أثر الحروب الصليبية على العلاقات السُّنّيّة – الشيعيّة
حجم الخط
عرابي عبد الحي عرابي
مقدّمة:
تعدّ حقبة الحروب الصليبية ذات الأهمّيّة البالغة في التاريخ الإسلاميّ والغربيّ، حيث تمثّل قرابة مئتي سنة من الاحتكاك المباشر عسكريًّا وفكريًّا بين العالم الغربي والإسلامي في تلك الآونة، ومن ثَمّ فإنّ فهمها يعطي صورة صحيحة عن حقيقة الخلفيّة التاريخيّة لقضايا الصراع بين الشرق والغرب بما تمثّله هذه الحروب من ركيزةٍ أولى في العلاقات التي تأسّست أثناء تلك الحملات بين حكّام الطرفين، وعلى الرغم من أهميّة تلك الحقبة وغزارة ما كُتِبَ عنها إلا أنّ الدراسات التي تتناولها سوسيولوجيًّا ما تزال شحيحة، حيث اتّجهت أغلب الكتابات المخصصة لتناول أحداث تلك "الحملات" إلى العرض والسرد دون التعمّق في التحليل الذي يقرأ تلك الحروب بأسبابها التفاعليّة لا قراءتها من المنظور "الدينيّ" فحسب.
تبرز دراسة "أثر الحروب الصليبيّة على العلاقات السنّيّة الشيعيّة" التي ألّفها د. محمد بن المختار الشنقيطي لتكون ركيزة أولى في سدّ نقص هذه الثغرة المعرفيّة، حيث عَمَد كاتبها -في إطار إعداده لأطروحة الدكتوراة- إلى اختيار هذه القضيّة لتحقيق ترميمٍ فعليٍّ للذاكرة السنّية – الشيعيّة على نحوٍ متوازٍ وذلك لدراسة الأسباب التي أدّت إلى انحسار التشيُّع من منطقة بلاد الشام ومصر وتحوّله لاحقًا إلى بلاد فارس، وأثر هذه الحقبة التي امتدّت على بساط مئتي سنةٍ تقريبًا في تحقُّق هذا الأمر.
بنيَة الدراسة وفرضيّاتها:
تتكوّن الدراسة -في نصّها العربيّ- من مدخلٍ وفصول خمسةٍ، عُنوِن المدخل بـ "حُمَّى التاريخ: صراع الذاكرات حول الحروب الصليبيّة" قدّم الشنقيطي فيه خلاصةً للرسالة، وأوضح أن إسهام الحروب الصليبية في انحسار التشيع في مصر والشام هي فرضيّتها الرئيسة، وأنّ هذه الحروب فرّقت بين الطائفتين على المدى القريب في بداياتها، إلا أنها ما لبثت أن جمعتهم ضمن خندقٍ واحدٍ في مواجهة الصليبيين على المدى البعيد، لينتقل الفصل الأول الموسوم بـ "القافلة التركيّة: الحروب الصليبية ومقاومتها والإحياء السني" إلى بيان الأثر الذي استجلبه صعود الأتراك قوّة سياسيّة في الشرق والفرنجة في الغرب من التصادُم على الأرض الوسطى تحت غطاء الحملات الصليبيّة، حيث يرى الشنقيطي أنّ هذه الحروب لم تكن صراعًا بين المسلمين والمسيحيّين وإنما صراعاً تصادُميًّا سبّبته اختلاف الوجهات بين القوى الناشئة من الطرفين، فمن جهة الشرق كانت جموع "الأتراك" تتوسّع في هجراتٍ متواليةٍ نحو الغرب، بينما كان الفرنجة الصاعدون على سلّم القوى الناشئة يتمدّدون من شمال أوروبا وغربها نحو الشرق، ممّا جعل التصادم بين هذه القوى المتدافعة أمرًا حتميًّا، ولعلّ موقعة "ملاذ كرت" التي حدثت في قلب الأناضول عام 1071 ونتج عنها تدمير الجيش البيزنطي كانت أهمّ الأسباب التي شدّت أنظار الغرب لإيقاف تقدّم القوّة التركيّة الصاعدة والتي تصدّى لها بدايةً الفرنج المتوثبون للسيطرة والمجد.
لقد كان أغلب القادة البارزين في كسر الحملات الصليبية ومقاومتها من "الأتراك" كالأرتقيين والزنكيين والمماليك، كما يستدل الباحث على أن المسلمين القدامى من "العرب" والمسيحيين القدامى من "البيزنطيين" لم يكونوا جزءًا أساسيًّا في إدارة هذه الحروب وإنهائها وإنّما كانت تحرّكاتهم فيها عرضًا لا أصلاً ضمن دوائر أوسع نظرًا لوقوع تلك الحروب في أراضيهم؛ كما تفترض الدراسة أن انحسار التشيُّع في حقبة الحروب الصليبية كان أثرًا لا مفرّ منه نظرًا لقيام الأتراك السنة بقيادة الحملات المستمرّة لكسر الإمارات الصليبيّة على امتداد واسع من بلاد الشام ومصر، وقد اعتبر الشنقيطي ذلك كلّه جزءًا من مسار "القافلة التركية" المتجهة غربا طيلة تاريخها، بدايةً من نزوحهم الأوّل من موطنهم الأصليّ غرب الصين وتمددهم إلى فارس فالعراق، فالأناضول فمصر، ثمّ محاولة الانضمام إلى الاتحاد الأوربي اليوم، وأنه ينبغي قراءة ذلك باعتباره جزءًا من "اللحظة التركية" في تاريخ الإسلام التي امتدت ثمانية قرون ونصف، من تتويج أول سلطان سلجوقي ببغداد عام 1055 إلى عزل آخر سلطان عثماني عام 1909.
عمد الشنقيطي إلى بحث "الخريطة الطائفية عشية الحروب الصليبية" في الفصل الثاني، حيث ابتدأه بالتأكيد على أنّ أزمة الحضارة الإسلامية تعود في أساسها إلى الأزمة الدستورية التي تضرب جوهرها وأنّ الصراع السني الشيعي محضُ عرَضٍ لهذه الأزمة، ليعرّج إثر ذلك لتقديم صورة عن التقسيم الطائفيّ في القرن العاشر والحادي عشر الميلاديّين في مصر والشام والعراق، بناء على استقراء واسع لما كتبه المؤرخون والجغرافيّون والرحّالة المسلمون، كالرحّالة ياقوت الحموي وابن جبير والمقدسيّ، وموضّحًا فيه أنّ السنّة والشيعة تقاسموا السلطة في العراق فترات متناوبة، إلا أن الصعود السنّي الأخير على يد السلاجقة أسقط الدولة البويهيّة نهائيًّا، كما أشار إلى أنّ القاعدة الشعبية في مصر كانت سنّيّة إلا أن حكمها كان بيد نخبة شيعيّة، واستمر الحال كذلك طيلة فترة نشوئها وتطوّرها وانحسارها، بينما كانت الشام -برأي الباحث- ذات أغلبيّة شيعيّة يقودُها حكّام سنّة منذ سقوط الدول الشيعيّة المتعاقبة كـ"الدولة الحمدانية والعُقَيليّة والمرداسية"، وقد أفرد المؤلف الفصلَ الثالث لبحث اتحاد السنة والشيعة الإمامية في مواجهة الفرنج، مبيّنًا أنّ أهل السنة والشيعة الإماميّة قاتلوا الصليبيّين معًا في معارك متعددة على عكس ما يروّج ضمن "الخطاب الطائفي" بحسب تعبيره، وقدّم نموذج إمارة طرابلس الشيعية بقيادة فخر الملك بن عمار مثالاً عن ذلك، فقد كان "ابن عمار" أميرًا إماميًّا قاوم حصار الصليبيين لطرابلس سبع سنين بدعم من محيطه السنّي في دمشق وحمص وحلب والموصل، كما استشهد بنموذج القاضي الإماميّ أبي الفضل بن الخشّاب الذي استجلب جيشًا سنّيًّا تُركيًّا من ماردين لخوض "معركة سرمدا" أو "حقل الدم" -كما في الأدبيّات الغربية- الحاسمة ضد القوّات الصليبية، إضافة إلى قتال سنّة دمشق وحمص مع شيعة عسقلان أكثر من مرة ضدّ الفرنج وعلاقة صلاح الدين الأيوبي القوية بشيعة حلبَ ودمشقَ الإماميّين، الأمر الذي جعل ابن أبي طيّ المؤرخ الإمامي يكتب لصلاح الدين سيرته الأولى في حياته.
