.
وقد تمت مصادرة معظم هذه السيارات من قبل هيئة تحرير الشام في معاركها الأخيرة مع الحركة، وتولت تحرير الشام بيعها في الأسواق عن طريق مكاتب تتعامل معها أو افتتحتها لهذا الخصوص.
كما قام جيش الإسلام في الغوطة الشرقية بافتتاح متجر كبير لبيع الأسلحة، وكان يدير مشاريع صغيرة، إلا أن حجم هذه التجارة لدى الجيش بقي في إطار ضيق ولم يتنشط كما حصل في الشمال السوري، وذلك بسبب ظروف الحصار واحتدام المواجهة مع النظام بشكل دائم.
كما أسس فيلق الرحمن "مؤسسة رحمة للتجارة"، والمختصة ببيع السلع الرئيسية التي يحتاجها أهالي ريف دمشق، إلا أن إيرادات المؤسسة أيضاً لم تكن كبيرة.
وحافظت الجبهة الشامية لوقت طويل على تمويلها عن طريق السيطرة على معبر باب السلامة مع تركيا، وذلك من خلال فرض رسوم على الواردات، كما فرضت حركة نور الدين الزنكي في ريف حلب ضرائب على الشحنات التي تتحرك عبر المناطق التي تسيطر عليها في ريف حلب الغربي، واستطاعت تحصيل مبالغ جيدة جعلتها تصمد طويلاً أمام شح الدعم.
واستولت بعض كتائب المعارضة على ممتلكات في حلب وريف حماة وإدلب لأشخاص كثر، إما بحجة تعاملهم مع النظام أو بحجة انتمائهم لداعش، فجزء من معامل المناطق الصناعية في حلب تم فكها وبيعها في العراق أو تركيا أو في الشمال السوري ذاته، وللآن يستطيع المار من داخل منطقة حارم على الحدود السورية التركية أن يرى بقايا ماكينات وقطع غيار في المنطقة تم نقلها من حلب. كما اضطر بعض رجال الأعمال لدفع مبالغ لفصائل أخرى بغية حماية ممتلكاتهم، مما شكل مصدراً مقبولاً للدخل خلال فترة الحماية.
كما عملت كل الفصائل، إلى جانب كل الفاعلين الآخرين في سورية في تجارة النقل والتهريب، ويشمل ذلك نقل السلع والبضائع والأفراد والأموال من منطقة سيطرة إلى أخرى. وسيرد تفصيل ذلك في الفصل الثاني من هذه الدراسة.
خامساً: الواقع الراهن لدعم الفصائل المعارضة
نستطيع تقسيم مراحل دعم الفصائل إلى ثلاث رئيسية:
• أولها الاعتماد على التبرع الشعبي الواسع داخل وخارج سورية، والحصول على السلاح عبر الأفراد المنشقين أو الحواجز والقطع العسكرية المسيطر عليها، وهو ما أمّن لهذه الكتائب تقوية شوكتها وانتشارها في معظم المناطق السورية، واستمرت هذه المرحلة منذ تشكيل الكتائب أواخر 2011 وحتى بداية عام 2013، أي ما يزيد عن عام تقريباً.
• المرحلة الثانية التي اعتمد دعم معظم الفصائل في شقه الأكبر على متبرعين يغلب عليهم الارتباط بدول إقليمية، أو عبر دعم من غرف تنسيق الدعم، وهو ما أمن لها دعماً شهرياً شبه ثابت وتوسعاً في أعداد المقاتلين وفتح معارك كبرى، إلا أنه من جهة أخرى أثر على طبيعة قراراتها.
• وفي المرحلة الثالثة اتجهت بعض الفصائل للاعتماد على نفسها من خلال تأسيس مشاريع لم تكن كافية على تغطية المصاريف المتضخمة التي نمت في مرحلة تلقي الدعم الخارجي، وبعد سيطرة روسيا والنظام على أغلب المناطق السورية التي كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة، انحسرت أغلب فصائل المعارضة في الشمال السوري.
وتعد المرحلة الأخيرة هي الأصعب على الفصائل من ناحية توفر الموارد، حيث عزف معظم الداعمين الأفراد عن الاستمرار في الدعم إما بسبب خسارة هذه الفصائل لمناطقها أو بسبب التضييق القانوني عليهم في عملية إرسال الأموال مما يعرضهم للمساءلة في بلدان إقامتهم، وكذلك قطعت كافة الدول دعمها للمعارضة العسكرية، بما فيهم تركيا التي لم تدفع سوى مبالغ مالية قليلة للكتائب التي شاركت في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون في الأشهر الستة الأخيرة. على سبيل المثال، فإنّ فيلق الشام الذي يُعد الأكثر قدرة على التحرك في تأمين الدعم، استلم مقاتلوه رواتباً بمعدل مرة كل شهرين وبمبالغ لا تتجاوز خمسة وعشرين دولاراً في الأشهر الستة الماضية، وما تبقى من مقاتلي حركة أحرار الشمال يتقاضون مبالغ أقل من عشرة آلاف ليرة سورية في الشهر للمقاتل الواحد (حوالي عشرين دولاراً)، ولا تزال معظم الفصائل القائمة حالياً قادرة على تأمين الحد الأدنى اللازم لاستمرارها من خلال علاقاتها مع متبرعين سوريين وتجار يدعمونها.
المبحث الرابع: تمويل الحرب لدى تنظيم الدولة والإدارة الذاتية الكردية
أولاً: موارد تمويل داعش
وصلت موارد التنظيم إلى أوجها بين عامي 2014 و2015، حتى وصل دخله السنوي إلى ما يُقدّر بـ 2.2 مليار دولار، ليصبح بذلك أغنى تنظيم إرهابي في تاريخ العالم
(30) .
1. النفط: شكل النفط أحد أهم موارد داعش المالية، وقدر إنتاج داعش اليومي أعلى ذروته بحوالي خمسين ألف برميل، حيث وصل دخل التنظيم الشهري من النفط إلى حوالي 50 مليون دولار
(31) . وفي جميع الأحوال فإن الإيرادات النفطية شكلت الجزء الأكبر من موازنة التنظيم.
كما شكّل التنسيق المتعلق ببيع النفط والغاز واستخراجه شكلاً مهماً من أشكال التعاون بين النظام وداعش، ومصدراً أساسياً من مصادر تمويل التنظيم. ومن أبرز الاتفاقيات في هذا المجال ما حدث بعد سيطرة التنظيم على معمل كونيكو لاستخراج الغاز شرق مدينة دير الزور في 9/5/2014، حيث تم الاتفاق بين التنظيم والنظام على تشغيل المعمل من قبل المهندسين التابعين للنظام، بمقابل تقديم التنظيم لحصة من مخرجات المعمل للنظام، وتغذية محطة سانا في الغوطة ومحطة جندر في حمص.
وبعد سيطرة التنظيم على حقل توينان للنفط جنوب الطبقة في شهر نيسان/أبريل 2014، حصل اتفاق بين النظام والتنظيم على قيام النظام بإرسال مهندسيه وموظفيه لتشغيل المعمل وصيانته، مقابل قيام التنظيم بحماية المعمل وتأمين سلامة المهندسين، ويتم تقسيم الموارد بين الطرفين، بحيث يحصل النظام على 60% من هذه العوائد والباقي للتنظيم.
