الردّ الإسرائيلي على إيران قد يأتي بأشكال متعدّدة ومتنوّعة
إن ردّ إسرائيل على هجمات إيران يمكن أن يكون بطرق متنوعة لا يقتصر على ضرب مواقع عسكرية، وإنما يتجاوز ذلك ليشمل منشآت حيوية، ومع تصاعُد التوتر بين البلدين، وهو ما يشكل خطراً متزايداً، خاصة أن هجوم إيران الأخير يمثل تحوُّلاً إستراتيجياً. تعتمد إيران على الميليشيات المتحالفة وتبني علاقات دبلوماسية قوية، بينما تواجه إسرائيل تحديات جديدة وسط تزايُد المطالبات باتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد تحرُّكات طهران، فما شكل هذه الإجراءات والتدابير؟ وهل ستنحصر داخل جغرافيا البلدين فقط؟
بعد أن حافظت إيران على اتّباع سياسة حرب الظلّ مع إسرائيل لمدة عَقْدين من الزمن، اعتمدت خلالها على الميليشيات التي كانت تموّلها في جميع أنحاء الشرق الأوسط، شَكّل هجومها المباشر على إسرائيل في نهاية الأسبوع الماضي تحوُّلاً إستراتيجياً ومخاطرة كبيرة.
إيران تُدرك منذ فترة طويلة أنها تمتلك جيشاً تقليدياً أضعف مقارنة بجيش إسرائيل وجيش حليفتها الأكبر، الولايات المتحدة، وتدرك طهران أيضاً أنها منذ زمن قيام الثورة الإسلامية عام 1979، لم يكن لديها سوى عدد قليل من الأصدقاء في العواصم الأجنبية يمكن أن يدعمها في شنّ هجوم مباشر على أحد حلفاء الولايات المتحدة.
شنّت إيران ضربة جوّية ضخمة بطائراتها المُسيّرة والصواريخ على إسرائيل، وأعلنت القوات الإيرانية بكل فخر أن طهران قامت بهذه الضربة، كما تعهّدت بتكرارها في حال ردّت إسرائيل. جاءت هذه الضربة بعد سنوات من بناء علاقات دبلوماسية أقوى مع خصوم أمريكا مثل روسيا والصين، وإصلاح العلاقات مع الدول المجاورة، مثل السعودية، وتعزيز اقتصاد طهران من خلال مبيعات النفط غير المشروعة. هذا يمثل توضيحاً دراماتيكياً لتحوُّل إيران بعيداً عن التواصل مع الغرب والتوجُّه نحو المواجهة المفتوحة مع الولايات المتحدة وحلفائها.
في الوقت الراهن تقف إيران وإسرائيل على بُعد خُطوات من الدخول في دائرة عنف متصاعدة تشكل مخاطر بالغة لكِلا الجانبين. وقال أعضاء المجلس الوزاري الحربي الإسرائيلي إن إسرائيل سترد في الزمان والمكان اللذيْنِ تختارهما، بينما قال مسؤولون أمريكيون إنه من المرجَّح أن يأتي ذلك الردّ قريباً.
يدعو جمع من المتشددين الإيرانيين داخل النظام إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد إسرائيل، حيث ألحقت الأخيرة أضراراً جسيمة بشبكة الميليشيات التابعة لطهران، بما في ذلك ما تسببت به غارة شنّها الطيران الإسرائيلي هذا الشهر على مبنى قرب القنصلية في دمشق أسفرت عن مقتل ضباط عسكريين كبار، وهذا الهجوم، وفقاً للعديد من المتشددين الإيرانيين، يستدعي ردّ فعل يقلب الموازين.
قال اللواء حسين سلامي رئيس الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، الذي قام بتنفيذ هجمات السبت: "لقد قررنا فرض معادلة جديدة". وقال للتلفزيون الرسمي يوم الأحد: "من الآن فصاعداً، إذا هاجم النظام الصهيوني مصالحنا ومواقعنا ومسؤولينا ومواطنينا في أي مكان، فسنرد عليه بالمثل انطلاقاً من الأراضي الإيرانية".
