البُعد الإستراتيجيّ للقضايا الجنائية في المحاكم المحلية الغربية كوبلنز مثالاً
أبريل 13, 2022 5681

البُعد الإستراتيجيّ للقضايا الجنائية في المحاكم المحلية الغربية كوبلنز مثالاً

حجم الخط
 
في بداية عام 2022، صدر الحكم بحق أنور رسلان في محكمة كوبلنز في ألمانيا، حيث أُدين رسلان بجرائم ضد الإنسانية. وقد أثار هذا الحكم الكثير من النقاش حول العوائد القانونية والسياسية الممكنة لمثل هذا الحكم، خاصة أنه لا يستهدف النظام بمكوّناته ومؤسساته، وإنما هو موجَّه لشخص واحد، في مرتبة منخفضة نسبياً ضِمن التراتبية العسكرية والأمنية للنظام.       
 
وقبل أن نعرض للعوائد التي تحققت أو التي يمكن أن تتحقق بناءً على هذا الحكم، قانونياً وسياسياً، لا بُدّ من توضيح قضيتين رئيسيتين ضروريتين لفهم طبيعة العوائد التي سنقوم بعرضها.        
 
القضية الأولى أنه لا يمكن محاكمة الدول ولا يمكن إدانتها جنائياً، فمحاسبة النظام السياسي لأي دولة قضائياً تتم بأحد الطريقين:        
 
 
• إما محاسبة أفراد من النظام جنائياً، وهذا ما حدث في قضية رسلان.        
 
• أو تحميل النظام ككل المسؤولية أو ما يسمى بمسؤولية الدولة، وفي هذه الحالة فالقضية لا تكون جنائية (مثال التحرُّك الهولندي-الكندي في شهر آذار/ مارس لمحاسبة سورية على خروقاتها لاتفاقية مناهضة التعذيب، وهو تحرُّك يستهدف النظام ككل، ولكنه ليس جنائياً بالمعنى الضيق، لأنه لا يمكن فعلياً الحكم جنائياً على نظام كامل ووضعه بالسجن).        
 
 
القضية الثانية، أن القضية، ومع أنها مُوجَّهة ضد شخص، إلا أن التعليل القانوني للقضاة قانونياً هو بنفس أهمية الحكم، ويمكن الاستعانة بهذا التعليل قضائياً وحقوقياً وإستراتيجياً.        
 
التعليل القانوني، والذي نحن بانتظار نسخته المكتوبة الموسَّعة، تحدث بشكل مفصَّل عن أن رسلان كان يعمل ضِمن منظومة أكبر ، وتحدث عن قمع النظام وسَرْدِيَّة الربيع العربي في سورية، وعن كثير من القضايا غير المرتبطة بشكل مباشر برسلان، وهو ما كان واضحاً في البيان الصحافي الذي تم إصداره من قِبل المحكمة. فهنالك إشارة واضحة جداً إلى دور النظام في هذه الجرائم. كما أن التهم الموجَّهة ضدّ رسلان هي ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والتي بتعريفها القانوني لا يمكن أن تُرتكَب من قِبل فرد على حِدَةٍ، بل هي جزء من عمل ممنهج وواسع النطاق، على خلاف جريمة الحرب، والتي يمكن أن تُرتكَب من قِبل شخص بمعزل عن النظام ككل. وبالتالي فالإدانة بجريمة ضد الإنسانية تحمل في توصيفها إدانةً للنظام الذي عمل رسلان من خلاله.        
 
 
العوائد المترتِّبة على الحكم        
 
بناءً على ما ذُكِر أعلاه، فإنّ الحكم الصادر بحق رسلان يُرتب جملةً من العوائد القانونية والسياسية المهمة، والتي يمكن استعراضها كما يلي:        
 
 
أولاً، المساعدة في محاربة التطبيع: الحكم صدر من محكمة مستقلة تدين وتوضِّح انتهاكات النظام في وقت كان يحاول فيه العديد من الدول التطبيع مع هذا النظام وفتح خطوط معه كطرف سياسي، وليس مُرتكِباً لجرائم دولية. وهذا لا يعني طبعاً أن قرار المحكمة سيُوقف المطبّعين، ولكنه يعطي حُجة أقوى لمن يريد مُواجَهة التطبيع، من خلال الإشارة إلى قرار محكمة بدلاً من التقارير الدولية.        
 
 
ثانياً، المساعدة في مُحارَبة التضليل: منذ اليوم الأول، يحاول الكثير من الدول التضليلَ بأن ما يحدث في سورية ليس ارتكاباً لجرائم وإنما هي أعمال عسكرية مشروعة في الحرب. ساعَد القرار في تفنيد هذا الأمر كونه صدر من محكمة ألمانية (ألمانيا دولة مختلفة عن باقي الدول الأوروبية؛ لأنها ليست ضِمن الدول الإمبريالية في المنطقة، واسمها ليس مرتبطاً بأحداث في العراق أو أفغانستان وغيرها) فهذا القرار يساعد على محاربة التضليل الإعلامي الذي تقوم به روسيا والنظام. وفعلاً، في اجتماع لمجلس الأمن حول سورية، ذُكرت محكمة كوبلنز على مسامع أكثر من ثلاثين دولة.        
 
 
ثالثاً، إعادة سورية إلى الإعلام: أعاد هذا الحكم سورية إلى الواجهة إعلامياً، بعد غياب طويل، حيث قامت أغلب وسائل الإعلام العالمية والدولية بتغطية هذا الخبر بشكل مفصَّل، مما أعاد سورية بملفها الحقوقي على الطاولة.        
 
