ما بعد الهزيمة: تنظيم "داعش" إلى أين؟
مارس 22, 2019 2801

ما بعد الهزيمة: تنظيم "داعش" إلى أين؟

حجم الخط
أولاً: مدخل وتمهيد: 
لم يكن صعود تنظيم "الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام" محض مصادفة وإنما امتدّ على مدار عقد من الزمان تقريبًا عبر خطٍّ تصاعديٍّ تراكمت فيه الأحداث تباعًا، فكان إعلانُ أبي مصعب الزرقاوي تأسيس جماعة "التوحيد والجهاد في بلاد الرافدين" نقطة البداية الفعليّة لنشوء "الدولة الإسلاميّة في العراق والشام"، واستمر التطوّر بمبايعته "أُسامة بن لادن"  واندماجه مع "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين"، الذي ما لبث أن تحوَّل إلى تنظيم "دولة العراق الإسلامية" التي تكبّدت خسائر فادحة في سنيّ 2008- 2009 حتى عادت إلى خلايا نائمة تنتشر على امتداد صحراء الأنبار. 
استغلّ التنظيم أحداث الثورة السورية ليغيّر من الواقع السياسيّ بإعلانه "الدولة الإسلامية في الشام والعراق" بقيادة "أبي بكرٍ البغدادي" الخليفة الجديد المفترض للمسلمين، والذي نادى المسلمين للهجرة إلى أرض "الدولة" في ولايتي العراق والشام وبيعته باعتباره الممثل الشرعي "للإسلام والمسلمين"، لتبتدئ إثر ذلك مرحلة توسُّعه واقتتاله مع مختلف التنظيمات الأخرى كالقاعدة وأحرار الشام وفصائل الجيش الحر.  
 
ثانيًا: آثار ظهور "داعش" وانهياره في الحرب المعلنة ضدّه.  
استطاع تنظيم "داعش" بسط سيطرته على مناطق شاسعة من العراق وسوريا يسكنها نحو ثمانية ملايين نسمة، تمتلك من الموارد النفطية والبشرية ما يخولها بتهديد تماسك دول الجوار، الأمر الذي تداعى بسببه عدد من الدول الإقليمية والعالمية للتحالف فيما بينها بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة تنظيم الدولة الذي بدأ بشنِّ هجماته على محيط "كوباني" –عين العرب-. 
أثار الصعود السريع لتنظيم الدولة مختلف الأسئلة حول قدراته ومكوّناته ومدى التعقيد الإستراتيجي والتنظيمي الذي يمتلكه، وقد كانت مسارعته لكسر الحدود وإعلان "الخلافة" سببًا مباشرًا في تدمير الروابط المجتمعيّة وقوى الثورة المحليّة المدنيّة والعسكريّة وإنشاء شبكات ذات روابط جديدة، ممّا دفع السياسيين ورجال الدين والنخب المجتمعيّة إلى تكثيف البحث عنه بغية فهمه وطرق التعامل معه في الوقت ذاته، بالإضافة إلى ذلك فقد انضوى تحت لواء التنظيم آلاف المقاتلين من مختلف الجنسيات وانتشرت عملياتهم العسكرية على خطوط جبهة واسعة امتدت من الموصل إلى مدينة منبج غرب الفرات، وقد استمر تراجعه تحت  سطوة ضربات التحالف الدولي المستمرّة ضدّه بمؤازرة ميدانية من قوات سورية الديمقراطية وعلى الرغم من تكبُّد تنظيم الدولة خسائر كبيرة رغم الكلفة المادية والبشرية الهائلة، فإن القوات المهاجمة لم تتمكن في أغلب المعارك -رغم تفوقها الكبير - من تحرير المدن التي يسيطر عليها التنظيم إلا بعد تدميرها بصورة شبه كاملة، الأمر الذي استطاعت بواسطته -في نهاية المطاف- إخراجه من أهم معاقله في سورية والعراق وحصر عناصره ضمن رقعة جغرافيّة في البادية السورية في "إطار" تواجد خفيٍّ لا يعبّر عن أي نوع من السيطرة، أي أنها "جحور أمنيّة" يجد فيها من تبقى من عناصر التنظيم مكانًا مؤقتًا يجنّبهم القتل والأسر أو انتظار صفقة ما تنقذهم من المصير المحتوم مع غياب تام لقائد التنظيم، وحديث متواتر عن هروبه واختفائه. 
