تمهيد
برز دور العلماء أو "المشايخ"
(1) في الحراك الشعبي في سورية في فترة مبكرة، بفعل عدّة عوامل، من بينها التغييب الممنهج لكل الفاعلين المجتمعيين الآخرين خلال حكم البعث، وبسبب من هذا البروز كان المشايخ من أوائل من دعاهم النظام للحوار عام 2011 جنباً الى جنب مع شيوخ العشائر كممثلين للمجتمعات المحلية!.
وشهدت الشهور الأولى للثورة بروز ظاهرة الفتاوى والمواقف الدينية الجماعية والفردية. وكان أبرز المواقف الجماعية الأولى البيانُ الذي صدر في 16 نيسان/ مارس 2011، ووقّعه (25) شيخاً من أبناء مدينة حمص، وقدّموا فيه (16) مطلباً، أبرزها: السماح بالتظاهر السلمي، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور (والتي كانت تنصّ على أن حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع)، ورفع حالة الطوارئ، وكفّ يد الأجهزة الأمنية، والسماح بعودة السوريين في المنفى، إضافة إلى إطلاق المعتقلين ومحاسبة القتلة
(2) .
ويُلاحظ هنا أن المشايخ قدّموا في تلك المرحلة خطاباً وطنياً يتّسم بالمسؤولية العالية تجاه المجتمع والدولة، حيث شكّلوا خط الدفاع الأول أمام عنف أجهزة الأمن، ومثّلوا صمّام الأمان لمنع جموع الشباب الغاضب من الانخراط في العنف.
لكن استمرار تصاعد عنف السلطة بشكل كبير، وعدم استجابتها لمبادرات المشايخ من جهة ثانية، ودخول أطراف دينية (من خارج سوريا بشكل خاص) على خط تحريض الشباب على العنف، أدّى إلى إضعاف دور المشايخ بصورة كبيرة، ودفع معظمهم إلى مغادرة، ومغادرة المشهد الديني داخلها عملياً.
وبالتوازي مع خروجهم، والتحول الواسع نحو العسكرة، ظهر "الشرعي"، والذي جاء ليملأ الفراغ الذي خلفه خروج أو إخراج المشايخ من المشهد السوري، فتولّى الشرعييون الأدوار التي كانت مناطة بإئمة المساجد والمشايخ في المجتمع السوري من قبل، وأضافوا لها أدواراً لم يعرفها المشهد الديني في سورية ولا المنطقة من قبل.
ولم تحظ ظاهرة الشرعيين بالدراسة الكافية خلال السنوات الماضية، لاعتبارات عديدة، من بينها أن الشرعيين لم يشكّلوا مجموعة مستقلة واضحة المعالم، فتماهت أدوارهم في كثير من الأحيان مع أدوار فصائلهم. وبالتالي فإنّ من غير الممكن تحديد الفاصل الذي يبدأ منه دور الشرعي ولا النقطة التي ينتهي فيها!.
ويُساهم الغموض الذي يكتنف شخوص العديد من الشرعيين في الحد من الدراسات التي تناولتهم بالتحليل، فمعظم الشرعيين، وخاصة الأجانب، معروفون بكناهم لا بأسمائهم الحقيقية، وكثيرون منهم لا صور لهم، وربما يكون بعضهم معروفاً في بلده الأصلي، لكن المجتمع المحلي لم يعرف عنه إلا كنيته ولقبه(3) .
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن بعض الشرعيين المحليين ساهم على العكس في ترويج فصيله، نظراً لما يملك من اسم وتاريخ في منطقته. ويمكن على سبيل المثال ذكر عبد الرحيم عطون (أبو عبد الله الشامي)، والذي ينتمي إلى عائلة معروفة في إدلب.
وتُحاول هذه الدراسة تسليط الضوء على ظاهرة الشرعيين، وتحديد إطارها العام، بغية تشجيع الباحثيين على تناولها بالمزيد من البحث والدراسة، وتشجيع الشرعيين أنفسهم للحديث والكتابة في نقد التجربة وتحليلها، وهو ما لم يفعلوه حتى الآن.