أما الفصل الرابع فقد وضعه المؤلف تحت عنوان: "قبول ما ليس منه بدٌّ: السنّة والشيعية الإسماعيليّة في مواجهة الفرنج" حيث أوضح فيه الباحث أن موقف الشيعة الإسماعيليّة من الصليبيّين مرّ بعدة مراحل فحاول الشقّ الفاطمي من الشيعة الإسماعيلية الحاكم لمصر آنذاك استغلال وجود الصليبيّين للتوسّع على حساب السنة إلا أن الضعف الذي أصاب الدولة الفاطميّة والهجمات التي شنّها الصليبيون عليها دفعتهم لتسليم مصر لقيادة نور الدين زنكي السنية بعد أن أصبحت مصر كلّها على شفا السقوط في أيدي الفرنج. وفي المقابل فقد كان الفرع النزاري من الإسماعيليّين في الشام -الحشّاشون تاريخيًّا- يؤدون دورًا دمويًّا ومخرّبًا للمقاومة السنية وذلك من خلال اغتيال قيادات بارزةٍ من السنّة أو الإماميّة المتعاونين معهم في مقاومة الصليبيين، إلا أن هذا الفرع دخل أخيرًا في تفاهم ضمنيّ مع صلاح الدين وجّههم لاستهداف القيادات الصليبيّة.
انتقل المؤلف في الفصل الخامس إلى دراسة صورة "صلاح الدين في الحِجاج السني الشيعي" وذلك من خلال استنطاق الماضي ضمن الحاضر، واستجلاء التاريخ من خلال الذاكرة الجمعيّة، حيث تُستخدَم صورة "صلاح الدين" في الذهنيّة السنّيّة والشيعيّة اليوم مثالًا على الذاكرةِ المتفجّرة، فيراه أهل السنّة بطلًا مجاهدًا ومسلمًا مثاليًا استطاع تحرير القدس بعد طول احتلال وتوحيد الأمة بعد طول تفكّك، بينما يراه الشيعة رجلاً متآمرًا لا مبدأ له، يخون ثقة جنوده ويتصالح مع الصليبيّين بهدف تدمير دولة الفاطميين والاستحواذ عليها، وذلك في مفارقةٍ عجيبةٍ تدل على مستوى التناقض الذي يمكن أن تصل إليه الدراسات التاريخيّة المشحونة بالمنهج الحجاجيّ طائفيًّا. وللتدليل على ذلك فقد حلّل الباحث كتاباتٍ معاصرةً سنّيّة وشيعيّة لبيان هذا الانشطار في الذاكرة التاريخية، ككتابات "محمد علي الصلابي" من الجانب السنّي، و"حسن الأمين" من الجانب الشيعي.
أوّلاً: صعود الأضداد، البحث عن التفسير في حقيبة ابن خلدون
يرى الكاتب في صعود "الأتراك" من جهة الشرق، والنورمانديّين الجرمان "الفرنجة" من جهة الغرب، أمرًا في غاية الأهميّة على ساحة الأحداث البينيّة والعالميّة، حيث استطاع الأتراك من خلال مقاومتهم المديدة للحملات الصليبيّة "صيانة حدود الإسلام من اختراقات الأعداء، وقمع الطوائف المبتدعة كالشيعة الإسماعيليّة ورعاية الإحياء السُنّي في مجالات فكرية متنوّعة كالعقائد والحديث والفقه ، كما كان للفرنجة في الجهة الأخرى إسهامات لا تقل عن شكل الإسهام التركي، وذلك من خلال الخدمات التي قدموها للمسيحيّة في تلك الحقبة
وعلى الرغم من أن كثيرًا من المصادر المعاصرة تغفل دور "الأتراك" في مواجهة الحروب الصليبيّة إلا أن المصادر القديمة تعترف لهم بفضلهم في "الدفاع عن بيضة الإسلام" أمام العاصفة الصليبية أوّلاً والاجتياح المغولي لاحقًا
يعتمد المؤلف على "ابن خلدون" لتفسير القوة الاندفاعية لدى الأتراك والتي منحتهم القدرة على المناورة ومواجهة تلك الحملات في ظل تخاذل "مؤسسة الخلافة العباسيّة" عن الوقوف في وجهها، حيث يعيد ابن خلدون الاندفاع في القوى الصاعدة إلى الفضائل "البدوية" التي يتحلّون بها، فعادةً ما يكونون -أوَّلاً- "أهل فطرة" تنطبع فيهم الرسالات السماويّة بسهولة ويسر، بينما يعاني أهل الحضر من فنون الملاذّ وعوائد الترف والعكوف على شهوات الدنيا كما أنّ أهل البدو والترحال -ثانيًا- يمتلكون روحًا عسكريّة واعتدادًا بالنفس يمنعهم من قبول الذُّلّ والخضوع للهوان، ولذا يصفهم ابن خلدون بأنهم أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر، فشتّان بين امرئ ألقى جانبه إلى خطر الحروب، وآخر ألقى نفسه على مهاد النعيم والترف كما أنّهم -ثالثًا- "ذوو عصبيّة اجتماعيّة قويّة، تستند إلى رابط قرابةٍ مشترك "حقيقيّ أو وهميّ".