 وكما  أثَّر صعود "داعش" في زيادة التوتّرات الطائفية في سورية والعراق -الموجودة أساسًا بسبب سياسات الدولة المركزيّة، ومبالغته في إنتاج العنف المتطرف وانعدام الروادع لديه في توظيفه وتصديره بشكل غير مسبوق، فقد تمكّن ذلك كلّه –بسبب سياسة التنظيم- من صُنْعِ انشقاقات حادّةٍ داخل "الإسلام"، حيث تعمّقت أزمة "التكفير" إثر تحويل التنظيم له سلاحًا ضدّ المجتمع ككلٍّ ومعارضيهِ من التنظيمات الجهادية التي يتفق معها في الأصول الاعتقادية السلفية "بصورتها الوهّابيّة التخيُّليّة" ولذا فإن ثقل الأزمة التي يمرّ بها "المسلمون" جرّاء صعود هذا التنظيم لن تزول إثرَ انهياره.
 
ثالثًا: السياقات المحلّيّة والدوليّة 
أربك صعود التنظيم مختلَف الحسابات السياسيّة للقوى المحليّة والدولية، حيث مثّل تمدده تحدّيًا صارخًا لمنطق الدولة والنظام الدوليّ، وقد أدّى فشل القوى المحليّة (ممثّلة بفصائل الثورة - النظام القديم) في مواجهة التنظيم إلى تحرّك مختلف القوى الدولية للتدخل المباشر في سوريّة تحت غطاء متعدد الذرائع، فقد عبّر حلفاء النظام عن تدخلهم بهدف مكافحة التنظيم ومواجهته، وكذلك ادّعت روسيا التي رأت "أن واشنطن لا تحاربه بالجديّة المطلوبة"
أما أمريكا فقد وجدت في ظهور "داعش" طريقًا مباشرًا للعودة العسكرية إلى المنطقة فقادت تحالفًا دوليًّا موسّعًا بهدف مواجهة التنظيم وتدمير قوّته المتنامية. 
 لقد كان ظهور "داعش" سببًا مباشرًا في تحويل أولويّات بعض الدول في قضايا الأمن القوميّ؛ ممّا أنتج تباينًا حادًّا في المواقف بين هذه الدول إضافةً إلى تضارب مصالحها حينها وتشابكها أحيانًا أخرى، بناءً على اختلاف الرؤى في التعامل مع التنظيم، ومن ثمّ يمكن القول: لقد كان مردّ التباين بين تركيا – أمريكا إلى رؤية كل طرفٍ منهما لأبعاد الصراع في سورية وجوهره،؛ حيث أصرّت تركيّا على ضرورة محاربة "التنظيم" ضمن مقاربة شاملة تتعامل مع أصل المشكلة وجذرها الأساسيّ –أي نظام بشار الأسد وسياساته الطائفيّة والدمويّة- الأمر الذي لم تتجاوب معه إدارة الرئيس أوباما بل كانت على النقيض حيث عززت مخاوف الجانب التركيّ بدعمها الواسع للفصائل "الانفصالية" واعتمدتها شريكًا في الحرب على التنظيم في سورية إضافة إلى إقامة تنسيق غير مباشر بين إيران والولايات المتحدة في العراق على الرغم من استبعادها من التحالف الدولي، مما زاد في مدى التباعد بين الولايات المتحدة والدولة التركية.
لقد كان من الملاحَظ اهتمام أوباما بأولويّة التوصّل إلى اتّفاق مع إيران حول ملفّها النووي؛ ولذا كان خِيار التفاوض والتفاهم معها مقدّمًا على وضع حدّ لجرائم النظام السوريّ أو إرضاء تركيا أو معالجة ملفّ "داعش" بمقاربة شاملة، وعليه يمكن تفسيرُ توجّه واشنطن إلى "قوات حماية الشعب الكرديّة"، إلا أنه من المهم التنبه إلى هذه التحالفات والمواقف محكومة بغايات محددة معلنة أهمها القضاء على تنظيم "الدولة"، ومن ثمَّ فإن تغيُّر خارطة هذه التحالفات وتفكّكها لاحقًا أمر متوقَّع في ظلّ مصلحيّة الهدف المرسوم أولاً ومرحليَّته ثانيًا، ومما يعزز ذلك مقترح الانسحاب الأمريكي المتوازي مع مناقشات طويلة ومعقدة ما زالت مستمرة لإنشاء مقترح المنطقة الآمنة التي تطالب بها تركيا في شمال سورية. 