 
رابعاً، دعم سياسي دولي: أعاد هذا القرار أيضاً سورية على الطاولة سياسياً. فبعد صدور القرار بادرت الكثير من الدول إلى الترحيب بهذا القرار، مثلاً في بريطانيا تحدث وزير الشرق الأوسط وهو نائب وزير الخارجية على تويتر ورحب بهذا القرار، قائلاً: إن على الدول محاسبة النظام. وقام الاتحاد الأوروبي أيضاً بالتحدث عن محاسبة النظام. سياسياً، أعطى هذا الحكم بعض الدول القدرة على إعادة الملف السياسي السوري إلى الطاولة.       
 
 
خامساً، التذكير بأن المشكلة السياسية في سورية جوهرها حقوقي: إن أحد أهم الفوائد أيضاً من هذا القرار أنه وضَّح أن جزءاً كبيراً من المشكلة السياسية في سورية حقوقي وربط بين الملفين. في الفترة الماضية، اختزلت العملية السياسية في سورية بلجنة دستورية؛ بينما أعاد هذا القرار التوضيح في المحافل الدولية والسورية أن المشكلة الأساسية في سورية -كون التعليل تحدث عن انطلاق الاحتجاجات في البداية إلى يوم محاكمة أنور- هي مشكلة حقوقية تتعلق بنظام إجرامي وليس بسبب خلافات داخلية (على قانون الضرائب ومادة في الدستور)؛ أي أنه خلال عشر سنوات من محاولة التعتيم وتَسْيِيس الملف الحقوقي أعاد هذا القرار وضع الملف الحقوقي أمام العملية السياسية.        
 
 
سادساً، المساعدة في محاربة عملية الإعادة القسرية للاجئين: يمكن أن يكون هذا القرار شاهداً على موضوع التعذيب المُمنهَج الذي يحدث في سورية، وبالتالي يمكن أن يُستدلّ بهذا القرار لمواجهة الإعادة القسرية للاجئين إلى مناطق يُمكن أن يتعرضوا فيها للتعذيب.        
 
سابعاً: فتح ملفات أخرى: إن هذا القرار لديه القدرة على تشجيع دول أخرى وأجهزة شرطية وقضائية أخرى للتحرك لمحاسبة المنتهكين في سورية، والاستعانة بأدلة مشابهة؛ لأن هذا القرار أعطى مصداقية لكثير من الأدلة التي جُمعت في السياق السوري.        
 
 
ثامناً، محاربة التعتيم وتكميم الأفواه: عَبْر العقود الماضية، عمد النظام إلى تكميم أفواه السوريين وحرمانهم من النقاش. وقد ساهم هذا القرار في فتح نقاشات مهمة جداً بين السوريين والتي حُرموا منها لفترة طويلة. كما أعطى الأشخاص الذين تعمد النظام قمعهم وإسكاتهم خلال السنوات الماضية الجرأة على الإدلاء بشهاداتهم ضده وضد عناصره.        
 
 
تاسعاً، دور السوريين في الخارج: أبرز هذا القرار أيضاً دور الجاليات في الوضع الحالي، وهو دور مهم جداً للضغط الحقوقي على النظام. فهؤلاء الذين هجَّرهم النظام السوري لهم دور مُهِمّ كشهود ودَوْر كمحرّكين لهذه الشكاوى مع الشرطة، وكفاعلين سياسيين في القوانين والسياسات المحلية وكصانعين للرأي العامّ لتواجُدهم في الجامعات وفي المراكز المجتمعية، فمن المهم في المرحلة القادمة التركيز على دور الجاليات.       
 
 
عاشراً، تثبيت الأدلة: للوصول إلى الإدانة، قامت المحكمة بمراجعة الكثير من الأدلة والشهود، مثل صور قيصر. وبالتالي فنَّدت المحكمة أي شك في هذه الأدلة، مما سيساعد في استخدامها في محافل أخرى.       
 
 
إن كل هذه العوائد تعتمد على ما تقوم به المؤسسات السورية من تحريك لمثل هذا الملف واستخدامه من أجل تسليط الضوء على الانتهاكات، واستخدامه إستراتيجياً.        
 
لم يكن مطلوباً من محكمة "كوبلنز" أن تساعد في إسقاط النظام أو تغيير نظام دكتاتوري، فهي محكمة ألمانية تناولت قضية بعينها تتعلق بشخص يقع تحت سلطتها القانونية، ولكن المحكمة خرجت بقرار قوي يجب استخدامه بشكل حقوقي قانوني.       
 
والمتابع لكيفية ردود النظام على آليات الأمم المتحدة، والتي تحاول أن تضغط عليه حقوقياً، يرى أنه يقوم بالرد عليها، وتقديم أدلته وأعذاره، وإنْ كانت في معظمها قائمة على التضليل والأكاذيب، ولكنه مع ذلك يجاوب على هذه الآليات بلغة قانونية. ويُلاحَظ اهتمام النظام بالملف القانوني الدولي بما حصل في الاستعراض الدوري الشامل لملف حقوق الإنسان في سورية في نهاية شهر كانون الثاني/ يناير 2022، عندما أرسل النظام بشار الجعفري نائب وزير الخارجية لهذا الاجتماع، ولم تترك حضوره لبعثتها الدائمة في جنيف.        
 
إذاً من الواضح أن النظام مهتمّ للغاية بالتعامُل مع مثل هذه التحرُّكات القانونية، ومن باب أولى أن يكون ضحاياه كذلك.        
 
جميع المقالات والاوراق التي تنشر في قسم آراء تعبر عن رأي كتابها ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر المركز.       

الباحثون