لقد نسج ابن خلدون من هذه الثلاثيّة نظريّته في فهم دورة "الحضارة" أو "العمران" ونشوء الدول وانهيارها على الصورة التي كانت سائدة في زمانه وما سبق ذلك من تاريخ، وعليه فإنّه يرى أن الدولة أو الحضارة حين تنشأ فإنّه لا بد لها من مادّة بدويّة الأصل توقِدُ بدايتها، وكذلك يقال عن كل حضارة توشك أن تغيب شمسها فتتجدّد دماؤها بعوامل داخليّة تعيد عنفوانها إليها، وذلك كما في مثال المسلمين في العصر الوسيط، فقد كان العرب المادّة الأولى لنشوء حضارة الإسلام، إلا أنه لم يبق لهم دورٌ محوريٌّ في عهد ذبول الخلافة العباسية، وإنما كان الدور الذي أعاد مجد الدولة العبّاسية مناطاً بالعرق التركي الذي مكّن الدولة من الانبعاث بعد كبوتها وتكالب الأعداء عليها
تمثّل آراء ابن خلدون -برأي المؤلف- نظريّةً ثمينةً في فهم التحوّل الذي مرّ به الشعب التركي والجرماني، بدءًا من حالتهما "الفطرية" وغاراتهما على حدود العالمين الإسلاميّ والمسيحي ثم اعتناق هذين الشعبين لهاتين الديانتين ثم سيطرة الفرنجة على العالم المسيحي وسيطرة الترك على العالم الإسلامي، ومن ثمّ المواجهة الدامية بين الشعبين في منطقة حوض المتوسط تحت راية الإسلام والمسيحيّة، وهنا لا بد من ذكر رأي ابن خلدون بأنّ الشعوب "المتوحّشة" -باصطلاحه- لا تستطيع الإسهام في الحضارة بشكل فعّال إلا إذا اكتسبت هويّة جديدةً أرحب وأعمق من محض الإحساس بانتماء إلى شيء أو رابط مشترك، إذ إن شرط امتلاك هذه الشعوب لأهليّة الحضارة هو التفافها حول دعوة دينيّة برأيه، وقد اكتسبها العرب بدايةً بظهور الإسلام، واكتسبها الأتراك بدخولهم الجماعيّ إليه في القرن الرابع الهجريّ، وكذلك اكتسبت القبائل الجرمانيّة وحدتها ورسالتها الكونيّة باعتناقها للديانة المسيحيّة
لقد ابتدأ الفرنجة الحروب الصليبيّة في فترة وصلت فيها "القافلة التركية" إلى أرض الأناضول بعد نزوح مستمر لقرون استقرّ أخيرًا على الحدود الشرقيّة للإمبراطوريّة البيزنطيّة التي باتت مهدّدة بالاجتياح من قِبَل السلاجقة بعد كسرهم قوّاتها في معركة "ملاذكرت" عام 1071، وبالمثل فقد كان اعتناق قبائل الفايكينغ والماغيار وغيرهم من قبائل الجرمانِ المسيحيّةَ وسيطرتهم على الإمبراطوريّة الرومانيّة من داخلها وتوجههم إلى الشرق دورًا مهمًا في كسر مناعة العالم الإسلامي من الغزو الخارجي ، ومن ثمّ فإنه لا يمكن فصل شرعيّة الأتراك في الحكم عن الدور الذي أدوه في مواجهة الاجتياح المغولي والحملات الصليبيّة، فقد منحت تلك المقاومة الأتراك ثقة الخلفاء "العباسيين" وتأييد العلماء السنّة الذين رأوا فيهم تيّارًا سنّيًّا شديد الشراسة في دفاعه عن العقيدة الإسلامية، كما أكسبت تلك الحملات ذاتها الفرنجةَ ثقة البابوات المسيحيين والجماهير الأوروبيّة لدفاعهم عن المقدّسات المسيحيّة وسعيهم لوضع القدس في أيدٍ مسيحيّة بعد حكم الإسلام لها لعدّة قرون .
لقد ساد في الدراسات التاريخيّة تصوير الحروب الصليبيّة بصورة الصراع الكوني بين الإسلام والمسيحيّة، بمعنى الصراع بين تصوّرين للعالم يجهد كل منهما للسيطرة المطلقة على الآخر، بيد أن النظر إلى تلك الحروب بمنظار سوسيولوجيا التفاعلات بين القوى التي شكّلت خارطة العالم آنذاك تؤدّي دورًا أدقّ في فهمها وتفهيمها، حيث يمكن بذلك النظر إلى قضيّة انحسار التشيع وتمدُّد المذهب السني في بلاد الشام على أنه أثر طبيعي مقترنٌ بقضيّة المقاومة التي قادها الأتراك، كما أن حركة المقاومة ذاتها إنما جاءت تبعًا لأسلمة الأتراك و"تتريك الإسلام" بحسب تعبير المؤلف، وذلك بالنظر إلى الشعوب التركية التي قادت حملة المقاومة على اختلاف انتماءاتها كالسلاجقة والأراتقة والزنكيين والمماليك
استطاع الأتراك ضمان وجودهم في قلب الدولة العباسية خلال النصف الأول من القرن الهجري، وذلك حين استجلب الخليفة "المعتصم بالله" أعدادًا هائلة من المماليك التُّرك وجعلهم جنودًا وحرسًا شخصيًّا له، وتبعه الخلفاء من بعده بغية التخفيف من الهيمنة "الفارسية" على بيروقراطيّة الدولة، وسرعان ما تغلغلت عناصر تركية في الدولة العباسية، حيث استطاعت الأسرة الطولونية والإخشيدية حكم مصر والشام قبيل ظهور الدولة الفاطمية، إلا أنه يلاحَظُ أن هذه العناصر تعرّبت كاملاً وذابت في المجتمعات العربية آنذاك .
تلت هذه المرحلة مرحلة أخرى من الريادة التركية الحقيقية -غير المتعرّبة- في المجتمعات الإسلامية، وذلك بتحوّل السلاجقة الأتراك إلى قوميّة مدافعة عن الإسلام، فاستطاعت القضاء على الدولة البويهية التي حكمت بغداد وخراسان قرابة مئة سنة، مما ثبّت شرعيتهم في الحضور السياسي والحكم من خلال قوتهم العسكرية، وأعدادهم الوافرة، وولائهم للدولة العباسيّة
وعلى الرغم من انحسار سلطة الفرنجة عن البلاد الإسلامية إلا أن أهم نتائجها كان إيقاف الأتراك عن السيطرة على كامل الإمبراطورية البيزنطية مدة أربعة قرون ومنعهم بذلك من التغلغل غرب أوروبا، وبذلك منعوا "القافلة التركية" من مواصلة سيرها السريع نحو الغرب .
لقد كان ظهور الإحياء الديني على يد الوزير السلجوقي حسين الطوسي المعروف بـ نظام الملك ثمرة واضحةً للاستقرار الذي رسّخه السلاجقة في قلب الدولة العباسيّة وأطرافها، فقد أسّس نظام الملك سلسلة من المدارس والجامعات التي كان غايتها ترسيخ المذهب السني ومحاربة العقائد الباطنية التي تدعو لها الفرقة الإسماعيلية، حيث اعتبرهم أشد خطرا على الإسلام من الشيعة الإماميّة، مما دفع الإسماعيليين لاغتياله فكان أوّل ضحاياهم التي نفّذها فدائيّوهم
تحوّلات القطيعة والتحالف... نظرةٌ في علاقات السنّة والشيعة
اتّصفت الأحوال السياسية أثناء الحروب الصليبية في بلاد الشام بالضعف والارتباك الشديد، نظرًا للضعف والتفكّك والتشرذُم الذي أصاب الإمارات القائمة آنذاك، وممّا يشير إلى ذلك كتاباتُ المؤرخين الموثوقين في تلك الحقبة كابن القلانسي وابن الأثير وابن العديم، حيث أشارت العديد من نصوصهم إلى انتشار التواطؤ مع العدو الصليبي بين الأمراء والقادة بهدف إقصاء منافسين لهم أو البقاء على رأس حكمهم والاستئمان على أموالهم ، مما اضطر القادة الطامحين إلى استعادة الأرض المحتلة من الأعداء كنور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي إلى مقاتلة بعضهم ومهادنة بعضهم الآخر .
