الدور الإيراني في سورية التوصيف والسيناريوهات الممكنة
سبتمبر 18, 2018 3805

الدور الإيراني في سورية التوصيف والسيناريوهات الممكنة

حجم الخط
المقدمة
مع توسّع الاحتجاجات الشعبية ضد النظام في عام 2011، وتحول هذه الاحتجاجات شعبياً إلى شكل مسلح، لم يجد النظام السوري سوى طريق التعاون الوثيق مع حلفائه التقليديين تاريخياً روسيا وإيران لإنقاذ وجوده.
وقد أدت إيران دوراً ميدانياً أكبر وأطول من حيث المدة الزمنية، في معاونة النظام السوري، من خلال توفيرها دعماً مديداً تجلّت شواهده في جلب الميليشيات الشيعية من كافة أصقاع الأرض، وزجها في سورية لمحاربة فصائل المعارضة. الأمر الذي أحال إيران، لتكون الدولة الأكثر نفوذاً في سورية من ناحية ميدانية، وهو ما رفع وتيرة تبعية النظام السياسية والاقتصادية والأمنية لإيران التي باتت على ترابطٍ عضويٍ استراتيجيٍ مع النظام السوري.
ويُعتقد أن مشروع "الهلال الشيعي" الذي يعني النفوذ السياسي والاقتصادي والأمني على أهم المنافذ البحرية والبقع الجغرافية في المنطقة، والتي تُعد سورية أحد ركائزه الأساسية، هو السبب الرئيسي وراء إصرار إيران على معاونة النظام السوري. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، تركن إلى عدة أساليب أبرزها؛ التدخل العسكري المباشر، عبر الخبراء، وحرب الوكالة، والتغيير الديموغرافي، التوغل المؤسساتي داخل أواصر الدولة السورية، والقوة الناعمة لا سيما سياسة الدعاية الإعلامية، وتمويل عدو العدو، وغيرها.
وفي ضوء تلك الفرضية، جاءت هذه الدراسة للاطلاع على أهم البواعث التي دفعت إيران لاتباع تلك السياسة في سورية، بالإضافة إلى شرح الأدوات التي استخدمتها إيران لإحراز أهدافها، إلى جانب رصد دورها الحالي، وصولاً إلى رسم نظرة استشرافية حول دورها المستقبلي في سورية.
ومن هذه المنطلق يمثل الخوض في هذه الدراسة التي ترمي إلى النظر في عوامل صعود الدور الإيراني في سورية تحديداً، والنظر في حيثياتها ومستقبلها، حاجةً ملحةً. ويعتمد الطرح على منهجي التحقق والمقارنة في استقاء المصادر على نحوٍ يجعلها الأقرب للواقع، والوصفي التحليلي في عرض المعلومات وتقييمها، واستشراف الدور الإيراني المستقبلي.
 
أولاً: تقييم الدور الإيراني خلال الأزمة
يتّسم الدور الإيراني في سورية بالتعقيد، نظراً لتعدد مستويات التدخل الإيراني، وعمق هذا التدخل، وامتداده زمنياً إلى مراحل مبكرة من عمر النظامين السوري والإيراني. 
لكن يبدو أن سرد دوافع إيران نحو أداء دورٍ حيويٍ في سورية، وسرد الأساليب التي استخدمتها للعب هذا الدور، قد يفي الغرض في تقييم واستيعاب هذا الدور.
1. دوافع إيران للتدخل في سورية
أـ الموقع الجيوسياسي لسورية
تُمثل الجغرافيا السورية "حلقة وصل" بين العراق ولبنان في مشروع إيران الاستراتيجي "الهلال الشيعي" الذي يعني النفوذ السياسي والاقتصادي والأمني على أهم المنافذ البحرية والبقع الجغرافية في المنطقة، من أجل حفظ أمنها القومي عبر المناورة في حدود الدول الأخرى، وفي سبيل نقل غازها الطبيعي إلى أوروبا على صعيد استراتيجي. 
كما تحاذي سورية "إسرائيل"، حيث يُمكن لها بذلك أن تشكل خطراً على المصالح الإسرائيلية. كما تمتلك سورية حدوداً مع لبنان ونفوذاً كبيراً فيه، وتحتضن "حزب الله" الذي يُعدّ يد إيران الضاربة والمتوغلة داخل الدولة اللبنانية "كقوة بالوكالة".
ب ـ مصالح جيواقتصادية
إلى جانب "الخط الفارسي" أو "الإسلامي" الذي ترمي إيران لمده عبر سورية، والذي وقعت اتفاقيته مع حكومة دمشق في آذار/مارس 2013، يشكل الموقع الجغرافي لسورية ممراً اقتصادياً حيوياً استراتيجياً نحو السوق العالمية. كما يمكن لها، من خلال السيطرة الملموسة على سورية، تحقيق تحركات استباقية من شأنها تضييق الخناق الاقتصادي على تركيا، منافِستها الإقليمية على "مركزيّة المنطقة". 
ج ــ استراتيجية "التعاون الأمني" الممزوجة باستراتيجية "الدفاع الهجومي"
بالتزامن مع انتهاء الحرب الباردة، أضحت قوة الدولة تكمن في تحقيق عونٍ ذاتيٍ يقوم على عدة محددات أخرى للقوة؛ كبناء تحالفات ثنائية وإقليمية سياسية وعسكرية واقتصادية محورية، والنظر في قدرات التسلح الهجومي أكثر من الدفاعي، وتفعيل الاستخبارات على نحوٍ كبير للإلمام بمدركات الدول الأخرى، من حيث النوايا السياسية والأمنية فيما يتعلق بالمشاريع الاستراتيجية، وتوظيف الهوية الجماعية التي تربطها بفئات معينة موجودة في دول أخرى، وغيرها. 
وتُبنى استراتيجية التعاون الأمني القائمة على بناء محور إقليمي من خلال ما يلي:
تحديد طرف ما عدو أو خصم، في مثالنا الولايات المتحدة و"إسرائيل"، وأعداء أهل البيت.
إقناع الكيان المرجعي، شعوب وقادة دول المحور، بخطورة دول خارج المحور لشحذ هممهم وتشجيعهم على معاونة الدولة القائدة للمحور.
إجراء تحركات استباقية هجومية "إعلامية وعسكرية ميدانية" ضد تحركات الدول الخصم.
شرعنة التحركات باسم المصالح القومية العليا العضوية المشتركة للمحور.
وتوفر هذه الاستراتيجية هيمنة ملموسة للدولة، المُنشأة للمحور، في المحيط الإقليمي والساحة الدولية، وصولاً لجعلها دولة مركزية على صعيد إقليمي محوري. وبتتبع تحركات إيران في سورية والعراق، وغيرهما، يُلاحظ أنها تتبع استراتيجية أمننة تسعى من خلالها لتحقيق محور يرفع من قدراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على نحوٍ يزيد من قوة عونها الذاتي"، ويوفر لها حماية استراتيجية لأمنها القومي. 
د ـ مواتاة الظروف المحلية والإقليمية
فبينما كان النظام ضعيفاً وبحاجة ماسة للمساعدات الخارجية، ركنت روسيا إلى تأجيل خلافها الجيوسياسي والجيواقتصادي مع إيران، وتبنت الإدارة الأمريكية السابقة سياسات "انسحابية" "انعزالية" من الشرق الأوسط، لإيلاء الشأن الداخلي اهتماما أكبر، والاستدارة نحو بحر الصين الجنوبي؛ حيث خيرات الطاقة الهائلة، لا سيما الغاز الطبيعي الأنظف والأفضل مقارنة بالنفط، والطرق الدولية المؤثرة في حركة التجارة الدولية للصين المنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة، وغيرها، عوامل كثير لعبت دوراً هاماً في توفير بيئة مناسبة لبناء إيران نفوذها في سورية.
هـ ـ المصالح الجانبية
تسعى إيران لإظهار مدى قدرتها على تحقيق نفوذ إقليمي في المنطقة، وعرض ذاتها كبديل للغاز الروسي أمام الغرب الذي يبحث عن بديل، وبالتالي تحسين الوضع التفاوضي مع الغرب حول برنامجها النووي.
و ـ مصالح ناعمة
مثل احتواء سورية الكثير من الأضرحة المقدسة بالنسبة لإيران انعكاساً جيداً لخدمة مصالحها التأثيرية الناعمة، فمن خلال هذا التحرك نحو سورية، أثبتت أنها الدولة "المخلصة" للأفراد الذين تجمعهم معها روابط دينية. وهذا ما يصب إيجاباً في إثبات مرتكز نظامها المتمدد داخل العالم الإسلامي تحت اسم "ولاية الفقيه".
