قراءة في كتاب "الإسلام والعلمانيّة"
نوفمبر 04, 2020 5710

قراءة في كتاب "الإسلام والعلمانيّة"

حجم الخط

قراءة في كتاب
"الإسلام والعلمانيّة"


عرابي عبد الحي عرابي

 

أوّلاً: مدخل وتقديم

إثر صعود الإيديولوجيا الأصوليّة وانتشارها في العالم، ازداد تناول قضيّة الإسلام والعلمانيّة في مختلف الصعد الإعلاميّة والفكرية، وأضحت هذه القضيّة إحدى أبرز القضايا على السّاحة الدّولية عامّة وفي الفضاء الأوروبي والفرنسيّ بشكل خاص. 

برزت في هذا الإطار جهود مختلفة لعدة مفكرين وباحثين فرنسيين اشتهرت كتبهم وآراؤهم بترجماتها للعربية، ولعل أبرزها كتب المفكر الفرنسي أوليفييه روا مثل "عولمة الإسلام" و"الإسلام والعلمانية" و"الجهاد والموت" و"الجهل المقدس"، بالإضافة إلى جيل كيبل الذي ألف العديد من الكتب أبرزها "يوم الله، الحركات الأصوليّة المعاصرة في الديانات الثلاث" و"المثقف والمناضل في الإسلام" و"جذور الإسلام المتطرف" وكذلك فرانسوا بورغا صاحب كتاب "فهم الإسلام السياسي" و"الإسلام السياسي في زمن القاعدة" و"الإسلام السياسي، صوت الجنوب"، إضافة إلى باحثين آخرين من جيل الشباب كستيفان لاكروا المتخصص في دراسة الحركة الإسلامية في السعودية والتي عرضها في كتابه "زمن الصحوة". 

لا يُعدّ بحث مسألة الإسلام وعلاقته مع العلمانيّة في فرنسا أمرًا طارئًا، وإنما هو قضيّة متجددة تتشابك الرؤى فيها بين الفينة والأخرى، وتُستَدعى الآراء والمناقشات حولها بالتوازي مع تطوّرات السياق الاجتماعيّ والأمنيّ، ولذا فإنها مسألة شبه وجوديّة تستدعي التّعبئة للدّفاع عن قيم الجمهورية الفرنسيّة عامّة وعن قضيّة العلمانيّة فيها بشكل خاص.

 

ثانيًا: المؤلِّفُ وكتاب "الإسلام والعلمانيّة" قراءة وصفية


ينحدرُ الأكاديمي الفرنسيّ أوليفييه روا من مدينة "لاروشيل" غرب فرنسا لأسرة تعتنق المسيحيّة البروتستانتيّة، وقد نال درجة الأستاذية في الفلسفة عام 1972، إضافة لنيله الدكتوراه في العلوم السياسيّة بجانب ذلك. 


يتبيّن لنا -من خلال سيرته العمليّة- أنه شغل العديد من المناصب الأكاديمية والديبلوماسية، فترأّس بعثة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا إلى طاجيكستان في عامي (1993-1994) كما كان مستشارًا لمكتب منسّق الأمم المتحدة لأفغانستان عام (1988)، وقد وُظِّفَ مستشارًا في وزارة الخارجية الفرنسية إلى عام 2008. 

يعمل الأكاديمي روا الآن أستاذًا جامعيًّا في معهد الجامعة الأوروبيّة في فلورنسا "إيطاليا"، وقد أدار سابقًا عدة أقسام ومراكز بحثيّة –على سبيل المثال- الأبحاث والدراسات في المركز الوطني للبحث العلمي في باريس (CNRS) وما زال يرأس مشروع "ReligioWest" الذي يموّله مجلس العلوم الأوربية ERC منذ عام 2011، وتغطّي أعماله الميدانيّة "الإسلام السياسي" في الشرق الأوسط والدول الغربيّة إضافة إلى اهتمامه بالأديان المقارنة .


