مصير إدلب أزمة محلية وعقدة إقليمية
فبراير 25, 2019 2400

مصير إدلب أزمة محلية وعقدة إقليمية

حجم الخط
تمهيد
مع حلول العاشر من يناير 2019، أصبحت محافظة إدلب ومحيطها في الشمال السوري والتي تُعرف بمنطقة خفض التصعيد، تخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام عسكرياً وإدارياً، وانحسر تواجد وتأثير فصائل المعارضة إلى أدنى حدّ لها منذ السيطرة الكاملة على محافظة إدلب في عام 2015. 
ومثّلت سيطرة الهيئة بشكل شبه مطلق على إدلب هدفاً للهيئة على مدار السنوات السابقة، وعملت لتحقيقه بشكل دؤوب باستخدام القوة الناعمة والخشنة، فشنّت تسع عمليات اقتتال مع الفصائل الرافضة للعمل ضمن شروطها، كانت حركة نور الدين الزنكي طرفاً في سبعة منها، كما عملت على شراء الولاءات داخل الفصائل والقوى المجتمعية الأخرى، إلى غير ذلك من الوسائل التي أدّت إلى سيطرة الهيئة على المشهد الإدلبي مطلع هذا العام. 
وأدّت الخطوات الأخيرة للهيئة إلى تعقيد المشهد على كل الفاعلين، ابتداء من الهيئة التي سعت بنفسها إلى هذا التموضع، وانتهاء برعاة اتفاق وقف التصعيد في المحافظة، وحدّت هذه الخطوات من قدرة هؤلاء الرعاة على التوصل إلى صيغ توافقية جديدة أو تجديد الاتفاق السابق. 
 
أولاً: مواقف الرعاة الدوليين
1) الموقف التركي
يتمثّل الموقف التركي في رفض استهداف إدلب من قبل النظام ورعاته الدوليين، وطلب مهل زمنية إضافية للتعامل مع إشكالية المجموعات المتطرفة، وخاصة هيئة تحرير الشام. ويحكم الموقف التركي تجاه إدلب أربع محددات أساسية، هي: 
أ. الوضع الإنساني: إذ يعيش في إدلب حوالي 4 ملايين نسمة، من سكان أصليين ومهجّرين من مناطق أخرى. وفي حالة حصول هجوم واسع على إدلب فإنّ من المتوقع أن يسعى نصفهم على الأقل للجوء إلى الأراضي التركية، الأمر الذي سيضع السلطات هناك أمام مأزق الاختيار بين قراري منعهم من الدخول أو السماح به، بكل ما يحمله كل قرار من أعباء سياسية كبيرة على المستويين الداخلي والخارجي. 
ب. الوضع السياسي: تعدّ إدلب وما حولها البقعة الأكبر في المناطق ذات الأغلبية العربية الخارجة عن سيطرة النظام، وبالتالي فإنّ عودتها لسيطرة النظام سوف تنهي وجود المعارضة تقريباً، وتغيّر معادلة السيطرة في سورية بشكل دراماتيكي.  
تمثّل إدلب، بسكانها اليوم، ثقلاً عربياً وسنياً كبيراً في المعادلة السياسية القادمة، ويمكن أن يمثّلوا تغيّراً كبيراً في المعادلة السياسية المحلية إن أُخضعوا لسلطة النظام السوري، خاصة في حالة الوصول إلى مرحلة انتخابات عامة خلال السنوات القليلة القادمة.  
ج. العلاقة مع روسيا: إذ تمثّل إدلب ورقةً قوة مهمة للجانب التركي أمام نظيره الروسي، وتساعده في التفاوض معه موسكو في ملفات أخرى كشرق الفرات. ولا ترغب أنقرة بالتخلي عن إدلب إلا بمقابل حصولها على أثمان سياسية كبيرة، تعادل قيمة إدلب في المعادلة الروسية. 