إننا في مركز جسور نعتقد أن تجربة الشرعيين لا تُشكّل قضية داخلية لدى الفصائل الإسلامية، بقدر ما نراها حقّاً عاماً لكل السوريين، والذين عاشوا هذه التجربة، وتضرّروا أو استفادوا من نتائجها. كما نرى أن تحليلها ونقدها حق للأجيال القادمة من السوريين، والتي ستحاكم تجربة الحراك الشعبي، بكل ما اكتنفه وما تلاها وما أفضت إليه.
ولا تسعى هذه الدراسة إلى مناقشة وتناول كل التفاصيل المتعلّقة بالشرعيين، بقدر ما تُحاول رسم الإطار العام، وهو ما دفع فريق البحث لاختيار أمثلة في كل بند، بما يُوضّح للقارئ طبيعة السرد والتحليل.
وقد استندت هذه الدراسة إلى مقابلات مع عدد من الشرعيين الحاليين والسابقين، كما استندت إلى زيارات ميدانية إلى مقرات محاكم شرعية وهيئات شرعية، وقام بمراجعتها عدد من الشرعيين الحاليين والسابقين.
أولاً: بدايات الظاهرة ونموها
ظهرت فكرة الشرعيين بشكلها المبسط الأول مع ظهور الجيش الحر في النصف الثاني من عام 2011، حيث بدأت المجموعات المحلية للجيش الحر بمواجهة تعقيدات لم يكن المنشقون، ومن معهم من المدنيين، قادرين على التعامل معها. ما دفعهم إلى اللجوء إلى أئمة المساجد المعروفين في مناطقهم لطلب رأي شرعي، وهو أمر متعارف عليه في المجتمع السوري.
لكن أئمة المساجد والمشايخ المحليين واجهوا مشكلة بدورهم في التعامل مع القضايا التي تطرح أمامهم، نظراً لغياب الخبرة وضعف المعرفة المسبقة في كيفية التعامل مع قضاياً من مثل التعامل مع الأسرى والمخبرين، والتصرّف في الأموال والأملاك التي يتم الاستحواذ عليها (فيما أصبح يُعرف لاحقاً بالغنائم).. إلى غير ذلك من القضايا. وأدّت هذه المعضلة إلى ظهور أول أشكال الهيئات الشرعية، حيث سعى علماء الدين إلى تجنّب المسؤولية الفردية عبر تشكيل لجان مشيخية لإصدار فتوى في قضية أو قضاياً بعينها، ثمّ تحوّلت هذه اللجان المؤقتة إلى أشكال شبه دائمة؛ مع تصاعد وتيرة الأحداث وكثرة القضايا التي تُعرض أمامها.
ويُلاحظ أن المشايخ المحليين الذين اضطلعوا بشؤون الفتوى في تلك المرحلة اتّسموا عموماً بالتورّع في الدماء والأموال، على خلاف الشرعيين الذين سيَقدُمون لاحقاً من خارج سورية والشرعيين الذين اتبعوا مدرستهم. وترافق هذا التورّع من قبل المشايخ المحليين مع تورّعٍ نسبي مُقابِلٍ من فصائل الجيش الحر، وخاصة في مسألة الدماء.
لكن الشرعيين في تلك الفترة، أفراداً أو مجموعات، لم يدخلوا في صلب الهياكل التنظيمية لمجموعات الجيش الحر، وبقوا عملياً بصفات استشارية مستقلة.
ومع بدء ظهور "الفصائل الإسلامية"(4) في نهاية عام 2011، ظهر منصب الشرعي كجزء من هيكلية الفصيل. وهو المنهج الذي اتبعته فيما بعد كل هذه الفصائل، وحتى بعض فصائل الجيش الحر.