2. أشكال التدخل الإيراني
أـ الدعم والاستثمار الاقتصادي
مع توسع سيطرة المعارضة في سورية، كان العنصر الأهم بالنسبة للنظام هو الدعم الاقتصادي الخارجي الذي يُبقيه قائماً على أصوله كدولة بالحد الأدنى. وقد ساهمت إيران في توفير جزءٍ وفيرٍ من الدعم الاقتصادي للنظام السوري على النحو التالي:
- الإقراض: تفوّقت إيران على روسيا في معدلات إقراض النظام السوري، حيث منحته، إلى الآن، ثلاثة قروض بقيمة 5.6 مليار دولار في سبيل دعم استيراد السلع الأساسية؛ كالمواد الغذائية، وبالأخص القمح، ومشتقات النفط والسيولة النقدية للبنك المركزي السوري(1) .
- الخط الائتماني: يُشير الخط الائتماني إلى مجموعة من التسهيلات المالية التي تتضمن الاقتراض عند الطلب، والسحب المكشوف بدون قيود، مقابل تقديم المُقترض تأمينات. وبهذا الشكل قدمت إيران للنظام السوري ما قيمته 4.6 مليار دولار. وقد خُصصت هذه القروض في تأمين المشتقات النفطية، وتوريد المواد الغذائية والمائية والأدوية والمحروقات وترميم محطات الطاقة الكهربائية. وكان الشرط الأساسي لهذا الخط أن تكون جميع الواردات إيرانية. كما طالبت إيران مقابل هذا الخط "ضمانات سيادية" بقيمة 20 مليار دولار(2) . وتشمل الضمانات السيادية رهاناتٍ على عقارات وأراضٍ ومرافق حكومية.
- الاستمرار في التعاون التجاري: فُرضت على النظام السوري عام 2012، عقوباتٍ اقتصادية تركت أثرها على معاملاته النقدية والتجارية مع الدول الأخرى. وأدى ذلك لتراجع معدل صادراته الخارجية إلى ما مجموعه 1.42 مليار دولار بحلول عام 2015(3) . وكان لمواصلة إيران، من ضمن 28 دولة أخرى، تبادلها التجاري مع سورية، لا سيما في استيراد الألبسة والقطن وزيت الزيتون، وغيرها، دور كبير في ديمومة الدورة الاقتصادية لمناطق سيطرة النظام. وتأتي إيران على رأس الدول المستوردة، نظراً لاتفاقية التجارة الحرة المُبرمة بينها وبين النظام السوري عام 2012، والتي تُعفي البضائع المتبادلة بين الطرفين من الضرائب والتعريفة الجمركية(4) .
- الإسهام في الاستثمار المباشر: يحتل الإيرانيون، بحسب تقرير الاستثمار الأجنبي المباشر في سورية الخاص بهيئة الاستثمار السورية لعام 2017، المرتبة الأولى في مشاريع الاستثمار المباشر التي تركزت على شراء عقارات، حيث توافرت لهم مناقصات حكومية مفتوحة فقط لهم في مناطق متعددة، فضلاً عن أحياء سكنية مدمرة اشتروها لإعادة إعمارها، وأحياء أخرى تم ابتزاز سكانها، وإجبارهم على التخلي عن مساكنهم، في مقابل مبالغ مالية زهيدة، وقامت الحكومة الإيرانية بدور كبير، بتشجيع الشركات والتجار والمقاولين على تملك العقارات المختلفة في سورية، وتوفير "اعتمادات خطوط ائتمان" لعدد من رجال الأعمال بمبالغ كبيرة بالعملات الأجنبية لاستثمارها في هذا القطاع الذي يضمن لها تثبيت أقدامها الجغرافية الناعم عبر إحداث تغيير في التركيبة السكانية في دمشق ومحيطها، لا سيما مناطق شرقي دمشق "المدينة القديمة"، الغوطة الشرقية، ووسط دمشق؛ كمنطقة زين العابدين والشاغور والميدان والعمارة التي تحتوي أعداداً ضئيلة من الشيعة، استطاعت إيران زيادة أعدادها من خلال شراء العقارات(5)
كما شمل مشروعها في التملك العقاري بعض مناطق حمص التي تقع في إطار ممرها البري. وتوجه إيران استثماراتها العقارية التي تشمل الأصول الكبيرة التي يمتلكها رجال الأعمال، والأسواق المشهورة، وغيرها من العقارات الهامة التي تضمن لها الهيمنة على مفاصل الاقتصاد السوري.
كما استثمرت إيران في إنشاء الموانئ النفطية على الساحل السوري، حيث عقدت في منتصف كانون الثاني/يناير 2017، اتفاقية مع دمشق، حصلت بموجبها على ترخيص باستثمار نحو خمسة آلاف هكتار لإنشاء ميناء نفطي، وحق تحديث إحدى الموانئ وتشغيلها(6) . أيضاً، الاستثمار في مشغل جديد اتصالات بقيمة 300 مليون دولار، على أن تكون حصة الجانب السوري من الأرباح مستقبلاً 20%. بالإضافة إلى الحصول على ترخيص لإنشاء مصفاة نفط في حمص، بقدرة تمكّنها من تكرير 140 ألف برميل يومياً من النفط السوري الخفيف والثقيل(7)
وواصلت إيران دعم البنية التحتية لمناطق سيطرة النظام التي اتسعت من 18% إلى ما يقارب 65% بعد عام 2015، من خلال الاستثمار في مشاريع إنشاء محطات لتوليد الكهرباء، وتطوير مناطق صناعية، وغيرها، بقيمة 850 مليون يورو (8)
لا يمكن تحديد عائدات هذه المشاريع على النظام بشكلٍ مباشر، غير أنها تأتي كمقابل طبيعي لدعم النظام السوري عسكرياً، كما أنها تعود عليه، كما هو ظاهر، برفع رصيده أمام الحكومتين الروسية والإيرانية لمنحه المزيد من القروض وخطوط الائتمان وعوائد الدعم المادي كالقمح والمواد الغذائية. ويمكن ملامسة تلك النقطة من خلال النظر إلى مذكرة التعاون التي وقعتها شركة "يوروبوليس" الروسية الأمنية مع وزارة النفط والثروة المعدنية، في 29 حزيران/يونيو2017، والتي نصت على التزام الشركة "بتحرير مناطق آبار النفط ومنشآتها وحمايتها" مقابل حصولها على ربع الإنتاج النفطي(9) ، خير مثال على آلية التعاون المذكورة أعلاه. كما أنه يساهم في تحريك دورة الاقتصاد الراكدة ولو نسبياً.
ب. الدعم العسكري
منذ اليوم الأول للأزمة السورية، وإيران تُقدم الدعم العسكري المتنوع للنظام السوري، والذي وصل إلى حد الارتباط العضوي بين قواتها وميليشياتها مع قوات النظام السوري. 
وقد تدرج التدخل العسكري الإيراني المباشر من مرحلة الخبراء في عام 2011، إلى مرحلة إرسال فرق عسكرية من الحرس الثوري والميليشيات الطائفية العراقية واللبنانية والأفغانية عام 2012 بشكل غير معلن، ثم مرحلة الإعلان عن المشاركة في عام 2013، وهو العام الذي بدأت القوات الإيرانية والميليشيات الأجنبية تشهد خسائر بشرية عالية. 
واستندت إيران في شرعية تدخلها إلى اتفاقية الدفاع المُشترك المُوقعة مع دمشق عام 2006.
ج. الدبلوماسية الشعبية 
بدا واضحاً في إطار مسارات العلاقات الدولية أن القوة العسكرية والسيطرة الجغرافية المباشرة لم تعودا المعيار الوحيد لتحقيق دولة ما لمصالحها الجيوسياسية والاقتصادية خارج حدودها القومية، حيث ظهرت العديد من الوسائل التي تجمع عادة تحت مسمّى "القوة الناعمة"، والتي تشمل الخطابات والشعارات الإعلامية، والدعايات الثقافية، والدعم المادي، والتسويق الفكري، والروابط الدينية أو القومية المشتركة النابعة من روابط تاريخية سياسية، والمنح التعليمية، والعمل الخيري، وقواعد القانون الدولي، وغيرها. 
وتأتي هذه القوة كوسائل تدعم أو تُسهل على الدولة تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية، بحيث تُؤسس عبر هذه القوة نظرة شعبية ذهنية تقوم على أحقيّتها في تحقيق أهدافها، كما ترسم هذه الوسائل انطباعاً إيجابياً في اللاوعي الشعوري الجمعي.