 
رابعًا: سيناريوهات التنظيم في مرحلة ما بعد هزيمة الميدان.
لقد كان ظهور "داعش" ناتجاً عن تحوّلٍ في بنية المنظومة الإرهابية المعاصرة، ولذا فإنّ خسارة التنظيم وتعرضه للانزواء عقب فقدانه أرض الميدان ستدفع لظهور انعكاسات جوهريّة في مستقبل الحالة "الداعشية" القادمة، من هذا المنطلق ينبغي التنبّه إلى نقطه يجب عدم الغفلة عنها في التعاطي مع ظاهرة تنظيم "الدولة الإسلامية" أي "الإيديولوجية التي بناها لنفسه" حيث قدّم التنظيم نفسه –من خلال الدعاية المكثّفة المدعومة بالحرفيّة التصويرية غير الاعتياديّة- معبّرًا عن الهويّة الإسلاميّة المتخيّلة والمغيّبة في آن معًا، فهو الممثل المفترَض للإسلام السُني المهدد بخطر ازالة من قبل "دولٍ" وأنظمة ومذهبيات عديدة؛ ومن ثم فقد كانت معاركه مبنيّة على هذا المبدأ بالمجمل، ولذا فإنّ خطره لا يتأتى –بالكليّة- من كونه تنظيمًا متطرّفًا وإنّما لتمثيله إيديولوجيّة توسّعية هُووية في زمنٍ تكاثرت فيه الانتكاسات والانكسارات، ولذا شكّلت هذه الهُويّة "المفترَضة" حاملاً يدفع نوعين من الناس لتأييده، أولهما: العناصر المنخرطة في صفوفه، وما يلحق بتلك العناصر من أُسَر ونساء وأولاد –أحياء أو أموات- فباتت داعش مع مرور الوقت "مجتمَعًا" تتماهى فيه الأهداف مع الإيديولوجية وترفق مع التنظير التطبيق، ولذا فإن انحساره في أرض الميدان لا يعني انتهاء مجتمعه الحاضن للتطرف خاصة مع الأطفال الباحثين عن انتقام آبائهم والنساء الثكالى اللواتي فقدن أبنائهنّ وأزواجهنّ، أما الثاني: فهي شرائح واسعة من الشباب غير المؤدلج في العالم ممن يندفع لتأييد التنظيم أو التعاطف معه تبعًا للتوافق معه في مساعيه في إعادة الاعتبار للهوية السنّيّة المهمّشة وتشخيص دولة "الإسلام" عمليًّا في الوجود بعد فنائها منذ مئة عام، ومن ثمّ فإن الانتهاء من التنظيم سلطةَ أمرٍ واقعٍ على الأرض لا يشي بانتهاء هذه الإيديولوجيّة التي أنشأها وصدّرها لأعداد واسعةٍ من الناس في مناطق سيطرته وحول العالم ولذا فإنّ "فكر داعش" سيبقى موجوداً بخلاياه وأفكاره وتأييد المتعاطفين مع قضية الهوية المسحوقة على الرغم من خسارته أرض الميدان.
تكاد تنحصر سيناريوهات ما بعد "داعش" في ضوء خيارين تتفرّع عنهما خيارات مختلفة، الخيار الأول: إعادة التنظيم والنهوض مجددًا، أما الخيار الثاني فيتمثّل في انفراط عقد التنظيم بالكلية وانتهائه عمليًّا، حيث تتزايد الأسئلة المتعلّقة بمستقبل "داعش" بين احتمالات صعوده خلافةً مجددًا أو انتهائه بالكليّة أو تحوُّله إلى استراتيجيات أخرى.
