اتفاقيات مصالحة سورية
رايموند هينبوش – د.عمر العمادي
مجلة دراسات سورية - المجلد التاسع، العدد الثاني، (٢٠١٧)
تباينت الهدن المحلية، التي يسميها النظام السوري باتفاقات”المصالحة“، والتي اصطلحت القوى الكبرى على تسميتها لاحقاً باسم مناطق خفض التصعيد، في الصراع السوري مع الوقت، وبالدرجة الرئيسية بحسب تغير ميزان القوى. لقد تراوحت هذه الاتفاقات ما بين تنازلات تتم بعد وقف إطلاق نار يبقى به مقاتلو المعارضة مشاركين في الأمن ووظائف الحكومة، إلى حالات استسلام عملي للمعارضة متضمنة إخلاءات للمقاتلين أو حتى لمجتمعات بأكملها.
سياق تشكل ”المصالحة“: تغير ميزان القوى
منذ وقت مبكر نسبياً، تفاوضت الحكومة السورية وقوى المعارضة على هدن في مناطق محدودة، لكن الحافز الأكبر لهذا كان العجز المتنامي لكلا الطرفين عن الفوز بالحرب. لمواجهة العجز البشري الذي منعه من استعادة السيطرة على مناطق المعارضة، أخذ النظام زمام المبادرة بمحاولة فرض تسويات، قطعة قطعة، في النطاقات الواقعة على هوامش مناطق سيطرة الحكومة، حيث كانت تركزات المعارضة هي الأكثر تهديداً. عكست هذه الهدن وشكلت واقع حرب استنزاف، كانت به التقدمات تدريجية وصعبة الحفاظ عليها، وميالة لأن تكون مسيطرة ومتشظية. إضافة إلى ذلك، دفع فشل المفاوضات السياسية ”من رأس الهرم إلى قاعدته“ على مستوى وطني - وأهمها جنيف ٢ - المبعوث الأممي الثالث ستيفان دي ميستورا، في تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٤، إلى تقديم هدن محلية أقل طموحاً، من القاعدة إلى الرأس، سعياً لتقليل العنف، وأملاً أن تحوز هذه الهدن زخماً يمكّن من تجاوز حالة الركود في المفاوضات على المستوى الوطني (Beals 2017).
أصبح ميزان القوى المتغير هو المحدد لسرعة ونوع الاتفاق. في منطقة دمشق؛ استفاد النظام من تشظي المعارضة، وعجزها عن تنسيق هجمات موحدة، ونقاط ضعفها، فتمكن من انتزاعها واحدة واحدة. أصبح السكان أكثر عدائية مع فشل المعارضة بحماية السكان من حصار النظام وهجماته الجوية، إضافة لاقتتالهم الداخلي سعياً للسيطرة على الموارد ونقاط الوصول، والسلطة الشخصية، والاختلافات الفكرية (ضمن الإسلاميين) (Glass 2017, Lund, 2017b). العامل الآخر كان استقطاب قوى الجيش السوري الحر المعارضة من الأردن وتركيا لتأمين حدودها وقتال ”الدولة الإسلامية“ و“حزب الاتحاد الديمقراطي“، بدلاً من الأسد. ومن الجدير بالذكر أن التدخل الروسي، وسقوط حلب، وإعادة تقارب تركيا مع روسيا، وتخليها عن هدف إسقاط الأسد، شكل السمة الراهنة الميالة لصالح النظام المنتصر كما يبدو (Samaha 2017).
بالاستقصاء عن سبب قبول المعارضة لصفقات مع النظام، كانت الإجابات هي التخلص من الحصار، وجلب الأمن، وتراجع آفاق الانتصار العسكري على النظام، والحصول على فرصة لإعادة تجميع الصفوف. (Turkmani and Kaldor 2014). بعد سنوات من الاضطراب والمجازر والآفاق المسدودة، يبدو أن الرأي العام يميل لصالح الأمن والأمان، الذي يمكن للنظام أن يوفره بشكل أفضل (Lakitsch 2017).