يشير المؤلف في سياق دراسته لأحوال الخارطة الطائفية في بلاد الشام عشية الحروب الصليبية إلى أن الخلاف بين السنة والشيعة بدأ سياسيًّا ثم تطوّر ليصبح اعتقاديًّا، ويميل الحجاج السني والشيعي إلى اعتبار مصطلح "التسنّن" و"التشيّع" مرادفًا للإسلام وتقديم الآخر مخالفًا يستحدث بدعة خارجة عن روح الإسلام وأصله ، وقد تفاوتت قوّة التشيّع في التاريخ الإسلامي إلى أن تأسّست مذاهبه الرسمية واستحالته من ثَمّ إلى عقيدة رسميّة تحميه مؤسساتٌ من الفقهاء والمنظّرين وأخيرًا الممالك الناشئة في بغداد وحلب ودمشق وشمال أفريقية في القرن الرابع الهجري، حيث صاغ المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون مصطلح القرن الإسماعيلي على القرن الرابع الهجري، فهو القرن الذي أسس في مطلعه الإسماعيليون الدولة الفاطميّة، وهو القرن الذي ألف فيه القاضي النعمان أعماله الاعتقادية الإسماعيليّة، كما يجدر الإشارة إلى أن هذا القرن شهد سيطرة الإسماعيليين على القاهرة إضافة إلى نشوء الدويلة البويهية الإماميّة في بغداد التي أعلنت للمرة الأولى في عام 358ه مراسم يوم عاشوراء العلنيّة واستمرت في سيطرتها الفعلية على العراق وغرب خراسان قرابة مئة عام إضافة إلى ظهور عدة إمارات شيعية أخرى في المنطقة كالإمارة الحمدانية في حلب
لم تدم الرياح كما تشتهي سفينة الإمامية والإسماعيليّة فقد كانت القوة مائلة في تلك الحقبة إلى طرف السلاجقة الذين استطاعوا السيطرة على مجريات الحكم في العاصمة العباسيّة، وبدؤوا يقودون الانعطافة ضد التشيّع لصالح التسنّن ، وقد رافق تلك الانعطافة طعن مباشر من قِبل الخليفة القادر بالله بنسب الأسرة العُبَيديّة "الفاطمية" الحاكميّة في مصر، وأصدر بيانًا يتهمهم بانتحال النسب إلى الأسرة النبوية وقّع عليه جمعٌ من علماء السنة والشيعة، إلا أن هذا الطعن كان محطّ انتقاد لدى بعض المؤرخين كابن الأثير وابن خلدون لاحقًا كما تحالف مع الغزنويين لدعمهم في حربهم ضد الشيعة في خراسان، وقد سار القائم بالله على خطى والده القادر فعقد حلفه مع السلاجقة ودعاهم لقيادة البلاد الإسلامية من داخل بغداد، وسعت السلاجقة من خلال "الوزير نظام الملك" إلى تثبيت التسنّن العام مذهبًا رسميًّا في الأراضي التي يسيطرون عليها وذلك في مواجهة منهم للتشيع عامّة والإسماعيلي خاصة.
وعلى الرغم من الوحدة الظاهرية التي يتسم بها مصطلح "أهل السنة" إلا أن تيّار أهل الأثر أو الحنابلة كان شديد الضيق بالمخالفين من المدارس الأخرى، فقاد عامة الحنابلة فتنة عارمة في بغداد عُرفت في التاريخ باسم "فتنة الطبري" والتي آلت إلى دفن المؤرخ والمفسر "الطبري" في بيته إثر وفاته خشية نبش قبره، وقد كان مردّ ذلك إلى الإقصاء الذي عمد إليه عوامّ الحنابلة في لحظات قوّة مدرستهم داخل بغداد ، وهو ما لا نراه عند الأشاعرة الذين حاولوا احتواء الشيعة الإماميّة مقابل رفضهم التعامل مع الإسماعيلية الذين اعتبروهم ملاحدة يظهرون الاعتقاد الشيعي ويستبطنون كفرًا محضًا، كما عبر عن ذلك الإمام الغزالي في كتابه فضائح الباطنية .
وعلى الرغم من السطوة العددية للحنابلة في بغداد فقد كانت أعداد الشيعة الإماميّة فيها غفيرة، ومن ثمّ فقد كانت المدينة غارقة في فتن متتالية بين الفريقين طيلة الفترة التي سبقت الحروب الصليبية .
كان التشيّع في تلك الآونة قد انتهى إلى ثلاث فرق كبرى هي الزيدية والإسماعيلية والإماميّة، وقد كانت الإسماعيلة منقسمة على ذاتها قبل الحروب الصليبية بنحو عشرين سنة، فظهرت الإسماعيلية المستعلية التي عُرِفت باسم الفاطميّين، كما ظهرت فرقة النزاريّة أو الحشيشيّة "الحشّاشون" داخل الإسماعيليّة، أما الزيدية فكان وجودهم في اليمن بعيدًا عن أرض الصراع الإسلامي الصليبي
لقد كان لهذه الاختلافات والتحزّبات داخل التشيع والتسنن آثارٌ كبيرة على العلاقات السنية الشيعيّة أيّام الحروب الصليبيّة، وقد أسهم نشوء هذا التفرق في بغداد "قلب الدولة العباسيّة" في إنهاك الجسد السياسيّ والفكريّ للوجود الإسلاميّ؛ ولذا فإن أيّ دراسة جدّيّة لتاريخ الخارطة الطائفيّة الإسلاميّة لا بد أن تركّز على بغداد التي كانت مصنع المذاهب والأفكار المذهبية والسياسية التي ساحت في البلاد الإسلاميّة الأخرى، وعليه فإن الشقاق بين السنة والشيعة في العراق كان الخلفيّةَ التي تصدّعت بسببها الحواضر الإسلامية في فارس والشام ومصر وشمال أفريقيا، ولذا لا عجب أن نجد في العراق جذور الأفكار الحضاريّة الأولى والطائفية أيضًا في الثقافة الإسلاميّة ، وعلى الرغم من تأرجح السيطرة الشيعية السنيّة في العراق بين البويهيين وخصومهم من القادة السنّة الأقوياء إلا أن البويهيين ذاتهم كانوا حاجزًا مانعًا من تحقيق الفاطميين حلمهم بالسيطرة على الخلافة في بغداد، ممّا يدل على أن الهوّة السياسيّة بين الجماعات الشيعية لم تكن تقلّ شأنًا عن الهوّة بين السنة والشيعة ويوضح هذا الشقاق ذلك الطموح الذي أراد عضد الدولة البويهي -أوّل سلاطين الأسرة البويهية- من خلاله إخضاع الفاطميين لسلطة العباسيين إلا أن وفاته حالت دون تحقيق هذا الحلم وقد كان ذلك قبيل تحوّل البويهيين من المذهب الزيديّ إلى التشيّع الإماميّ تماهيًا مع الغالب في شيعة العراق آنذاك، ثم ما لبثت الأسرة البويهيّة أن انقلبت إلى عداء صريح مع التسنّن البغدادي ووقوفهم مع الشيعة جنبًا إلى جنب في أحداث الفتن المتكررة في بغداد آنذاك إلا أن ضعف البويهيين في أرض العراق قابله صعود مستمر لقوة الفاطميين الذين امتدت دولتهم إلى ما يزيد عن قرنين ونصف من الزمان، فاستطاعوا حكم الأراضي المطلة على شرق البحر المتوسط وجنوبه كلها، كما توسّعت هذه الدولة إلى أن استطاعت السيطرة مدة لا بأس بها من الزمان على صقلّية ومالطة ومصر والشام وأرض الحجاز، إلا أنها بدأت بالأفول مع بدايات الحروب الصليبيّة.