يحمل هذا التحوُّل الإستراتيجي مخاطرَ هائلة بالنسبة لطهران، حيث يمنح إسرائيل فرصة لتحويل الانتباه بعيداً عن الحرب التي لا تحظى بشعبية دولية في غزّة، ويمثل اختباراً لقُدرات إيران العسكرية التي قد لا تكون مؤهَّلة لخوض تجربة كهذه.
قال المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية -والذي يشغل حالياً منصب نائب رئيس كبير في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن- جون ألترمان Jon Alterman : "الإيرانيون لا يبحثون عن تحقيق شعبية، وإنما يبحثون عن القدرة على التأثير، فهم يشعرون أنهم يخوضون معركة وجودية مع الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، ولا يدققون فيما يفعلونه؛ لذا فإنهم لا يرون خياراً سوى المخاطرة، وهم يعتبرون بقاءهم وعدم زوالهم بمثابة انتصار".
يأتي الهجوم بعد أن بدأت إيران في تزويد روسيا بطائرات بدون طيار تم استخدامها لمهاجمة أوكرانيا والمساعدة في بناء مصنع للطائرات بدون طيار على الأراضي الروسية، وهي التحرُّكات التي أثارت قلق المسؤولين الأمريكيين وساعدت في منح موسكو ميزة في الحرب في أوكرانيا. كما قامت إيران ببناء برنامجها النووي منذ انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقها مع طهران في عام 2018، مما أثار مخاوف من أن البلاد أقرب إلى إنتاج هذا السلاح، وهو ما تنفيه إيران. ويقول المسؤولون الأمريكيون إنهم لا يعتقدون أن إيران تعمل حالياً على إنتاج سلاح نووي.
في شباط/ فبراير 2024 قال المسؤولون الإيرانيون إنهم حددوا خطين أحمرين فقط من شأنهما أن يؤديا إلى هجوم واسع النطاق على إسرائيل: إما توجيه ضربة مباشرة إلى أصولها الإستراتيجية داخل إيران، مثل منشآتها النووية والبتروكيماوية، أو شن هجوم برّي ضد ميليشيا حزب الله اللبناني، الذي يُعتبر حليفاً مهماً وأحد أخطر أعداء إسرائيل.
قال مستشارون للحرس الثوري والنظام السوري إنه حتى عندما قصفت إسرائيل مبنى يُؤوي أنشطة قنصلية إيرانية فإن الانتقام العسكري لم يكن أمراً حتمياً، وقال هؤلاء المستشارون إنه كان بإمكان إيران أن تقرر عدم الرد، وأضافوا أنه كان بإمكانها أن تقرر عدم تصنيف المبنى كجزء من أراضيها وتتجاهل مقتل قادتها، كما فعلت سابقاً خلال سنوات من الهجمات على أصولها في سورية.
لم تعلن إسرائيل عن مسؤوليتها عن هجوم دمشق، وقال مسؤولون إسرائيليون إن المعلومات الاستخبارية أظهرت أن المبنى لم يكن منشأة دبلوماسية حقيقية، بل مبنى يستخدم لأغراض عسكرية إيرانية. لقد قررت إيران التدخل تحت ضغط من الميليشيات المتحالفة معها، التي تطلق على نفسها اسم "محور المقاومة"، والتي تعرضت لهجمات متكررة من قِبل إسرائيل والولايات المتحدة، وفقاً لمستشار الحرس الثوري، الذي أضاف أنه خلال اجتماع لقادة المخابرات والحرس الاثنين، قال علي أكبر أحمديان، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني: إن "القرار اتُّخذ بسبب الإحباط المتزايد لدى الحوثيين في اليمن وآخرين بشأن "المقاومة" التي لم تكن إيران تقوم بأي شيء من أجلها".
قالت داليا داسا كاي، وهي باحثة بارزة في مركز "بيركل" للعلاقات الدولية التابع لجامعة كاليفورنيا في ولاية لوس أنجلوس: "على خلفية حرب غزّة، زاد الضغط بالفعل من حيث إظهار أن إيران لا تزال رائدة في هذا المحور، وكان ذلك بمثابة مواجهة لإسرائيل. أعتقد أنه كان هناك شعور بأن إسرائيل كانت في موقع المسيطر على المجريات، وكان عليهم أن يقلبوا الطاولة".
