الانتفاضات العربية بعد 10 سنوات: السعي وراء الشرعية
الناشر: معهد الولايات المتحدة للسلام
الكاتب: د. ايلي ابو عون
الرابط: اضغط هنا
بعد عقد من الزمان، ما زالت الحكومات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دون مستوى التوقعات الثورية للشعب.
قبل عشر سنوات، أشعلت موجة من الاضطرابات غير المسبوقة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حيث اتخذ المواطنون موقفًا ضد الأنظمة ذات التاريخ الطويل من الاستبداد والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي المهترئ. منذ ذلك الحين، كانت هناك وفرة من التحليلات المتعلقة بتأثير الانتفاضات العربية على بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لكن هناك عنصرًا حاسمًا في التفكير المتعمق مفقودًا: لماذا لم تنجح حكومات ما بعد 2011 - الانتقالية والمنتخبة - في تحقيق توقعات شعوبها؟
الإلمام بالجوانب الفنية
أكد المجتمع الدولي والعديد من السياسيين المحليين وقادة المجتمع المدني وغيرهم على أهمية الجوانب الفنية في عملية الانتقال السياسي فقد ظلّ التركيز إلى حد كبير على جوانب مثل الانتخابات، وبناء قدرات الهيئات التشريعية، وتعزيز المجتمع المدني، أو إصلاح قطاع الأمن، من بين أمور أخرى.
في ليبيا ما بعد القذافي، على سبيل المثال، كان المجتمع الدولي حريصًا على إجراء الانتخابات، لكن النسيج الاجتماعي للبلاد كان ضعيفًا لدرجة أن مثل هذه الخطة أدت في الواقع إلى انقسام كامل بين المناطق الشرقية والغربية من البلاد في عام 2014.
إن الانتخابات والأمور الفنية الأخرى هي بلا شك عناصر ضرورية لانتقال سياسي ناجح. ولكن في ظل غياب عقد اجتماعي جديد ومكرّس بين الدولة والشعب، وهو العقد الذي يمنح شرعية كافية لهياكل الحكم الناشئة، فإن هذه الإجراءات الفنية توضع على أساس هش. في حين أن هذه الهياكل ضرورية، إلا أنّ الافتقار إلى الثقة يجعلها عديمة الفائدة تقريبًا.
من شأن عقد اجتماعي جديد أن يوجه عمليات تبادل المسؤوليات والتوقعات المنتظرة بين الفرد والدولة. ينقل الفرد سلطته /سلطتها إلى ممثل ينوب عنه مقابل ضمان حماية حقوقه. مثل هذه العلاقة تتطلب الثقة والشرعية حيث دول المنطقة تعاني من عجز كبير في كليهما.
ليس من المستغرب إذاً أنّ معظم البلدان التي شهدت انتفاضات عام 2011 قد دُمِّرت بسبب الصراعات العنيفة التي طال أمدها، أما الدول الباقية فهم يمرون بنوع مختلف من الأزمات الوجودية - إما سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية بطبيعتها.
الأسباب الجذرية لا تزال تغذّي المظالم
كانت انتفاضات عام 2011، في نهاية المطاف، مخيبة للآمال إلى حد كبير لأن الأسباب الجذريّة لمعظم المظالم التي غذّت الاضطرابات لم تُعالج. لسوء الحظ، فإن القضايا المستشرية التي ابتليت بها المنطقة، مثل الفساد وعدم المساواة وانتهاكات حقوق الإنسان وعدم القدرة على إدارة واستيعاب مختلف السكان بشكل صحيح، لم يصحّحها تغيير النظام وحده.
لذلك، على الرغم من التحولات السياسيّة، خلقت هذه العوامل الأساسية فجوة واسعة ومخيبة للآمال بين توقعات الناس للازدهار وإمكانية تحقيقه الفعلي. بعد فوات الأوان، فقد أُسيئ الفهم فيما يتعلق بالصلة بين الديمقراطية والازدهار أو أنّه تمت المبالغة فيه. قبل عشر سنوات، كانت معظم القوى الدافعة وراء الانتفاضات ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية - أكثر من كونها صرخات حرية وحقوق سياسيّة - مما جعل تدهور توفير الخدمات العامة والصعوبات الاقتصادية بعد عام 2011 أكثر إحباطاً.