لم يستطع الفاطميون اختراق التشيّع في العراق، وإن كان مطمحهم في الاستيلاء على العراق هدفًا استراتيجيًّا لم يستطيعوا تحقيقه إلا من خلال فتنة "البساسيري" الشهيرة لعامٍ واحد، ممّا جعل من هذا الفشل بدايةً للتراجع السياسي الخارجي للدولة الفاطمية إضافةً إلى التراجع الداخلي للفاطميين في مصر إيديولوجيًّا وخدماتيًّا وسياسيًّا. وهذا يوضح قضيّة في غايةٍ من الأهمية، وهي أن الفاطميين كانوا على العكس من شيعة العراق طارئين على الأرض التي يسيطرون عليها، فقد ظلّ الفاطميّون في القيروان ومصر نخبة شيعية معزولة تحكم شعباً سنيًّا في عمقه، كما أنهم لم يستطيعوا إحداث أي اختراق فقهيّ أو فكريّ في البلدين بهدف ترسيخ وجودهم وضمان بقائهم فقد كانت بداية الصعود الفاطمي في مصر وشمال إفريقيّة عبارة عن استغلال ناجح لتحوّل بعض البربر إلى المذهب الإسماعيلي، الأمر الذي حوّله عبيد الله المهدي مؤسس الخلافة الفاطمية إلى مشروع دولة فهاجم مصر وسيطر على القاهرة وأتبع ذلك بالسيطرة على الحجاز ومدن على الساحل والبرّ الشاميّ إلا أنّ تحوّل سياسة الدولة الفاطمية من أيدي الخلفاء إلى يد الوزراء كان سببًا في ضعفها، إضافة إلى سياسات الخليفة الحاكم بأمر الله الذي كان اتبع سياسة التقتيل في معارضيه من علماء أهل السنة إضافة إلى تعمّده إذلال المسيحيين واليهود القابعين تحت حكمه وتعمّده هدم كنيسة القيامة في القدس ثم ادّعائه الألوهيّة أخيرًا قبيل أن يختفي في ظروف مريبة عام 411 ه
آلت الأمور إلى الفوضى العارمة في الدولة الفاطميّة عشية الحروب الصليبية، فقد تولى أربعة وخمسون مسؤولاً الوزارة في مدة خمس عشرة سنة بين "450 ه إلى 465ه" وقد تزامن هذا التراجع الإيديولوجي والضعف العسكري والسياسي للفاطميين مع صعود السلاجقة قوّةً سُنّيَّةً في المشرق لا تخفي نيّتها في تدمير الشيعة والزحف على الدولة الفاطميّة للقضاء عليها حتى قبيل وصولهم إلى بغداد .
سلمت الدولة الفاطميّة من زحف السلطان ألب أرسلان إلى أراضيها بحركة مفاجئة قام بها الإمبراطور البيزنطي الذي استغل غياب السلطان عن عاصمته في أرض إيران ليقود الجيش البيزنطي إليها بهدف احتلالها والسيطرة عليها، إلا أن السلطان الذي سمع هذا الخبر غيّر من وجهته إلى مدينة "ملاذكرت" التي يلتقي فيها مع طريق الجيش البيزنطي المتجه إلى خراسان فدارت معركة فاصلة أُسر في نهايتها الإمبراطور البيزنطي وتفكّك فيها جيشه وسمحت للأتراك بالوصول إلى الأناضول والهيمنة عليه من خلال تأسيس سلطنة سلاجقة الروم فيه ، وعليه فقد كانت عودة ألب أرسلان سببًا في إطالة عمر الدولة الفاطمية مئة عام تقريبًا كما كانت في الوقت ذاته سببًا في استجلاب الجيوش الصليبية التي رأت الإمبراطورية البيزنطية في خطَرِ التهاوي والسقوط.
بالتوازي مع هذا الحال فقد كانت بلاد الشام ترزح تحت حكم إمارات متعددة يقودها التناحر بين أمرائها، مما جعلها المتأثر الأبرز من وقوع الحملات الصليبية، فشقّت الحملات الصليبيّة طريقها في أوساط بلاد الشام بدءًا من أنطاكيا والرها "أورفا" وسيطرت على عدة مدن في الساحل الشامي إلى أن وصلت إلى القدس دون مقاومة فعالة توقفهم.
تدلّ قرائن عدة -برأي المؤلف- على أن غالبيّة مسلمي الشام كانوا في تلك الحقبة من الإماميّة، على الرغم من أن الشام كانت موطنًا أصيلاً للتسنّن في صدر الإسلام وحقبة الأمويين ، فكيف تحقّقت هذه الغلبة الشيعيّة على حاضنة الأمويين في الشرق الإسلامي؟
كان لغلبة الدولة العباسية على الأمويين دور مهم في انتقال أعداد كبيرة من شيعة العراق إلى الشام، سواء بالترغيب أو الترهيب، كما وفدت إلى شمال سورية قبائل عربية شيعية قادمةٌ من العراق في بدايات القرن الرابع الهجري أي قبيل الحملات الصليبية بنحو قرن، وقد استطاعت تلك الهجرات المتتالية من انتزاع الحكم من الإخشيديين الذين حكموا حلب الشام باسم العباسيين بناء حكم ذاتي لها في حلب فظهرت الدولة الحمدانية التي أسسها سيف الدولة الحمداني الذي كان شيعيًّا فبدأ التشيّع بالانتشار في حلب في عهده كما يشير لذلك ابن العديم وقد أعلنت الزيادة الشيعية في الأذان عن الحضور السياسيّ للسلطة الإمامية في بلاد الشام، إلا أنه لم يعلَم عن الدولة الحمدانيّة فرضها التشيّع على من هم تحت حكمها، وإنما ظل حكامها معتدلين في تعاملهم مع سائر الأطراف الخاضعة لهم.