2. غنائم الحرب: مثلّت الغنائم جزءاً رئيسياً من موارد التنظيم، مثلما هو الحال مع هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة، إلا أن التنظيم توسّع بشكل كبير في هذا الباب، نظراً لتوسّعه في مفهوم التكفير، والذي يشمل عملياً كل مخالفيه، فما أن يسيطر التنظيم على بلدة أو منطقة أو مدينة حتى يبدأ بعملية "جمع الغنائم" والتي تشمل الأغنام والأبقار إلى محتويات المنازل الثمينة، والأموال والبضائع والسيارات والمنازل.
وحصل التنظيم في العراق على نوع فريد من الغنائم، تمثّل في السيطرة على (121) فرعاً من البنوك الحكومية والتجارية، بما في ذلك فرع للبنك المركزي في الموصل. وبحسب تقديرات البنك المركزي العراقي فإنّ مجموع ما استولى عليه التنظيم من هذه الفروع يبلغ أكثر من مائة مليون دولار وأكثر من 850 مليار دينار عراقي
(32) .
3. ديوان الزكاة: يعدّ ديوان الزكاة أحد أهم المصادر غير النفطية لدى داعش، وفرض التنظيم بالقوة على جميع المقيمين داخل أراضيه من تجار وأفراد عاديين أن يدفعوا زكاة أموالهم بواقع 2.5%، وأصبح وصل استلام الزكاة الذي يقدمه ديوان الزكاة بمثابة وثيقة عالية الفعالية للعبور على حواجز داعش.
4. عمليات بيع الأثار: استخدم تنظيم داعش الآثار في العراق وسورية بشكل مزدوج، فقام بإصدار تسجيلات تظهر تدميره للآثار الكبيرة التي لا يمكن بيعها، ليكسب بذلك جمهوراً بين الناقمين على الحضارة بشكل عام، فيما قام بسرقة القطع الصغيرة القابلة للتهريب، مستغلاً ما كان يعرضه على أنه تدمير كامل للمناطق الأثرية لإخفاء جرائم السرقة المنظمة. وتقدر قيمة الآثار العراقية والسورية التي قام التنظيم ببيعها بأكثر من 200 مليون دولار أميركي
(33) .
5. الزراعة والتجارة: استثمر التنظيم في الأراضي الزراعية والمساحات المائية الموجودة لديه بشكل كبير. وقد عمل التنظيم على بيع المنتجات الزراعية إلى عدد من الفاعلين، أهمهم النظام السوري. وقد قام حسام قاطرجي (عضو مجلس الشعب السوري الحالي) بدور كبير في شراء القمح لصالح النظام السوري
(34) .
6. رسوم العبور: فرض التنظيم، مثله مثل بقية الفاعلين، ضرائب على مرور المركبات والأشخاص من مناطقه إلى بقية المناطق.
ثانياً: مصادر تمويل الإدارة الذاتية الكردية
1. الموارد الزراعية والطبيعية: تعدّ الأراضي التي يُسيطر عليها حزب الاتحاد الديموقراطي من المناطق الغنية في سورية، حيث تضم عدداً من حقول النفط والغاز، إضافة إلى الموارد الزراعية الكبيرة.
وعمل الحزب على تصدير النفط في السوق السوداء على غرار تنظيم داعش (والذي تشاطر معه في الفترة من 2014-2016 السيطرة على غالبية حقول النفط والغاز في سورية). ويعدّ النظام المشتري الأول للمنتجات النفطية من الحزب، إلا أنه يستغل الوضع للحصول على أسعار تقل بكثير عن القيمة السوقية.
2. الدعم الخارجي: تتلقى قوات سورية الديموقراطية التابعة للإدارة الكردية دعماً عسكرياً مباشراً من الولايات المتحدة وحلفائها، وتقول واشنطن أن الدعم الذي تُقدمه يقتصر على المعدات الضرورية فقط للحرب مع تنظيم داعش، وأنها تقوم بمراقبة دقيقة لهذا الدعم
(35) .
ويقدّم التحالف الدولي عشرات الملايين من الدولارات إلى قوات سورية الديموقراطية، بما يكفي لتغطية رواتب عناصرها وفقاً للتحالف.
وكانت الولايات المتحدة تُخصّص مبلغ 200 مليون دولار لما تصفه بمشاريع الاستقرار في مناطق شرق الفرات، ويصرف هذا المبلغ على مشاريع المياه والصرف الصحي والتعليم والصحة وشبكات الطرق ورفع الأنقاض. وقد قرّر الرئيس ترامب إيقاف هذا المبلغ في 31/3/2018
(36) . وقد قامت السعودية بتخصيص مبلغ 100مليون دولار لهذه المشاريع، وقامت بتسليم المبلغ للولايات المتحدة في 17/10/2018
(37) .
3. الرسوم والضرائب: تقوم الإدارة الذاتية بتحصيل الضرائب وبإدارة نظام شبه حكومي في كامل مناطق سيطرتها، ويتضمّن هذا النظام تحصيل رسوم وضرائب على الخدمات التي يتم تقديمها، كتسجيل السيارات والعقارات، ورسوم عبور السيارات والأفراد والسلع. وعلى سبيل المثال، فإنّ الإدارة الذاتية تتقاضى رسماً قدره 300 دولار أميركي سنوياً عن تسجيل كل سيارة، وخمسة دولارات رسماً عن كل شخص يعبر أراضيها، كما كانت تأخذ رسوماً على السيارات المحملة بالبضائع أو الوقود وذلك بحسب البضاعة والتي تبلغ في المتوسط ما يقدر بعشرة دولارات على كل طن، كما تتقاضي الإدارة الذاتية رسوماً على المحلات التجارية والعقارات.
الفصل الثاني: العلاقات التجارية البينية للقوى المتصارعة في سورية
المبحث الأول: جذور العلاقات الاقتصادية البينية بين القوى المتصارعة
لا تعد التجارة بين الأطراف المتنازعة حالة فريدة في المسألة السورية، ففي الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) ظهرت علاقات تجارية بين الأطراف المتحاربة على أرض الواقع، فقرية دير القمر اللبنانية (بين بيروت وصيدا) تعرضت لحصار في ثمانينات القرن الماضي، وساهمت شركات وأفراد محسوبة على قوى مختلفة بإدخال الوقود والمواد الغذائية لها بمبالغ مالية كبيرة، وفي الفترة من 1985 إلى 1987 تم إدخال آلاف المقاتلين الفلسطينيين عبر مطار جونيه التي تسيطر عليه القوات اللبنانية المناهضة أصلاً للفلسطينيين، مقابل مبالغ مالية كبيرة، ولكي يقاتل هؤلاء ميليشيات حركة أمل التي تعد عدواً لتيار القوات اللبنانية في ذلك الوقت(39) . وهكذا كانت أحداث الحرب اللبنانية فيها الكثير من الأمثلة للعلاقات التجارية التي مهدت لاقتصاد لبنان الحالي، والذي سيطرت فيه قوى الحرب السابقة أو قوى وليدة منها على مرافق الدولة العامة، وقننت من خلالها اقتصاد الحرب الذي بني على خطوط التماس في فترة الحرب الأهلية.
وفي حالة اليمن تعد التبادلات التجارية بين الأطراف المتصارعة مسألة نشطة وفعالة في عموم الأراضي اليمنية، فالسيطرة على ميناء الحديدة ومسألة إدارته لعبت ولا تزال تلعب دوراً كبيراً في الصراع حيث يشكل الميناء المورد الرئيسي لواردات اليمن، وتنتشر في اليمن حواجز عسكرية للأطراف المتصارعة تتقاضى مبالغ مالية مقابل السماح للشحنات بالمرور
(39) ، وقد أنشأ الحوثيون شركات خاصة للنفط والغاز عن طريق تجار مقربين تبيع النفط والغاز في مناطق مختلفة لتمويل أنشطة الحرب لديهم. ويلاحظ في العاصمة اليمنية التي يُسيطر عليها اليمنيون إلى الآن وجود المنتجات السعودية على رفوف المحال التجارية، بما في ذلك الحليب السعودي، والذي يعني أنه يصل طازجاً بشكل شبه يومي.