بعد تدخل روسيا عام ٢٠١٥؛ بدأت استراتيجية روسيا بالهيمنة على عملية التسوية. اقترحت موسكو ”مناطق خفض التصعيد“ لاحتواء النزاع. كان الهدف متوسط المدى هو شيئاً ما مماثلاً لبوسنة ما بعد الحرب الأهلية، تتحمل بها كل من قوى الحكومة والمعارضة مسؤولية الأمن في مناطقها (Memorandum; Applying Bosnia Model). على المدى الأقصر، كان جلب المقاتلين المعتدلين للقبول بخفض التصعيد يعني عملياً جلبهم للقبول بنظام الأسد، بل في بعض الأحيان، السماح باستخدامهم ضد الجهاديين. في لقاء الإستانة، تم جلب ١٣ فصيلاً مسلحاً من الذين واجهوا خسائر ميدانية، خصوصاً في حلب، وخسروا دعم تركيا، رغماً عن إرادتهم، للمشاركة في المفاوضات لما سيصبح اتفاق الإستانة (AP 2017). حدد الاتفاق أربع مناطق خفض تصعيد: ريف حمص الشمالي، الغوطة، جنوب درعا/ القنيطرة، إدلب وأجزاء من المحافظات المجاورة لها. لن يتوقف القتال في هذه المناطق وحسب؛ بل أجبرت الحكومة على السماح بالدعم الإنساني واستعادة الخدمات العامة والسماح لّلاجئين بالعودة، لترد دمشق، التي لا تملك الكثير من الخيارات كذلك، بأنها رغم إذعانها للهدنة؛ ستستمر بمحاربة ”الإرهاب“، الوسم الذي تطلقه على كل المجموعات الثائرة المسلحة. أدرك مسلحو المعارضة أن الاتفاقية تهدف لفصل الجيش السوري الحر عن الجهاديين، ومن ثم تقسيم المعارضة لصالح الأسد. كان على كل من روسيا وتركيا وإيران تقديم القوات لحراسة وقف إطلاق النار، رغم عدم الوصول لاتفاق على التفاصيل. ميثاق بوتين- ترامب- المفصل بـ"مذكرة مبادئ خفض التصعيد في جنوب سوريا" كان لتثبيت وقف إطلاق نار بين قوات الحكومة السورية والمعارضة المسلحة في جنوب سوريا، بما يحفظ الانقسام الحالي للسيطرة بين الجانبين، لكنه بعكس الإستانة، لم يعترف بأي دور مباشر أو غير مباشر (أي عن طريق حزب الله) لإيران بتأمين هذه الاتفاقية.
جوهرياً، وصلت المعارضة العسكرية إلى قناعة بأن عليها أن تنفصل عن المجموعات الجهادية، وأن تتوافق مع دور ووجود روسي كبير، لأن البديل كان إيران، ولأن تغيير نظام الأسد، على أقل تقدير، لم يعد ممكناً على المدى القريب. ”مناطق خفض التصعيد“ شكلت ”الإنجاز“ الملموس الوحيد الذي تستطيع المعارضة تحقيقه على الأرض، بما أنهم كانوا نظرياً في مناطق لم تكن تحت سيطرة الحكومة تماماً، لكنها تحت شكل ما من الحماية الدولية. وبما أن هذه المناطق تم تحديدها بوضوح بناء على الجغرافيا التي تغطيها، وليس على طبيعتها الفعلية، فإن كلاً من النظام والمعارضة سيحاولان قطعاً فرض أنماطهم الخاصة للحكومة والأمن.