استطاعت الدولة الفاطمية السيطرة على حلب عام 406 واتخذتها قاعدة للضغط على خاصرة الدولة العباسية الغربية، إلا أن المقاومة السنية والإمامية التي حصلت فيها دفعت الفاطميين إلى التراضي مع أهل حلب بتولية الأسرة المرداسيّة شؤون المدينة مع الدعاء للفاطميين بالولاية وإقرار الخطبة لهم في أيام الجمعة، وكانت السياسة في الأسرة المرداسيّة عبارة عن اقتناصِ البقاء ومن ثم فقد انحنت هذه الأسرة للعاصفة السلجوقيَّة وبدّلت من ولائها الفاطمي إلى السلجوقي العبّاسي
استطاع بعض الأمراء الأتراك السيطرة على حلب فآلت أمورها إلى رضوان بن تتش الذي توفي مع مطلع الحملات الصليبية، وقد تزامن ذلك مع دخول الشيعة "الإسماعيلية النزارية" إلى حلب مما جعل الوضع السني الشيعي أشدّ تعقيدًا، فقد تحالف رضوان مع "الحشاشين" ضد أخيه حاكم دمشق، كما اتفق معهم على السماح لهم بالدعوة لمذهبهم في حلب مقابل الدفاع عنه في وجه حكام الموصل الطامعين بضمّ حلب إلى سيطرتهم، وقد كان جهد النزاريّين فعالاً، ويدل على ذلك الأعداد التي انضمت إليهم إضافة حجم المذابح التي أقيمت ضدّهم بعد موت رضوان
أما طرابلس فقد كان سكانها شيعة في الغالب، وقد سيطر الفاطميون عليها أثناء سيطرتهم على بلاد الشام، وجعلوها إقليمًا منفصلاً عن دمشق، وولّوا عليها واليًا تابعا للخليفة في القاهرة ودعموها ببناء الحصون المنيعة، لضمان سلامتها برًّا وبحرًا، ومن ثم فقد عانت الحملات الصليبية في اقتحام طرابلس التي كانت تحت حكم بني عمّار، حيث أسّس جدهم القاضي أبو طالب ابن عمار أحد قضاة الدولة الفاطميّة هذه الدويلة معلنًا انفصاله عن الحكم المركزي في القاهرة، فكانت طرابلس إمارة شيعيّة في الساحل السوري مستقلّة عن الممالك المحيطة بها
سؤال المصير، الاتحاد في وجه الفناء
يفترض بحث الشنقيطي أن المقاومة الإسلامية للحملات الصليبية كانت سنية في جوهرها، وهو ما يثبت الاستقراء التاريخي صحته، إلا أن ذلك لا يعني أنها ظاهرة سنّيّة محضة، إذ كان للإماميّة دور مهم في تطوّر المقاومة ضدّ الصليبيّين، حيث يشاع في بعض الدراسات أن المقاومة الإسلامية الاستراتيجيّة لم تبدأ إلا مع عماد الدين زنكي أي بعد نصف قرن من بدء الحملات الصليبية، إلا أن هذه الرؤية الاختزاليّة لا تأخذ الجهاد المبكّر الذي جوبهت به القوى الصليبية، خاصة مع وجود رموز شيعية وسنية في تلك المرحلة دفعت السنة والشيعة الإماميّة إلى التوحّد سياسيًّا وعسكريًّا والقتال في خندق واحد ضد معتدٍ خارجيٍّ بناء على وحدة المصير ووحدة الدين.
يذكر الشنقيطي لذلك مثالين قويين في التعبير عن جهود الشيعة الإمامية بجانب السنّة في مقاومة الصليبيّين، أوّلهما جهود فخر الملك بن عمّار حاكم طرابلس في مواجهة الصليبيين الذين حاصروا طرابلس لمدة سبع سنوات تقريبًا، وثانيهما جهود القاضي ابن الخشاب في حلب والتي شاركه فيها ابن الربيع قائد شرطتها في مواجهة حصار الفرنجة والاستنجاد بعدة أمراء لفك الحصار عن حلب.
يعيد الباحث هذا الاتحاد إلى ثلاثة أسباب: أولها: أن روّاد الإحياء السني كالوزير نظام الملك والإمام الغزالي كانوا يرون في التشيّع الإمامي إمكانًا للتعامل الإيجابي، نظراً لما يحمله من عناصر تجعله مقبولاً أكثر من التشيّع الإسماعيليّ، وهو ما رسخته المدرسة الأشعرية التي انتشرت في الشام أكثر من انتشارها في العراق آنذاك، أما السبب الثاني: فيعود لطغيان السلبيّة السياسيّة على التشيع الإماميّ بخلاف التشيع الإسماعيلي الذي كان ثوريًّا يبحث عن إعلان دولة "آل البيت" أما السبب الثالث: فيعود إلى الطبيعة العملية لواقع الدولة السلجوقية والفاطمية فقد كانت إحداهما في صعود بينما كانت الثانية تعيش حالة الانحدار والفوضى، إضافة للعامل الجغرافي الذي جعل السلاجقة أقرب من الفاطميين إليهم فكانت ماردين والموصل أقرب إلى حلب وطرابلس من القاهرة .
تبدأ محنة طرابلس مع الصليبيّين منذ دخول الحملة الأولى لهم، حيث سلك ابن عمّار معهم مسلك الأمراء الصغار الذين هادنوهم وأعطوهم الجزية لقاء الكف عنهم في مسلك تطغى فيه الأنانيّة السياسيّة فأرسل ابن عمار مع الجيش الصليبي المتجه إلى القدس أموالاً وأطعمة وأَدِلّاء لإرشادهم الطريق، كما أفشى ابن عمار في مرة لاحقة برسالة سرية إلى "بالدوين" المؤسّس الحقيقي لمملكة القدس عن كمين أعده له أمير دمشق دقاق بن تتش في طريق سفره من الرها إلى القدس لتولي عرشها .
بدأت مطامع الفرنجة في طرابلس بالتضخم يوماً بعد يوم، فحاول ريمون "أمير تولوز" السيطرة عليها وعلى المدن التابعة لها عدة مرات إلا أنه كان يبوء بالفشل على الرغم من محاولاته المتكررة، مما دفع ابن عمار إلى التفكير في المقاومة منذ بدء هذه المحاولات واتجاهه صوب الإمارات السنية التي تحيط به كحمص وحلب ودمشق لطلب المساعدة والإمداد دون طلبه من الدولة الفاطمية التي انفصل والده عنها بإمارته في طرابلس .
فشل ريموند للمرة الثالثة في حصار طرابلس على الرغم من الأسطول البحري الذي استجلبه من "جنوا" الإيطاليّة، مما دفعه للتوجه إلى جبيل في الجنوب فسيطر عليها، كما كان قد سيطر على طرطوس في وقت سابق، مما جعل طرابلس بين فكّي "كماشة"، وقد أتبع ذلك بناءه حصنًا يطل على طرابلس ليكون نقطة انطلاق لشن هجمات دائمة عليها ، فاستنجد ابن عمار بأمير "حُصْن كَيْفَا"، الذي لبّى نداءه وجهز جيشًا لمساندته إلا أن مسير الجيش توقّف وعاد أدراجه لوفاة "سقمان" أمير "حصن كيفا" في الطريق إليه، مما سبّب للناس خسارةً معنويّة فاقمت من حالة الخوف التي تراكمت في قلوب الناس في طرابلس، إلا أنّ ابن عمار قرّر مهاجمة قلعة ريموند بغتة فقاد مجموعة من المقاتلين فاقتحم القلعة وأحرقها وأصيب أغلب من فيها بين قتيل وجريح، ومات ريموند على إثر حروقه التي أصابته حينها. بيد أن الحصار لم ينتهِ ولم يرفع، فقرر ابن عمار التوجّه إلى الخليفة في بغداد لمقابلته ومقابلة السلطان السلجوقي للطلب منهم إمدادهم بجيش يفك الحصار عن طرابلس، وقد كان في شك وريبة من سلوك من خلفائه في طرابلس فاستوثقهم واختار عليهم أناسا من أقاربه لمراقبتهم. وعلى الرغم من حفاوة الاستقبال التي قوبل بها في بغداد إلا أنه لم يجَب إلى طلبه في إمداده بالجيش الذي يحتاجه، كما أن الفاطميين استمالوا ابن عمّه فغدر به وأرسل إليهم أمواله وأسرته بعد خروج ابن عمّار إضافة إلى أن خلفاء ريموند استطاعوا اقتحام طرابلس والسيطرة عليها عام 502 ه لتصبح طرابلس الإمارة الصليبية الرابعة بعد إمارة الرها وأنطاكيا والقدس
لقد غدا ابن عمار -على الرغم من سقوط طرابلس- بطلاً في المنطقة كلها نظرًا لمواقفه في مقاومة الفرنجة فمدحه فقهاء السنة وشعراؤها ومؤرخوها على الرغم من تشيّعه الذي لم يمنعه من طلب المدد من الأمراء السنة دون طلبه من الدولة الفاطميّة فقد فهم أمير طرابلس "ابن عمار" روح عصره فآثر التوجّه إلى الأتراك السنّة الصاعدين بدل الاستمداد من الشيعة الفاطميين الآفلين
وعلى الرغم من فشل التحالف الإمامي السني في إنقاذ طرابلس من السقوط إلا أن تحالف الإمامية والسنة في حلب أفضى إلى بقائها خارج إطار السيطرة الصليبيّة التي ظلّت عصيّة على التغيير الثقافي طول حقبة الزنكيين وصلاح الدين الأيوبي
برزت جهود القاضي أبو الفضل ابن الخشاب في تثبيت عزائم الناس بعد سيطرة الصليبيين على قلعة الأثارب وزردنا ومنبج وبالس وضيق الخناق على المدينة، فسارع وفد من المدينة للقاء الخليفة والسلطان في بغداد وتظاهروا في وقت الجمعة ونادوا بالبكاء والنحيب طالبين المدد لنصرة ديار الإسلام والمسلمين من كيد الصليبيين وخطرهم، وكان في الوفد شخصيات شيعية وسنيّة ، وعلى الرغم من وصول جيش مودود الذي أمره السلطان بالتوجه إلى حلب إلا أن رضوان حاكمها منعهم من دخولها شكًّا منه في نية السلطان الحقيقيّة، فما كان من الجيش إلا أن عاد من حيث جاء ، لتغوص حلب إثر ذلك بالفوضى والاضطراب حيث ساهم قمع رضوان واستقواؤه بالإسماعيلية النزاريّة في تفاقم الأمور سوءًا.