أولاً: تداخل الحاجات والجشع
يرتكز تكوين النظام السوري سياسياً واقتصادياً على قاعدة "الولاء مقابل الصلاحيات"، وعبر هذه القاعدة استطاع آلاف الضباط والمسؤولين في نظام الأسد تكوين ثروات ضخمة تم جمعها مقابل الولاء، وتم توسيع هذه القاعدة من قبل النظام مع بداية انطلاق الاحتجاجات الشعبية ضده، لتشمل نهب ممتلكات المتهمين بالمعارضة وابتزازهم، وهو ما شكّل أداة لعقاب الأفراد والمناطق من جهة، وأداة لتمويل عناصر الأمن والقوى الرديفة.
من جهة ثانية كان المعارضون للنظام يعتمدون ما يُسمى قاعدة "العميل الداخلي"، أي الأشخاص الموجودين في مناطق النظام ويتعاونون مع المعارضة لأسباب فكرية أو اقتصادية، وكان هؤلاء الأشخاص يقومون بدفع الأموال مقابل شراء أو تمرير الذخيرة أو الأفراد أو المواد الطبية المطلوبة للمعارضة.
وكانت الإدارة الكردية الأكثر "براغماتية" بين الجميع، وتمكنت "ببراغماتيتها" من بناء علاقات سياسية إلى جانب العلاقات الاقتصادية، وحافظت على وجود النظام بحدّه الأدنى، بما يضمن لها الحصول على الوثائق الرسمية والشرعية الدولية اللازمة، إضافة إلى الموارد الاقتصادية التي توفرها التجارة مع النظام.
وأدّت هذه العلاقات البينية بين الفاعلين إلى ظهور "تجار الحرب"، والذين عملوا كوسطاء عابرين للحدود الميدانية بين المتصارعين، وكوّنوا شبكات علاقات مكّنتهم من تأمين الحماية لأعمالهم التجارية في ظل حرب طاحنة، ومكنتهم بطبيعة الحال من بناء ثروات كبيرة وفاحشة أحياناً.
ثانياً: تقاسم الأرض والموارد
كان لطبيعة توزع السيطرة على الأراضي في سورية دور في العلاقات الاقتصادية، فقد سعى النظام للحفاظ على ما عرف بـ "سورية المفيدة"، والتي عنت له بشكل أو بآخر السيطرة على مركز الدولة والبعد المدني في سورية، إلا أن مناطقه لم تكن "مفيدة" من ناحية الموارد الطبيعية، كالنفط والغاز والماء والأراضي الزراعية، والتي تتمركز في المنطقة الشرقية ابتداءً من ريف حمص الشرقي (تدمر والفرقلس) وحتى الزاوية الشمالية الشرقية، وهي المناطق التي توزّعت سيطرتها طوال السنوات الخمسة الماضية بين داعش والإدارة الذاتية الكردية.
ورغم أن النظام تحوّل إلى مشترٍ لهذه الموارد من الفاعلين الذين سيطروا عليها، بعد أن كان مالكاً حصرياً لها، إلى أنه لم يسع إلا في نطاق محدود للبحث عن مصادر خارجية، وذات الأمر حصل لبقية الفاعلين، لاعتبارين أساسيين:
• الأسعار المنخفضة: حيث كان يحصل النظام على المنتجات النفطية بأسعار تقل عن ربع قيمتها أحياناً في السوق العالمية، فتنظيم داعش كان يبيع برميل النفط للنظام بحوالي 20$ دولاراً، في الوقت الذي كان فيه متوسط سعر البرميل عالمياً في عام 2013 حوالي 91$، وفي عام 2014 حوالي 85$.
• كلفة النقل المنخفضة: والتي تمنح السلع والمنتجات القادمة من مناطق الصراع الأخرى في سورية ميزة تنافسية في الأسواق المحلية، بما يسمح بتجاوز المخاطر السياسية وحتى الأمنية والعسكرية المترتبة على التعامل مع الأطراف الأخرى.
وتمتّعت كل مناطق النفوذ خلال السنوات السابقة بمزايا تنافسية معينة، سمحت لها بعدم السقوط اقتصادياً على الأقل، حتى وإن كانت مواردها الطبيعية محدودة إلى حدّ ما.
ثالثاً: التجارة كمدخل لتفاهمات لاحقة
استخدمت الأطراف المختلفة علاقاتها الاقتصادية في حالات معينة لبناء تفاهمات عابرة للاقتصاد على الأرض، فمثلاً في حالة معبر أبو دالي في ريف حماة الشمالي الشرقي الذي يقع بين سيطرة النظام وهيئة تحرير الشام، كانت هناك "منطقة حرة" بين الطرفين هي منطقة أبو دالي نفسها، واعتبرت هذه المنطقة طيلة سنوات أبرز المناطق التجارية ومناطق النقل في سورية، وحُكمت هذه المنطقة من قبل جماعة أحمد درويش المستقلة عن النظام والهيئة والمعارضة، والتي تمتلك بُعداً مناطقياً مؤيداً للمعارضة، وممارسات متشددة قريبة من الهيئة، وعلاقات مميزة مع النظام عبر أحمد درويش الذي أصبح عضواً لمجلس الشعب السوري في دورة 2012.
وكانت الهيئة تحصل على جميع مواردها الاقتصادية عبر هذه المنطقة بما فيها بعض أنواع الأسلحة، وكان النظام يحصل على مواد غذائية وألبسة رخيصة السعر قادمة من تركيا، وبالمقابل كان يضمن عدم تعرض الهيئة لطريق (خناصر حلب)، والذي يُعدّ شريان تنفسٍ حقيقي لتحركات النظام في ظل انقطاع الطرق الأخرى، فقرية أبو دالي كانت تقع على الطريق مباشرة، ولا يدخلها النظام، وفيها كل الخدمات الرئيسية من كهرباء ومياه وهاتف (بعكس مناطق المعارضة)، وتستطيع الهيئة الحصول على كل شيء تطلبه عبرها بما في ذلك الكهرباء لبعض القرى المعارضة القريبة من القرية، الأمر الذي خلق تفاهماً من نوع معين، تداخلت فيه عوامل سياسية وعسكرية واقتصادية، ولكن في مرحلة ما وعندما اختل هذا التوازن، داهمت الهيئة قرية أبو دالي بعد الاستفادة منها لثلاث سنوات كاملة، وطردت قوات أحمد درويش وفي المقابل أغلق النظام هذا المعبر، لكنه كان قد ضمن تأمين طرقات أخرى يستطيع العبور منها بعد طرد داعش من المنطقة الشرقية، وبالتالي لن تعد لديه مشكلة في الوصول براً إلى حلب
(40) .
في حالة أخرى أيضاً، كانت قوات النظام في حي الوعر بحمص متمركزة في "مشفى البر للخدمات الاجتماعية"، وهو مشفى على طرف الحي الذي يخضع لسيطرة المعارضة، وكان من الممكن لها استهداف عناصر النظام أثناء تبديل النوبات أو حتى القبض عليهم في أي وقت، لكن ذلك لم يحصل حتى خرجت المعارضة من الحي، حيث كان العناصر يُحضرون للمعارضة بطاريات السيارات والوقود اللازم لتشغيل المولدات وأحياناً أجهزة اتصال مقابل الحصول على الحماية من فصائل المعارضة.