ولم تَغفل إيران عن الركون إلى هذه القوة، وتوظفيها في خدمة مصالحها، عبر عدّة أشكال أهمها:
- تأسيس هياكل هوياتية مشتركة
ظهرت هذه الهياكل عبر هويتي محور الممانعة والمقاومة "الأيديولوجي" ليس ضد إسرائيل فقط، بل ضد "الإمبريالية العالمية"؛ وكأنها، أي إيران، الوريث الشرعي للقطب الشرقي المحارب للإمبريالية الغربية، ومحور الهلال الشيعي "الديني الطائفي". وتغذية المحورين بشعارات المقاومة؛ مثل "الموت لإسرائيل ولأمريكا ووكلائهما" و"تحرير القدس يمر من سورية"؛ ذلك الشعار المُقتبس من شعارها المُستخدم خلال حربها مع العراق "تحرير القدس يمر من كربلاء"، وشعارات الطائفية؛ مثل "لبيك يا زينب" و"الأخذ بثأر الحسين". 
وفيما استطاعت إيران، بشعاراتها "المقاومتية"، استقطاب عدة فصائل يسارية وأخرى فلسطينية، كفتح الانتفاضة وقوات الصاعقة وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، للمشاركة في محاربة فصائل المعارضة المسلحة إلى جانب النظام السوري، استطاعت، بشعاراتها الطائفية، استقطاب الآلاف من الشيعة حول العالم. ويتم تدعيم هذه الهياكل الهوياتية بقنواتٍ إعلاميةٍ فاق مجموعها الخمسين.
وقد استخدمت إيران كل شبكتها الطائفية والسياسية حول العالم لخدمة موقفها في سورية، حيث عملت على تجييش الشيعة واليسار العربي لدعم النظام السوري، والترويج لخطابه السياسي. 
- نشر التشيّع عبر مراكز ثقافية وحسينيات
عملت إيران منذ بداية الثمانينيات على نشر المذهب الشيعي من خلال المراكز الثقافية التابعة للسفارات الإيرانية حول العالم، ودعم المؤسسات الشيعية الدينية والتعليمية والثقافية والإعلامية في مختلف الدول. 
وكانت سورية بفعل العلاقات المتميزة بين نظام الأسد الأب والابن مع طهران واحدة من أبرز محطات النشاط الإيراني لنشر التشيع، حيث عملت على افتتاح المراكز الثقافية والدينية، وفتحت باب البعثات التعليمية الدينية، ونشرت الدعاة في مختلف المناطق السورية. 
- التغيير الديموغرافي
أدّى الاستهداف العسكري المنظم لعدد من المناطق السورية التي شهدت حراكاً معارضاً إلى تدمير معظم هذه المناطق وتهجير سكانها، فيما تم إجبار من بقي من السكان على الرحيل باتفاقيات فُرضت بالحصار الخانق، وبسياسة الأرض المحروقة. 
ويعتقد أن هذه السياسة التي طبقت منذ وقت مبكر من عمر الأزمة تستند إلى تخطيط إيراني، كما أظهر تطبيقها أن الميليشيات الإيرانية كانت تشارك بفاعلية في تطبيقها، وظهر هذا الأمر بوضوح في ريف دمشق وحمص، حيث كانت هذه الميليشيات تتولّى أعمال الحصار والقصف، كما تولّى الطرف الإيراني حتى عملية التفاوض مع الفصائل المعارضة. 
وإضافة إلى استهداف المناطق التي شهدت حراكاً معارضاً، عمل سماسرة إيرانيون بشكل فاعل منذ عام 2012 على شراء عقارات في مناطق سيطرة النظام، وخاصة في مدينة دمشق. بالتوازي مع معلومات غير مؤكّدة عن قيام النظام السوري بتجنيس عدد كبير من الإيرانيين، ومن عناصر الميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية. 
وتُركّز إيران على المناطق المحيطة بمدينة دمشق، والمناطق المحاذية للحدود العراقية من جهة، واللبنانية من جهة أخرى، ما يشكّل ركيزة لمشروعها الجيوسياسي الجيواقتصادي المعروف باسم "الخط الإسلامي" أو "الفارسي" الذي ينقل مصادر طاقتها انطلاقاً من أراضيها إلى العراق، مروراً بسورية، ومنها إلى لبنان، ثم الدول الأوروبية مستقبلاً، والذي يؤسس لممرٍ بريٍ حيويٍ تتنقل وميليشياتها، وبالأخص حزب الله اللبناني، من خلاله بسهولة.
- الاستتباع وغرس الوكلاء الداخليين 
 إن تأسيس وكلاء داخليين فاعلين في الدولة والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ليس بالأمر الصعب بالنسبة للاستعمار المباشر أو غير مباشر الذي يحاول توظيف هؤلاء الوكلاء في سبيل إبقاء مصادر الدخل وأدوات الإنتاج الاقتصادية المُجدية والمواد الخام، وبالتالي عملية صناعة القرار السياسي، والتوجه المجتمعي العام، يدور في فلك مركزيّته. ويتم صناعة الوكلاء الداخليين المرتبطين بالخارج، والذين يعرفون باسم "الطبقات الطفيلية"، على النحو التالي:
- تقديم الدعم المادي والعسكري لفاعلين في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية من أجل تأسيس ركائز نظام سياسي وأمني يكفل احتكار، مُطلق أو نسبي، للقرار السياسي. ويُطلق على هؤلاء الفاعلين اسم "البيروقراطية الكمبرادورية؛ أي السمسارية".
- دعم وكلاء فاعلين اقتصادياً باسم "البرجوازية الكمبرادورية" عبر ربطهم برأس مال الدولة الساعية للسيطرة، واستتباعهم بعدة وسائل أهمها؛ الإقراض المالي والتغلغل المؤسسي الواسع، لدوائرها واحتكاراها، لتسهيل عليها سبيل بلوغ مصالحها، لا سيما المتعلقة بالمواد الخام الأولية والزراعية. 
ولعل فتح إيران باب الإقراض أمام عددٍ من رجال الأعمال الفاعلين، ودعم بعض القادة العسكريين، لا سيما ماهر الأسد وغسان بلال، وإقراض دمشق مقابل الحصول على مصادر ريعية "نفط وفوسفات"، يأتي في إطار سعيها لتأسيس ما هو مطروح أعلاه، لاسيما من خلال الضغط عبر الديون على دمشق للتغاضي عن تغلغلها.
وإلى جانب الحصول على المواد الخام، تسعى الدولة الرامية لتحويل دولة أخرى "لدولة هامشية"، إلى اتباع الدولة "الهامشية" لمنتجاتها لمدى طويل. ولعل الاتفاقيات الاقتصادية المذكورة أعلاه، والتي تم توقيعها لمنح النظام قروضاً مالية، مقابل إجباره على استخدامها في استيراد السلع الإيرانية، إضافة إلى توقيع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية التي تقنن الوجود الإيراني، وتمنح إيران مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة، وتهبها حق تأسيس موانئ، وتعطيها حق استخراج الفوسفات والنفط، وغيرها من المواد الخام، خير دليل على سعي إيران لاستتباع النظام السوري لها. كما أن دفع النظام لإصدار القوانين، لا سيما القانون رقم 10، الذي يحرم أصحاب العقارات من حقوقهم، وتُحيل هذه العقارات للبيع، دليل أوضح على استتباع إيران للنظام، ودفع عددٍ من الدوائر الفاعلة في مؤسساته بصناعة قرارات مواتية لمصالحها.
أيضاً، تُسيّر إيران مصالحها الاقتصادية، لا سيما في قطاع العقارات الذي يكفل لها تثبيت قدمها في أكثر من منطقة جغرافية استراتيجية، عبر عددٍ من رجال الأعمال السوريين، أبرزهم سامر فوز المنحدر من مدينة اللاذقية، والمقرب من بشار الأسد. فهو واجهة إيران الاقتصادية، حيث يقوم بشراء الأراضي والبيوت لصالح الإيرانيين في مختلف المناطق السورية. 
- تمويل عدو الخصم
ومن أبرز التحركات الإيرانية في هذا الاتجاه، تقديم الدعم أو التغاضي عن تحركات حزب العمال الكردستاني عبر مثلث الحدود التركية-العراقية-الإيرانية، والتفاهم معه فيما يتعلق بانتشاره في المناطق ذات الكثافة الكردية في شمال شرقي سورية، في سبيل تشتيت انتباه خلايا الأزمة الفاعلة في مؤسسات صناعة القرار التركية، بعيداً عن التركيز التام في رسم استراتيجيات ناجحة ودائمة فيما يتعلق بالأزمة السورية.