خطاب النظام
زعمت الحكومة السورية أنها تتبع سياسة من الحوار بخصوص الإصلاح السياسي مع كل الأطراف المحلية ”التي رفضت التدخل الخارجي والعنف“، في حين أنها ”تحارب التمردات المدعومة من الخارج“ في الوقت ذاته. عقب مؤتمر جنيف ٢ الفاشل الذي ادعت به الحكومة أن ”المعارضة المدعومة خارجياً“ أقصت نفسها من عملية الإصلاح؛ تم التأكيد على أن الحوار الداخلي هو مخرج الصراع السلمي والمجدي الوحيد. (SANA 2014; nsnbv international, 2014)
المصالحة الوطنية كانت ”رؤية استراتيجية“ فصلها بوضوح الرئيس السوري بشار الأسد (al-Baath Newspaper). أسست الحكومة وزارة للمصالحة الوطنية عام ٢٠١٢، استلمها علي حيدر، الذي ادعى الوصول إلى ٥٠ مشروع مصالحة ناجحة بحلول ٣٠ أيلول/ سبتمبر ٢٠١٥ (Stone 2016). كانت هذه الاستراتيجية هي فصل المقاتلين الأجانب عن المقاتلين السوريين و“الإرهابيين“ عن المقاتلين المعتدلين الذين يمكن ”إعادتهم إلى رشدهم“ (Adleh and Favier 2017). قدّم حيدر تمثيلاً لطيفاً للعملية: اختارت الوزارة أشخاصاً مؤثرين محلياً لتشكيل لجنة مصالحة تواصلت مع المقاتلين، وقدمت ممراً آمناً من المنطقة لأولئك المقاتلين الذين رفضوا المصالحة، وعفواً عن أولئك الذين ألقوا سلاحهم ثم تمت دعوتهم للانضمام للجيش، واستجاب العديد منهم، بادعاءات النظام. قام رئيس [النظام السوري] الأسد بعفو عام ثماني مرات في السنوات الخمس الأخيرة لِما مجموعه ٢٠ ألف ”مرتزق“ سوري سابق. في تموز/ يوليو ٢٠١٦؛ أقر الأسد المرسوم التشريعي رقم ١٥، الإطار القانوني لـ“المصالحة“، والذي تضمن العفو عن كل من ”سلم نفسه ووضع سلاحه“ (Ezzi 2017). داعمو المعارضة مُنحوا حق العمل مع المعارضة الداخلية (غير المسلحة) السورية. روّج الإعلام السوري فكرة أن الناس في مناطق سيطرة المعارضة أرادوا (SANA, Oct 2015) تعزيز المصالحة الوطنية، لكنهم كانوا خائفين من انتقام المنظمات الإرهابية. المصالحة ستعزز الثقة بين المواطنين والمسؤولين، وتسوي الحالة القانونية للشباب الذين قرروا إلقاء أسلحتهم، وتحديد وضع المفقودين، وتمكين المساعدات الإنسانية. قالت مستشارة الرئيس الأسد، بثينة شعبان، في ٢٠١٧: إن ”المصالحات تسير بشكل جيد جداً الآن، وهناك العديد من المناطق على الطريق. نحن نشعر أن هذه هي الطريقة الأفضل لإنهاء الحرب“. (Glass 2017).
كيف يرى النظام الناتج الكلي للمصالحة؟ المرسوم التشريعي ١٠٧، حول اللامركزية الإدارية، قدم إطار عمل محتملاً لانتقال السلطة السياسية، بعد الصراع، فيسمح لكل أطراف الصراع بالحفاظ على درجة من السيطرة على المناطق الواقعة تحت نفوذها، لكنها تمنح كذلك سلطات واسعة لحاكم يتم تعيينه رئاسياً على مستوى المحافظات (Aarabi 2017). بالنظر للبدائل الحالية؛ فقد يكون هذا بالفعل ناتجاً مثالياً يسمح على الأقل بشيء من تقاسم السلطة.
استراتيجية النظام
غير أن رئيسة مجلس الشعب، هدية عباس، أعطت توصيفاً أكثر واقعية بوصف المصالحة على أنها وسيلة ”لتعزيز الانتصارات التي يحققها الجيش العربي السوري ضد المنظمات الإرهابية“ (SANA, Sept 2016). إن المصادر المقربة من النظام تنظر للمصالحة على أنها جزء من استراتيجية بقاء مركبة للنظام. هذه الاستراتيجية تجمع المفاوضات مع المعارضة، بجانب الاستخدام المفرط للعنف (بالاعتماد على روسيا للحماية الدبلوماسية في مجلس الأمن ضد أي رد فعل دولي)، لعكس وجهة النظام بأن الشخص لا يمكنه أن يفاوض من موقف ضعف. إلا أن النظام بمواجهة القيود البشرية، وبدلاً من المخاطرة بخسائر كبيرة لمقاتليه؛ اتبع سياسة الحصار وانتظار القرى أو البلدات
حتى تصل أخيراً للإذعان (وهو ما يضغط به الأعيان الكبار على المقاتلين كي يقبلوه). إن النظام الأمني للدولة، متسلحاً بملفات مخابراتية جمعت على مدى قرون، عرف أعداءه ونقاط ضعفهم. وباكتشافه أنه لا يوجد تكتيك يمكن تطبيقه بنجاح في كل مكان؛ قدّم مفاوضو النظام أنواعاً مختلفة من الصفقات في مناطق مختلفة، فعلى سبيل المثال؛ أولئك الذين أبدوا مقاومة كبيرة في مواجهة النظام واجهوا إزالة كاملة للسكان وممراً آمناً لمناطق سيطرة المعارضة (أي إلى محافظة إدلب) (Glass 2017). ارتكزت العديد من الصفقات على محيط دمشق حيث توسع النظام تدريجياً ضد تركزات المعارضة التي كانت تمثل تهديداً لمركزه الرئيسي، بالإضافة إلى حمص وحلب ومناطق أخرى (Beals 2017). اعتُبرت المصالحات منذ اليوم الأول جزءاً من استراتيجية حرب بدلاً من كونها رغبة أصيلة بالتحرك باتجاه تقاسم السلطة، فالوعود المتعلقة باللامركزية الإدارية والامتيازات الخاصة التي وعد بها أعيان مناطق المصالحة تم التراجع عنها مع الوقت، وتم إعادة المؤيدين بشكل منهجي إلى تلك المناطق.