تعود أهميّة كتاب "الإسلام والعلمانيّة"  إلى أسلوب "روا" في معالجة عدة إشكالات إضافة إلى القيمة التفكيكيّة لهذه الإشكالات ذاتها. 


قسّم أوليفييه مادة الكتاب على تمهيدٍ وأربعة فصول، حيث تناول الفصل الأول مركزية العلمانية وهوية فرنسا والعلاقة بين فرنسا والعلمانية من ناحية، وعلمانية فرنسا والإسلام من ناحية أخرى ، وخصّص الفصل الثاني لبحث الصلة بين الإسلام والدنيوية ، والعلمانية والمسيحيّة، إضافة إلى الإجابة عن السؤال المثار حول كون عقيدة الإسلام عقبة أمام العلمانية، ودور الدول الإسلامية في إنشاء فضاءٍ عام للعلمانية ، ويخلُص الفصل الثالث إلى بحث أزمة الدولة العلمانية من حيث مواجهة أشكال التدين الجديدة، وتفكيك خصوصية الدين وقراءة تحوّلات الأصولية المعاصرة باعتبارها نتاجًا للعولمة .

 

ثالثًا: العلمانية والإسلام أين التهديد؟ 


يستفيض أوليفييه في الحديث عن مركزيّة العلمانيّة ودورها في تشكيل هويّة فرنسا الثقافية والحضاريّة ، ويتوقف مليًّا عند محاولات صناعة "الرُّهاب من الإسلام"، بحيث تبدو المسألة الإسلامية في فرنسا مسألة وجودية، فكأن محض وجود الإسلام بحد ذاتها في أرض فرنسا طعنٌ في هوية البلاد أو في طبيعة مؤسساتها على الأقل .

يطلق أوليفييه أهم أسئلته قائلاً: "هل يشكل الإسلام تهديداً للعلمانية، أم أن الهوية الفرنسية بلغت من التأزم حدّ أن بضع مئات من الفتيات المحجبات والدُّعاة الملتحين يمكنهم القضاء عليها؟، وهل يعتمد النقاش حول الإسلام على المكان الذي يحتله الدين في مجتمعنا، أو أن الإسلام، على الرغم من مظاهر الاستمرار، هو كما يُدرك اليوم دينٌ جديد مختلف ينطوي على تهديد نوعيّ؟، وفي هذه الحالة، هل يرجع ذلك إلى نوعية اللاهوت المسلم، أم مردُّه، على نحو أكثر اتساعاً، إلى حقيقة أن الإسلام هو دين المهاجرين" ؟ وأن الإسلام بطبعه غير قابل للاندماج وإن كان في شكل "علماني"؟ .

يؤكّد أوليفييه على ضرورة دراسة النّصوص الدينية وتأويلاتها مع ضرورة التفريق عن الدين من ناحية الثّقافة بخلفيات هذه الكلمة أنثروبولوجيًّا، حيث لا يوجد الدّين إلا من خلال ثقافة يمكن إدراكها كثقافة عرقية مرتبطة بالجماعة والأعراف والتقاليد والهوية الذاتية، ومن جهة "الأصولية" حين ترتفع التأويلات العلمائيّة لتصبح بمثابة الدين المحض، وهذا ما يشكّل تحدّيًا للعلمانيّة التي اعتمدت في صياغة نفسها المنطق ذاته .

هنا يؤكد روا على مسألة غاية في الأهمّية؛ وهي أنه من العبثيّة النظر إلى العلمانية على أنها مسألة علاقة بسيطة بين الدولة والدين، لأن العلمانية –برأيه- تتخذ الهيئة التي يتحدد بها المجتمع سياسيًّا ،  وكذلك فإنهما -أي الدين والعلمانية- يُستدعيان باسم الهُوية ويوضعان وجهًا لوجه كما لو أن أحدهما مرآة للآخر ، وهي النقطة التي يثيرها روا مرارًا ليؤكد أن العلمانية في الواقع نتاج قراءة دينية تسعى لترسيخ هُوية جديدة كما هو حال الدين .