 
ثانياً: تحديات الدور الإيراني في سورية
بصياغة وزراء خارجية ودفاع روسيا وإيران تركيا "إعلان موسكو"، نهاية كانون الثاني/ديسمبر 2016، دخلت الأزمة السورية مرحلة جديدة عنوانها "الطريق نحو التسوية الاستراتيجية للأزمة السورية" بصورةٍ تكفل نسبياً تناغم مصالح الدول الأكثر فاعلية، تركيا وروسيا وإيران، التي يجمعها قناعة مُطلقة بضرورة الحفاظ على الأراضي السورية، ولو على صعيد سياسي على الأقل، وحدة واحدة. ويكاد عجز أحد هذه الأطراف على صياغة معادلة تكفل "حلاً صفرياً" لصالحه، هو العامل الأساسي لدفعها نحو إجراء تسوية سياسية توافقية تضمن الحد الأدنى من المصالح. 
وقد أفضى إعلان موسكو إلى محادثات آستانة، والتي أفضت بدورها لاتفاق عسكري تكون تركيا وروسيا وإيران ضامناً له، بتفويض من منظمة الأمم المتحدة التي تمنح عبر المادة 33 من ميثاقها، أطراف النزاع فرصة للتفاوض من أجل حله، والمادة 36 التي تنص على أن "مجلس الأمن يجب أن يراعي ما اتخذه المتنازعون من إجراءات سابقة لحل النزاع القائم بينهم"؛ ولم تحدد المادتان المذكورتان النطاق الجغرافي الذي يتنازعون عليه. 
ورغم شرعية الوجود الإيراني في سورية وفق القانون الدولي، إلا أن طهران تواجه عدداً من التحديات في مواجهة فاعلين دوليين وإقليميين يسعون لتحجيم دورها ونفوذها في سورية: 
الولايات المتحدة
- تهديدها، بميليشياتها، للأمن القومي لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، إسرائيل ودول الخليج، ومصالحها.
- القناعات الشخصية لأعضاء الإدارة الأمريكية، لا سيما وزير الدفاع ومستشار الأمن القومي، اللذين ينظران لإيران على اعتبارها قوة تضر بالمصالح الأمريكية في المنطقة، بالإضافة إلى إيمان ترامب بمبدأ "تكلفة الفرصة البديلة" الذي ينبع من العقلية الاقتصادية، والذي يرصد قيمة التكلفة للخيارات الماثلة من حيث الربح والخسارة، بمعنى أن ترامب يرى تكاليف فرصة تغيير الاتفاق، أكثر ربحاً وأقل خسارةً من الإبقاء عليه. إذ يفتح الاتفاق النووي لإيران أبواب الانفتاح الدبلوماسي والاقتصادي والأمني في المنطقة، مقابل بنية اتفاق ينص على إسقاط بعض القيود التقنية المفروضة على الأنشطة النووية اعتباراً من عام 2025، ومنحها فرصة الاستمرار في تخصيب اليورانيوم بما لا يتجاوز 5%؛ أي لا تُفقد إيران حق التخصيب بالكامل، ولا تكبل تحركها في المنطقة.
- التحامل الحزبي وتوظيف الملفات الخارجية في المعادلات الداخلية، حيث يسعى الرئيس ترامب المنحدر من الحزب الجمهوري، إلى صنع دعاية سلبية ضد الحزب الديمقراطي على أنه حزب سمح لإيران "العدائية" بالتغلغل في منطقة الشرق الأوسط، على حساب مصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
- تبني سياسة "العصا الغليظة" التي تعتمد بالأساس على سياسة الاحتواء والتطويق عبر تقاسم التكاليف مع الشركاء والتلويح بالعقوبات عند الحاجة بعيداً عن تحركات "الضربات المُطلقة" باهظة الثمن. وهذا ما غير حالة الظروف المواتية للتغلغل الإيراني في المنطقة.
- تغلغل إيران في المنطقة، وتطوير أسلحتها الكيميائية والنووية في الأراضي السورية، لا سيما في بانياس "طرطوس" ومصياف "حماه"، بما يُشكل تحايلاً على مادة الاتفاق التي تنص على السماح للمفتشين الدوليين بإجراء تفتيشات "داخل البلاد"، حيث تتحايل إيران على هذه المادة من خلال مواصلة برنامجها النووي والكيميائي في الأراضي السورية.
روسيا
اعتمد التحرك المشترك ببين إيران وروسيا حيال الأزمة السورية على سياسة "ترتيب الأولويات" القائمة على تأجيل الخلافات البينية واحتوائها في سبيل تحقيق هدف مشترك. وبالتمعّن في التحرك الروسي الجاري في سورية، وبالاستناد إلى شهادات المشاركين في وفود المعارضة إلى أستانا، يُستقى أن روسيا قد لا تصطدم كثيراً بالمشاريع الإيرانية الجيوسياسية المتعلقة بالمناطق الداخلية لسورية، لكنها قد تتجه نحو العمل على إدارة هذه المشاريع على نحوٍ لا يجعلها تتجاوز مصلحتها، وبشكلٍ يمكّنها من الاستمرار في التحكم بحجم إمدادات الطاقة إلى الاتحاد الأوروبي. وهو الأمر الذي قد يُبقيها قادرة على استغلال الأمر كأداة ضغط ضد دول الاتحاد الأوروبي، عملاً بمبادئ المدرسة الجيواقتصادية الخاصة بسياستها الخارجية، والتي تقوم على ضرورة إعادة إنشاء كتل جيواقتصادية عالمية وإقليمية متداخلة مع الدول الفاعلة، ما يرفع من مستوى اندماجها "الوثيق" مع الاقتصاد السياسي العالمي، ويزيد من قوتها الدبلوماسية والاقتصادية عل صعيد عالمي. 
يُذكر أن وفود المعارضة السورية المفاوضة تُشير إلى عدم اكتراث روسيا بالكثير من التفاصيل الصغيرة، بقدر إعاراتها اهتماماً بالتوجس من الوقوع في أتون مؤامرة غربية تُغرقها بتكاليف باهظة في مستنقع الازمة السورية. وتُشدد الوفود على سعي روسيا الحثيث لحل الأزمة على وجه السرعة في سبيل استغلال الظروف المواتية التي منحتها إياها الولايات المتحدة بتسليم مسألة حل الملف السوري، على نحوٍ يُبقيها صاحبة الكعب السياسي الأعلى في سورية بعيداً عن التعقيدات الميدانية الجزئية.
 لكن يبدو أن الرغبة الروسية في مسايرة الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة، في تحجيم قوة إيران في سورية، تنبع من عدة عوامل؛ أهمها:
- الخلاف الجيوسياسي-الجيواقتصادي: تسعى روسيا إلى التحكم في أكبر قدر ممكن من توريدات الطاقة للاتحاد الأوروبي، للإبقاء على ورقة ضغط ضده. بينما توفر إيران ـ صاحب ثاني أكبر احتياطي للغاز الطبيعي في العالم ـ بديلاً استراتيجيا للاتحاد الأوروبي، ما يدفع روسيا للنظر في آليات تحجيم دور إيران، وإدارة عمليات تصدير الطاقة الإيرانية لأوروبا قدر الإمكان. فضلاً عن تنافسهما على تحقيق سيطرة جيوسياسية أكبر على الموانئ ومصادر الطاقة الطبيعية والمواد الخام والقواعد العسكرية.
- انتهاء مهمة الميليشيات الشيعية التي باتت تُشكل عبئاً على روسيا التي ترى فيها خطراً على مشروع التسوية خاصتها القائم على التفاوض وضرورة احتواء جميع الأطراف السورية، بما فيها المعارضة السورية المُسلحة، لإيجاد حل طويل الأمد على العكس من الرؤية الإيرانية "المذهبية" أو "الإقصائية" التي يبدو أنها تؤيد سياسية الأرض المحروقة ضد جميع هذه الفصائل. 
- التوقيت وتغيّر وجه المعادلة الدولية التي مالت لصالح إيران، بعد الاتفاق النووي عام 2015، والذي فتح أمامها أبواب الانفتاح الاقتصادي والتمدد الجغرافي، إلا أنه انقلب اليوم ضدها بعد تغيّر الإدارة الأمريكية. وهذا ما دفع روسيا التي يبدو أنها تسعى لرسم صورة "الشرطي الجيد" القادر على كبح جماح "الشرطي الإيراني السيئ" المزعزع للاستقرار في المنطقة، لاستغلال هذه الظروف في تحجيم القوة الإيرانية التي قد تعيق عملية تنفيذ قراراتها في سورية مستقبلاً، ولفتح الأبواب أمام اعتمادها "كمدير" لعملية إعادة الإعمار، ولموازنة تحركاتها في سورية على نحوٍ يكفل لها، نسبياً، مصالحها شرقي اوكرانيا وفي محيط البحر الأسود، ويضمن لها كسب الدعم الإسرائيلي في إقناع الإدارة الأمريكية برفع العقوبات المفروضة عليها، وأخيراً لكسب الأموال الخليجية، والدولية عبر البنك الدولي أو صندوق النقد "الموجهة أمريكياً، في عملية إعادة الإعمار.