د. عدم التدخل المباشر في الشأن المحلي، فرغم تولي أنقرة لمسؤولية حل إشكالات إدلب، إلا أنها رفضت التدخل بين الفرقاء المحليين فيها، ولم تستخدم قوتها أو نفوذها لمنع استئصال أحد الفاعلين أو تحجيمه. وقد يستثنى من ذلك تأمين الحماية لفيلق الشام وحده دون بقية المكونات. 
 
2) الموقف الروسي
يتمثّل الموقف الروسي تجاه إدلب في الضغط على تركيا بشكل متواصل من أجل الالتزام بالاتفاقات السابقة المتمثّلة بينهما، والتي تقضي بقيام تركيا بالتعامل مع ملف هيئة تحرير الشام يحكم الموقف الروسي من إدلب ثلاثة محددات رئيسية، وهي كالتالي: 
أ. توسيع السيطرة والنفوذ: حيث تُسعى روسيا لتوسيع سيطرتها على نطاق أوسع من الأرض السورية، والحد من وجود ونفوذ الفاعلين الدوليين الآخرين، لما يمنحها ذلك من قدرة على التحرك بشكل أكثر فاعلية، والتحكّم بالورقة السورية بصورة أقوى. وتمثّل إدلب عقبة كبيرة أمام المشروع الروسي، خاصة من جهة سيطرتها على الطريق الدولي المتجهة إلى تركيا، وقربها من الساحل السوري. 
ب. ترسيخ حالة الاستقرار والانتصار: فقد سعت روسيا في عام 2018 إلى إنهاء جزر السيطرة داخل مناطقها، وتسعى في عام 2019 إلى توسيع نطاق السيطرة ليشمل أكبر مساحة من سورية، بما يسمح لها الإعلان عن انتصار مشروعها لتثبيت النظام، والدفع باتجاه بدء خطوات جدية للحل السياسي ضمن تصورها. 
ج. العلاقة الاستراتيجية مع تركيا: إذ تسعى موسكو إلى مراعاة المصالح التركية في سورية وخارجها ما أمكن، مقابل قيام أنقرة برعاية مصالح روسية في سورية وخارجها، وقيامها بموازنة الدور الأمريكي في سورية والمنطقة. 
 
3) الموقف الإيراني
يسعى الإيرانيون للسيطرة على إدلب، ويرفضون الاتفاقات الروسية-التركية للتهدئة فيها. وينطلق الموقف الإيراني من إدلب من محددين رئيسيين فيها: 
أ. رفض التوافقات التي لا يُشكّلون جزءاً منها في سورية، فرغم إدراكهم –ومعهم النظام في هذا الأمر- لعجزهم عن وقف الاتفاقات الروسية مع الفاعلين الآخرين، سواء التركي أو الأمريكي أو الإسرائيلي، إلا أنهم يعملون على الضغط المستمر على روسيا من جهة، والعمل على تفخيخ هذه الاتفاقات ومحاولة انتهاكها ولو بالحد الأدنى من جهة أخرى. 
ب. السعي لتوسيع النفوذ والسيطرة، إذ يعمل الإيرانيون على توسيع نفوذهم ما أمكن في سورية بغية توسيع أوراق القوة التي يملكونها هناك، وبالتالي قدرتهم على التأثير في شكل الدولة والحل السياسي، إضافة إلى رغبتهم في توسيع امتداداتهم الشعبية وتثبيت نقاط ارتكاز في مجتمعات مختلفة. وتحمل إدلب أهمية بالنسبة للإيرانيين، باعتبار أنها ستشكّل أول وصول لهم إلى الحدود السورية-التركية، كما أنها ستمكّنهم من السيطرة على الطريق الدولي الواصل من تركيا. 