 

رابعًا: العلمانيّة والدنيوة


يميز الكتاب كذلك بين مفهومي "العلمانية" و"الدنيوة" باعتبارهما مختلفين في التعريف والتوظيف، فالدنيوة برأيه يتحرر فيها المجتمع من مقدّس لا يرفضه بالضرورة، بينما تقصي الدولة العلمانية الشأن الديني إلى ما وراء الحدود التي رسمتها هي بحكم القانون ، وبناء على ذلك فإن أنماطًا مختلفة من الدول تتشكّل بناءً على المفهوم الذي تتبناه، فقد يتبنّى بلد ما تفعيل الدنيوة لا العلمانية، فيكون لديه دين رسمي كبريطانيا والدنمارك، إلا أنه متحرر من الالتزام بضرورات الدين المقدّسة، كما يمكن أن يكون البلد علمانيًّا؛ إلا أنه يعترف بالديني في الشأن السياسي والعام كما هو الحال مع الولايات المتحدة .

يرى أوليفييه أن تعدد الأنماط يمكن أن يقود إلى أشكال متنوعة من ديمقراطية في الحكم، إلا أن العقبة الرئيسية أمام الديمقراطية في الشرق الأوسط تأتي من الأنظمة العلمانية التي تستمدّ أساليب وشكل الحكم من نماذج فاشيّة أوروبيّة أو من الدول الاشتراكيّة الديكتاتوريّة بعيدًا عن هوية الإسلام، ولذلك فإن هذه البلاد تجنح عادة للعلمانية الإقصائية  .

يؤكد روا أن القوانين التي تنظم المجال الديني في المجال العام الفرنسي منذ تأكيد مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة في حقيقتها استبدال لمجال ديني معيّن بمجال ديني آخر، ولخطاب أيديولوجي بخطاب أيديولوجي آخر، والعلمانية في نظره مجموعة من القوانين، والقانون ليس حالة عقلية أو مفهوماً محضًا، وإنما هي مجموعة من الإجراءات التي يقرر صلاحيتها إرادة المشرع: وعلى ذلك فإن حقيقتها سياسية .

يرى أوليفييه روا أنّه الأديان التّوحيدية لا يمكن أن تقبل العلمانية، نظرًا لأن هذه الأديان تستند إلى الوحي، ولذا فإنها نهائية برؤيتها الأساسيّة وكلّ دين منها يرى في أحكامه الحقيقة، إلا أن الإسلام من بين هذه الأديان يُنتَقَد حين يبحثُ موضوع العلمانية، ويتبادر إلى الذهن دومًا، ولكن عندما يراد التّأكيد على خصوصية الإسلام في مواجهة العلمانية يصار إلى التّركيز على أنّ المسيحية تقبل العلمانيّة استنادًا إلى المقولة الشهيرة "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، بينما الحقيقة لدى أوليفييه هو أن جميع الأديان تملك موقفًا رافضًا للإقصاء العلماني. 

يؤكد الكتاب في ثناياه على أن المجتمعات المسلمة صنعت أشكالاً مختلفة من الدّنيوية الخاصّة بها؛ إذ إن الدنيوة بحسب إشارات أوليفييه ظاهرة اجتماعية لا تتطلب أيّ استخدام سياسي، إلا أنها نابعة برأيه من انزياح جوهرية الدين عند المسلمين أو عموم المؤمنين بالأديان من المركز وانتقاله إلى دائرة الاهتمام التعبدي والشعوري، أمّا العلمانية فهي خيار سياسي يحدّد بأسلوب سلطوي وقانوني مكان الدّيني، دون أن "تنبذ الدّيني بالضرورة في القطاع الخاصّ، خلافاً ما تفيد به أسطورة شائعة؛ والأحرى أنهّا تُعيّن، وإذاً تحدِّد، بكلّ معاني الكلمة، إمكان رؤية الدّيني في المجال العامّ" .