إن أولئك الذين يشغلون مناصب تم انتخابهم لها أو بصفة انتقالية يضرّون بالقضايا التي تولوا أمر رعايتها، فهم غير قادرين اليوم على الإجابة على الأسئلة الملحة حول الوعود التي لم يتم الوفاء بها. وبدلاً من ذلك، يلجأ معظمهم إلى الخطاب السياسي الفارغ وإجراءات التخفيف التجميلية لكسب الوقت.
على سبيل المثال، في تونس - التي غالبًا ما تُعتبر النجم الوحيد الساطع لانتفاضات 2011 - غالبًا ما تندلع الاضطرابات في منطقة الكامور الغنية بالموارد. يطالب السكان بإعادة استثمار عائدات الموارد المستخرجة من المنطقة في مشاريع تنموية للمدينة الجنوبية المهمّشة، وغالبًا ما تتحول الاحتجاجات إلى توتر وعنف. وبدلاً من تقديم خطة تنموية واقعية تراعي مطالب السكان والقيود المالية للبلاد، قام الوزراء المتعاقبون بزيارة المنطقة لإلقاء خطابات نبيلة واعدة لإرضاء السكان.
في حالات أخرى، عند مواجهة استياء شعبي عام، ألقى الحكام الناشئون وداعموهم الدوليون باللوم على الآخرين. حيث اتهم العلمانيون الإسلاميين والعكس صحيح، وكلاهما يواصل إلقاء اللوم على الأنظمة السابقة أو القوى الإقليمية والدولية، ففي سوريا نجد أن بشار الأسد وخلال الأعوام المتعاقبة يردد نفس العبارات التي تلقي باللوم على الولايات المتحدة وحلفائها في طول مدة الحرب ووحشيّتها.
لقد أفسح هذا الإحباط الطريق ببطء إلى الحنين المتصاعد إلى حقبة ما قبل عام 2011، وفجأة أصبحت الشخصيات السياسية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأنظمة المخلوعة تستحق السلطة الآن. في كثير من الحالات، ذهب بعض الناس إلى حد المطالبة صراحةً بنهوض النظام الذي كان قد أطيح به سابقاً من رفاته ففي ليبيا مثلاً، هناك شعبية سياسية متزايدة لسيف الإسلام القذافي، نجل الدكتاتور الليبي المخلوع. وبالنسبة للبعض في سوريا، فإن حقيقة نظام الأسد لا تبدو بمثل قتامة وسوداوية الصراع الدموي الذي لا ينتهي.
في تونس، تستقطب شخصيات سياسية مثل عبير موسي - زعيمة حزب الدستور الحر الذي غالبًا ما يُتهم بمحاولة إحياء النظام السياسي الذي كان قائماً قبل عام 2011 - شريحة واسعة بشكل مفاجئ من السكان.
التقليل من شأن مبدأ "العمل المضني" لتحقيق الديمقراطية
في أعقاب الانتفاضات، استخف العديد من المواطنين بالمسؤولية الشخصية والتضحية اللازمة لتحقيق تحول سياسي واجتماعي واقتصادي ناجح. فقد فشل غالبية الناس في المنطقة في فهم أن المستقبل الأفضل لا يتعلق فقط بإسقاط النظام الشرير أو استجرار الدعم الدولي، بل يتعلق أيضاً بتوليد مستقبل أفضل من داخل البلد. في التحول السياسي، خاصةً الذي كان داميًا وشاقًا، يميل جزء كبير من التركيز العالمي إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية. ومع ذلك، وبالتوازي مع ذلك التحول السياسي، هناك عمل يجب القيام به على المستوى الأعمق للقيم الاجتماعية لعلاج الأمراض السامّة للتكتيكات السياسية الإقصائية التي تؤدي إلى مسلسل العنف.
في العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان ودول أخرى في المنطقة، تبنّى ضحايا الأنظمة القمعية - بما في ذلك حركات الاحتجاج الناشئة أو مجموعات الأقليات - نفس الممارسات السياسية والاجتماعية التي اشتكوا منها، بما في ذلك العنف السياسي في بعض الحالات. نفس المواطن/المواطنة الذي يشكو من ممارسات فاسدة في مكان ما، من المحتمل أن يقبل أن يُمنح امتيازات - عينية أو نقدية - في مهنته الخاصة، أو في حالة توليه وظيفة في الخدمة العامة، عند القيام بها. لذلك، فإن غالبية الناس في المنطقة يريدون من الآخرين فقط أن يلتزموا تجاههم بتطبيق نماذج حسن التعامل والشفافية والامتثال والأداء الفعال في تنفيذ المهام ولا ينظرون إلى الطريق المعاكس المتمثل بالتزامهم هم تجاه الآخرين.
يتطلب المستقبل الأكثر سلامًا أن يلتزم المواطنون، على المستوى الفردي، بنفس المبادئ والممارسات التي ينادون بها ويرفضون الاعتقاد السائد والقصير النظر في المنطقة القائل بأنّه من المقبول السعي وراء المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية من خلال طرق غير تقليدية - بما في ذلك الأجندات الإقصائية والعنيفة في بعض الأحيان.
من أين المفر؟
يتمثل جوهر الفشل الأساسي لانتفاضات 2011 في أنه على الرغم من وجود بعض التحولات السياسية على المستوى التقني، إلا أن أياً منها لم يكن مصحوباً بعقود اجتماعية أعيد تصورها بين الدول والمواطنين، مما أدى إلى أزمة شرعية للحكومات الناشئة. وقد ترك هذا الخلل المنطقة اليوم تعاني من ضعف التماسك الاجتماعي، وتدهور الظروف المعيشية، وتفاقم عدم الاستقرار السياسي، والمزيد من الفوضى العامة أكثر مما كانت عليه قبل عام 2011, وهناك خطر كبير من أن تتفاقم هذه القضايا في المستقبل القريب.
يشير تقرير حديث صادر عن منظمة أوكسفام إلى أن 45 مليون شخص إضافي في المنطقة قد يتعرضون للفقر نتيجة للوباء، وأن حوالي 1.7 مليون سيفقدون وظائفهم في العامين المقبلين. نظرًا لأن الملايين سيكون لديهم وصول أقل إلى الموارد، فهناك خطر متزايد من الاضطرابات الاجتماعية وعقبات كبيرة أمام إجراء الإصلاحات الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها. يبدو أن الازدهار الذي يواصل الكثيرون في المنطقة السعي إليه أصبح بعيد المنال.
في مثل هذا السياق من الهشاشة الشديدة، يجب على الاستجابة أن تتجاوز المساعدة المالية أو الفنية التقليدية. لكي يضفي العقد الاجتماعي الشرعية على سلطة الدولة، يجب أن يعكس الإرادة العامة للشعب، ويخدم مصالحهم الجماعية، ويضمن رفاهيتهم العامة.
على الرغم من أن العقد الماضي كان مخيبًا للآمال، إلا أن الفوضى الحالية لا يتوجب أن تكون مصير المنطقة. في الواقع، تشير الموجة الثانية من الانتفاضات التي اجتاحت المنطقة العام الماضي، من بيروت إلى بغداد إلى الجزائر العاصمة، إلى أنه لا يزال هناك مستوى معين من التأييد لقوة التعبئة الجماهيرية. قبل كانون الأول (ديسمبر) 2010، لم يكن يُنظر إلى فكرة تحدي من هم في السلطة كخيار يمكن أن يولد أي نتيجة إيجابية. لقد أثبتت الانتفاضات العربية أن هذا غير صحيح. الآن، تواجه المنطقة تحديّاً هائلًا آخر، لكنه ممكن، وهو: بناء أسس الحكم الشرعي.