 
ثانياً: تعاطي ضامني أستانا مع ملف هيئة تحرير الشام
تضمنت مذكرة خفض التصعيد التي توصلت إليها تركيا وروسيا وإيران في 4 أيار/ مايو 2017، في البند الخامس منها، تحميل تركيا المسؤولية كضامن في حل ملف هيئة تحرير الشام. وكان أمام تركيا تحدٍ رئيسي حول التوفيق بين مسؤوليتها في اتخاذ التدابير اللازمة بخصوص الهيئة وبين مسؤوليتها بنشر نقاط المراقبة وفقاً لنظام وقف إطلاق النار، وبطبيعة الحال استطاعت أنقرة التعامل مع هذا الواقع وفق مقاربة تقوم على:
1) فصل مقاتلي المعارضة السورية المسلحة الموالين لتركيا عن هيئة تحرير الشام، وهو ما أكد عليه وزير الخارجية التركي في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، حين قال إن "بلاده تسعى في المرحلة الأولى لإبعاد مقاتلين من المعارضة المسلحة عن تحالف للمتشددين يسيطر على محافظة إدلب في شمال غرب سوريا كخطوة باتجاه تنفيذ اتفاق لتخفيف حدة العنف هناك". 
ومن اللافت أن جاويش أوغلو لم يشمل كافة فصائل المعارضة المسلحة، في إشارة محتملة إلى تلك التي انخرطت في مسار الحل السياسي بأستانا، واجتمعت في أيار/ مايو 2018، تحت مظلة الجبهة الوطنية للتحرير. 
2) استبعاد الخيار العسكري في التعامل مع هيئة تحرير الشام، واعتماد السبل السياسية والأمنية كوسائل لتعاطي تركيا مع التنظيم، وهذا ما يؤكد عليه تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تشرين الثاني/ أكتوبر 2018، الذي قال فيه "إن بلاده لا تواجه صعوبة في إجراء محادثات مع جماعات متشددة في إدلب، آخر منطقة كبيرة لا تزال تحت سيطرة المعارضة المسلحة". 
3) التدخل السريع في حال أخلّت هيئة تحرير الشام أو الجماعات الجهادية التي تتصل معها باستقرار المنطقة، وهذا ما أكّد عليه وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2018، أي بعد أسابيع قليلة من توقيع اتفاق سوتشي، حيث قال إن "تركيا ستكون أول المتدخلين في حال تصرفت المجموعات الإرهابية والراديكالية في محافظة إدلب السورية، بشكل مخالف لاتفاقية سوتشي".
4) الحفاظ على استقرار منطقة خفض التصعيد وبذل الجهود للاستمرار بنظام وقف إطلاق النار ضمن إطار تفاهم سوتشي. بمعنى أنّ تركيا تسعى لمنع تحوّل سيطرة هيئة تحرير الشام على المنطقة إلى ثغرة يتم استثمارها من قبل روسيا وإيران في خرق نظام وقف إطلاق النار واتفاق سوتشي، وهذا يتطلب إجراءات متكاملة بين وزارة الدفاع والاستخبارات والخارجية.
ويُمكن الاعتقاد أن هذه المقاربة سهّلت على تركيا دخول نقاط المراقبة إلى الشمال السوري دون التصادم مع هيئة تحرير الشام، وبنفس الوقت كان عدم حل ملف هذه الأخيرة بمثابة ثغرة اتخذت منها روسيا وسيلة للضغط على تركيا من أجل تعديل اتفاق خفض التصعيد، على اعتبار أن نشر نقاط المراقبة يجب أن يضمن التزام فصائل المعارضة بنظام وقف إطلاق النار وطالما أن التنظيمات الجهادية تنشط على خطوط التماس فإن هذا البند معرض للزعزعة، وبناءً عليه وما ترافق من حشود عسكرية جاء توقيع اتفاق سوتشي الذي نص على إقامة منطقة منزوعة السلاح وخالية من وجود التنظيمات الجهادية، وبالفعل تم تطبيق هذين الشرطين في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، والتزمت به هيئة تحرير الشام. 