أ‌. إعادة التنظيم والنهوض مجدَّدًا
وذلك ضمن الاحتمالات الآتية: 
1. إعادة تأهيل الشبكة الجهادية المؤطّرة للـ"النواة الصلبة" في قيادة التنظيم في ميدان العراق وسورية وتكليفها بإعادة تشكيل الدوائر والإدارات المعنيّة بتطوير استراتيجيات العمل الميداني والتكتيكي، ومما يشير إلى تعزيز هذا الاحتمال مسيرةُ التنظيم ذاته، حيث إن تتبعها منذ نشوئه وتحوّله من فصيل التوحيد والجهاد إلى الانخراط ضمن تنظيم القاعدة ومبايعتها ثم الإعلان عن تحوله إلى "الدولة الإسلامية في العراق" ومحاربته من قبل الصحوات التي كادت تقضي عليه وأوصلته إلى حالة شبيهة بما وصل "داعش" اليوم إلا أن اختفاءه في صحراء الأنبار وتغييره لتكتيكات الاستهداف وإعادة الانتشار واستغلال الأحوال السياسية التي هيأتها الثورات أخرجته مجدّدًا باسم "دولة الإسلام في العراق والشام" الساعي لإعادة "الخلافة" بقوة السلاح والجهاد، حيث يكشفُ ذلك كلّه عن تحوّلاتٍ معقّدة في طبيعة التعامل مع الموقف، وبما أنّ موقف التنظيم اليوم مشابه لموقفه بعد معاركه مع الصحوات في 2008-  2009  فإنه سيميل إلى التخفي في التضاريس الطبيعية الصعبة في صحراء العراق وبادية سوريّة، كما يرجّح أن يقوم باغتيالات متواصلة وتفجيرات متعدّدة من خلال شبكات خلاياه النائمة أو المجنّدين المؤدلجين الجدد، إضافة لاتباعه أسلوب حرب العصابات التي تعفيه من وجوب التمركز في أماكن معيّنة بغية التمسُّك بها والدفاع عنها، كما لن يغيب عن التنظيم أن يوازي ذلك مع تطبيق استراتيجية "الذئاب المنفردة" التي تعمل ضمن نطاق ضيق بهدف إلحاق الأذى بأكبر عدد ممكن من الناس كوسيلة ضغط وانتقام في الآن ذاته من الدول المستهدَفة التي حاربته أو سهّلت الحرب ضده، ويغذّي هذه الاستراتيجية الأخيرة انتقال "مجاهدي" الدولة إلى ديار جديدة مما يعني انتقال تلك الأيديولوجيا وأساليب العنف المكتسبة لديهم إلى تلك الأماكن، وذلك بالتوازي -بطبيعة الحال- مع محاولات "أشبال التنظيم" المتدربين في أرضه والناشئين على أيديولوجيته لإنشاء جيل جديد من الجهاديين يحاول تلافي أخطاء "التكتيك الميداني" التي وقع فيها التنظيم وأدّت إلى انكساره ميدانيًّا.
 
2. انتقال التنظيم إلى مواضع جديدة ضمن استراتيجية التوزُّع الجغرافي في عدة "ولايات" وبناء الشبكات المحلّيّة فيها للانتقال إلى مرحلة الدولة مجدَّدًا وذلك ضمن مجموعات تنظيمية وهياكلَ تابعة له باسمه يشرف عليها "البغدادي" ذاته أو من خلال وكلاءَ يثق بهم في الدول الإقليمية كالسعودية ومصر والجزائر والسودان وأفغانستان وغيرها من الدول التي يستطيع استغلال أوضاعها المحلّية والسياسيّة لإعادة الانتشار فيها، ويعزز هذا الاحتمال امتلاك التنظيم للـ "الأموال" اللازمة للانتقال، فقد تحصّل "داعش" أثناء إدارته للأراضي المسيطر عليها في سوريا والعراق –سابقًا- على مئات الملايين من الدولارات التي لجأ إلى تخزينها في مناطق سرية إضافة إلى نقله أجزاء كبيرة منها إلى عدة مناطق في دول مختلفة كالعراق وأفغانستان وشمال سيناء وليبيا بحسب ما ذكرت بعض المصادر الإعلامية، إضافة إلى احتمال توجه التنظيم للاستثمار في العملات الإلكترونية التي يصعب متابعتها أو تجميدها، بالتوازي مع قدرة التنظيم على توليد الأموال من خلال تهريب السلاح والنفط في السوق السوداء، والعمل مع بعض شيوخ العشائر الذين استفادوا من التعامل معه خلال مرحلة سيطرته ضمن عمليات تهريب النفط والسلع والأفراد، ومما يعزز اتباع التنظيم لهذا الخيار إيلاء التنظيم لقرار الانتقال إلى مكان جديد ترجيحًا سابقًا، فقد نادى البغدادي أنصاره في إصدار سابق له مطلع عام 2018 بالتوجه إلى أرض الخلافة الجديدة في أفغانستان، مما يوحي بوجود خطة بديلة للتنظيم تقضي بانتقاله إليها في حال خسارته أرض الميدان في العراق والشام، إلا أن الأوضاع الميدانية والقوة التنظيمية الحاضرة لحركة "طالبان" في أفغانستان ستكون عائقًا قويًّا أمام الانتقال إليها. 