إضافة لذلك؛ ومع تغير ميزان القوة لصالح النظام؛ تجدد إصرار النظام على استعادة كل الأرض السورية تحت سيطرته. يؤكد الإعلام السوري، حتى فترة وجيزة، على أن فكرة الانتصار العسكري كانت تعتبر أحد المستحيلات، لكنها لم تعد كذلك، وأن العودة إلى حكومة مركزية سيتحقق (مع الوقت)، مع استثناء المناطق الكردية التي يبدي النظام شكوكاً بإمكانية استعادتها إلى وضعها القديم تحت حكمه. بشكل خاص؛ تقر الشخصيات المرتبطة بالنظام بأنه متصالح مع فكرة صراع طويل مستمر. ومع تحقيقه اليد العليا على الأرض بكلفة باهظة؛ لا يملك الأسد أي اهتمام بالتنازلات المطلوبة لتحقيق انتقال سياسي بالمفاوضات.
وبالتأكيد؛ ترى المعارضة استراتيجية مصالحات النظام أبعد ما يكون عن كونها حميدة. صفقات المصالحة ليست ”مصالحات“ بالمعنى الحرفي، لكنها إما استسلامات أو هدن مؤقتة للراحة. بأكثر أشكالها إثارة للمخاوف؛ ليست المصالحات أقل من كونها خطة لإعادة تشكيل سوريا ديمغرافياً. رياض حسن آغا، عضو ”هيئة المفاوضات العليا“ المعارضة، ينظر للمصالحات بهذا الشكل: اجعل ١٢ مليون سوري (غالبيتهم من السنة) مهجرين أو لاجئين، وأجبر السنة الباقين في دمشق والساحل على قبول دورهم المصغر كأقلية جريحة يجب أن تظهر الولاء الكامل. بشكل موازٍ؛ يتم نقل المليشيات المدعومة إيرانياً إلى المناطق التي غادرها المقاتلون السنة كاستراتيجية للتشييع. (All4Syria Archive, http://www.all4syria.info/Archive/355010).
”المصالحة“ عملياً: سير العمليات وتباينات النتائج
نستطيع الحصول على فكرة أفضل لكل من نوايا الحكومة والقيود التي تواجهها بتتبع العمليات التي تم الوصول بها إلى صفقات مصالحة، وما هو الناتج منها.
مفاوضو الحكومة كانوا ضباطاً في الجيش والمخابرات، إضافة إلى سكان مؤيدين للنظام في المناطق المتنازع عليها، مثل الزعماء الدينيين أو القبليين، بينما تضمن جانب المعارضة المقاتلين، وناشطي المجالس، والزعماء الدينيين، والأعيان. لم يستطع النظام إملاء بنود الصفقات ببساطة، فعلى سبيل المثال؛ قام الأعيان المؤيدون للأسد والذين يملكون جذوراً في الغوطة الشرقية برحلات مفاوضات متكررة إلى دوما، التي يسيطر عليها جيش الإسلام (Lund 2017a). غالباً كانت المفاوضات تنهار، لأن النظام كان يصر على الاستسلام، وإن تمت المطالبة بأقل من ذلك، فقد كان المفسدون، أولئك المستفيدون من المعابر على كلا الجانبين، وبشكل أخص مليشيات النظام المحلية المتشددة المجتمعة في قوات الدفاع الوطني، يرفضون هذه الصفقات التي يصل إليها مسؤولو الحكومة السورية. في أحد المرات، قتلت لجنة مصالحة مفوضة من النظام على يد مليشيا علوية. سوء النية المتعمد وعدم التطبيق، خصوصاً من الحكومة، كان عائقاً أمام المزيد من الاتفاقات. قد تطيل مجموعات المعارضة القتال للحفاظ على مصادر الدعم الخارجي. عندما كان المقاتلون أجانب أو لا يملكون مصلحة في المنطقة المتأثرة؛ كانوا أقل استجابة لمعاناة المدنيين ومطالبهم بإنهاء القتال (Turkmani and Kaldor 2014). عام ٢٠١٦، أسس الروس مركزهم الخاص للمصالحة، الذي ادعى أنه استطاع الوصول إلى ١٤٧٩ هدنة، الذي إن كان محقاً، يمثل تسارعاً حقيقياً في سرعة العملية (Adleh and Favier 2017).