وكان للأكراد المتواجدين في منطقة عفرين علاقات تجارية جيدة بقوات المعارضة، فهم كانوا يسمحون لكل شيء بالدخول إلى ريف حلب الغرب وريف حلب الشرقي، بما في ذلك البنزين والمازوت والخضار وكل ما يأتي من المناطق المجاورة، وبالمقابل كانوا يعلمون أن عدم السماح بإدخال هذه المواد يعني حصارهم عسكرياً، لوقوعهم في منطقة متوسطة بين منطقتين معارضتين، وفي لحظة معركة غصن الزيتون كان لانتهاء هذا التفاهم أثر على ارتفاع أسعار الوقود في منطقة إدلب بأكملها، وعجل الحصار من جميع الأطراف في سقوط منطقة عفرين بأيدي الجيش الحر والقوات التركية الداعمة لها. فالتجارة كانت أحياناً مدخلاً لتفاهمات وحجراً في رقعة شطرنج أكبر كانت جميع الأطراف تستفيد منها في الوقت المناسب.
المبحث الثاني: تجارة السلع والخدمات
أولاً: تدفق السلع والخدمات
مع اقتراب الصراع في سورية من عامه الثامن لعبت مسألة تدفق السلع والخدمات مسألة حيوية في الحرب السورية، وشكلت أحياناً منطقة تفاهم وفي أوقات أخرى عامل حسم، فالنظام قطع إمداد السلع والخدمات عن مناطق متعددة أبرزها حمص القديمة، والمعضمية وداريا والغوطة الشرقية ومخيم اليرموك وعدد آخر كبير من المناطق، وفي حالة حمص القديمة استطاع النظام أن يحافظ على قطع الإمداد حوالي سبعمائة يوم متواصلة، مما سجل حالات سوء تغذية في المنطقة المحاصرة، ودفع الفصائل المعارضة في النهاية لإجراء تفاهم مع النظام للخروج من المنطقة نحو منطقة أخرى.
وكان حي الوعر في محافظة حمص وحي برزة في قلب العاصمة دمشق منطقتين فريدتين في مسألة العلاقات التجارية بين المعارضة والنظام، حيث كان النظام يسمح بتدفق السلع والخدمات خلال فترة التفاوض (فترة انعقاد الجلسات) بين الطرفين، وكان يسمح بدخول كميات قليلة من السلع تكفي لأيام دون أن يتمكن أهالي المنطقة أو القوى المعارضة من تخزينها، لأنها مواد سريعة التلف في ظل عدم وجود تيار كهربائي (كالخضار والألبان واللحوم)، وفي المقابل كانت قوى المعارضة تسمح للنظام بتشغيل منشآته الحيوية في محيط هذه المنطقة، ففي برزة كان موظفو مركز البحوث العلمية والمنشآت القريبة يدخلون ويخرجون على مرأى من أعين قوات المعارضة وكانت الطرقات الحيوية القريبة تعمل بشكل اعتيادي، وفي الوعر كانت مصفاة حمص (على طرف حي الوعر الغربي) وطريق دمشق–طرطوس الحيوي كانت كلها تعمل بشكل جيد، وأحياناً تتعطل هذه المرافق بسبب خلافات بين الطرفين لأيام قليلة ثم تعود للعمل باتفاق جديد.
وكانت العلاقات التجارية بين النظام والمعارضة في الغوطة الشرقية تتم من خلال محي الدين المنفوش (أبو أيمن)، وهو رجل أعمال يدير معملاً لإنتاج المشتقات الحيوانية (الأجبان والألبان واللحوم وسواها)، وهي منتجات لا يمكن أن تستغني عنها العاصمة دمشق، ورغم حصار الغوطة غالباً ما كانت هذه المواد تدخل إلى دمشق قادمة من الغوطة الشرقية، وفي المقابل كانت مناطق المعارضة تحصل على كميات قليلة من المواد الغذائية أحياناً (كانت تباع أعلى بعشرين ضعفاً من سعرها الحقيقي).
وشكّلت الأنفاق التي قامت فصائل المعارضة بحفرها وهي أنفاق واسعة تصل مناطق سيطرتها مع خارجها، وكانت الأنفاق تتسع لمرور السيارات. وقد استُخدمت هذه الأنفاق في تصدير المنتجات الزراعية لمناطق المعارضة، واستيراد كل السلع تقريباً من مناطق النظام، بما وفّر للفصائل المسيطرة عليها، وخاصة جيش الإسلام، موارد مالية كبيرة.
وعبر أراضي النظام كانت ولا تزال مئات السلع تتدفق نحو مناطق إدلب وريف حلب التي تسيطر عليها قوات المعارضة وهيئة تحرير الشام وذلك عبر معبري مورك
(41) وقلعة المضيق (سابقاً كان هناك معبر أبو دالي وقد أغلق بعد هجوم الهيئة وافتتح عوضاً عنه مباشرة معبر مورك)، وأبرز ما يدخل لمناطق ريف إدلب وحلب مواد غذائية سورية المنشأ وجرر غاز معبأة وقطع غيار سيارات مستوردة وتخرج منه خضروات وفواكه.
من ناحية أخرى لم تنقطع الطرقات بين مناطق المعارضة والإدارة الذاتية الكردية أبداً (باستثناء الأشهر الثلاثة التي استغرقتها معركة غصن الزيتون والتي انقطعت فيها الطرق مع عفرين فقط دون بقية المناطق) ولا تزال البضائع والأفراد يتدفقون من وإلى منبج باتجاه منطقة درع الفرات الخاضعة لسيطرة المعارضة، وأبرز ما يدخل للمنطقة هو الوقود وأبرز ما يخرج إليها هو الألبسة والمواد الغذائية والإلكترونيات. ويمكن بسهولة ملاحظة حجم البضائع التركية والسورية المصنعة في مناطق النظام داخل أسواق المناطق الكردية، وهي منتجات تأتي في معظمها من المعابر مع المعارضة والنظام، فيما يتكفل إقليم كردستان العراق بإدخال بقية البضائع التركية.
ثانياً: النفط والغاز
شكّلت مسألة تدفق مصادر الطاقة نقطة محورية أثناء البحث عن العلاقات الاقتصادية بين الأطراف المختلفة، فمن يسيطر على النفط في سورية يسيطر على الجانب الأهم من الثروة، فداعش سيطرت على النفط والغاز خلال سنوات، وفرضت خلالها علاقات تجارية مع جميع الأطراف وفق الشكل الذي تريده، وتُسيطر الإدارة الذاتية الكردية اليوم على أغلب هذه الموارد ويفرضون معادلتهم على جميع الأطراف.
ويعد النفط في شكله الخام هو السلعة الأهم المصدرة من مناطق الإدارة الذاتية اليوم إلى مناطق النظام والمعارضة وأماكن تواجد هيئة تحرير الشام، ويستطيع النظام استغلال النفط بشكل أكبر من بقية الأفراد كونه يمتلك مصفاتين رئيسيتين هما مصفاة حمص وبانياس، ويُعيد بدوره بيع البنزين والمازوت لبقية الأطراف، إضافة إلى الغاز المعبأ.