ومع شنّ هيئة تحرير الشام هجوماً واسعاً على فصائل المعارضة السورية التي تبدي موقفاً متحفظاً من الحل السياسي في مسار أستانا، أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إن بلاده اتخذت الخطوات اللازمة لوقف الهجمات التي شنتها جماعات متشددة على مقاتلي المعارضة بمحافظة إدلب شمال سوريا، لكن دون توضيح إضافي. وفي 23 كانون الثاني/ يناير 2019، عقد الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين قمة في موسكو، اتفق الجانبان فيها على تعزيز اتفاق وقف إطلاق النار في محافظة إدلب ومحيطها ودعم المسار السياسي ومكافحة الإرهاب والتعاون العسكري في سبيل ذلك، والعمل على تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. خلال اللقاء أكد الرئيس التركي على ضرورة أن تحارب أنقرة وموسكو "بشكل مشترك ضد التنظيمات الإرهابية التي تهدف لتقويض التعاون بينهما"، وبيّن الرئيس الروسي أن وزيرا دفاع البلدين قاما بوضع خطة للقضاء على الإرهاب في الشمال السوري. 
وعلى الرغم من تأكيد الجانبين الروسي والتركي على محاربة الإرهاب داخل مقاطعة إدلب، لكن ذلك لا يعني بالضرورة اتخاذ الحل العسكري كوسيلة لحل ملف هيئة تحرير الشام، خصوصاً وأنهما أكدا مراراً على ضرورة الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار في الشمال السوري ودعم سبل الاستقرار فيه، وبالتالي يُمكن القول إن الواقع الجديد الذي تم فرضه في المنطقة بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على مصادر القوة والثروة، يفترض أن يدفع تركيا إلى إعادة النظر إزاء المقاربة التي بنتها في التعامل مع وجودها كضامن في الشمال السوري. 
 
ثالثاً: السيناريوهات المتوقعة لإدلب
تبدو السيناريوهات الممكنة خلال فترة عام محصورة في عدد من الخيارات، وهي كما يلي: 
أولاً: الهجوم الشامل
وصف السيناريو
يماثل هذا السيناريو ما يطرحه المسؤولون الروس بين الفترة والأخرى، وما طرحه النظام من قبل، ويتضمّن السيناريو هجوماً برياً وجوياً شاملاً على المحافظة، ينتهي بسيطرة حلفاء النظام على إدلب، وإنهاء وجود المعارضة والمجموعات المسلحة الأخرى منها نهائياً.  
شروط السيناريو
يُشترط لتحقق هذا السيناريو إما التوصل إلى توافق روسي-تركي يتم بموجبه رفع الحماية التركية عن المحافظة، ورفع نقاط المراقبة التركية هناك، أو وصول التفاهمات التركية-الروسية إلى طريق مسدود، تصر موسكو بناء عليها على شنّ العملية العسكرية، فيتم سحب نقاط المراقبة بناء على حالة عدم التفاهم.
نتائج السيناريو
سيؤدي هذا السيناريو في حالة حصوله إلى: 
1. انتهاء وجود المعارضة والمجموعات المسلحة الأخرى من إدلب، وانحسار سيطرة المعارضة إلى أقل من 4% من الأرض السورية، أي المناطق التي تُعرف باسم "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، وهي تخضع فعلياً للسيطرة التركية. 
2. لجوء حوالي مليون شخص على الأقل إلى الأراضي التركية أو أراضي عفرين، في أوسع موجة لجوء ستشهدها سورية في وقت قصير منذ عام 2011. 
3. مقتل عدد كبير من المدنيين، إضافة إلى المقاتلين من الطرفين، حيث يُعتقد أن المعركة هناك ستكون واحدة من أشرس المعارك التي عرفتها سورية خلال السنوات السابقة، نظراً لتحصّن المقاتلين فيها بشكل كبير، وامتلاكهم لخبرة قتالية طويلة، ومعرفتهم بأن المعركة سوف تكون ذات طابع حاسم. كما ستؤدّي المعركة إلى إلحاق دمار كبير بمدينة إدلب والمدن الرئيسية الأخرى. 