أنواع الاتفاقات
أنواع الاتفاقات لا تعكس فقط نوايا النظام (والمعارضة)، لكن على ميزان القوة بينهما، كما تمثل امتداداً لعوامل أخرى مثل استراتيجية النقطة المحلية، وتركيبتها الطائفية، وتاريخها الثوري بالمشاركة في الانتفاضة.
النوع الأول: شكلُ الاتفاق الأقل توازناً يؤدي إلى تهجير كامل لمجتمع بأكمله (والعديد منهم كان قد هرب من المنطقة مسبقاً)، ربما بتبادل سكاني كما حصل بما سمّي اتفاق المدن الأربعة، حيث تم إخلاء القرى الشيعية التي يحيط بها مقاتلو المعارضة بالتوازي مع إخلاء للسنة من منطقة القلمون، مثل الزبداني. هذه الاستراتيجية، بنظر المعارضة، مبنية على إجبار السكان على الانتقال سعياً لخلق تغيرات ديمغرافية بما يسمى ”سوريا المفيدة“ (Ezzi 2017).
في حالة داريّا، التي كانت منصة لهجمات الثوار على دمشق التي يسيطر عليها النظام والقريبة من مطار المزة العسكري؛ لم يجبر السكان فقط على الخروج، بل هدّم جنود النظام البلدة ونهبوها. على النقيض؛ وفي بلدة المعضمية المجاورة، التي كانت أكثر دفاعاً في الصراع، تمت معاملتها بشكل أكرم. العديد من مقاتلي داريا توجهوا إلى إدلب، لكن قسماً آخر توجه إلى مخيم جديد يبعد عشرة أميال جنوب دمشق قرب حرجلة، حيث تم بناء مخيم جديد، وتم تقديم الغذاء والخدمات والتعليم والرعاية الطبية من الهلال الأحمر. قال أحد المقاتلين: ”تم إعطاؤنا خياراً. عندما أتيت إلى هنا، قال الجميع إن النظام سيأخذني إلى السجن“. وبجلاء؛ لم يحصل هذا. (Glass 2017). في بعض الأماكن، أثّر الصدع الطائفي السني-العلوي على مسعى النظام؛ مركز مدينة حمص والوعر، المناطق السنية الثائرة، فواجهت إخلاء للسكان، محولة التوازن الديمغرافي لصالح العلويين.