وتمتلك الهيئة وكذلك المعارضة والإدارة الذاتية مصافي خاصة بدائية التصنيع إلا أنها تُؤمن لها القدرة على استغلال النفط الخام وتحويله إلى ثلاث منتجات رئيسية هي: المازوت، والبنزين، والكاز. وقد تطورت هذه المصافي بشكل كبير مع مرور السنوات لتنتج أنواع اقتصادية وأكثر نقاء من هذه المنتجات، ففي ريف حلب الشمال الشرقي (منطقة درع الفرات) التي تسيطر عليها المعارضة تنتشر هذه المصافي بكثرة وتعمل بطريقة كفؤة إلى حد كبير، وتباع المشتقات النفطية منها بأسعار مقبولة نسبةً لباقي المناطق.
ثالثاً: المعابر وإعادة التوريد
تأتي مسألة إعادة التوريد لما يتم استيراده كمسألة حيوية ومهمة لجميع الأطراف. وتمتلك جميع الأطراف معابر مع الدول المحيطة، فالإدارة الذاتية الكردية لديها معبر مع العراق، والمعارضة والهيئة لديهم معابر حالية مع تركيا، وسابقاً كان لديهم مع الأردن، والنظام لديه معابر مع لبنان وكذلك معابر جوية وبحرية مع بقية دول العالم.
وقد عملت الهيئة والمعارضة على تزويد مناطق الإدارة الذاتية الكردية لسنوات طويلة بالسيارات (الصغيرة، الميني باص، الشاحنات الصغيرة والكبيرة)، ولا تزال حتى هذه اللحظة تحصل مناطق الإدارة الذاتية الكردية على جزء كبير من احتياجاتها من السيارات من هذه المناطق، إضافة لقطع السيارات. ويتم استيراد السيارات لصالح هذه المناطق عبر منافذ المعارضة والهيئة مع تركيا، كما يتم إمداد مناطق الإدارة الذاتية الكردية بالقطع الإلكترونية المختلفة، كالحواسيب والساعات وغيرها، وبدورها تحصل المعارضة والهيئة على الهواتف النقالة والإكسسوارـ والتي تكون غالباً قادمة عبر علاقات الإدارة الذاتية مع العراق أو النظام.
كما تحصل مناطق النظام على مواد مختلفة قادمة من تركيا أو الصين، كالمواد الغذائية والألبسة والأقمشة، وفي بعض الحالات يضطر المُصدِّر إلى مناطق النظام لتغيير عبارة (صنع في تركيا) بعبارة أخرى، وذلك بسبب المشاكل التي يمكن أن تتسبب بها هذه العبارة مع أجهزة النظام
(42) . وتُعد السلع الغذائية والألبسة التركية سلعاً منافسة في سورية من ناحية الجودة والسعر، إضافة إلى أن عدداً كبيراً من المصانع السورية انتقلت للعمل في تركيا بعد 2011
(43)، وهذه المعامل لا تزال تمتلك زبائن في مختلف أراضي سورية وتورد لها المواد.
كما تدخل سلع روسية أحياناً بنفس الطريقة لمناطق المعارضة، وفي تطور ملفت –هو الأول من نوعه- دخلت منتصف العام الحالي ثلاث سيارات شاحنة كبيرة محملة بسلع روسية المنشأ عبر معبر باب الهوى(44) ، علماً بأن السلع الأوكرانية كانت تدخل أيضاً إلى مناطق المعارضة والنظام. ويبدو أن مسألة إعادة التوريد ستتطور مستقبلاً لتشكل جزءاً من تفاهمات الدول التي تُسيطر على المشهد السوري الراهن.
المبحث الثالث: العلاقات المالية والنقدية
أولاً: نقل الأموال وعمليات المقاصة
لا يمكن أن تتم التعاملات التجارية بكل تأكيد بغير حركة نقل أموال، لذا نجد أن جميع الأطراف استخدمت أطرافاً أخرى لإنجاز عمليات المقاصة وتحويل الأموال، فقد اعتمد النظام على رجال أعمال مقربين منه، أمثال نادر القلعي الذي يعمل بحرية عبر أسواق لبنان ومصارفها، كما عملت الإدارة الذاتية الكردية وهيئة تحرير الشام وكذلك داعش على نقل أموالهم خارجياً عبر شخصيات مقربة منهم.
وتحتاج الأطراف المختلفة لتحويلات الأموال عند التعامل مع أطراف خارج سورية، أما داخلها فإن التعامل يتم بالدفع النقدي المباشر أو عبر عمليات تبادل، ففي صفقات الهيئة وداعش كانت الصهاريج تخرج من مناطق سيطرة الهيئة محملة بالبنزين النقي وتعود إليها محمَّلة بالنفط الخام، وفي الحالتين كانت عمليات الدفع تتم عند الحاجز فوراً، وحتى قبل تفريغ الحمولات، وبالتالي فإنّ الأطراف كلها لم تكن تواجه مشكلة سيولة؛ بل غالباً ما تدفع مقدماً كعامل ثقة.
وفي حالات كثيرة كانت المسائل المالية تجري عبر عمليات مقاصة، أي بعد سلسلة من عمليات الإدخال والإخراج يتم إحصاء ما تم إدخاله وإخراجه ومعرفة الطرف المدين من الدائن، وبالتالي تتم عملية الدفع في النهاية على سلسلة العمليات، وفي مثل هذه الحالات غالباً يكون التعامل بين مجموعة من التجار وعلى أساس معرفة سابقة، الأمر الذي يسهل عملية نقل الأموال وحملها.
وقد أسس داعش لهذا الغرض (ولأغراض أخرى بطبيعة الحال) ما يعرف بمسؤول العلاقات العامة، وهي فكرة استنسختها بعض الفصائل المعارضة وكذلك هيئة تحرير الشام، حيث عين تنظيم داعش شخصاً ذو سمعة جيدة في منطقة التبادل التجاري كمسؤول علاقات عامة للمنطقة، ويقوم هذا الشخص بضمان العمليات التجارية كافة بسمعته المعروفة، والتي غالباً ما تأتي إما بسبب موقعه في عشيرته أو أسرته أو بسبب تجارته السابقة.
وفي المناطق المحاصرة، كانت الحاجة إلى النقود قليلة، ولذا فإنّ التعامل بالنقود كان يتم عن طريق شبكة خارجية من العلاقات، فالسلع هي ما يحتاجها المحاصرون لا النقود نفسها، وهذه السلع تأتي من خارج المنطقة المحاصرة، لذا فقد عمدت كل منطقة محاصرة لإنشاء شبكات المقاصة الخارجية التي يمكن أن تُدير أعمالها.
وكانت شبكات المقاصة للمناطق المحاصرة تقوم باستلام التبرعات الخارجية التي تصل إلى هذه المناطق، بحيث تتولى الشبكة عملية استلام التبرعات وتوزيعها وفقاً لبنود الصرف التي يُحددها من يُدير الشبكة من داخل المناطق المحاصرة.
ثانياً: النقود وسعر الصرف
مع تطور شكل الصراع في سورية انفصلت القوى المتصارعة عن بعضها في شكل النقود الذي تستخدمه، فداعش سك نقداً خاصاً به، من الذهب والفضة، وخطوته تلك كانت إعلامية أكثر من كونها عملية، فلا أحد خارج منطقته يقبل هذه العملة، ولم تسجل حالات قبول لها في مناطق هيئة تحرير الشام أو المعارضة أو النظام أو الإدارة الذاتية الكردية على الرغم من أنها عملات ذهبية، إلا أنه بعد معركة الرقة شوهدت العملة الذهبية بكثرة معروضة للبيع في مناطق الإدارة الذاتية الكردية والهيئة والمعارضة، وقد تمت إذابتها لإعادة تصنيعها كذهب، ولكن داخل مناطق داعش جرى التداول بهذه العملات في مختلف التعاملات.