وكان تنظيم القاعدة قد اعتمد منذ تأسيسه في أفغانستان في نهاية الثمانينيات على مجموعة من الشرعيين، ومنهم: أبو الليث الليبي ومحفوظ ولد الوالد (أبو حفص الموريتاني)، وغيرهم الكثير.
وأدّى ظهور الفصائل السلفية في نهاية 2011 وبدايات 2012، ونموها بشكل كبير في عامي 2012 و2013 إلى انتشار ما أصبح يُعرف بظاهرة "الأسلمة" لدى كل الفصائل الأخرى، والتي أصبحت تحاول مجاراة الفصائل السلفية في مظاهرها من أجل جذب الممولين الخارجيين، وكسب الأنصار المحليين. وكان من أشكال تلك الظاهرة تغيير الفصائل لشعاراتها في عام 2012 و2013 لترفع منها علم الاستقلال وتستبدله براية التوحيد، أو تضيف عليه رموزاً دينية، كما كان من مظاهرها تبني فصائل الجيش الحر للمحاكم الشرعية، ورفض القوانين المدنية بشكل صريح أو ضمني.
وقام لواء التوحيد، أبرز فصائل الجيش الحر في 10/11/2012، جنباً إلى جنب مع جبهة النصرة وحركة أحرار الشام بتأسيس "الهيئة الشرعية في مدينة حلب". والتي اعتمدت الحكم بالشريعة الإسلامية. وانضم إلى الهيئة لاحقاً معظم الألوية والفصائل في حلب مثل الفتح، وتجمع فاستقم كما أمرت، وأحرار سورية، والنصر، وأصبحت الهيئة الجهة القضائية الأولى في المدينة. لكن سرعان ما انشقت جبهة النصرة لتشكل هيئة شرعية خاصة بها بعد عدّة أشهر، تحت اسم "دار القضاء في بلاد الشام"(5) .
وشكّلت مسألة القضاء الشرعي قضية مفصلية بالنسبة للفصائل السلفية، باعتبارها طريق "الحكم بما أنزل الله"، واعتُبر هذا القضاء حدّاً فاصلاً بين المؤمنين بالشريعة وبين الرافضين لها. الأمر الذي جعل المطالبة بأي قضاء آخر مصدر خلافٍ وصدام مع الفصائل الأخرى.
وتعود مركزية القضاء الشرعي لدى الفصائل السلفية إلى مبدأ أساسي لديها، وهو أن تحكيم الشريعة مقدّم على قتال النظام، وأن تأجيل التحكيم يؤجّل النصر. وهو ما أدخلهم في صدام مع المجتمعات المحلية، ومع الفصائل والمكونات.
ومع سيطرة الفصائل على محافظة إدلب، انتشرت المحاكم الشرعية التي وصل عددها إلى قرابة عشرين، ثم اتحدت جميعها ضمن "مجلس القضاء الشرعي في إدلب"، والذي لم يحالفه النجاح لأسباب عديدة منها، منها: عدم استقلالية المحاكم داخل المجلس واستمرار ارتباطها بالفصائل، وضعف القوة التنفيذية للمجلس، وقلة الخبرة وافتقاد الكفاءات العلمية المختصة بالجانب القضائي والقانوني، وعدم وجود مرجعية قانونية موحدة للمجلس. وانعكس فشل المجلس في تعزيز قوة الهيئات الشرعية، والتي كان الهدف إضعافها.
ولا يختلف الحال كثيراً في الغوطة الشرقية عن الشمال السوري، حيث اتجهت الفصائل إلى تشكيل هيئات شرعية منذ بداية سيطرتها على القرى والبلدات في محيط دمشق، وحيّدت في عملهت القضاء والقانونيين الذين انشقوا عن النظام.
لكن تجربة "دار العدل في حوران" قدّمت نموذجاً مختلفاً للقضاء الشرعي. إذ استطاعت توحيد القضاء بين كل الفصائل هناك، بما فيهم جبهة النصرة، واعتمدت القانون العربي الموحد. لكنها واجهت رفضاً من تنظيم داعش، والذي يُعتقد أنه يقف خلف اغتيال نائب رئيس المحكمة بشار الكامل في 1/9/2015، واغتيال رئيس المحكمة أسامة اليتم في 15/12/2015، وكلاهما من مؤسسي المحكمة (6).