النوع الثاني: اتفاقات أخرى أقل عقاباً نسبياً تطلبت من مقاتلي المعارضة والناشطين أن يستسلموا مقابل رفع الحصار واستعادة الخدمات، لكن دون تهجيرات مجتمعية على نطاق كبير. هذا النوع من ”المصالحة“ تم تطبيقه في قدسيا، الهامة، التل، مضايا، ضواحي دمشق الشرقية، وسواها. أي شخص كان مسلحاً ولم يقبل بشروط النظام تم طرده. العناصر المطيعون من المعارضة المسلحة سابقاً تم استدخالهم في مليشيات النظام المحلية. وتم حل المجالس المحلية للمعارضة، التي كانت تقدم بديلاً لمؤسسات الدولة، لأنها كانت تعتبر تهديداً لاستعادة سلطة النظام في مناطق الثوار. أعضاء وفد المصالحة، وكبار الشخصيات التقليديون، والتجار، والشيوخ المؤيدون للمؤسسة الدينية الرسمية، أصبحوا زعماء محليين بسلطة مؤقتة. بشكل كبير؛ سمحت هذه الصفقات للشيوخ الإسلاميين السابقين بالاستدخال مع النظام، فمثلاً؛ في بلدة يلدا جنوب دمشق؛ انضم إمام مسجد الصالحين، الذي كان قاضياً في محكمة شرعية مع الفصائل الإسلامية، إلى جانب النظام، مثلما فعل إمام مسجد بيت سحم الكبير، الذي كان قائداً لسرايا الشام، التابعة للواء شام الرسول. من خلال المفتي السابق لريف دمشق، الشيخ محمد عدنان أفيوني، مريد الشيخ الراحل أحمد كفتارو، أعاد النظام تأهيل هؤلاء الشيوخ ومنحهم ضمانات أنهم لن يحاكموا مقابل دعمهم لسياسة ”المصالحة“. لقد تم تحويلهم إلى وسطاء بين الشعب والدولة. رغم أن الحصارات كانت تُرفع في هذه الحالات؛ فإن الشبكات الإغاثية المحلية التي كانت تنقل المساعدات من الخارج تم حلّها، لأن الحكومة اعتبرت هذا النقل للمساعدات إلى مناطق المعارضة انتهاكاً لسيادتها. الآن، أصبحت المساعدات تنتقل فقط عبر القنوات التابعة للحكومة، حيث قد تتحول إلى أيدي المؤيدين أو تضيع بالفساد. في بعض الأحيان؛ نكث النظام بوعوده لتسليم الخدمات، ففي التل؛ لم تتم استعادة الكهرباء، كما استمر الاعتقال التعسفي على يد مليشيا ”درع القلمون" المؤيدة للنظام. عمل النظام على استدخال بعض مقاتلي الجيش السوري الحر في ”قوات الدفاع الوطني“، مستفيداً من الاقتتال الداخلي والمظالم بين مجموعات المعارضة. لكن، في الكثير من مناطق ”المصالحة“، بدأ النظام بفرض التجنيد الإجباري. (Adleh and Favier 2016, Ezzi 2017).
النوع الثالث: النوع الثالث من الاتفاقات كان أكثر توازناً، إذ تمت صياغته بسبب توازن للقوة بين النظام والمعارضة. تحت هذا النوع من الصفقات؛ أبقى الثوار سيطرتهم على مناطقهم، مقابل تسليم سلاحهم الثقيل وإيقاف الهجمات على قوات المعارضة، مقابل رفع الحصار والسماح بعودة المهجرين واستعادة الخدمات العامة (Hamlo 2015). الاتفاق الأول في برزة في حزيران/ يونيو ٢٠١٤ جرى على هذه الأسس وكان مقبولاً لدى المعارضة أكثر بكثير من صفقات أخرى بسبب الموقع الاستراتيجي للبلدة التي احتاجت الحكومة استعادتها، لكنها لم تستطع فعل ذلك عسكرياً، وكلفها الكثير من الضحايا، ولذلك؛ فقد دفعت بوقف إطلاق النار لتحييد هذه الجبهة. أبقى مقاتلو الجيش السوري الحر سيطرتهم لمناطقهم، وتحولوا اسمياً إلى ”جيش شعبي“ مقبول من النظام، مسؤول على حفظ النظام، كما تراجع الجيش، وتم السماح للمدنيين بالعودة مع فتح الطريق إلى دمشق (Turkmani and Kaldor 2014). لكن لاحقاً، في أيار/ مايو ٢٠١٧، تم إخلاء مئات المقاتلين وعائلاتهم بعد أن قرروا إلقاء أسلحتهم والمغادرة إلى إدلب التي يسيطر عليها الثوار.
تم الوصول إلى اتفاق مشابه في ٢٠١٤ في جيرود، التي بقيت مسالمة بعد ذلك. وتم وصف الصفقة من ناشط بالمعارضة على أنها ”هدنة مؤقتة“ خدمت مصالح كلا الطرفين. أراد النظام تقليل عدد الجبهات التي يخوضها وأراد السكان (المؤيدون للمعارضة) في جيرود الحفاظ على بلدتهم. يقول الناشط بكلماته: ”سيكون على الحكومة ضبط النفس لأنها لا تستطيع إشعال هذه الجبهات، لأن الجيش مستنزف في مناطق أكثر سخونة مثل إدلب ودرعا وحلب“ (Hmalo 2015).
