هل يكمل فايروس كورونا ما بدأه الربيع العربي؟
Nis 17, 2020 2721

هل يكمل فايروس كورونا ما بدأه الربيع العربي؟

Font Size

هل يكمل فايروس كورونا ما بدأه الربيع العربي؟

محمد سرميني 
المدير العام لمركز
جسور للدراسات

يُجمع الباحثون والمفكرون والسياسيون في كل العالم على أن أزمة كورونا الحالية سوف تكون لحظة مفصلية في التاريخ السياسي والاقتصادي للعالم، وأن هذه الأزمة سوف تعيد تشكيل العديد من أنماط التعاون الدولية، بل يذهب البعض إلى أنها قد تعيد صياغة نظام عالمي جديد. 
كما يُتوقع أن تترك هذه الأزمة آثارها على الكثير من الدول، والتي قد لا يتمكّن بعضها من التعافي سريعاً من الآثار الاقتصادية التي خلفتها أشهر الحجر الصحي، وأن ينعكس هذا العجز في أزمات سياسية واجتماعية لاحقة، بما قد يؤدي إلى تغييرات عميقة فيها خلال السنوات المقبلة. 
وبلا شك، فإنّ الآثار المتوقعة لأزمة كورونا سوف تتفاوت من دولة إلى أخرى، وفقاً لعوامل عديدة، أهمها قدراتها الاقتصادية والمالية الحالية، والتي تمكنها أو لا تمكنها من تعويض خسائر القطاعين الخاص والعام خلال الأزمة وما بعدها، وحالة القطاعات الحيوية فيها، وخاصة القطاع الصحي، وطبيعة نظام الحكم واتخاذ القرار فيها، والتي قد تمكّنها أو لا تمكنها من اعتماد السياسات المناسبة، وطبيعة اقتصاداتها، ومدى تنوعها، ومدى تأثرها بالأزمة. 
وتُظهر هذه العوامل أن المنطقة العربية سوف تشهد آثاراً عميقة في فترة ما بعد كورونا، فهي إما دول تُعاني أصلاً من أزمات اقتصادية مزمنة؛ ومستويات مرتفعة من الفقر والبطالة، وضعفاً مفرطاً في قطاعها الصحي، وإما دول ريعية تفتقر اقتصاداتها للتنوع الذي يحميها من الأزمات، ناهيك عن ترافق أزمة كورونا مع أكبر انخفاض لسعر النفط منذ عام 1991، بما أنتج أزمة مالية غير مسبوقة لهذه الدول. 
كما تُعاني معظم دول المنطقة من انخفاض مستوى الحريات السياسية، وضعف احترام حقوق الإنسان، الأمر الذي انعكس في السنوات العشر الماضية في احتجاجات وثورات في العديد من الدول، سواء في موجة الربيع العربي الأولى، والتي بدأت إرهاصاتها في نهاية عام 2010، أو الموجة الثانية التي بدأت في عام 2019. 
لقد سعت الثورات الشعبية التي شهدتها المنطقة إلى التغيير، بغض النظر عما إذا كان الثائرون يتقاسمون رؤية واحدة لهذا التغيير أم لا، أو حتى إن كان هذا التغيير في الاتجاه الصحيح أم لا، إذ كان القاسم المشترك بينهم هو إدراكهم للأزمة العميقة التي تعيشها مجتمعاتهم نتيجة لسنوات طويلة من القهر والقمع، ورغبتهم في الوصول إلى حياة أفضل. 
وبغض النظر عن الاختلافات الأيديولوجية والطائفية والعرقية بين سكان المنطقة، إلا أنهم جميعاً يتقاسمون رغبتهم في رفع مستوى معيشتهم من الناحية الاقتصادية والحياتية، والوصول إلى نظام سياسي يوفر لهم العدالة ويحترم حقوق الإنسان، ويسمح بتقاسم الثروات بشكل عام، ويحدّ من مستويات الفساد. 
ورغم أن موجات الاحتجاج الشعبي خلال العقد الماضي لم تتكلل بالنجاح في معظم الأحيان، نظراً لحجم التشابكات داخل كل مجتمع، وحجم التدخلات الخارجية وتضارب المصالح بين الفاعلين الدوليين، إلا أن ذلك لا يعني بتاتاً أن مبررات الاحتجاجات ودوافعها الأولى قد تلاشت، إن لم تكن قد تعمّقت أصلاً بفعل الاستخدام المفرط للقوة من طرف بعض السلطات، مثلما حصل في سورية على سبيل المثال. 