وفي مناطق المعارضة (غصن الزيتون ودرع الفرات) فإن أغلب التعاملات اليومية تتم بالليرتين التركية والسورية، وفي مناطق الهيئة يُهيمن الدولار على المشهد، إلا أنه وبعد فرض تركيا لقانون التحويل عبر مؤسسة البريد أصبحت الليرة التركية تسيطر على مساحة واسعة من التعاملات، وأما النظام فهو يفرض التعامل بالليرة السورية، إلا أن التسعير يتم بالدولار، أي أن قيمة السلع تتغير بشكل يومي مع ارتفاع أو انخفاض قيمة الليرة أمام الدولار.
وقد حاول البنك المركزي السوري طيلة سنوات طويلة أن يُهيمن على السوق ويتحكم بها، وقد فشل في ذلك مرات عديدة، وقد أنشأت هيئة تحرير الشام ما يشبه بنكاً مركزياً للتحكم بممتلكاتها النقدية وضمان عدم هبوط قيمتها، وعلى الرغم من استعانتها بخبراء في هذا الجانب إلا أنها فشلت أكثر من مرة بضمان مصالحها، ففي نهاية 2017 حاولت الهيئة كثيراً المحافظة على سعر منخفض لليرة السورية (بعد أن وصل إلى 400 ليرة لكل دولار) حيث انخفض السعر من قرابة 500 إلى 400 ليرة سورية، وداهمت بيوت صرافة واعتقلت صرافين في الشمال السوري على إثر ذلك متهمة إياهم بالتعامل مع النظام، ولم يستطع "خبراء السياسة النقدية" في الهيئة التعامل مع هذا الأمر، فيما خرج دريد ضرغام (حاكم المصرف المركزي للنظام) مبتسماً بهذا النصر الذي تحقق على حساب إمساك حوالات تجارية للتجار السوريين لفترات طويلة تزيد عن ثلاثة أشهر، مما تسبب باتهامات للمصرف المركزي السوري بأنه سرقها.
في جانب أخر روجت المعارضة السورية خطاب التخلي عن العملة السورية أكثر من مرة، ونجحت في ذلك ضمن أراضيها إلى حد ما، وقد حاول النظام أكثر من مرة التوصل لتفاهمات مع المعارضة والإدارة الذاتية الكردية وكذلك داعش حول هذه المسألة، فمع داعش والإدارة الذاتية جرب الدفع بالليرة السورية دون جدوى، وأحياناً قبلت الأطراف بمبالغ محددة، وفي حالة المعارضة فقد عرض النظام تصريف الدولار الأميركي للمعارضة بالليرة السورية مباشرة عبر مكاتب صرف توضع في مداخل المناطق المحاصرة(45) ، ويكون سعر الصرف قريباً من سعر السوق السوداء، وربما يعود الأمر إلى رغبة النظام في الاستفادة من النقد الأجنبي الموجود عند المعارضة، ولتسهيل بقاء التعامل بالليرة داخل هذه المناطق، وهو ما يساهم في تعزيز قيمتها.
ثالثاً: انعكاسات التعاملات بالعملات الأجنبية على قوى الصراع
في تجربة تعامل داعش بالعملات الأجنبية والعملة المسكوكة من قبله، وعندما انهارت دولته، تم إذابة العملة المسكوكة وإعادتها إلى ذهب يمكن استخدامه لأغراض تجارية، وحمل عدد من قيادات وعناصر التنظيم معهم مبالغ مالية كبيرة بالعملات الأجنبية، ولا تزال مجموعات صغيرة تتبع للتنظيم تتحرك باستخدام هذه العملات عبر مناطق البادية على طرفي الحدود السورية – العراقية، ووجود العملات الأجنبية يساعد هذه التنظيمات على الاستفادة من الأموال في كل مكان في العالم بسهولة ويسر.
وتتواجد اليوم في سورية ثلاث عملات رئيسية يجري التعامل بها، الأولى هي الدولار الأميركي والثانية هي الليرة السورية والثالثة هي الليرة التركية، وهناك صراع بين الأطراف الحاملة لهذه العملات ليس على أساس الانتماء السياسي بل على أساس القوة الشرائية، فحاملوا الدولار هم طبقة من الأشخاص موجودون في مناطق مختلفة ممتدة على كافة مساحة الصراع، وكذلك حملة الليرة. وحملة الدولار الأمريكي ليس لهم مصلحة بفقدان قيمته مقابل الليرة، أي ليس لهم مصلحة بارتفاع الليرة السورية كونهم سيخسرون جانباً من قدرتهم على الشراء بالليرة السورية في المناطق التي يتم التعامل فيها بالليرة، وحملة الليرة يرغبون بتعزيز موقفهم على حساب مواقف الآخرين.
وقد أدّت جملة القرارات التركية الأخيرة القاضية بالتحول إلى التعامل بالليرة التركية ضمنياً إلى فرض الليرة كمركز قوة نقدية ثالثة، فقد فرضت تركيا على المنظمات والجهات العاملة في سورية نقل الأموال عبر مؤسسة البريد التركي وبالليرة التركية حصراً.
ويعني ذلك أن الصراع النقدي ربما يخلق تحالفات من نوع آخر، وهذا ما حصل تماماً في نهاية 2017 عندما تحالف سماسرة وصرافوا الشمال السوري مع سماسرة وصرافي دمشق لرفع سعر الليرة السورية وتحقيق مكاسب نقدية كبيرة عن طريق شراء الدولار بقيم أقل وبالتالي تحقيق مكاسب ضخمة.
المبحث الرابع: اقتصاديات النقل والعبور
أولاً: صراع السيطرة على المعابر
شكلت المنافذ التجارية أو المعابر محوراً للصراع بين القوى المختلفة، بل وحتى فيما بين القوى ذاتها، فقد سعت جميع الأطراف منذ نشوء خطوط التماس الأولى في النصف الثاني من عام 2011 ثم بدء خروج المعابر الدولية عن سيطرة الدولة في عام 2012 للسيطرة على المواقع الرئيسية التي تشكل منفذاً مع خارج مناطق نفوذها.
ففي خطوط التماس بين داعش وهيئة تحرير الشام، سعت الهيئة بشكل كبير للسيطرة على معابر التجارة مع داعش منذ الاقتتال الأخير الذي جرى بينهما، وحرص الطرفان على عدم قطع العلاقات نهائياً مهما كانت الظروف، وكان التبادل التجاري يشمل سلعاً كثيرة يأتي على رأسها مسألة الوقود، ورغم الاقتتال الكبير بينهما الذي جرى في مناطق ريف إدلب الشرقي إلا أنه ما إن يتوقف القتال حتى تعود التبادلات للبدء من جديد، وقد حرصت هيئة تحرير الشام في 2017 على السيطرة على جميع المعابر التجارية ومعابر الأفراد، فانتزعت معبر باب الهوى مع تركيا، وتفردت بمعبر أبو دالي ومورك وسيطرت على منافذ رئيسية عند معبر قلعة المضيق، وفي مفاوضاتها مع حركة نور الدين الزنكي كانت مسألة المعابر حاضرة فطلبت مقابل وقف القتال تسليم معبر الراشدين (مغلق حالياً) مع النظام
(46) ، فهذه المعابر تضمن الحصول على مبالغ مالية نتيجة الضرائب المفروضة على الحركة التجارية وتضمن المتاجرة بأفضل الأشكال، وحصر السلع بيد من يريده المسيطر على المعبر.