كانت وفاة رضوان بن تتش الإشارة التي تلقّفها الصليبيون للبدء بغزو حلب وحصارها، إلا أن القاضي ابن الخشاب قاد الجهود السياسية والعسكرية التي تكللت بإنقاذ المدينة من السقوط، فأرسل وفداً إلى أمير ماردين نجم الدين إيلغازي، الذي قدم بجيشه وخلّصها من الحصار الذي ضربه صليبيو إمارة أنطاكيا عليها، كما قاد معركة "سرمدا" أو "حقل الدم" التي هُزِم فيها الصليبيّون .
حاصر الصليبيون حلب مرة أخرى عام 518 على يد بالدوين الثاني ملك القدس، إلا أن ابن الخشاب استنجد بأمير الموصل السني آق سُنْقُر الذي لبّاه فسار بجيشه إلى مشارف حلب، حيث هرب الجيش الصليبي دون أن يشتبك معه
لقد كان للحشاشين موقف مناهض لتلك الجهود وإرسال الوفود فاغتالوا رئيسها ابن البديع كما اغتالوا آق سنقر والد عماد الدين زنكي وجدّ نور الدين زنكي
وعلى الرغم من وجود استثناءات شيعية حاولت التعامل مع الصليبيين لتحكم حلب أو غيرها كابن دبّيس إلا أن ذلك لم يكن حكرا عليه بل ساهم معه قادة سنة عرب وأتراك في ذلك، بينما كان للأمير ابن عمار وللقاضي أبو الفضل ابن الخشاب حضور قويٌّ في تشكيل جبهة من التعامل والتعاون بين السنة والشيعة الإماميّة في سبيل مواجهة الإمارات الصليبيّة.
الشيعة الإسماعيلية والسنّة، الاتحاد في وجه الفرنجة
حينما بدأت الحروب الصليبيّة كان التشيع الإسماعيلي في انحسار سياسي وفكري بعد أن هيمن على أغلب العالم الإسلامي خلال القرن الرابع الهجري ومن ثم فقد كان البريق الإسماعيلي يتلاشى، مما أثر في موقف الإسماعيليين الفاطميين من أهل السنة والصليبيين .
كان موقف الفاطميين رافضاً للخضوع أو الاعتراف بالخلافة العباسية السنية، وكانوا يرون أنفسهم الورثة الحقيقييّن لرسالة الإسلام وسلطة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا على الرغم من ذلك عاجزين عن أداء مهمة الدفاع عن حدود دولتهم، ولذا فقد استعانوا بالعناصر السنية للحفاظ على وجود دولتهم ، وقد كشفت الحروب الصليبية عن وهن الإمبراطورية الفاطميّة مما دفعها لطلب المساعدة من نور الدين زنكي وصلاح الدين لحمايتها من خطر الفناء على يد الصليبيين، فجاءت جيوش أسد الدين شيركوه إلى مصر فهمّش الفاطميين من أي دور يمكن لهم أداؤه في حروبه ضد الفرنجة ليأتي صلاح الدين لاحقًا بالإعلان عن انتهاء الدولة الفاطميّة وتبعية مصر للخلافة العباسيّة .
مرّت سياسة الفاطميين تجاه الفرنجة الغزاة بمراحل ثلاث:
مرحلة التقرب منها والسعي إلى الاستفادة من وجودها، ثم مرحلة مواجهتها ومحاولة صدها، ثم مرحلة الاستقواء عليها بالعسكر السني الذي كان سببا في انهيارها
كانت المرحلة الأولى حينما وصل الصليبيون لانتزاع بيت المقدس من المسلمين، فتعامل الفاطميون مع الظاهرة الجديدة على أنها مرحلة مؤقتة يقودها مرتزقة مندفعون بأمر الإمبراطور البيزنطي لاسترداد شرق الأناضول والتحرش بالمسلمين شمال الشام، مما يشي بجهلهم بأحوال الحملات التي كان يجيّشها اندفاعُ الجرمان نحو طموح المجد والثروة، إضافة إلى سوء تقديرهم بأن وجود هذه الإمارات سيكون حاجزًا نافعًا يحول بينها وبين الدولة السلجوقية المتمددة من الشرق إلى الغرب إلا أن المراسلات التي جرت بين الفاطميين والصليبيين لاحقاً وما حصل من احتلالهم لأنطاكيا وزحفهم نحو القدس غيّر من قناعات الفاطميين فجعلهم يتوجّهون لمصادمتهم وإبعادهم عن حدودهم الإقليمية، فزحف الأفضل الجمالي إلى القدس فسيطر عليها بعد أن كانت تحت سيطرة سقمان وإيلغازي ابنا الأمير أرتق وذلك بهدف حماية القدس من الصليبيين في أرجح الاحتمالات ، وعلى الرغم من ذلك فقد استطاع الصليبيون السيطرة على القدس، وعلى الرغم من ذلك فقد قاد الفاطميّون عدة محاولات لاستعادته باءت جميعها بالفشل لأسباب متعددة ، كما حاول الأفضل الجمالي التحالف مع أمراء إمارة دمشق وأمراء الإمارات الجنوبية في الشام لاستعادة القدس، إلا أن معاركهم لم تجدِ نفعًا إضافةً إلى أنّ الأجل وافاه سريعًا باغتياله من قبل "الحشاشين" أو الشيعة النزارية في نهاية المطاف .