3. الانقلاب على القيادة الحاليّة في التنظيم والانتقال إلى قيادة أخرى تدير عملية إعادة التأهيل والبعث مجدَّدًا، وذلك بهدف تقديمِ تنظيم "داعش" نفسه نسخة مختلفة عن سائر التنظيمات الجهادية الأخرى التي لا تصلح لأن تقيم دولة الإسلام ورفع راية الجهاد، ولذا فإن هذا الفارق سيكون نقطة جوهرية في التوجه نحو إعادة الانطلاق لقيادة منظومة الجهاد العالمي، ويرتبط هذا الأمر بمدى قدرة الأجنحة القوية داخل التنظيم على تحقيق ذلك، كالتيّار الحازمي العنيف في تطرفه ونزعته التكفيرية حيث يمكن لهذا التيار قلب الأمور رأساً على عقب، خاصّة أن رؤوس هذا التيار كانوا من ذوي التأثير في مجلس الشورى والقضاء العسكري داخل التنظيم إلا أن البغدادي توجّه لإقصائهم بالاعتقال تارةً والتصفية تارةً أخرى، ومن ثمّ فإن وجود جناح مؤيّد لهذا التيّار في بنية التنظيم الآن سيولّد لدعم شرعيّتهم في قيادته في ظل الانكسار الكبير الذي يعاينه الآن وإعادة إعلان الخلافة مرة أخرى، ومما يعزز هذا الاحتمال غياب "أبو بكر البغدادي" عن مشهد قيادة التنظيم لمدة طويلة الأمر الذي سيضفي على المشهد انعكاسات سلبية على التنظيم قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تسريع انقسامه بين مؤيد ورافض له. 
 
4. في ذات سياق العودة المفترض فقد يرجّح عودة التنظيم "تنظيمًا عراقيًّا" معولَم الخطاب وذلك من خلال قسره إعادة بناء شبكته على أرض المنشأ دون غيرها –أي العراق- حيث إن بقاءه فيها -في حال اختار ذلك- أدعى مما سواها، فقد شهد العراق بذرته الأولى وتضخّم قوّته لاحقًا وانهياره أمام ضربات "الصحوات" ثم انطلاقه –في خطوة استراتيجية- نحو سوريَّة بغية تحقيق مكاسب استراتيجيّة –أموال، نفط، سلاح، تعداد عسكري وبشري،....إلخ- وعلى الرغم من القضاء على "سيطرة التنظيم العسكرية" فإن أسباب إمكان عودته إلى العراق حاضرة حيث ما تزال "الحاضنة السنيّة" فيه تعاني ذات المظالم التي أنتجت "التنظيم" –سابقًا- كما أن الشبكات الاجتماعية التي دعمته فيما مضى ما تزال موجودة الآن مع واقع أشد ألمًا وأقسى تأثيرًا، وما لم تتغير السياقات التي أدت لظهور التنظيم فإن دواعي عودته إلى الميدان العراقي موجودة. 