لكن موجة الأسلمة بدأت بالتراجع والانحسار بشكل كبير بعد عام 2015، نتيجة لعوامل عدة، أهمها عدم قدرة الفصائل السلفية على تحقيق أي إنجاز عسكري بعد منتصف 2015، وصراعات هذه الفصائل فيما بينها، وتراجع عدد من الدول الإقليمية عن حالة التسامح التي كانت تبديها مع خطاب الأسلمة القادم من دولها مترافقاً مع الدعم المالي الوفير للتنظيمات السلفية بتنوعاتها.
وأدّى انحسار الموجة بالتدريج إلى انحسار أشكال الأسلمة لدى الفصائل جميعاً، بما فيها الفصائل السلفية نفسها. الأمر الذي حدّ من أدوار الشرعيين بصورة كبيرة، ودفع الهيئات الشرعية والشرعيين في هذه الفصائل لإعلان القبول ببعض ما كانوا يحرمونه من قبل، كرفع علم الاستقلال، والقبول بالقانون العربي الموحد.
ثانياً: من هم الشرعيّون؟
تدرّجت ظاهرة الشرعيين في سورية في تمظهراتها، مثلما تدرّجت أدوار الشرعيين، حيث بدأت هذه الأدوار بسيطة محدودة في أواخر عام 2011، لمعالجة إشكاليات محددة على مستوى الأحياء والبلدات، ليتحوّل الشرعيّون بعد ذلك إلى واحدة من القوى الفاعلة داخل مناطق المعارضة، وتوسّع دورهم من تقديم الفتوى المحددة في الوقائع المحددة إلى القضاء والإشراف على تنفيذ العقوبات والترويج للفصائل وتبرير اقتتالها.. إلى غيرها من المهام الواسعة!.
ومع ظهور الفصائلية، وما تبعها من انقسامات واندماجات وصدامات عسكرية، أخذت ظاهرة الشرعيين أشكالها الفصائلية، وتحوّل الشرعيّون إلى جزء من الهياكل التنظيمية للفصائل، وأدوات رئيسية في مواجهة الفصائل الأخرى.
وإلى جانب شرعيي الفصائل، ظهرت مجموعة الشرعيين المستقلين، وهم إما قلة ممن لم ينتسبوا إلى أي فصيل، أو من أولئك الذين خرجوا أو أخِرجوا من فصائلهم. ولكنهم في مجموعهم لا يشكّلون نسبة تذكر من عدد الشرعيين الكلي، وإن كان بعضهم من ضمن أكثر الشرعيين تأثيراً في سورية.
وينقسم الشرعيّون من ناحية تحصيلهم الشرعي إلى قسمين، درس الأولُ العلومَ الشرعية بمقرراتها المعروفة في المعاهد الإسلامية وكليات الشريعة، أو جاء من مدرسة مشيخية قرأ فيها العلوم الشرعية على يد شيخ، أما الثاني فقد اكتفى بالخضوع إلى دورات تأهيل شرعي داخل الفصيل الذي ينتمي إليه(7) ، ويمتلك هذا النوع في الغالب ملكة الخطابة أو الوعظ، فاستفاد من المعرفة الشرعية المحدودة التي تلقاها ليبرز كشرعي داخل فصيله.