كانت الصنمين في محافظة درعا نموذجاً لكيفية سعي النظام للاتفاق بالكلفة الأدنى، مع الجنوب الذي تتسع به سيطرة المعارضة. لقد كانت نقطة استراتيجية، لأنها تضم قاعدة الفرقة التاسعة المهمة التابعة للجيش السوري، وبوابة بين درعا ومناطق المعارضة في الغوطة. خرجت الكثير من مساحة البلدة عن سيطرة النظام وتم تشكيل مجالس المعارضة المحلية، رغم أن معظم الخدمات العامة كانت لا تزال مؤمنة من قبل النظام. فرض النظام حصاراً على الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة، تم رفعه بعد اتفاقية أن لا يهاجم الثوار مواقع النظام أو عناصره. بعض (وليس كل) الأسلحة تم تسليمها، ولكن لم يجبر المقاتلون على المغادرة. قوات أمن النظام لم تتدخل بالأمن وبالحوادث الجنائية بالبلدة، سامحة للفصائل المسلحة بالتعامل مع هذه القضايا، إذا اعتقل النظام أقارب شخص ما، فإن هذا الشخص سيثأر باعتقال عنصر من الجيش أو بإطلاق النار على نقطة عسكرية. ومع تسلح كل العشائر لأجل الدفاع عن النفس؛ كان هناك الكثير من الفوضى بغياب القانون. بدلاً من التجنيد الإجباري؛ حاول النظام التجنيد لصالح ”الفرقة الخامسة“ الجديدة بتقديم ميزات إضافية. ولمواجهة العجز البشري؛ اعتبر النظام هذه الحالة نموذجاً للتعامل مع الجنوب، لكنها لن تنجح في المناطق ذات الوجود الجهادي القوي (Tamimi 2017).
النوع الرابع: نوع رابع من الاتفاقات نتج في المواقع التي كان بها موقف المعارضة المساوم يستند إلى سيطرتها على مورد مصيري للحكومة. في وادي بردى، نصت الاتفاقية على ألا تتدخل قوات الحكومة في البلدة على الإطلاق، مقابل ضخ آمن لمياه الشرب إلى دمشق من عين الفيجة: ”قطع الثوار ضخ المياه إلى دمشق أكثر من مرة، مبتزين الحكومة، حتى وافقت الأخيرة على مطالبهم، التي كانت تنص على إطلاق سراح المعتقلين من سجون النظام“. لكن في النهاية؛ اقتحمت الحكومة وسيطرت على منطقة وادي بردى. بشكل مشابه؛ سيطرت مجموعات الثوار على أنابيب الغاز في بلدة محسا القريتين، التي تمد محطات الطاقة في دمشق، مستخدمينها لانتزاع المال من الحكومة أو إطلاق سراح المعتقلين. في حلب، كانت السيطرة على محطات الطاقة الحرارية هدفاً لاتفاق عملي بين النظام والمعارضة (Hamlo 2015;. Turkmani and Kaldor 2014).
تبعات الاتفاقات
اتفاقات المصالحة المحلية قدمت تحسينات إنسانية وسلاماً محلياً فشلت الجهود المبذولة من رأس الهرم لقاعدته بتحقيقها. على المدى القصير، يوافق السوريون على الاتفاقات ليرتاحوا من الحرب، لكن على المدى الطويل؛ فإن العوائق أمام المصالحات الحقيقية تتضمن سياسات الحكومة بالتجنيد الإجباري والتهجير، وفقدان ممتلكات المهجرين، وهدم الأحياء العشوائية، وعدم إطلاق النظام لسراح المعتقلين (Adleh and Favier 2017).
ورغم إعلان النظام لهدفه باستعادة الحكم المركزي على سوريا بأكملها، فإن هذا غير قابل للتطبيق على المدى المتوسط، فحتى في مناطق سيطرة المعارضة؛ أصبحت السلطة لا مركزية لصالح الرجال الأقوياء المحليين، بطريقة لا تختلف كثيراً عن النوعين الثالث والرابع من الاتفاقات مع مناطق المعارضة. السنوات الست الأخيرة خلقت ثقافة الحكم الذاتي، لا في المناطق التي كانت خارج سيطرة النظام وحسب؛ بل حتى في مناطق مثل الساحل ودمشق، وهي ثقافة سيكون على النظام التكيف معها. إن المناطق التي سيجد النظام الصعوبة الأكبر بإعادتها (على فرض أنه يرغب بذلك عملياً) إلى أنماط حكومة ما قبل الانتفاضة هي المناطق التي ما زالت تحت سيطرته. ملايين السوريين تعلموا كيف يمارسون نشاطاتهم اليومية على فترات طويلة عندما كانت الحكومة مشغولة البال جداً عن تأمين خدماتها السابقة. مهارات البقاء الجديد هذه باتت تعني صعود تنظيمات جديدة تسامحت معها الحكومة لأنها ليست مسيسة، وترتكز بالكلية على القيام بعبء الوظائف التي لم تستطع الحكومة المرهقة جداً القيام بها.