 

خامسًا: العلاقة بين الدنيوي والعلماني والديني 


برأي أوليفييه فإن الدّنيوية ليست ضدّ الدّيني إلا أنها تعمد إلى إخراج تأثيره من المجال السّياسي، أمّا العلمانيّة فهي خصوصية فرنسية غير مفهومة في بلاد أوروبية أو غربية أخرى كبريطانيا؛ التي يمكن لموظفات الجمارك والشّرطيات أن يرتدين الحجاب فيها، وكالولايات المتّحدة حيث لا يمكن للرّئيس أن ينتخب من دون أن يتكلم عن الله . 

إن العلمانيّة الفرنسية موجّهة في الأساس ضدّ الكنيسة الكاثوليكية من حيث إنها تريد فكّ الارتباط بين الدولة والمجتمع وتحريرها من تأثير الكنيسة لا الدين، أي أنها ليست ضدّ وجود الدين بالضرورة. 

يشير المفكر الفرنسي إلى أن المشكلة الفرنسية الرئيسية تكمن في نقل مساحة الصراع من الكاثوليكية إلى الإسلام، إذ تعزل الحكومة الفرنسية الإسلام عن الحضور الاجتماعي باعتباره أصوليًّا أو متطرفًا، ومحض دخول الإسلام إلى فرنسا جعل منه عاملاً جديدًا معادلة النزاع، مما دفع فرنسا إلى التعامل معه بذات المنطق التوافقي مع الكاثوليكيّة المسيحية ، في حين أنه يرى أن الحل يكمن في قبوله جزءًا من هويّة فرنسا ثم التعامل معه على أساس ذلك؛ إذ إن التهميش والإبعاد سينتج عنهما العنف والتطرف .

ويتساءل الكاتب عن سبب مساءلة المجتمع الفرنسي للإسلام في قضية التطرف والقبول بالعلمانية دون التعرض للاهوت المسيحي الذي لم يكن قابلًا بها كذلك، إلا أن تطويعًا تمّ القيام به للاهوت وللعلمانية لإيجاد نقطة الحياد، ويرى أنه من الممكن تحقيق ذلك بالاتفاق مع اللاهوت الإسلامي على ضرورة الحياد عن السياسي .

 

خاتمة

يفترض أوليفييه سيناريوهات محتملة حول ازدياد التسامح مع المسلمين في أوروبا أو تصاعد الكراهية ضدهم، إلا أنه يشير إلى أن فرنسا تبقى مرشحة لأن تكون في دائرة التوتر دومًا، ومن هنا يشير أوليفييه إلى ضرورة ترسيخ النقطة الآتية وهي أن المشكلة ليست في الإسلام بل في تعامل فرنسا مع الدّين بصفة عامّة، أو بالأحرى الأشكال المعاصرة للعودة إلى الدّين 

في الختام، فإن أطروحة أوليفييه تتمحور حول ضرورة تعريف الدين على نحو جديد، إذ إنّ تأكيد الهويّة الدّينيّة المسلمة في الغرب يفترض ذلك اجتماعيًّا وثقافيًّا، إلا أن هذا الافتراض سيظهر تفاوتًا بين الواقع والمفهوم، خاصة في ظل التطوّرات التي تُجبر الفرد على تحديد علاقته الشّخصية بالدّين، ويشير في هذا الإطار إلى أن الممارسة الحسّية للمسلمين ترسم علاقة جديدة مع الدَّنْيَوَة والعلمانيّة بعيدًا عن الآراء اللاهوتية سواء من الناحية اليوميّة أو السياسيّة ، ولذا لا بدّ من بحث حدود العلاقة بين المجال الدّيني والمجال السّياسي، وكيف يمكن أن يُحدث توافقاً مستقبليّاً بين الإسلام والعلمانيّة في المجتمعات الغربيّة.