وإلى جانب الشرعيين الذين يحملون هذه الصفة في فصائلهم، فإنّ الفصائل السلفية تشهد تداخلاً بين الشرعي والسياسي والعسكري، فهناك العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية التي تحمل شهادات شرعية، مثل زهران علوش الذي كان قائداً لجيش الإسلام ورئيساً للهيئة الشرعية في نفس الوقت، أو أولئك الذين تحصلوا على العلم الشرعي في المدارس المشيخية أو في السجون. ويقوم هؤلاء بأدوار الشرعيين في الكثير من المواضع، أو يقومون بالتنقل بين المواقع الشرعية والسياسية والعسكرية، فعلى سبيل المثال، فإنّ شرعي جيش الإسلام سمير كعكعة يقوم عملياً بمهام قيادة الفصيل منذ مقتل قائده السابق زهران علوش، كما أن هاشم الشيخ قائد حركة أحرار الشام السابق عُيّن رئيساً لهيئة الدعوة والإرشاد بعد انتهائه من مهامه كقائد للحركة، رغم أنه ليس شرعياً أصلاً.
ولا يُشكّل الشرعيّون مجموعة واحدة، لا من الناحية الإيديولوجية والفصائلية، ولا من ناحية الأدوار والمهام. فهم مختلفون بحسب انتماءاتهم وجنسياتهم ومهاراتهم وشبكات علاقاتهم.. إلخ.
وإلى جانب الشرعيين الأفراد، تظهر المؤسسات الشرعية. وترتبط هاتان المجموعتان بعلاقة متشابكة، تتقاطع في بعض الأحيان وتتعارض في أحيان أخرى.
ويتوزّع الشرعيّون من الناحية الأيديولوجية على أربعة مدارس أساسية:
1. اتجاه سلفي جهادي؛ بشقيه المعولم والمحلي. ويغلب هذا الاتجاه على شرعيي جبهة النصرة.
2. اتجاه سلفي حركي: ويشمل أحرار الشام، وهيئة الشام الإسلامية، ودار العدل في حوران، وبعض فصائل درعا مثل لواء المعتز.
3. اتجاه سلفي علمي؛ ويتركّز بشكل أساسي لدى شرعيي جيش الإسلام في الغوطة الشرقية وجبهة الأصالة والتنمية في إدلب ودير الزور، خاصة وأن الجيش يتواجد في مناطق دوما والقلمون التي ينتشر فيها المذهب الحنبلي.
4. اتجاه التدين الشامي؛ وينتشر غالباً لدى فصائل حمص وريفها الشمالي حالياً، ولدى الفصائل التي كانت متواجدة في حلب، مثل الجبهة الشامية، وفيلق الرحمن في الغوطة الشرقية، وفيلق أجناد الشام في ريف حماة.
وقبل دراسة الأدوار التي يمارسها الشرعيّون، سوف نتوقف في هذه الدراسة عند ثلاثة مجموعات مهمة، لابدّ من التعريف بها بشكل موسّع قبل الحديث عن أدوار الشرعيين وتقييم هذه الأدوار، لما لهذه المجموعات من تأثير على المشهد الشرعي في سورية.
أ. الشرعيّون الأجانب
قدِم معظم الشرعيّون الأجانب خلال عامي 2012 و2013، وانضمّ أغلبهم إلى جبهة النصرة، فيما انضم عدد قليل إلى حركة أحرار الشام. وبعد تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية (داعش) في نيسان/أبريل 2013 انتقل الكثير منهم إلى التنظيم الجديد.
وشهدت السنوات الثلاثة الماضية تناقصاً كبيراً في عدد الشرعيين الأجانب نتيجة لمقتلهم، إما بحوادث اغتيال مباشرة لا تتبناها أي جهة، وتركّزت في معظمها في محافظة إدلب، أو بقصف لطيران التحالف.
ومن أبرز عمليات الاغتيال التي شهدتها مناطق سيطرة المعارضة للشرعيين الأجانب في السنوات السابقة:
في 10/9/2014 قُـتل الشرعي في جبهة النصرة الأردني أبو مشاري برصاص مجهولين في قرية القنية قرب جسر الشغور في ريف إدلب.
وفي 31/1/2015 قُتل الشرعي في حركة أحرار الشام السعودي أبو أسيد الجزراوي (قاضي مدينة بنش) خلال اشتباك مع جبهة النصرة قرب مدينة بنش في ريف إدلب.