غير أن الاتفاقات المحلية يجب استدخالها ضمن تسوية سلام شاملة، وإلا فإنها ستكون مجرد تكتيكات حرب استخدمت لتحييد منطقة ما بحيث يكون القتال أسهل في مكان آخر (Turkmani) ولن تحقق أي شيء قريب من المصالحة. ويبدو أن المقترحات الروسية تهدف لهذا فقط، وإذا أصبحت واقعاً فإن هذا سيعني، عملياً، نظاماً أكثر لا مركزية، لكنه كذلك أكثر غياباً للقانون على المدى المتوسط. وكما هي الحال اليوم؛ فلا يبدو أن النظام قد أثبت أنه يستطيع تحقيق انتصار عسكري جزئي وحسب؛ بل إن النوع الوحيد من التغيرات الذي سيسمح بتحقيقه هو أنماط الحكم اللامركزي، تلك المتحققة داخل إطار المصالحات. غير أن هذه التغيرات عديمة الأهمية كما قد تبدو اليوم، تضرب بعمق طبيعة سوريا ما قبل عام ٢٠١١، ولذلك، للمفارقة، فإن ما يبدو اليوم دليلاً على انتصار النظام قد يصبح في النهاية جوهراً لسوريا أخرى، لا تختلف كثيراً عما طمحت المظاهرات الأولى للوصول إليه.
تُرجمت ونُشرت هذه المادة بعد أخذ موافقة كّتابها .
عبيدة عامر : كاتب ومترجم سوري، متابع للشؤون العسكرية السورية والحركات الإسلامية. كتب مقالات أسبوعية خلال العامين الماضيين في عدة مواقع، عن سوريا والمنطقة، وترجم كتابي «نفط الدم» و«كيف تنتهي الحركات الإرهابية»
المراجع:
Adleh, Fadi and Agnes Favier, (2017) “Local Reconciliation Agreements in Syria: A Non-Starter for Peace-Builders, Florence: European University Institute.
Araabi, Samer, (2017) Syria’s Decentralization Roadmap, Carnegie Middle East Center, March 23,
Associated Press (2017) Syria Talks May Signal Shift in Conflict Dynamics, 23 January.
Beals, Emma (2017), Syria’s Cruel Reconciliations, Daily Beast, April 21,
Deeb, Sarah and Zeina Karam (2017), “With little room to manoeuvre, Syria’s rebels head for talks.” AP, January 20.
Future for Advanced Research and Studies, (2017), “Fragmentation of Fronts and Gradual Annexation in Syria and Iraq,” May 9.
Glass, Charles (2017), How Assad is Winning, 23 February, New York review of Books,
Ibrahim, Leen (2016) Paper Successes of Reconciliation in Syria, SouthFront, 5 June
Latitsch, Maximillian (2017), The Syrian regime in need to reconcile with its population, Policy Blog, University of Graz, April 3, https://policyblog.uni-graz.at/2017/04/the-syrian-regime-in-need-to-reconcile-with-its-population/
NC 2.0.
Lund, Aron (2017a) “Going South in East Ghouta, Carnegie Middle East Center, February 17,
Lund, Aron (2017b) “Syria: East Ghouta Turns on Itself, Again, The Century Foundation, 1 May.
Mardasov, Anton, (2017), Applying the ‘Bosnian model’ to Syria’s crisis, Al-Monitor, June,
Memorandum On The Creation Of De-Escalation Areas In Syria, May 7, 2017.
nsnbc international ( 2014), Syria: Remarkable Progress in National Reconciliation, 2 February,
Stone, Ken (2016) Amid foreign imposed war, Syrian government works for reconciliation,
Tamimi, Ayman Jawad (2017), Reconciliation' in Syria: The Case of Al-Sanamayn, SyriaComment, April 27
Turkmani, Rim and Mary Kaldor, et al. (2014) Hungry for Peace: Positives and Pitfalls of Local Truces and Ceasefires in Syria, LSE, October.