وفي ريف دمشق حصلت خلافات كثيرة بسبب الجهة المسيطرة على الأنفاق المفتوحة باتجاه مناطق يستطيع الثوار ادخال الطعام والشراب منها، وشكلت مسألة المعابر جانباً من الصراع فيما بين الفصائل المتواجدة في نفس المنطقة.
على جانب أخر لم يقتصر الخلاف البيني على قوات المعارضة فقط، بل إن خلاف السيطرة على المعابر ظل موجوداً طيلة سنوات طويلة بين الأفرع الأمنية التابعة للنظام، ففي حالة وادي بردى والوعر وبرزة وببيلا ومناطق أخرى مختلفة، نجد أن فرع الأمن الذي يسيطر على المنطقة تتبع نقاط تفتيشه نقاط لأفرع أخرى، رغم أنه هو المخول ضمن الاتفاق البيني أو ضمن الاتفاق مع المنطقة التي تفاوض بالتواجد في محيط المنطقة، إلا أن الأفرع الأمنية تضع حواجزاً إضافية إما لأسباب تتعلق بالمغانم التي تأتي من هذه المعابر أو في أحسن الأحوال لأسباب رقابية تتعلق بعقلية رؤساء الأفرع التي لا تثق بالأفرع الأخرى.
ثانياً: أهمية العبور والنقل في اقتصاد الحرب
تعدّ قضية عبور ونقل الأفراد والسلعة قضية رئيسية في العلاقات بين القوى المتصارعة، فبعد خروج البضائع من معبر الجهة المصدرة وبسبب طبيعة الصراع على المعابر فإنّ هناك عدداً كبيراً من الجهات التي لها مصلحة بعرقلة وصول الشحنات إلى محطتها الأخيرة، ففي حالة التبغ مثلاً، كانت شركات التبغ ترسل مرافقة خاصة بالشحن مؤلفة من عدد كبير من السيارات (يتناسب مع حجم الشحنة) حتى وصول الشحنة إلى وجهتها الأخيرة، وبسبب سيطرة قوات الفرقة الرابعة على معبر مورك وقلعة المضيق عملت قوات الأفرع الأمنية مراراً على عرقلة الشحنات الخارجة أو التي تنوي الدخول إلى هذه المعابر، لذا صارت قوات الفرقة الرابعة ترافق الشحنات إلى وجهتها الأخيرة أو إلى نقاط قريبة من الوجهة الأخيرة حتى تضمن وصولها بسلام، وتسببت المرافقة الأمنية في خلق شكل اقتصادي من نوع أخر ومصدراً إضافياً للتمويل يتحمل صاحب الشحنة غالباً كلفته (في حالة التبغ تكون المرافقة مجانية)، وفي أغلب الحالات يتم تخصيص مجموعات خاصة بالنقل تتمركز في نقاط حيوية، عملها الرئيسي يتركز على مرافقة الشحنات التجارية أو عبور الأشخاص الراغبين بالانتقال من مكان إلى أخر.
أما في حالة الأشخاص المطلوبين والراغبين بالانتقال عبر المناطق المختلفة، فيتم تجميعهم في أماكن محددة طيلة يومين أو ثلاثة أيام، ثم نقلهم في باصات برفقة قوات مدججة بالسلاح وإيصالهم إلى الجهة المطلوبة(47) ، ويمكن أن تُكلف هذه العملية ألف وخمسمائة دولار للشخص الواحد وذلك بحسب المسافة التي يقطعها والمنطقة التي ينوي الوصول إليها، إلا أن التسعيرة تأتي بهذا الشكل غالباً: ألف دولار، ألف وخمسمائة دولار، ألفي دولار، دون أي كسور أو فوراق في المناطق، وغالباً ما تتبع هذه المجموعات لقائد الفصيل العسكري الميداني المسيطر بشكل مباشر، كقوات الدفاع الوطني أو قوات الفرقة الرابعة، حيث تنسق معه في حالات المشاكل، ويمكن أن توفر للمنتقلين من مكان إلى أخر وجبات طعام أو علب السجائر أو المشروبات بأسعار مرتفعة غير مشمولة بمصاريف الانتقال التي قاموا بدفعها.
ولم تُسجل حالات نقل واسعة لأشخاص من مناطق المعارضة إلى مناطق النظام، إلا أن عبور الأشخاص مسألة مكلفة عبر النقاط الحدودية التي تُسيطر عليها المعارضة أو هيئة تحرير الشام. وتتقاضى الهيئة مبالغ مالية من مهربي الأشخاص إلى تركيا عن كل شخص يتم تهريبه(48) ، كما تقوم فصائل المعارضة الأخرى بتقاضي مبالغ من المهربين، كما تقوم بعض الفصائل بعملية التهريب بنفسها.
والتنقل في مناطق النظام مكلف حتى لغير المطلوبين للنظام، فالحواجز كلها بدون استثناء تتقاضى مبالغ مالية على عبور سيارات النقل (الباصات والشاحنات)، ويُكلّف انتقال شخص من ريف حماة إلى حمص (حوالي مائة كيلو متر إلى مائتي كيلو متر بالباص) حوالي 450 دولاراً، كما يمكن أن تُرسل الحقائب والطرود البريدية مع هذه الشاحنات أو الباصات بكلف مرتفعة أيضاً.
ثالثاً: المعابر مع الدول المجاورة
تُسيطر قوات المعارضة على معابر سورية مع تركيا منذ منتصف 2017 وإلى الآن، كما سيطرت قوات المعارضة على معابر سورية مع الأردن منذ بداية 2015 وحتى منتصف عام 2018، وسيطرت داعش على كل معابر سورية مع العراق حتى منتصف عام 2017، وسيطرت الإدارة الكردية على المعابر مع إقليم كردستان العراق، فيما شاركت ميليشيات حزب الله في السيطرة على المعابر السورية مع لبنان إلى جانب النظام، وإضافة لحسابات تلقي الدعم الخارجي.
وقد شكلت هذه المعابر نقاطاً محورية في اقتصاد الحرب، وتحوّلت إلى واحدة من أكبر مصادر الدخل للجهة التي تُسيطر عليها، وأصبح المعبر مؤسسة قائمة بذاتها، وتقوم أحياناً برعاية مشاريع تنموية وخيرية!.
وقد ظل معبرا باب الهوى وباب السلامة مفتوحين لسنوات أمام دخول المساعدات الإنسانية والمواد الطارئة لخدمة المهجرين في المنطقة، إلا أنه تم استغلال المعبر لإدخال مواد تجارية استطاعت الفصائل المسيطرة أن تفرض عليها الضرائب أو تشتريها بشكل كامل لتتاجر بها بنفسها ضمن المنطقة، وفي بعض الحالات كانت حركة أحرار الشام وهيئة تحرير الشام تقومان باستيراد مواد تجارية لبيعها في الأسواق عن طريق أسماء تجار يعملون لديهما كواجهة لترتيب هذه النشاطات، مما شكل مصدراً يومياً للدخل.
ويعمل القائمون على معبر باب الهوى اليوم على تخفيف آثار وقيود القوى المتصارعة عليهم، من خلال توجيه الجانب الأكبر من إيرادات المعبر إلى الخدمات الطبية والتعليمية وترميم البنى التحتية، ففي ريف إدلب نجد أن معبر باب الهوى يُموّل بالكامل مشفى باب الهوى والعيادات الخارجية التي تعد المقصد العلاجي الأول للمصابين، كما يُمول المعبر مخابر كليات جامعة إدلب، ويمول المعبر ترميم طرقات (مثال طريق إدلب معرة مصرين الذي تم ترميمه بداية 2018)
(49) .