 
ب‌. انتهاء التنظيم وتفككه: 
ينبغي الإشارة في مستهلّ تقديم هذا السيناريو إلى ضعف حدوثه عمليًّا، إذ إن أبناء التنظيم الشباب في واقع الأمر هم الجيل الثاني من الجهادية المعاصرة التي انطلقت في العراق وتعززت مع مسيرة القاعدة هناك ثم انتقلت في الجيل الثاني إلى مرحلة الدولة بينما يمثل "أشبال الخلافة" وأبناء "قتلى التنظيم ومعتقلوه" الجيل الثالث، ولذا فإن احتمال انفكاكهم عن إيديولوجية الخلافة أمر أقرب إلى الاستحالة، أما مسألة استمرار الجهاد من خلالهم فهي العملية الأقرب ذهنيّا ومنطقيًّا.
يمكن حصر خيارات عديدة في سياق احتمال انتهاء التنظيم وتفككه، ولعلّ أبرزها يتمثَّل بانفصال قياداته والكتل المؤثرة في كتائبه العسكرية عنه نهائيًّا وانتقالهم إلى إنشاء تنظيم جديد/ إلا أنه يشترط في هذه الحالة دعم الحاضنة الشعبية في العراق وسوريّة التي عانت من خيار "سيطرة التنظيم المطلقة" لاعتبارين أحدهما يتعلق بطبيعة الدافع لدعم التنظيم شعبيًّا في العراق، فعلى الرغم من المظالم المستمرّة إلا أن الآلام المنبعثة من تجربة سيطرته المطلقة ستشكل مانعًا لدعم إعادة تشكيل شبكته باسمه السابق أو باسم آخر، أما الثاني فيتعلق بطبيعة التنظيم ذاته التي يرفضها السوريون حيث يتمركز التنظيم في الوعي الشعبي باعتباره السبب الأهم في عودة تغول النظام وسيطرته إلى سابق عهدها جراء احترابه العنيف والجذري مع الفصائل الثائرة ضد النظام، مما يؤكد أنه وإن توارى داعش أو هزم مؤقتًا، فإن عودته بأشكال ومسميات جديدة أمر محتملٌ إلا أنه لا يمكن الجزم بذلك، فقد أدركت الحاضنة السنيّة والمجتمعات المحليّة حقيقة ومصائر هكذا تنظيمات، وليس من السهل نهائيًا قبول فكرة وأداة كهذه مجددًا في سبيل "رد المظالم"
ويمكن الإشارة إلى خيارات أخرى قد يسلكها أفراد التنظيم "فرادى" أو "خلايا" محدودة العدد، وذلك من خلال الانضمام للتنظيمات الجهادية المحليّة أو الانضمام لتنظيم القاعدة باعتباره الرحم الأول الذي ظهر منه "داعش"، أو من خلال الاعتزال المطلق لقضية الجهاد والعمل على تحقيق دولة الإسلام، مما يؤدي في الختام إلى تذويب التنظيم بالمطلق وانفراط عقد هيكله المؤثر. 
 
خامسًا: خاتمة
خلال ما يزيد عن عقد ونصف –تقريبًا- راكمت الظاهرة الجهادية –ممثّلة بـ داعش- خبرة عريضة في الاستفادة من الواقع وتحويله لمصلحتها عمليًّا أو التخفيف من آثاره الضارة عليها على الأقل، ومن ثم فإن تحوّلات "داعش" تنظيميًّا واستفادته من الواقع الميداني الذي استغله بنجاح إبان انطلاق العمل المسلّح في الثورة السوريّة أضافت إلى العمل الجهادي "عالميًّا" بُعْد تشخيص الدولة "الإسلامية" والخلافة المنشودة على الأرض وتوسّعها من ثمّ على حساب مختلف التنظيمات الأخرى.  