إلا أن أزمة كورونا ربما تساهم في نقل الاحتجاجات إلى مستوى مختلف تماماً عما كان عليه الوضع في ثورات الربيع العربي، بنسختيها الأولى والثانية، فهي من جهة ستوسّع من حجم المتضررين، وأولئك الذين ليس لديهم الكثير مما يخسرونه، حيث يتوقع أن تؤدي الأزمة إلى انضمام الملايين في المنطقة إلى مجموعة العاطلين عن العمل، وانتقال نسبة كبيرة من المتواجدين في الطبقة الوسطى إلى طبقات أدنى، بعد أن تستهلك الأزمة مدخراتهم القليلة، أو تتسبب بإغلاق مشاريعهم الصغيرة والمتوسطة. 
وسيؤدي هذا التحول الاقتصادي الكبير إلى رفع مستوى النقمة التي يحملها المتضررون تجاه الدولة، فهم سينتظرون منها التدخل لتعويضهم عما فقدوه، وهو ما لا تستطيعه معظم دول المنطقة، كما ستصبح لديهم قدرة أكبر على ملاحظة الفجوة الطبقية في المجتمع، والفروقات الكبيرة في مدى تأثر الطبقة المتحالفة مع السلطة مع تلك البعيدة عنها. 
ورغم أن المظلة الأساسية لموجة الربيع العربي الثالثة المتوقعة ستكون ذات طبيعة اقتصادية، على خلاف معظم احتجاجات الموجة الأولى والثانية، والتي أخذت دوافع سياسية، إلا أن المطالبة بالحرية والكرامة سوف تتحول إلى العنوان الأول لهذه الاحتجاجات، إذ أن ضعف الخدمات الصحية، وسوء التعامل الحكومي مع مخلفات أزمة كورونا سوف يُشعر الكثيرين باضطهاد كرامتهم وغياب أبسط حقوق الإنسان، وهو ما يمكن أن يشعر به المرء على بوابة مستشفى متهالك مثلما يشعر به في زنزانة مخفر شرطة!. 
وستجد حكومات المنطقة عموماً نفسها أمام تحدٍ حقيقي في مواجهة تداعيات أزمة كورونا على مجتمعاتها، إذ أن الأزمة الحالية تستهدف شريحة واسعة وجديدة من السكان، وستمسّ حتى المجموعات التي تحتفظ بولاء مرتفع للسلطة، وستدرك السلطات أن استخدام القوة والقمع لن يُمكّنها من إعادة ضبط المجتمعات، ما لم تتخذ إجراءات حقيقية وفعلية لمعالجة دوافع المحتجين، وأهمها السعي لإقامة نظام حكم رشيد، وتوزيع عادل للثروات. 
لقد أعادت أزمة كورونا تسليط الضوء على فشل السياسات الإنمائية المتبعة في معظم دول المنطقة على مدار عقود، فحتى الدول الغنية فيها لا تملك مستشفيات حكومية قادرة على توفير الحد المناسب للرعاية، ناهيك عن غياب أي مستشفى عام أو خاص يمكن أن يثق به المنتمون للطبقة الحاكمة والغنية عند مرضهم، كما كشفت حجم التخلف الذي يعتري النظام التعليمي العام على وجه الخصوص، والذي ظهر عاجزاً عن التعامل مع فكرة التعليم عن بُعد، إلى غير ذلك من الإشكالات في كل القطاعات تقريباً. 
إن كل المقاومة الشديدة التي أظهرتها الأنظمة والدول والاجندات المناهضة للربيع العربي بحجة وجود المؤامرة والإرهاب والرجعية، وما خلفته هذه السياسات من أزمات إنسانية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، وما تسببت به من قتل وسفك للدماء، ستقف عاجزة عن التعامل مع الموجة الثالثة للربيع العربي، فالتعلق بنظريات المؤامرة والحرب الكونية يمكن أن يكون مجدياً جزئياً في مواجهة احتجاجات ذات طابع سياسي، لكنها لن تكون ذات تأثير يذكر في مواجهة جموع العاطلين عن العمل وأولئك الذين خسروا مشاريعهم وشركاتهم في غمضة عين!.
لقد جاءت أزمة كورونا لتقول لحكومات المنطقة إن البحث عن مهارب من تنفيذ خطط الإصلاح لن يكون مجدياً طوال الوقت، وأن الدول الهشة التي أنتجتها عقود القمع وسوء توزيع الثروات لن يكون بمقدورها استيعاب أزمات طارئة، وأن هذا الفايروس الذي تمكّن -ولو لوقت قصير- من إيقاف حركة العالم، يمكن أن يكون بوابة تغيير جديدة في المنطقة.