احتمالات السيناريو
تبدو احتمالات هذا السيناريو محدودة على المدى القصير، إذ أن العبء الإنساني وخسارة ورقة الضغط سيدفع بتركيا، وحتى الاتحاد الأوروبي، للضغط بشكل كبير باتجاه تحييد هذا السيناريو. 
لكن فشل تركيا في التوصل إلى تفاهمات مع موسكو تحت أي ظروف سوف يدفع روسيا لطرح هذا السيناريو مباشرة، مستغلة الحماس الإيراني له، واندفاع النظام نحوه. 
ثانياً: العملية الجراحية
وصف السيناريو
في هذا السيناريو تقوم روسيا، وبالتوافق مع تركيا، باستهداف مستمر ومركز لأهداف حيوية في إدلب على مدار فترة عام، بحيث تسمح هذه الضربات المستمرة بإضعاف هيئة تحرير الشام ومن معها من المجموعات المتطرفة، وتُجري من خلالها تغيرات بنيوية تدفع باتجاه قبل الهيئة بعد "عمليات التجميل الجبرية" للقبول بشروط مختلفة للحل. 
شروط السيناريو
يُشترط لتحقق هذا السيناريو: 
1. توافق تركي-روسي على هذا السيناريو، بحيث يتولى الطرفان التخطيط والتنفيذ لهذه العمليات، ضمن أقل مستوى ممكن من الأضرار بالمدنيين. 
2. وجود رؤية واضحة لدى الطرفين التركي والروسي لطبيعة التغيرات التي ينبغي إجراؤها، والنتائج المتوقعة لها. 
نتائج السيناريو
يمكن أن يؤدّي هذا السيناريو إلى: 
1. إضعاف هيئة تحرير الشام والفصائل المتطرفة الأخرى، وإجراء تغييرات كبيرة في قياداتها، بما يسمح بالتوصل إلى تفاهم معها في نهاية العام. 
2. تعريض التفاهم المبرم بين تركيا وهيئة تحرير الشام حول نقاط المراقبة العسكرية للخطر، حيث ستعتبر الهيئة، أو جزء منها على الأقل، أن التفاهم التركي على هذا السيناريو يمثل إعلان حرب عليها، وبالتالي فإنّ النقاط التركية، والآليات والجنود الذين يعبرون منها وإليها هم أهداف مشروعة. 
3. انخفاض مستوى الاستقرار في محافظة إدلب، وزيادة معدلات اللجوء والهجرة منها، وإن كان بمعدلات تقل عن نظيرتها في السيناريو السابق. 
احتمالية السيناريو
تبدو احتمالية هذا السيناريو مرتفعة، إذ أنه يمثّل حلاً وسيطاً يمكن أن تتوافق عليه تركيا وروسيا، ويراعي إلى حد كبير مصالح ومحددات الطرفين في إدلب. 
ثالثاً: بقاء الوضع على ما هو عليه
وصف السيناريو
في هذا السيناريو تتوافق تركيا وروسيا على تمديد التفاهم بشأن الوضع في إدلب، بحيث يستمر على ما هو عليه حتى عام على الأقل. وتتعهّد تركيا في هذه الأثناء ببذل المزيد من الجهد للضغط على هيئة تحرير الشام، بغية قبولها بتنازلات قاسية يمكن أن تُرضي موسكو.  
وتستمر أثناء هذا السيناريو أعمال القصف التي يقوم بها النظام بين الحين والآخر، والتي تكون في الغالب بتنسيق مع روسيا، إما للضغط على تركيا بالتوازي مع تجدد جلسات المباحثات البينية الخاصة بإدلب، أو ردّاً على تحركات تقوم بها هيئة تحرير الشام وغيرها من الفصائل. 