رغم أن الهجوم الإيراني لم يتسبب في أضرار كبيرة ولم يُحدث إصابات كثيرة، إلا أن حجم الضربات كان مغايراً لسياسة إيران السابقة. في السابق، كان ما يميز السلوك الإيراني هو قيامها بتحريك المجموعات المسلحة التي يمكنها ممارسة الضغط على الخصوم مثل إسرائيل في حين أن إيران تبقى في موقف المتفرج من بعيد.
خلال حرب الظلّ هذه، يُعتقد على نطاق واسع أن إسرائيل قتلت علماء نوويين إيرانيين، وشنت هجمات إلكترونية على طهران، ونفذت أكثر من 400 غارة جوية ضد أهداف مرتبطة بإيران في سورية وأماكن أخرى في المنطقة، حسبما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" سابقاً. كثّفت إسرائيل تلك الضربات على أهداف إيرانية في أعقاب هجوم حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر وخلال الحرب المستمرة في غزّة. كما أدت الضربات الإسرائيلية إلى مقتل ما لا يقل عن 18 من أفراد الحرس الثوري في الأشهر الأخيرة، وبلغت ذروتها في ضربة 1 نيسان/ إبريل في دمشق حيث أسفرت عن مقتل جنرال إيراني كبير، وهو ما دفع إيران إلى الانتقام.
قالت سانام وكيل، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في "تشاتام هاوس" في لندن: "هذا تغيير هائل في قواعد الاشتباك وأعتقد أن الأمر متعمَّد بشكل واضح من أجل وضع خطوط حمراء واضحة جداً في ظلّ صراعهم مع إسرائيل".
لقد حذّرت إيران بشكل مسبق من أن الهجوم قادم، وأبلغت عُمان وسويسرا، وهما دولتان تُعتبران وسيطين تقليديين بين إيران والغرب، مما أعطى إسرائيل وشركاءها الغربيين والإقليميين الوقت للاستعداد، وهي خُطوة من المحتمل أنها أدّت إلى الحدّ من الأضرار الناجمة عن الضربة.
مع ذلك وعلى النقيض من جولات التصعيد السابقة، يشير حجم الهجوم إلى محاولة لإلحاق أضرار حقيقية داخل إسرائيل، كما قال محللون عسكريون، من خلال إطلاق أكثر من 300 صاروخ وطائرة بدون طيار من مختلف الأنواع، وقد تطلب الأمر عملية مشتركة معقدة مع الولايات المتحدة والجيران العرب لإسقاط معظم المقذوفات.
وقال فابيان هينز، خبير الصواريخ والطائرات بدون طيار الإيرانية في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية: "لو كانوا يريدون شنّ ضربة رمزية، لَمَا استخدموا الكثير من الأنظمة، ولو افترضنا أن هذه كانت مجرد ضربة رمزية، فكيف ستبدو الضربة الحقيقية؟ بالتأكيد لا يمكنهم إطلاق ألف صاروخ دفعة واحدة".
السؤال الإستراتيجي المركزي الآن متعلق بالدور الذي سيؤديه حزب الله، إنْ كان هناك ما يستطيع أن يفعله طبعاً في أي تصعيد بين إسرائيل وإيران، فقد شنّ الحزب صراعاً بطيئاً مع إسرائيل منذ بداية الحرب في غزّة، حيث تبادل إطلاق النار بشكل مستمر مع القوات الإسرائيلية، لكنه امتنع عن الاستفادة من ترسانته الأكثر تطوُّراً من الصواريخ الموجَّهة بدقة. وقال تشاك فريليتش، النائب السابق لمستشار الأمن القومي في إسرائيل: "ستستمر حرب الظلّ لكن “السؤال هو ما إذا كان سيكون هناك صراع مفتوح”.
ترجمة: عبد الحميد فحام
المصدر: وول ستريت جورنال