- الخلاف حول شخص الأسد، حيث تُظهر روسيا ليونةً حول الاستعداد للحد من صلاحياته أو عزله على المدى البعيد، فيما تتمسك إيران به وبصلاحياته كهدفٍ استراتيجي يخدم مصالحها.
لكن على الرغم من جميع ما ذُكر أعلاه، تجدر الإشارة إلى أن روسيا وإيران تمتازان بعقلانية تمنعهما من خوض حالة صراع مباشرة، لكن قد تتبعان سياسة التفاوض الدبلوماسي، أو استراتيجية "الضرب من أسفل الجدران" التي تعتمد على صراع الوكلاء، بطرق استخباراتية تتم من خلال تسليم شركات روسية أمنية إحداثيات تموضع القوات الإيرانية لقوات الحلفاء، أو قيام الميليشيات الإيرانية بضرب القوات الروسية من الخلف أو عبر حرب العصابات كالاغتيالات والتفجيرات، وغيرها، إلى أن تتم تسوية الأزمة.
النظام السوري
- الرغبة في موازنة تحركاته بين روسيا وإيران، للإفلات من مأزق التبعية الكاملة لإيران.
- علمانية التوجه السياسي للنظام، قيادةً ومؤسسات، بعيداً عن التوجه الديني الطائفي لإيران.
- اعتبار نظام الأسد إيران "أحد الحلفاء" وليس نظاماً مركزياً تدور دمشق في فلك مركزيّته، بل دولة يربطها بدمشق علاقات المصلحة المتبادلة القائمة على احترام السيادة، وليس التبعية. وقد بدا الامتعاض السوري الذي كان بمثابة "المنبه" للإدارة الإيرانية التي عكفت على الترويج لدعاية "أن دمشق كانت على وشك السقوط لولا تدخلها"، واضحاً بعد مهاجمة جريدة وطن المملوكة من رامي مخلوف "الواجهة الاقتصادي للنظام الأسد" الذي ساير ركب التحركات الإيرانية في سورية مسبقاً، طهران بسبب هذه المقولة، حيث وصفت الجريدة العلاقة بين الطرفين "بالتحالفية" وليس "بالتبعية". وبعيداً عن مطالبة النظام السوري إيران باحترامه، أخذت الأزمة السورية تسير في مسارٍ يتجه نحو التسوية التي تقوم على معادلة تقاسم النفوذ، وإعادة تأهيل سورية "باستقلالها"، وإن كان شكلي، وهذا ما يعني طبيعية وضرورة انتقال إيران لمرحلة تهيئة قوتها في سورية لذلك.
 
ثالثاً: الدور المستقبلي لإيران في سورية
لقد تم توضيح دوافع التدخل الإيراني في سورية، في المحور الأول من الدراسة، وفي ضوء سعيّها لتحقيق هذه الأهداف والحفاظ عليها، قد تُعيد إيران ترتيب أوراقها تجاه المسألة السورية وفقاً للسيناريوهات أدناه. وقد تميل إيران في الحفاظ على نفوذها في سورية إلى أسلوب "القوة الناعمة"، لما تشهده من ضغوط خارجية تسعى لتحجيمها، ولضرورة التحوّل من مرحلة التدخل الصلب إلى مرحلة كسب مشروعية إدارية ـ اقتصادية اجتماعية، تضمن لها قبولاً شعبياً يدعم شرعيتها كدولة ناعمة. وهذا ما ستكون عليه السيناريوهات المطروحة.
1ـ سيناريو النظر في تأسيس سيطرة مُطلقة 
يطرح هذا السيناريو استمرار إيران في دعم بقاء الميليشيات الموالية لها في سورية، مع الميل للمّ شملها في جناح عسكري واحد، مثل الفيلق الرابع من أجل مواجهة التوجه الروسي لاستيعاب قوى المعارضة ضمن الفيلق الخامس، أو الدفاع الوطني، وغيرها من الأجهزة، واستغلال هذا الجناح الذي تردفه بمسؤولين سياسيين فاعلين في الدولة، في الفترة الحالية على وجه الخصوص؛ حيث انعدام وجود اتفاق دولي نهائي لعملية التسوية، في فرض سيطرتها الجغرافية والسياسية الضاربة على أكبر بقعة جغرافية في سورية، غير آخذة بعين الاعتبار الضغوطات الدولية والمنافسة الروسية. إذ تؤسس من خلاله سياسة أمر واقع تفرض على الجهات الغربية والأممية التفاوض معها على نحوٍ يحقق طموحها على أكمل وجه أو ما هو أقرب لكامل طموحها. 
ويشابه هذا السيناريو ما تم في الحالة اليمنية، حيث سيطر الحوثيون "الموالون لإيران أو المدعومون من قبلها" بالتحالف مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي كان لا زال يسيطر على معظم الجيش وقادته، عام 2014، على صنعاء ومعظم الأراضي اليمنية في سبيل تحقيق سلطة أمر واقع تتحول إلى قوة تنازع السلطة أو القوات الأخرى الشرعية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
لكن يبدو هذا السيناريو غير واقعي لعدة عوامل، أهمها:
تأثير إسرائيل في المعادلتين الإقليمية والدولية، عبر اللوبيات وعبر القوة الذاتية.
المنافس الإقليمي الندي صاحب الإرادة الفاعلة "تركيا" التي ترمي إلى مواكبة التحرك الأمريكي القائمة على استراتيجية الضرب "بالعصا الغليظة" للسيطرة الإيرانية في المنطقة. وتستند استراتيجية "العصا الغليظة"، بشكل أساسي، إلى استراتيجية "احتواء وتطويق" الطرف المطلوب ضربه وتخفيف نفوذه. وبحسبان الموقع الجيواستراتيجي لتركيا، من حيث محاذاته لسورية، فإن إقدام إيران على هذه الخطوة قد يحرك تركيا نحو رفع مستوى تعاونها مع الولايات المتحدة في إطار هذه الاستراتيجية، وهو ما يعني خسارة اقتصادية هائلة، وطوق سياسي واسع ضد نفوذها، أي إيران، في سورية والعراق، لا سيما وأن تركيا باتت لها تواجد "شرعي" في منطقة إدلب على الأقل، بصفة الدولة الضامنة التي تستطيع أخذ مواقف ميدانية وسياسية حاسمة تصل إلى إسقاط مشروع عملية التسوية عبر الآستانة، في حال أقدمت إيران على هذا الحد من التصعيد.
المنافس الدولي "روسيا" ذو الخلاف الجيوسياسي والجيواقتصادي الجسيم معها.
الضغط الدولي والأمريكي المُوضحة جوانبه بالتفصيل أعلاه.
بنية الميليشيات ذات الطابع القومي الأجنبي غير السوري.
انعدام الحليف القوي للميليشيات الشيعية داخل الدولة. إذ هناك تشتت وتنافس محتدم في البنية الأمنية والعسكرية والسياسية للدولة السورية التي ترفض أغلب نخبتها التحوّل إلى دولة "هامشية" موالية بشكل كامل لإيران.
عدم رغبة إيران على الأرجح في نقل سيناريو الفوضى الفاعل في اليمن إلى سورية، والتي تستفيد منها كورقة في الضغط على دول الخليج وإرهاقها وتشتيت تركيزها. أما وجود هذا السيناريو في سورية، في ظل المعادلة الدولية الموجودة فيها، فيعني تعرضها لمنافسة من جميع الدول الفاعلة، فإنها ستكون غير قادرة على مواجهة جبهة هذه الدول، وستكون قد ولدت حالة صدام إيراني ـ سوري "ممثلاً بالبيروقراطيين والقادة الأمنيين الرافضين لسيطرة إيران الكاملة"، وبالتالي وجود حالة تهديد أمني لمشاريعها الجيوسياسية والجيواقتصادية الاستراتيجية.