شروط السيناريو
يُشترك لتحقيق هذا السيناريو: 
1. تحقيق تركيا لمصالح روسية هامة في سورية أو خارجها، بما يدفع الكرملين لتجديد التزامه مع أنقرة رغم عدم تفضيله لهذا الخيار. 
2. قيام تركيا بجهد حقيقي في الضغط على هيئة تحرير الشام، وتقديم مخرجات ملموسة كل عدة أشهر، كي يكون بإمكانها إقناع موسكو بتجديد التفاهم، والذي عادة ما يكون لعدّة أشهر فقط.  
نتائج السيناريو
في هذا السيناريو يبقى المشهد العام في إدلب على حاله على المدى القصير، ويتم عملياً تأجيل التعامل الجذري مع إدلب حتى مرحلة مقبلة.  
احتمالية السيناريو
تبدو احتمالية هذا السيناريو مرتفعة أيضاً، إذ أن العلاقات التركية-الروسية سمحت ببقاء الوضع الراهن منذ بداية عام 2017، ويمكن أن يستمر لعام آخر طالما أن المصالح الروسية الكلية متحققة في العلاقة المتينة مع أنقرة، كما أن إدلب في واقع الحال لا تمثّل ملفاً حاسماً بالنسبة لموسكو، مثلما كان ريف دمشق مثلاً، وبالتالي فإنّهما تحتمل التأجيل.  
رابعاً: التغيير الذاتي
وصف السيناريو
في هذا السيناريو، تقوم هيئة تحرير الشام بمبادرة ذاتية أو بدفع من أطراف خارجية لإجراء تعديلات جوهرية في سلوكها وسياستها، بما يسمح بتحييد السيناريوهات الخطرة عن المحافظة، ويحمي المنطقة من السقوط تحت سيطرة النظام. 
وتشمل التغييرات الجوهرية حلّ هيئة تحرير الشام بشكل فعلي، وانسحاب قياداتها الحاليين من المشهد، وإخراج كل المقاتلين الأجانب من المحافظة، وتسليم إدارة المحافظة لإدارة مدنية فعلية تُمثل أهالي المحافظة. 
شروط السيناريو
يُشترط لتحقيق هذا السيناريو: 
1. استمرار الوضع الراهن، إذ أن قيام حلفاء النظام باستهداف إدلب، سواء بهجوم شامل أو بعمليات جراحية، سوف يمنع أي عمليات تغيير ومراجعات داخلية. 
2. وصول قيادة هيئة تحرير الشام إلى قناعة مطلقة بأنه لن يمكنها العبور إلى المرحلة المقبلة، وأن أي تخيّلات أو مقارنات بهذا الخصوص لا تملك أي أسس واقعية، وأن البديل عن إجراء هذا التغيير سيكون قاسياً على الهيئة أفراداً ومشروعاً، وعلى المحافظة وسكانها ككل. 
نتائج السيناريو
في حالة حصول هذا السيناريو، فإنّ من المتوقع أن يؤدّي إلى: 
• قيام تركيا بالتوصل إلى تفاهم مع روسيا، تقوم بموجبه برعاية المؤسسات المدنية التي ستُقام في المحافظة، والإشراف على الفصائل غير المتطرفة التي ستتولى رعاية الأمن فيها. في تطبيق لنموذج درع الفرات. 
• مساعدة الأطراف الدولية، وخاصة الأوروبية، على الضغط من أجل تأجيل ترحيل ملف إدلب إلى مرحلة الحل النهائي، وتحييد الخيار العسكري في التعامل مع المحافظة.  