وفي 4/10/2016 قُتل أحمد سلامة مبروك (أبو الفرج المصري)، وهو أحد منظري جبهة النصرة الشرعيين، في غارة للتحالف قرب جسر الشغور في ريف إدلب.
وفي 18/11/2016 قُتل الشرعي في جبهة فتح الشام (النصرة) المصري أبو أفغان بغارة لطيران التحالف.
وفي 4/7/2017 انفجرت سيارة مفخخة أمام "معهد القنيطرة الشرعي" التابع لهيئة تحرير الشام في قرية القنيطرة في ريف إدلب، والذي يديره الشيخ "أبو يحيى المصري"، مما أدّى إلى مقتل خمسة شرعيين، هم منهم: أبو مضاوي الجزراوي، وأبو أسامة الجزائري، وأبو الحارث الليبي.
وفي 13/9/2017 قُتل الشرعي في هيئة تحرير الشام السعودي أبو محمد المدني الحجازي برصاص مجهولين في مدينة سراقب في ريف إدلب.
وفي 15/9/2017 قُتل الشرعي في هيئة تحرير الشام السعودي سراقة المكي، برصاص مجهولين في مدينة إدلب.
وفي 20/9/2017 قُتل الشرعيان أبو يحيى التونسي وأبو سليمان المغربي برصاص مجهولين في شارع الكورنيش في مدينة إدلب.
كما شهدت سورية مقتل عدد من الشرعيين السوريين القادمين من الخارج، ممن هم في حكم الأجانب، ومن أهمّهم أبو فراس السوري، والذي قُتل في غارة أمريكية على إدلب في 3/4/2016.
ويتشابه الدور الذي يقوم به الشرعيّون الأجانب في الفصائل مع دور نظرائهم المحليين، إلا أنهم يتميّزون عنهم فيما يلي:
1. امتلاكهم للتأثير أوسع في سياسة فصائلهم، كما في هيئة تحرير الشام (النصرة)، حيث يتواجد الشرعيّون الأجانب بشكل واسع في اللجنة الشرعية ومجلس الشورى. ومن أهم من مرّوا على النصرة من الشرعيين الأجانب: أبو سليمان المهاجر، وهو أسترالي الجنسية مصري الأصل، وميسرة الجبوري (أبو ماريا القحطاني)، وهو عراقي الجنسية، وسامي العريدي وهو أردني الجنسية.
2. القدرة على تجنيد المقاتلين وجلب التمويل من الخارج نتيجة لشبكة العلاقات الاجتماعية والدينية التي يمتلكها هؤلاء الشرعيّون، وخاصة في دول الخليج، على خلاف الشرعيين المحليين الذين يفتقرون في الغالب لمثل هذه الشبكات، ما لم يكونوا قد قضوا فترة طويلة من حياتهم خارج سورية.
3. امتلاكهم للخبرة الدولية، والتي تمنحهم المجال لاستحضار تجارب جهادية وشرعية من مجتمعات ودول أخرى، في الوقت الذي يفتقر الشرعيّون المحليون في معظمهم لخبرات سابقة أصلاً.
ويُلاحظ أن الغالبية المطلقة للشرعيين الأجانب في كل الفصائل، بما فيها تنظيم داعش، هم من السعودية ومصر والأردن، ثم تونس. كما يُلاحظ أن غالبية من جاء من الخليج والأردن كانوا من المتشددين والتكفيريين، والتحق جزء كبير منهم بتنظيم داعش، وأهمهم تركي البنعلي. كما يُلاحظ أن أغلب القادمين من مصر كانوا من كبار السن، ولديهم تجربة طويلة في المدرسة الجهادية، والتحق معظمهم بأحرار الشام.