2ـ سيناريو التغلغل الشامل 
تعمل إيران في الواقع على تحقيق هذا السيناريو منذ اليوم الأول لتدخلها في سورية، وذلك عبر إقحام مستشاريها العسكريين والأمنيين في خلية حل الازمة، وعبر إغراق سورية بالديون، مع زج ميليشياتها المتعددة القوميات، وتأسيس ميليشيات سورية، وبث خطاب إعلامي وشعاراتي طائفي وآخر "مقاومتي"، بالإضافة إلى دعمها المالي الغزير لعدد من رجال الأعمال الفاعلين في القطاعين الاقتصادي العام والخاص، ومحاولتها احتكار النفوذ الاقتصادي في عدة قطاعات اقتصادية؛ لا سيما قطاع العقارات والزراعة والكهرباء، عبر اتفاقيات اقتصادية قد تضمن لها حصة جيدة من عملية إعادة الإعمار، خاصة وأنها أكبر منتج للأسمنت في منطقة الشرق الأوسط. مع صياغة اتفاقات دفاع مشترك تشرعن وجودها الاستشاري، على الأقل، على المدى البعيد، في سبيل تحقيق "استلاب" أو "تهميش" صلب وناعم "نسبي" لسيادة الدولة السورية وصولاً لتأسيس "حكومة ظل" تابعة لها في دمشق. وهذا على الأرجح ما يفسر سبب تمسكها بشخص الأسد.
بإيجاز، يُشير هذا السيناريو إلى محاولة إيران استتباع عدة أطراف فاعلة؛ كالنخبة السياسية البيروقراطية في مؤسسات القطاعين العام والخاص، وجماعات المصالح البرجوازية مع منظمات المجتمع المدني "النخبة الوظيفية"، من خلال توفير الدعم المادي والعسكري لها؛ بحيث تكفل تأسيس ركائز نظام يضمن لها التأثير النسبي أو المطلق ليس في صناعة القرار فقط، بل في تشكيل الهيئات التي ستصنع القرار، مع تأسيس حاضنة اجتماعية موالية لها "بالتوجه الثقافي العضوي" عبر الانتماء الطائفي، وربما بالدعم المالي، ومن ثم الميل إلى تحقيق توغل مؤسساتي يساهم في الإبقاء على الميليشيات المُسلحة، السورية على الأقل، فاعلة من خلال "قوننة" أو "دسترة" وجودها، كي تصبح قوة ضاربة تدور في فلك مركزيتها. بشكلٍ أوضح يحاكي هذا السيناريو الحالة العراقية التي تتسم بحالة تغلغل إيراني شامل.
 لكن، بحسبان العوائق المذكورة في السيناريو الأول، مع العوائق التي ستُذكر في السيناريو الثالث، يمكن إيجاز العوائق التي قد تحول دون إحراز إيران هذا السيناريو، بالشكل التالي:
عدم جاهزية البنية التحتية للميليشيات الموالية وللبيروقراطية السورية في موالاة إيران بالنحو المذكور أعلاه، نظراً لاختلاف الحالة السورية عن العراقية، حيث تأسست الحالة العراقية المذكورة وترسخت بقدوم إيران إلى العراق بميليشيات ووكلاء داخليين ـ أصبحوا فاعلين في الدولة العراقية ـ موالين لها مذهبياً ونفسياً وأمنياً وعسكرياً منذ الثمانينات؛ فهذه الميليشيات حاربت إلى جانب إيران ضد "بلادها"، وترى في إيران الرئة التي تتنفس بها. وحسب ما هو ظاهر لا يوجد ميليشيات سورية ـ شيعية أو غير شيعية ـ تحمل ذات الروح التي تجعلها تحارب ضد جيش بلادها أو ضد أي طرف آخر يناقض المصالح الإيرانية، لا سيما وأن الروح النفسية للسوريين ـ مؤيدي النظام ـ يرون في إيران حليفاً وليس شمساً تمدهم بالطاقة اللازمة للاستمرار في الحياة.
التوجه العلماني واليساري "غير المذهبي" للبيروقراطية السورية. وحتى إن حاولت إيران استمالة ذوي التوجه اليساري عبر شعاراتها "المقاومتية"، يبدو أنه من الصعب نقل سيناريو التوجيه الكامل أو شبه الكامل القائم في العراق إلى سورية، وبالتالي انعدام الحليف الذي يمكن أن يشكل "جسراً" لنفوذها الشامل في سورية.
التطويق أو التحجيم الإقليمي والدولي القائمة ضدها.  
الرغبة الروسية في مواكبة التحرك الأمريكي في تطويق النفوذ الإيراني، في سبيل الحفاظ على مركزيّتها السياسية في سورية، وبالتالي إدارة عمليتي التسوية وإعادة الإعمار، وتقاسم النفوذ على نحوٍ يخدم مصالحها أعلى نسبياً مقارنة بالمصالح الإيرانية.
3ـ سيناريو التوغل المؤسسي 
يُشير سيناريو التوغل المؤسسي المحاكي للحالة اللبنانية التي تعكس آلية محافظة إيران على نفوذها هناك من خلال قوة ضاربة ومتغلغلة في أواصر مؤسسات الدولة الرئيسية. ويقوم السيناريو المذكور على أن تقبل إيران ببناء سلطة مركزية توافق الرؤية الروسية للحل الساعية لتوحيد جميع الطوائف والقوميات السورية المختلفة في إطار مؤسساتي واحد قائم على تقاسم أو تشارك السلطة بطبيعة "المحاصصة" التي تمنح كل طرفٍ فرصة للمشاركة النسبية. 
وفي إطار هذا النظام تعتمد طائفة أو قومية معينة على توسيع نطاق توغلها المؤسساتي ونفوذها الأمني وسيطرتها الاقتصادية بدعمٍ من دولة خارجية (وهي إيران في سياق الحالة السورية) التي قد تُحصن توغلها المؤسسي، المباشر وغير المباشر، عبر اتفاقيات عسكرية واقتصادية مع دمشق. 
ويمكن للمتمعن في الحالة اللبنانية أن يُلاحظ بسهولة كيف أن إيران تتحكم بالتوجهات السياسية والأمنية للدولة اللبنانية عبر وكيلها المتغلغل في مؤسسات الدولة بذاته وعبر حلفاء آخرين؛ كالتيار الوطني الحر.
 وقد عكست تحركات الجيش اللبناني ضد "ثورة الكرامة" بقيادة أحمد الأسير، بينما تغاضيها عن تحرك حزب الله تجاه سورية، ومن ثم سماحه لحزب الله بمشاركته في معركة "جرود عرسال"، دلائل واضحة على مستوى التغلغل المؤسسي الذي وصلت إليه إيران في لبنان عبر وكيلها الداخلي "حزب الله".
وفي هذا النموذج من "الاستوكال" الذي دعمته طهران بالتعاون مع دمشق التي رأت ضرورةً في ذلك بعد اضطرارها للانسحاب من لبنان عام 2005؛ ترمي الدولة "المُستوكلة" إلى رفع مستوى نفوذها والحفاظ عليه، بعد انتهاء وصايتها المباشرة، عبر وكيل داخلي يكون متغلغلاً في مؤسسات الدولة، لا سيما مؤسسات صناعة واتخاذ القرار "مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية والبرلمان" والمؤسسات الأمنية العسكرية التنفيذية "وزارتا الداخلية والدفاع والاستخبارات والجيش"، على نحوٍ يمكّنها من استصدار القرارات التي تناسب مصالحها. ويُطلق اصطلاحاً على الوكلاء الداخليين المتغلغلين داخل مؤسسات الدولة لصالح طرفٍ خارجي "بالبيروقراطية الكمبرادورية" أي "السمسارية"؛ فهي ترعى مصالحها الشخصية أو الفكرية أو القومية عبر خدمة دولةٍ خارجيةٍ للاستقواء بها ضد الأطراف الأخرى. 
وفي حال تم تطبيق هذا السيناريو في سورية، فإنه قد يختلف عن لبنان في "نعومته" المستندة إلى خطاب ود الأطراف بتخفيف الاعتماد على الوسائل الصلبة أو الخشنة. إذ أن حزب الله يتواجد في لبنان كقوة عسكرية وأمنية ضاربة، على العكس من الحالة السورية التي قد لا تسمح لإيران بتوظيف قوة عسكرية ضاربة "شوكة وظيفية" مشابهة لحالة حزب الله، لعدة عوامل ربما أهمها:
الحالة السياسية للدولة السورية: على العكس من دولة لبنان التي كانت دائماً دولة تقع في إطار التبعية متعددة الأطراف نظراً لنظام المحاصصة الطائفية فيها، تتمتع الدولة السورية بمؤسسات لا تعكس التوجه الطائفي متعدد الأوجه. وإن كان هناك ادعاء حول وجود سيطرة طائفية "للعلويين" داخل مؤسسات الدولة، فإن هذه الطائفة أظهرت منذ تولي الأسد الأب الحكم عام 1971 توجهها الخارجي نحو التحرك كدولة تنوع مسار علاقاتها الدبلوماسية بعيداً عن التبعية الكاملة. وحتى على الرغم من حاجته الكبيرة للدعم الإيراني في الوقت الحالي، يميل النظام السوري إلى المناورة على وتر موازنة القوى والتحرك بين طهران وموسكو، عبر مقابلة الاتفاقات العسكرية والاقتصادية مع طهران باتفاقات مشابهة مع موسكو. كما تجدر الإشارة إلى علمانية الطائفة العلوية في حكم الدول والحياة الاجتماعية، بعيداً عن التوجه الطائفي الديني الذي إن وجد أصلاً، فإنه يختلف كثيراً مع التوجه الشيعي الإيراني.