احتمالية السيناريو
تبدو احتمالية هذا السيناريو منخفضة في الفترة الراهنة، نظراً لغياب الإرادة الفعلية لدى هيئة تحرير الشام في إجراء مثل هذه التغييرات في سياستها، ووجود اعتقاد راسخ لدى قيادتها بإمكانية التوصل إلى صيغة مع المجتمع الدولي للقبول بالهيئة كما هي، في استنساخ لتجربة حزب الله في لبنان أو حماس في غزة، وإصرار هذه القيادة على الاكتفاء بعمليات التجميل ذات الإخراج الرديء، والتي لا تقنع حتى الفصائل القريبة من الهيئة، ناهيك عن إقناع رعاة مسار الأستانة وبقية المجتمع الدولي!  
 
خاتمة
يُظهر استعراض المعطيات الخاصة بإدلب أن أياً من الفاعلين الدوليين لا يملك خياراً سهلاً في التعاطي مع إدلب، نظراً لتداخل الملف مع جملة من الملفات الأخرى، بما فيها مصالح فاعلين آخرين غير تركيا وروسيا وإيران، ونظراً لحجم التداعيات الكبيرة المرفقة بأي سيناريو سيتم اعتماده. 
ويترك التشوش الدولي أثره على الفاعلين المحليين، وهم النظام وهيئة تحرير الشام بشكل خاص، والذين لم يعد لهم سوى هامش محدود للتحرك، إلا أن هذا الهامش يضيق في منطقة النظام أكثر مما يضيق في منطقة الهيئة. فالنظام الذي حصر خياراته في التحرك العسكري لا يملك فعلياً صلاحية شنّ مثل هذا التحرك، وخسر أمام جمهوره من قبل معارك كلامية عن تحرّك مماثل في أيلول/سبتمبر الماضي؛ قبل أن يوقفه آنذاك اتفاق تركي-روسي، وبالتالي فإنّه يتردد هذه المرة حتى في خوض غمار التهديد والوعيد اللفظي. 
من جهتها فإنّ الهيئة تملك التأثير بشكل مباشر على المعادلة من خلال تبنيها لسياسة جديدة، تظهر من خلالها إدراكها لموازنات الموقف من جهة، واستحالة عبورها إلى مرحلة الحل بوضعها الحالي أو بمساحيق التجميل الرديئة التي تستعملها. 
وتشمل السياسات التي يمكنها قلب المعادلة حلّاً نهائياً للهيئة، ونقلاً للسلطات والصلاحيات لأحد الفصائل المعتدلة والمقبولة دولياً، وانسحاب قيادات الصف الأول للهيئة من المشهد بشكل نهائي، والبحث عن مخرج لكل الأجانب المتواجدين في إدلب، في داخل الهيئة وخارجها، إلى غير ذلك من التغيرات الجذرية الفاعلة. 
وتمنح مثل هذه السياسات دعماً استثنائياً للموقف التركي الحريص على حماية إدلب، وإن كان لأسبابه الذاتية، ويُحد بشكل كبير من الدوافع والمبررات الروسية لشن المعركة الكبرى على إدلب. 
إن خيار الحسم العسكري الكامل سيكون ثقيل التكلفة على المهاجمين، والذين سيكونون بلا شك من قوات النظام والميليشيات المدعومة إيرانياً، إلا أن ذلك لا يعني أن هذه الكلفة ستمنعهم من الدخول في المعركة، مثلما لم تمنعهم من خوض غمار كل المواجهات العسكرية الأخرى المماثلة. 
وبالمقابل، فإنّ الحسم العسكري سيكون بتكلفة كبيرة على المدنيين في محافظة إدلب أولاً، وهي التي تضم اليوم واحدة من أعلى نسب الكثافة السكانية في سورية، كما أنّها لن تنتهِ قبل القضاء على مشروع الهيئة بشكل شبه كامل، فيما لن يكون بإمكان الهيئة أن تفعل العكس، فموازين القوة الحالية لا توفر أي معطيات ولو ضئيلة لذلك، ولن يكون بمقدور الهيئة وكل القوى العسكرية المتواجدة في إدلب إلا الصمود وتأجيل سقوطها لعدة أشهر، في أحسن الأحوال.