لقد أثار هذا الصعود السريع مختلف الأسئلة حول قدراته ومكوّناته ودوره في تدمير الروابط المجتمعيّة السابقة وسعيه لإنشاء شبكات ذات روابط جديدة، إضافة إلى تأثيره الحاد في صُنْعِ انشقاقات حادّةٍ داخل بنية التفكير "الإسلامي" من خلال تعميقه أزمة "التكفير" واستغلاله سلاحًا مشهَرًا في وجه "الآخر/ المخالف"، كما غيّر صعود "داعش" مختلَف الحسابات السياسيّة للقوى المحليّة والدولية إذ كان ظهوره سببًا مباشرًا في تعديل قائمة الأولويّات في قضايا الأمن القوميّ ممّا أنتج تباينًا حادًّا في المواقف بين الدول الفاعلة في العالم بناءً على اختلاف الرؤى في التعامل مع التنظيم فخلق خارطة تحالفات جديدة في الشرق الأوسط متعارضة مع الخرائط السابقة إلى حدٍّ كبير إلا أنه ينبغي التنبه إلى أن خارطة هذه التحالفات والمواقف محكومة بغايات محدّدة ومعلنة أهمُّها القضاء على تنظيم "الدولة"، ومن ثمَّ فإن تغيُّر خارطة هذه التحالفات وتفكّكها لاحقًا أمر متوقَّع في ظلّ مصلحيّة الهدف المرسوم أولاً ومرحليَّته ثانيًا، ومما يعزز ذلك مقترح الانسحاب الأمريكي المتوازي مع مناقشات طويلة ومعقدة ما زالت مستمرة لإنشاء مقترح المنطقة الآمنة التي تطالب بها تركيا في شمال سورية.
من المؤكّد أن  هزيمة "داعش" على أرض الميدان –الآن- ستدفع لظهور انعكاسات جوهريّة في حالته المستقبلية، ويجدر –في هذا السياق- التنبّه إلى نقطه يجب عدم الغفلة عنها في التعاطي مع ظاهرة تنظيم "الدولة الإسلامية" وهي "الإيديولوجية التي بناها لنفسه" حيث قدّم التنظيم نفسه –من خلال الدعاية المكثّفة المدعومة بالحرفيّة التصويرية غير الاعتياديّة- معبّرًا عن الهويّة الإسلاميّة المتخيّلة والمغيّبة في آن معًا، ولذا فإن الخيارات أو السيناريوهات التي سيسلكها التنظيم مبنيّة في "الغالب" على ضوء هذه الإيديولوجية التي رسّخها عن نفسه، ومن ثمّ فإن هذه السيناريوهات تكاد تنحصر في احتمالين: 
يقضي الأول منهما بـ "إعادة التنظيم بناء هيكليّته والنهوض مجددًا"، ضمن ثلاث توقعات، وهي 1. إعادة تأهيل الشبكة الجهادية المؤطّرة للـ"النواة الصلبة" في قيادة التنظيم في ميدان العراق وسورية أو من خلال 2. انتقال التنظيم إلى مواضع جديدة ضمن استراتيجية التوزُّع الجغرافي في عدة "ولايات" وبناء الشبكات المحلّيّة فيها للانتقال إلى مرحلة الدولة مجدَّدًا ضمن مجموعات تنظيمية يشرف عليها "البغدادي" ذاته أو من خلال وكلاءَ يثق بهم في بعض الدول الإقليمية، 3. الانقلاب على القيادة الحاليّة في التنظيم والانتقال إلى قيادة أخرى حيث يرتبط هذا التوقُّع بمدى قدرة الأجنحة القوية داخل التنظيم على تحقيق ذلك، كالتيّار الحازمي العنيف في تطرفه ونزعته التكفيرية والذي عمل البغدادي على إقصائهم سابقًا من قيادة التنظيم بالاعتقال تارةً والتصفية تارةً أخرى، أو من خلال 4. عودة التنظيم عراقيًّا معولَم الخطاب من خلال استغلاله لفكرة رد المظالم في سبيل محاولته إعادة بناء التكتلات والشبكات الداعمة له. 
أما السيناريو الثاني: فيتمثّل في "انفراط عقد التنظيم بالكلية وانتهائه عمليًّا" من خلال انفصال قياداته والكتل المؤثرة في كتائبه العسكرية عنه وانتقالهم إلى إنشاء تنظيم جديد أو من خلال انضمامهم إلى التنظيمات المحليّة أو تنظيم القاعدة الذي ظهر منه "داعش" بدايةً، أو من خلال الاعتزال المطلق لقضية الجهاد والعمل على تحقيق دولة الإسلام، مما يؤدي في الختام إلى تذويب التنظيم بالمطلق وانفراط عقد هيكله المؤثر، إلا أن الواقع يشير إلى ضعف تحقُّق هذا السيناريو في ظل المعطيات المتوفرة.