المنافس الروسي المتفوق دبلوماسياً وسياسياً وعسكرياً "جوياً" على النفوذ الإيراني، حيث رفض إنشاء إيران لقاعدة جوية في القلمون. كما يبقى الهدف الجيواقتصادي الروسي المتجسد في استئثار التحكم بتصدير الطاقة إلى أوروبا، لحيازة نفوذ سياسي يؤثر في قرارات وتحركات الدول الأوروبية حيال المصالح الروسية، يشكل عائقاً أساسياً أمام الهدف الإيران، إذ قد تتجه روسيا لممارسة سياسة "الحصر والاحتواء" للميليشيات الشيعية وإيران في سورية، بما يُجهض تأسيس قواعد خط الغاز. ويبقى هدف إيران ممكناً في حال أجرت مناورات تفاوضية مع روسيا، ينجم عنها صفقات وفقاً لمعادلة "رابح + رابح"، بحيث تتنازل إيران عن بعض المناطق الحيوية بالنسبة لروسيا، كالمناطق الساحلية، حيث الرغبة الروسية في إنشاء قواعد عسكرية في شرق البحر المتوسط توفر لها قوة ردع ترفع من عدد المواجهة مع دول حلف "الناتو"، وبالتالي توسع من أوراقها التفاوضية حول تشارك النفوذ معها، والمناطق الشمالية، حيث الرغبة التركية في السيطرة على مناطق الحدود، وتبديد خطر إقامة "الحزام الكردي"، ومنع أي سيطرة شيعية مذهبية على المناطق الحدودية، وصولاً في نهاية هذه المعادلة إلى ما هو أقرب "للانتداب الروسي" السياسي التام على سورية، مقابل وجود نفوذ نسبي أو جزئي لإيران.
الضغط الدولي المطالب لطهران، على الأقل، بتحجيم وجودها في سورية: إن الميزة التي تتمتع بها الميليشيات الشيعية بكونها ميليشيات عابرة للقوميات والحدود تشدد على أن وجودها تكتيكي أكثر من كونه استراتيجي، وذلك لأنه قد يتأثر بقرارات التسوية الدولية التي ترفض وجود هذه الميليشيات على المدى الطويل، مع تأثره بالمتغيرات السياسية والعسكرية لأوطان هذه الميليشيات، كما حدث مع عدد من الميليشيات الشيعية التي انسحبت منتصف 2015، نتيجة احتدام المعارك مع "داعش" داخل الأراضي العراقية، قبل عودتهم من جديد إلى سورية عشية تبديد سيطرة "داعش" في عدة مدن عراقية، وكان من أبرز هذه الميليشيات المنسحبة لواء أبو فضل العباس، سرايا طليعة الخراساني، فضلاً عن انسحاب عدد كبير من لواء صعدة اليمني جراء احتدام المعارك في مسقط رأسه.
انعدام الذريعة الشرعية لتواجد الميليشيات: قد تكون إيران قدمت إلى سورية بطلب من النظام السوري، لكن جرت العادة أن تتعاون الدول في الدفاع المشترك عبر قواتها النظامية وليس عبر ميليشيات غير مُنظمة. لذا قد تضطر أعراف ومواثيق القانون الدولي، والمنافسة الروسية، والضغط الدولي العام، بعد انتهاء الأزمة، فضلاً عن التكاليف الاقتصادية لهذه الميليشيات التي قد تُصبح عبئاً على إيران، بعد انتهاء الأزمة.
التنافس "المصلحي" "المناصبي" "الاحتكاري" "الكوربوراتي" بين الطائفة العلوية المسيطرة على أركان الدولة، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وإيران. هذا التنافس القائم على رفض جزء ليس بالقليل من هذه الطائفة التي سيطرت على موارد وسلطة الدولة، لسنوات طويلة بشكلٍ مستقل، على منح نسبة كبيرة من نفوذها لوكلاء طهران. وإن كانت هذه الطائفة مضطرة اليوم، بحكم الواقع، لتقديم التنازلات لموسكو وطهران لقاء ما قدموه من دعم، وإن مال بعض أبناء هذه الطائفة إلى التماشي مع المصلحة الإيرانية لاعتبارات شخصية ومنفعية، فيبدو أن ذلك سيكون في الإطار النسبي المعقول مقارنة بالتوجه الروسي والسوري المحلي "ممثلاً ببيروقراطيين سلطة دمشق".
الرفض السوري الشعبي "القومي" لاستمرار وجود الميليشيات "الأجنبية" في سورية: عند التمعن بخلفيات الميليشيات الشيعية، يُلاحظ وجود تشتت قومي هوياتي واضح فيما بينها، فبعضها إيراني والآخر عراقي وغيرهما سوري وهكذا، ولا شك في أن المواطن السوري حتى ولو كان شيعياً، سيجد نفسه بدفاع سيكولوجي قومي يعززه الانتماء اللاشعوري لأرضه، أنه الأجدر في قيادة هذه الميليشيات وتوجيهها، فهو "الأعلم بطبيعة البلاد والعباد" وفقاً لرأيه. والنتيجة هذه ليست بالنتيجة النظرية، بل هي نتيجة عملية ظهرت عندما انقسم لواء أبو الفضل العباس إلى قسمين؛ أحدمهما سوري بقيادة علي حسن عجيب جظة "أبو عجيب"، والآخر عراقي بقيادة هيثم دراجي. وقد أفضى هذا الانقسام إلى إقدام القائد العسكري العراقي، أبو شهد الجبوري، على تأسيس لواء "ذو الفقار" بعناصر عراقية فقط. إلى جانب الاشتباكات التي دارت بين ميليشيات النظام "السورية" والميليشيات الإيرانية مؤخراً في البوكمال نهاية آب/أغسطس 2018.
التعامل النفعي لبعض الميليشيات السورية وغيرها مع إيران: بعض الميليشيات، كمنظمة بدر مثلاً، التي تعمل في سورية مقابل الحصول على دعم مالي إيران، يتضح أن انسحاب عدد من الميليشيات الشيعية بعد توقف الحرب، وجفاف بعض المصادر المالية، أمراً ممكناً يدفع إيران إلى الانتقال إلى مرحلة ترسيخ التوغل المؤسساتي الدبلوماسي والاقتصادي والأمني الثقافي والمجتمعي مقابل تخفيف وجود الميليشيات.
وفي ضوء هذه العوائق الماثلة، قد تميل إيران لهذا السيناريو بمعزلٍ عن رعاية الميليشيات المُسلحة، مع احتمال الإبقاء على دعم وتسليح بعض المجموعات المحلية، الشيعة وغير الشيعة ـ أهالي المناطق التي تقع في إطار ممرها البري الممتد من دير الزور وحتى حمص، لا سيما وأن أهالي هذه المناطق ذات الطبيعة القاحلة، يتسمون بصفات سلوكية عشائرية صحراوية تُسهل على إيران تقديم الدعم لهم مقابل حماية مشاريعها ـ في سبيل حماية نفوذها الاستراتيجية هناك، بالإضافة إلى النظر بآلية توافقية مع النظام للإبقاء على بعض قوات حزب الله في محيط المناطق الحدودية مع لبنان، لتأمين خطها على نحوٍ أفضل، مع الاكتفاء بوجود طوق شيعي أو غير شيعي لكن موالٍ في محيط دمشق.
4ـ سيناريو التوافق مع نظام المحاصصة الجغرافية 
يتوافق هذا السيناريو مع الجزء الأخير من السيناريو السابق، والذي يُشير إلى جنوح إيران للتحرك بواقعية وعقلانية على نحو القبول بنظام المحاصصة الجغرافية الذي بات قائماً في سورية من خلال محادثات الآستانا وتحركات الدول الفاعلة، بحيث أصبح الشمال الشرقي يُمثل النفوذ الأمريكي الغربي بوجودها المباشر وغير المباشر عبر وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة أمريكياً، والشمال الغربي يُمثل النفوذ التركي المباشر وغير المباشر عبر فصائل المعارضة، وأضحى عموم سورية تحت السيطرة الروسية الدبلوماسية والعسكرية الجوية، أما النفوذ الإيراني الميداني البائن فيتركّز في وسط سورية، لا سيما الجزء الجنوبي من البادية من شرقها حتى غربها ومحيط دمشق. وهنا يختلف هذا السيناريو عن الحالتين اللبنانية والعراقية بانعدام القوة العسكرية "الميليشياوية" الضاربة باسم إيران، ومحدودية النفوذ السياسي والجغرافي.
