موقف جديد من النظام السوري تجاه اللامركزية
في كلمته أمام الحكومة الجديدة في 24 أيلول/ سبتمبر 2024 اعتبر رئيس النظام السوري أن مفهوم نقل الصلاحيات إلى المحيط بعيداً عن المركز هو مفهوم خاطئ، وأن اللامركزية لا تبدأ بتوزيع الصلاحيات على البلديات أو المديريات في المحافظات، وأنه يجب تغيير مفهوم اللامركزية إلى مفهوم تطوير المؤسسات أولاً وبعدها يمكن العودة إلى فكرة نقل الصلاحيات التي ستكون هي المرحلة الأخيرة من اللامركزية.
يأتي هذا التصريح "المفاجئ" لرئيس النظام بعد شهر واحد فقط من كلمته أمام مجلس الشعب في 25 آب/ أغسطس 2024، والتي صرّح فيها بوجود عمل حثيث في السلطة التنفيذية باتجاه إعادة الهيكلة وإعادة توزيع الصلاحيات والمسؤوليات، واعتبر أن مشاريع الإصلاح الإداري والاقتصادي لا يمكن أن تنجح في ظلّ المركزية الشديدة، وأن المطلوب "المزيد من اللامركزية وخاصة لمؤسسات الإدارة المحلية".
إنَّ نقل الصلاحيات لم يكن آخِر مراحل اللامركزية حين صدر القانون 107 في 23 آب/ أغسطس 2011 ضِمن عملية الإصلاح المزعومة التي أعلن عنها رئيس النظام بعد اندلاع الثورة ضده في آذار/ مارس 2011؛ بل كانت فعلياً الهدف الأول للقانون الذي نصّ على أنه يهدف إلى "تطبيق لامركزية السلطات والمسؤوليات" وأكد في هدفه الثاني أنه "تقتصر مهمة السلطات المركزية على التخطيط والتشريع والتنظيم" وأن السلطات المركزية يمكن أن يكون لها فقط "تنفيذ المشروعات الكبرى التي تعجز عن تنفيذها الوحدات الإدارية".
في مؤتمر المجالس المحلية الذي عُقد في 17 شباط/ فبراير 2019 قال رئيس النظام عن صدور القانون 107: إنه "خُطوة مهمة في اتجاه زيادة فاعلية الإدارة المحلية من خلال منح البلديات المزيد من الاستقلالية وتوسيع هامش اللامركزية الإدارية في إدارة شؤون المجتمع"، وأكّد على هذا المفهوم بقوله: "من الناحية العملية لم يَعُدْ من الممكن أن ندير شؤون المجتمع وشؤون الدولة في سورية وتحقيق التنمية المتوازنة بالطرق المركزية نفسها التي كانت سائدة خلال العقود الماضية".
وفي المؤتمر ذاته فرّق رئيس النظام بين اللامركزية التي يؤيدها وَفْق القانون 107 وبين "اللامركزية الشاملة" التي يرفضها، والتي اتهم فيها "مراكز الدراسات الموجودة في الدول الداعمة للإرهاب" بتسويقها ومحاولة تطبيقها في سورية، وأنَّ رفضه لها بسبب أنها "تضعف فيها سلطة الدولة بشكل كامل وتصبح الدولة هامشية، ودورها شكلي، وتضعف معها السيادة والمفاهيم الوطنية، وتكون النتيجة تراجُع التجانس الاجتماعي، والوصول إلى تقسيم المجتمع، ولاحقاً إلى تقسيم الوطن جغرافياً".
رغم هذا التفريق فقد استمرت المواقف المرتابة من النظام تجاه اللامركزية بشكل عامّ، وكانت سبباً في عدم وضع القانون 107 موضع التنفيذ الحقيقي رغم مرور 13 سنة على صدوره، كما عمل النظام جاهداً على إبعاد مصطلح اللامركزية ومفاهيمه من مضامين قرارات الأمم المتحدة وبياناتها، مثل القرار 2254 وبيان جنيف، والبيانات الدولية الأخرى مثل بيانَيْ فيينا، كما منع أيضاً تضمين المصطلح في "المبادئ الاثني عشر الحية" التي أصدرها المبعوث الأممي السابق ستافان دي ميستورا (Staffan de Mistura) في ختام جولة مفاوضات "جنيف 8" بتاريخ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، والتي أصبحت لاحقاً واحدة من مرجعيات عمل اللجنة الدستورية بعد اعتمادها في البيان الختامي لمؤتمر سوتشي مطلع عام 2018.
الموقف الجديد من رئيس النظام السوري تجاه اللامركزية يُعتبر بمثابة الرفض الكامل لها، حيث لا معنى للامركزية دون وجود صلاحيات وسلطات للإدارات المحلية، ويمكن تفسير هذا الموقف الجديد بأنه موقف استباقي ضد إدماج اللامركزية في نهج الخُطوة مقابل خُطوة، ويتزامن مع اجتماع غرفة دعم المجتمع المدني التابعة لمكتب المبعوث الأممي الخاص، والتي تعمل على وضع مبادرة حول "تدابير بناء الثقة" تكون اللامركزية واحدة من المداخل الرئيسية لها.
قد يكون الموقف الجديد أيضاً مقدمة لمرحلة عودة النظام للانغلاق على نفسه، ورفضه لجميع المبادرات التي يرى أنها قد تُفرض عليه في مرحلة "الضعف" التي يمر بها الآن، بعد الانهيار الحاصل في قوة أكبر داعمين له على الأرض، النظام الإيراني وحزب الله اللبناني، واستمرار الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية، وثبات الموقف الأوروبي والأمريكي في فرض العقوبات عليه، وقد أفصح رئيس النظام أمام فريق حكومته عن يأسه من تحسين الوضع الاقتصادي عَبْر الانفتاح العربي على نظامه، والذي وصفه بأنه انفتاح ذو طابع سياسي فقط، وبالتالي فهو لن يقوم بإنقاذ الاقتصاد في سورية.