وفي حالة معبر باب السلامة، استطاع فصيل الجبهة الشامية أن يحصل على مبالغ مالية جراء السيطرة على المعبر ولما نازعته بقية الفصائل المغنم سلّم المعبر للحكومة السورية المؤقتة المعارضة
(50) ، وهو تسليم شكلي، إذ يتم إيداع موارد المعبر يومياً في فرع لبنك تركي أنشئ خصيصاً على الجانب التركي من الحدود، ويقوم الجانب التركي بدفع رواتب الجيش الوطني من خلال هذه الموارد.
وفي حالة معبر نصيب الحدودي مع الأردن سعت الفصائل كثيراً إلى فتحه، إلا أن الأردن رفض ذلك لما يُسببه ذلك من مخاطر سياسية وقانونية أولاً، ومخاطر أمنية ثانياً. وقد بقي المعبر مغلقاً طيلة فترة سيطرة المعارضة على درعا، وأعيد افتتاحه يوم 15/10/2018.
أما بالنسبة للمعابر مع العراق، فقد هدم داعش السواتر الترابية عند الحدود السورية – العراقية بين الحسكة السورية ونينوى العراقية، فيما قال إنه "تحطيم لاتفاقية سايكس بيكو"، ولم تكن هناك عوائق بالتالي أمام حركة السلع والخدمات بين المناطق التي يسيطر عليها في طرفي الحدود، فيما بقيت بقية الحدود العراقية-السورية مكاناً لدخول وخروج القوات الإيرانية أو العراقية المحسوبة عليها بحرية وسهولة، حاملين ما أمكن حمله من سلع منهوبة من القرى السورية المسيطر عليها.
وفي جانب الحدود السورية اللبنانية التي يسيطر عليها النظام وحزب الله، فقد كان هناك منتجان رئيسيان يدخلان من لبنان إلى مناطق سورية المختلفة هما الحشيش والمسدسات، حيث كان تجار محسوبون على الحزب يبيعون هذه المنتجات لشخصيات تتنقل بين مناطق النظام والمعارضة بسهولة، أمثال الدكتور رافد جروس، وتمام تركاوي وأبو محمود النق وآخرين، وهذه شخصيات كانت تنتقل عبر ريف دمشق وحمص إلى لبنان أسبوعياً، بهدف تأمين كميات من الحشيش والمسدسات من نوع " جلوك" أميركية الصنع وأسلحة أخرى غالية الثمن أحياناً. ورغم أن متوسط سعر مسدس "الجلوك" الأميركي هو 4000 دولار أميركي في الأسواق اللبنانية، فإن الحد الأدنى لبيعه في المناطق التي ينقلونه إليه كان حوالي 8000 دولار أميركي. وغزت منتجات الحشيش المروجة من قبل تجار محسوبين على الحزب الأسواق السورية.
النتائج
• هيمن نظام الأسد على الدولة منذ بداية حكمه لسورية، فاستغل مؤسسات الدولة و"جيّر" مواردها لصالحه في فترتي ما قبل وما بعد قيام الثورة، إضافة إلى أنه دمج قيادة الاقتصاد في نظامه ذاته، مدفوعاً بعقلية الدفاع عن مكاسبه منذ اليوم الأول لاستلامه، فصار كبار رجال الأعمال -الذين جمعوا أموالهم نتيجة وجودهم ضمن دائرة النظام ذاته– ممولين للحرب من طرف النظام.
• رغم تحقيق سورية لتقدم على صعيد خدمة الدين الخارجي وبدء تخلصها من أغلب الديون المترتبة عليها منذ مرحلة التسعينات، عاد النظام للاقتراض من الخارج بكميات كبيرة من جديد، مما أعاد الوضع إلى ما كان عليه قبل التخلص من هذه الديون، بل وعد الداعمين له بإطلاق يدهم في الاقتصاد السوري كما أطلق يدهم في السياسة.
• إن قاعدة "الولاء مقابل الصلاحيات" التي تم ارساؤها في مرحلة حكم الأسد الأب، استمرت في مرحلة الثورة، فصار الموالون للأسد يغتنمون كل فرصة لتعظيم مكاسبهم، فاستغلوا موارد الدولة وموارد الشعب لصالح تمويل أنشطتهم.
• استفادت هيئة تحرير الشام من فقه الغنائم وفقه التغلب في تمويل نفسها، فاستطاعت أن تحصد مبالغ كبيرة من معاركها مع الأخر، سواءً كان هذا الآخر يقاتل النظام أو هو النظام نفسه، كما قامت بعمليات مبادلة وعمليات تجارية مع هذا الآخر بغية تعزيز مواردها المالية.
• واستفادت المعارضة في بداية الأمر من اتساع قاعدتها الشعبية فمولت نفسها، إضافة لحصولها على موارد من المنشقين عن النظام، ثم أصبح اعتمادها في الدعم على الخارج، فتدخلت الدول بطرق مباشرة أو غير مباشرة، مما أثر على نوعية قراراتها.
• حاولت فصائل المعارضة أن تُموّل نفسها من خلال عمليات تجارية أو استثمارية، إلا أن تضخم النفقات الذي شهدته في مرحلة ما قبل انقطاع الدعم لم يساعدها أمام الموارد الضئيلة المحصلة من هذا النوع من التمويل.
• اعتمدت داعش في تمويلها على النفط والغنائم إضافة للزكاة والتجارة في السلع والآثار، واستطاعت تحقيق مكاسب كبيرة ربما لا تزال تشكل نواة لظهورها من جديد أو استخدامها في تمويل عملياتها في مختلف أنحاء العالم.
• سيطر حزب الاتحاد الديموقراطي على موارد نفطية ضخمة نسبياً، إضافة لمحاولاته الدائمة لانتزاع التمويل المستدام من مصادر مختلفة تُحاكي مصادر الدول، مدفوعاً في ذلك باتجاه تقوية فكرة الاستقلال ضمن المساحات الجغرافية التي يُسيطر عليها.
• خلقت الأطراف المتصارعة مساحات للتفاهم من خلال التجارة وذلك لأهداف اقتصادية أو سياسية، فاستمر تدفق السلع والخدمات بين جميع الأطراف كل حسب ما تتميز به المنطقة الواقعة تحت سيطرته، ويبدو أن حجم العلاقات البينية للمناطق المتصارعة أغرى الأطراف الدولية المتحاورة حول الملف السوري لخلق تفاهمات اقتصادية.
• استخدمت الأطراف المتصارعة شبكات لنقل المال بغية تمويل احتياجاتها تمتعت ولا تزال بالسرية والغموض، وبعملات مختلفة صارت ساحة أخرى للصراع للدفاع عن القوة الشرائية لكل طرف.
• ظلت المعابر المفتوحة بين الأطراف المختلفة محلاً للصراع، ففتحت في سبيل السيطرة عليها معارك ودارت خلافات واسعة، وكذلك لعبت التنقلات بين هذه المعابر المختلفة والسير على الطرقات قبل وبعد هذه المعابر دوراً مهماً في تشكيل اقتصاد نقل خاص من نوعه تلعب الجماعات المتصارعة فيه دوراً جديداً لتحقيق المزيد من المكاسب.
• تمثل المعابر مع الدول المجاورة الفيصل في الدعم المستدام لكل القوى المتصارعة في سورية، وتساهم الدول التي تُسيطر على المعابر من الجهة الأخرى خارج سورية المتحكم الأساسي في بقاء نفوذ هذه القوة/القوى.