وإضافة إلى الشرعيين الأجانب المتواجدين في سورية، ينبغي التنويه إلى الدور الذي قام به عدد من الشرعيين والمنظرين المتواجدين خارج سورية، وبشكل أساسي في السعودية والأردن، حيث قدّم هؤلاء المشورة والفتوى للمجموعات السلفية الجهادية (وخاصة النصرة وداعش)، سواء عبر الوسائل الخاصة غير المنشورة، أو تلك المنشورة عبر وسائل الاتصال المختلفة. كما قام بعضهم بأداء أدوار التحريض والتعبئة على وسائل الاتصال الاجتماعي لدعم هذه المجموعات التي يدعمونها، ودخلوا كأطراف مباشرة في الصراعات بين الفصائل السلفية.
ومن أبرز الشرعيين الذين كان لهم دور مؤثر في البيئة الشرعية للفصائل، بغض النظر عن اتجاه هذا الدور، في السعودية: حسن صالح الحميد، وعبد الله الوطبان، وبعض المقيمين فيها مثل: فايز صلاح ود. عماد الدين خيتي وغيرهم، وفي الأردن: عبد القادر شحادة (أبو محمد الطحاوي) ود. إياد قنيبي، وعصام البرقاوي (أبو محمد المقدسي) وغيرهم.
ب. الشرعيّون المستقلون
يمثل الشرعيّون المستقلون، أو غير الفصائليين، ظاهرة في المشهد الشرعي في سورية. ويتوزّعون في إقامتهم بين داخل سورية وخارجها.
ويتصف هؤلاء الشرعيّون بافتقارهم لـ"القوة التنفيذية" التي يمتلكها شرعييو الفصائل، وخاصة شرعييو النصرة. لكن هذا الضعف ساعدهم في تنفيذ مهام لا يتمكن منها الفصائلييون. ومن أبرز هذه المهام الإصلاحُ بين الفصائل عند وقوع اقتتال بينها، سواءً عبر الهيئات الشرعية أو عبر المبادرات الفردية، وتتفاوت استجابة الفصائل للدور الإصلاحي الذي يلعبه الشرعيّون المستقلون، وغالباً ما يكون الأثر محدوداً، إلا إذا توافقت هذه المبادرات مع رغبات قيادات الفصائل العسكرية.
كما يقوم الشرعيّون المستقلون بمهام الدعوة والإرشاد لمقاتلي فصائل الجيش الحر، إضافة إلى مهام الوعظ للجمهور.
ومن أبرز الشرعيين المستقلين عبد الرزاق المهدي(8) ، وعبد الله المحيسني (إلى حين تأسيس الهيئة)، ومصلح العلياني (سعودي).
ويلاحظ أن أبو محمد الجولاني تمكّن من استقطاب معظم الشرعيين المستقلين عند تشكيل هيئة تحرير الشام، وهو ما شكّل قوة ودفعاً للهيئة عند تأسيسها، مقابل إضعاف كبير لأحرار الشام. وشكّل خروج معظمهم منها لاحقاً إضعافاً كبيراً لمشروعية الهيئة.
وينبغي التنويه هنا إلى عدد من الهيئات الشرعية التي جمعت الشرعيين المستقلين، وأحياناً جمعت المستقلين مع الفصائليين. ومن أبرز هذه المشاريع:
• مجلس شورى أهل العلم: ويرأسه الدكتور سعد العثمان، ويتكوّن من شرعيين موجودين داخل سورية. وحظي المجلس بقبول من جبهة النصرة، إلى ما قبل استهدافها لجيش المجاهدين.
• تجمّع أهل العلم: وتميّز بجمعه لشرعيي الفصائل السلفية إلى جانب شرعيين خارج سورية. ومن أبرز مؤسسيه الشرعي العام السابق لجبهة النصرة أبو ماريا القحطاني، وعبد الله المحيسني، وعباس شريفة، ورئيس الهيئة القضائية في حركة أحرار الشام الإسلامية أحمد محمد نجيب، وعضو المجلس الشرعي في أحرار الشام أيمن هاروش. لكن فتوى التجمع بخصوص عملية "درع الفرات" أدّت لانسحاب معظم شرعيي الخارج والشرعيين المحسوبين على حركة أحرار الشام.