 وفي إطار هذا السيناريو، يظهر للسطح توجه واضح نحو الأساليب الناعمة، لا سيما تحقيق توغل مؤسسي سياسي وأمني واقتصادي في القطاعين العام والخاص، مع الركون إلى تدعيم وجودها بالحفاظ على محوريّة تحركها بين العراق وسورية ولبنان، وتعزيز هذا المحور بدعم اقتصادي مديد، وتحصينه بخطابات إعلامية تواتي توجه من يدور في فلكه.
تتواجد الميليشيات الإيرانية في عدد من المناطق غير المذكورة اعلاه، كشمال حماة وجنوب حلب وجنوب دمشق. لكن بصدد اتجاه المعادلة الدولية نحو تطويق نفوذها، قد تميل للواقعية المتكأة على حل الميليشيات الشيعية، والإبقاء على دعم وتسليح بعض المجموعات المحلية، الشيعية وغير الشيعة، الواقعة في نطاق امتداد ممرها البري الممتد من البوكمال "دير الزور"؛ حيث العراق، وحتى القصير "حمص"؛ حيث لبنان. وربما العمل على تشييع بعض هذه المجموعات. مع النظر بآلية توافقية مع النظام للتوصل إلى اتفاقات تُبقي على بعض قوات حزب الله في محيط المناطق الحدودية مع لبنان، لتأمين خطها على نحوٍ أفضل، والنظر إلى تأسيس طوقٍ شيعيٍ أو غير شيعيٍ، لكن موالٍ في محيط دمشق، لتأسيس "طوق دمشق" بصورةٍ تمنع أي خطر عسكري أو أمني أو ديموغرافي ضد نفوذها الأمني والمؤسسي والسياسي في دمشق، حيث بعض مراقد أهل البيت التي لطالما استندت عليها في استقطاب الميليشيات الشيعية لسورية، مع رفع ركائز تطبيق هذا السيناريو من خلال الاستفادة من عملية إعادة الإعمار وفقاً لنظام الاستثمار "بوت" الذي يعني إنشاء ـ تشغيل ـ تسليم، في سبيل الحفاظ على فائدة استثماراتها في سورية لأطول فترة زمنية ممكن.
ويواجه هذا السيناريو عدداً من العوائق، أهمها:
الإدراك الإيراني لضرورة التوافق مع وضع التقاسم الجغرافي القائم للنفوذ في سورية، في ظل عدم قدرة أي دولة فاعلة على تحقيق سيطرة مُطلقة على حساب الدول الفاعلة الأخرى. لذا باتت تعي أن الحلول التوافقية غير الصفرية هي أمرٌ ملحُ، لا سيما في ظل تعرضها لعقوبات أمريكية وضغوط إقليمية ودولية.
المسعى الروسي للإبقاء على نفوذ جزئي لإيران في سورية، في سبيل تدعيم تحركها الاستراتيجي في إطار مشروع "الأوراسيانية الجديدة" القائم على التعاون مع "أعمدة" إقليمية ودولية مناوئة لهيمنة القطب الأمريكي الأحادي، في سبيل تسهيل الوصول إلى المياه الدافئة، ورفع مستوى محور تعاونها مع هذه الدول لترأس محور "القوة البرية" ضد محور "القوة البحرية" الذي يشكّله "الناتو" وتترأسه الولايات المتحدة.
وفي جميع الأحوال، إن استطاعت إيران تثبيت نفوذها في سورية، لا سيما نفوذ الممر البري الذي يشكل البنية التحتية للخط "الإسلامي"، فإن تركيا التي ترمي إلى تحويل موقعها الجيواستراتيجي لمركزٍ أساسيٍ في نقل الطاقة بين الدول المُوردة والمستوردة، وتنافس إيران على "مركزيّة" المنطقة، و"إسرائيل" التي ترى في إيران خطراً على أمنها القومي، وروسيا التي ترمي إلى ضبط معدلات الطاقة الذاهبة لدول الاتحاد الأوروبي قدر الإمكان، هي أبرز الدول الخاسرة على نحوٍ نسبي، أما دول الاتحاد الأوروبي فهي الدول الرابحة. أما الولايات المتحدة فرابحة دوماً من خلال الإبقاء على موقعها القيادي للعالم عبر توظيف القوى الفاعلة في إطار أهدافها، لا سيما هدف ضبط تحركات القوة الإيرانية بما لا يضر بمصالح حلفائها، ولا يُمنيها تكاليفاً باهظةً.
5ـ سيناريو الانسحاب الكامل
يقوم هذا السيناريو على فض إيران يدها عن المسألة السورية عبر سحب قواتها الصلبة بالكامل والتراجع عن النظر في تحقيق نفوذ الاستراتيجي، في سبيل الالتفات لحالة التدهور الاقتصادي والاجتماعي الداخلي، وتجاوز حالة الضغوط الدولية التي تواجهها، مقابل الحصول على ضمانة روسية للإبقاء على امتيازاتها الاقتصادية في عملية إعادة الإعمار وما بعدها. 
لكن يبدو أن هذا السيناريو غير ممكن، لعدة عوامل:
التساؤل المطروح حول دوافع إيران لتسليم شؤونها لروسيا التي تنافسها أصلاً النفوذ في سورية؟
حاجة إيران لنفوذ حي، ولو كان محدوداً، في سبيل إدارة الوضع الأمني والسياسي لمصالحها في سورية، لا سيما في ظل كونها مصالح تشمل أكثر من بقعة جغرافية في سورية.
الدافع الجيوسياسي: تنطلق الدول لتحقيق مصالحها في حيزٍ جغرافيٍ خارج حدودها القومية بدافع اقتصادي أولاً وأخيراً، ومن ثم أمنياً وعسكرياً، وبالتالي لا يُعقل أن تترك إيران التي أنفقت ما يقارب 12 مليار دولار سنوياً، منذ بداية الأزمة السورية، الكعكعة بدون حصة مُجدية ومضمونة.
 
الخاتمة
تمر الأزمة السورية بمنعطف تحوّلي دولي يقوم على مبدأ تقاسم النفوذ الذي يحفظ توازن القوى، نسبياً، بين الدول الفاعلة. وهذا ما يجعل جميع الدول الفاعلة، وعلى رأسهم إيران، على اعتبار أنها تواجه ضغوطات إقليمية دولية كبيرة حول وجودها في سورية، تنظر في آليات واقعية وممكنة ترعى لها نفوذها.
وفي سياق ذلك، تؤدي المعادلة السورية البنيوية للنظام والشعب، مع مسار المعادلتين الإقليمية والدولية، دوراً هاماً في دفع إيران للنظر في آلية مُثلى للحفاظ على نفوذها الجيوسياسي والجيواقتصادي الاستراتيجي في سورية. وباعتبار ذلك، يبدو أن السيناريوهات التي تحمل آليات بناء النفوذ الناعم، كسيناريوهي التوغل المؤسسي والتغلغل الشعبي الناعمين، والتكيّف مع معادلة المحاصصة الجغرافية، هي الأكثر محاكاة للاستشراف الواقعي. 
 
المراجع:
1- مصالح إيران الاقتصادية تترسخ في سورية: قروض، تجارة وإعادة إعمار، إم لبنون، 7/6/2015
2- سورية الجديدة المُثقلة بالديون الخارجية، الحل، 13/12/2015
3- الاستثمارات الإيرانية في سورية وأهمية "القلق الأمريكي"، الحياة، 11/10/2017
4- سورية وإيران تستكملان مباحثات تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية، العروبة، د. ت
5- الساحل السوري بين إيران وروسيا، عين المدينة، 11/2/2017
6- إيران توسع سيطرتها على دمشق عبر شراء العقارات، الخليج أونلاين، 30/3/2016
7- الاستثمارات الإيرانية في سورية وأهمية "القلق الأمريكي"، الحياة، 11/10/2017
8- هكذا انتشلت موسكو الأسد.. ثم قيّدته، عنب بلدي، 8/10/2017
9- هكذا انتشلت موسكو الأسد.. ثم قيّدته، عنب بلدي، 8/10/2017