بقيت العلاقة بين الفاطميين والصليبيين في إطار التقلّب بين القتال والاحتواء إلى أن سيطر الصليبيون على المدن الساحلية في سورية وفلسطين، فآلت الأمور إلى توازن الضعف حيث لا يستطيع أحدٌ من الطرفين القضاء على الآخر، إلا أن استيلاء الفرنجة على عسقلان لاحقًا -وهي آخر معاقل الفاطميين البرية المتصلة مع بلاد الشام- دقت ناقوس الخطر، فقد حدث بعد ذلك بعام سيطرة نور الدين الزنكي على مدينة دمشق، مما أوقع الفاطميين بين خيار الاستنجاد بنور الدين المعادي للشيعة أو تسليم مصر للصليبيّين .
كانت مصر تمرّ في تلك الفترة بحالة من الاضطراب السياسيّ الشديد التي تجعل المقاومة أمرًا مستحيلاً، ولذا فقد آلت أحداث الفتن الداخلية إلى أن قتل الوزراء بعضهم بعضًا، وكانت عين ملك القدس على مصر للاستفادة منها ضد نور الدين أو لمنعه من السيطرة عليها، إلا أن الوزير الفاطميّ شاور قدّم لنور الدين عرضًا يغريه بإرسال جيوشه إلى مصر لتكون تحت حكمه عمليًّا مقابل حمايته من الفرنجة إلا أن الحيل والمؤامرات التي قادها الوزراء الفاطميون جعلت أسد الدين شيركوه مبعوثَ نور الدين في خطر من الغدر مما اضطرّه للانسحاب وعينه على أرض مصر وفكره في السبيل الأوفى في العودة إلى مصر .
بالتوازي مع ذلك فقد عقد شاور اتفاقًا مع الصليبيين يمنحهم بموجبه حق تثبيت حامية لهم على أبواب مصر، إضافة لأدائه لهم مئة ألف دينار سنويًا لقاء منعهم نور الدين من العودة إلى مصر، إلا أن العاضد خليفة مصر كان يمقت شاور ويتمنى قدوم نور الدين لنجدته منه وهو ما تحقق حيث دخل جيش نور الدين بقيادة أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الذي قتل شاور بعد أن علم بمؤامراته فصار أسد الدين وصلاح الدين الحاكمين الفعليين لمصر لا الخليفة الفاطمي ولا جنده أو وزراؤه.
في جهة أخرى كانت الشيعة النزارية قد انتقلت من التحكم الفعلي في بعض المدن المهمة كحلب، إلى استراتيجية البقاء بعيدًا عن الرؤية الكونية الطامحة إلى بناء دولة بديلة عن الدول القائمة، وكان عماد هذه الاستراتيجية قائما على العيش في القلاع الحصينة، والمرونة في التحالفات السياسيّة مع الأطراف القادرة على حمايتهم، اتباع تكتيك الاغتيالات السياسية التي تجنّبهم القتال المباشر في جبهات مفتوحة
كان صلاح الدين مدركًا لتاريخ النزاريين وخطورتهم خاصةً أنهم عدّوه عدوًّا يجب التخلص منه إلا أنه آثر الانشغال في معاركه مع الصليبيين والحكّام الذين يتآمرون معهم، فما كان من النزاريين إلا أن حاولوا اغتياله بناء على طلب عدة أطراف ذلك منهم، حيث فشلوا في ذلك مرتين لينتقل صلاح الدين إلى مقاتلتهم إثر ذلك، إلا أن وساطةً غامضةً دفعته لتركهم، حيث تأسس في تلك الوساطة اتفاق طويل بين الطرفين، كان من ثماره كفّ أيدي الطرفين عن بعضهما، إضافة إلى اغتيال النزاريين لأمير صور الكونت كونراد دي مونتفرات بعد انتخابه ملكاً للقدس وقد استمر هذا التفاهم قائما ما بقيت أسرة الأيوبيين في الحكم، فلم يغتَل أحد منهم من قبل الحشاشين مطلقاً.
وقد أنشأ الحشاشون حلفًا آخر بينهم وبين السلطان الظاهر بيبرس شبيهاً بالحلف الذي كان بينهم وبين الأيوبيين، إلا أنه كان أقرب إلى الخضوع منه إلى التفاهم، خاصة أن دولة المماليك في عهد بيبرس كانت في ذروة عنفوانها وقوتها مما جعل النزاريين في اضطرار للخضوع لسطوتها .
خاتمة
• كانت أهم النتائج التي توصلت إليها دراسة الشنقيطي هي أن الحروب الصليبيّة -في شقيها السوسيولوجي والعسكري- كانت صراعًا بين الترك والفرنج، وقد تشبّعت كل أمة منهما بالروح الدينيّة القريبة منهما إضافة إلى الروح العسكرية التي كانت دافعة لها في توجهها وتمددها في الأرض، كما أن المقاومة الإسلامية كان تركيّة بالأساس وهي جزء من مسار طويل قاده الأتراك داخل التاريخ الإسلامي، وبما أن هذا المسار المركّب بين "أسلمة" الترك، و"تتريك" الإسلام أثمر مقاومة قويّةً للحروب الصليبيّة فإن عمليّة الإحياء السني وإضعاف التشيُّع كانت من أبرز آثاره التي تحققت آنذاك.
• لقد عمّقت الحروب الصليبيّة الشقاق بين السنة والشيعة على المدى القريب إلا أنها وحّدتهم على المدى البعيد، فقد أثمرت مزيدا من الشقاق بين النخب السياسية في البداية إلا أنها وفرت الفرصة الحقيقية للتوحد سياسيًّا وعسكريًّا في مسار مليء بالتناقض، حيث استطاع السنّة من بناء جبهة شاركهم فيها الشيعة لصدّ العاصفة الصليبية، إلا أن التسامح الديني في علاقة المسلمين بين بعضهم وغيرهم من الجماعات كان قد تراجع باضطراد.
• اضطرار الشيعة للاعتماد على القوى السنية التركيّة الصاعدة، وبقدر ما لجأ الشيعة إلى هذا السند السني لإنقاذهم من الفرنج بقدر ما اضطروا إلى التنازل لهم اعتقاديًّا وفقهيًّا خلال مدة قرنين من زمن الحروب الصليبيّة.
• لقد أسهمت هذه الحروب في انتقال الثقل الشيعي من البلاد العربية إلى بلاد فارس، حيث بدأ الانزياح من الغرب إلى الشرق مع بدء الحملات الصليبيّة، وتؤدي العزلة التي عاشها شيعة جبل عامل تحت الاحتلال الصليبي دورًا مهما في تعميق هويتهم الانفصالية عن جسد الأمة، مما دفعهم لصياغة هوية ثقافية أهّلتهم ليكونوا السند الفكري للصفويين في نشر التشيع وفرضه على عامة أهل فارس مطلع القرن السادس عشر، حيث اعتمدت الدولة الصفوية على العنصر التركي المتشيع في قبائل الأناضول لتقوية حضورها عسكريًّا، إضافة إلى الاعتماد على هجرة علماء جبل عامل من لبنان إلى إيران ليوفروا للدولة الوليدة الأرضية الاعتقادية والفقهية اللازمة للبناء والبقاء، وكلّ ذلك مما لا يمكن عزله عما حدث في بلاد الشام قبل ذلك بقرنين من أحداث جسيمة غلب على طابعها المقاومة السنيّة للحملات الصليبيّة، ومن ثم فإن انتقال التشيع من الوسط العربي إلى الوسط الصفوي دفع بالعلاقات السنية الشيعية إلى مرحلة جديدة من تاريخها المتعرج، فزادت الفجوة بين الطائفتين عمقًا واتساعًا.