• رابطة أهل العلم في الشام: ويرأسها محمد المحيسني، ويغلب عليها الشرعيّون الأجانب. وتخصصت عملياً في التوسّط بين الفصائل الإسلامية. لكنها فقدت بريقها بعدما ساد اعتقاد لدى معظم الفصائل بأن الرابطة متحيّزة للنصرة.
ج. الهيئات الشرعية الخارجية
أدّت ظروف الحرية النسبية التي تلت انطلاق الاحتجاجات الشعبية في عام 2011 إلى نشوء عدد كبير من منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك عدد كبير من هيئات العلماء والدعاة والمجالس والهيئات الشرعية داخل سورية وخارجها.
ومن أبرز المجموعات التي تشكّلت خلال السنوات السابقة رابطة العلماء السوريين/علماء سورية، والتي تأسست عام 2006، وهيئة الشام الإسلامية التي تأسّست في 3/10/2011، والهيئة العامة للعلماء المسلمين في سورية، والتي تأسست في أيار/مايو 2011، وجمعية علماء الكرد، والتي تأسّست في تشرين الأول/أكتوبر 2011، وهيئة العلماء والخطباء والدعاة الأحرار في سورية، والتي تأسّست في 7/9/2011، ورابطة علماء الشام التي تأسست في 10/9/2012، ومؤسسة علماء ودعاة الثورة السورية، والتي تأسّست في 11/5/2012، والملتقى الإسلامي السوري التي تأسّس في كانون الثاني/يناير 2012، ورابطة خطباء الشام التي تأسّست في 5/11/2012، وجبهة علماء حلب، والتي تأسست في 11/4/2012، والمجلس الإسلامي السوري الذي تأسّس في 14/4/2014، وهو جسم يجمع العديد من المؤسسات السابقة.
وتتفاوت هذه الهيئات بشكل كبير في أدوارها، وفقاً لعدّة معايير، أهمها: مدى النفوذ الذي تملكه الهيئة على فصيل أو فصائل بعينها، أو الجمهور العادي في منطقة معينة، وحجم التمويل الذي تستطيع الحصول عليه، والنفوذ الإقليمي الذي تملكه.
وتتصف العديد من هذه الهيئات بغياب ممثليها الحقيقيين على الأرض، على خلاف الهيئات الشرعية المحلية مثلاً. ورغم وجود تلاميذ لهذا الشيخ أو ذلك هنا وهناك، إلا أن ذلك لم ينعكس في قوة حقيقية قادرة على التأثير.
وتتقاطع أدوار هذه الهيئات في عدد من المواقع مع أدوار الشرعيين والهيئات الشرعية، حيث يتمثّل دورهم الرئيسي المفترض في تقديم الفتاوى والآراء الشرعية في القضايا الآنية التي تواجه المجتمع السوري، وهو ما تتأخر فيه هذه الهيئات عادة، وتفضل البيانات المشتركة على إصدار آراء سريعة منفردة
(9) . كما تُنظم هذه الهيئات برامج ومشاريع دعوية داخل سورية؛ منافسة لتلك التي تقوم بتنظيمها الهيئات الشرعية الفصائلية، وهو ما يُحرج تلك الفصائل، فتقوم في بعض الأحيان بتعطيلها
(10) !.
كما تُمارس هذه الهيئات وأعضاؤها أدواراً سياسية، حيث يحظى بعضها بمقاعد في المجلس الوطني والإئتلاف الوطني، وشارك عدد من أعضائها بصفاتهم الشخصية أو الاعتبارية، في عدد من التشكيلات السياسية. كما تبنّت هذه الهيئات عدداً من المبادرات السياسية
(11) ، وأصدرت عدداً من البيانات ذات الطابع السياسي الواضح
(12) .
ثالثاً: المهام والأدوار
تختلف مهام الشرعيين من فصيل إلى آخر، حيث يؤدي الشرعيّون مهاماً عديدة على المستويين الداخلي والخارجي، من الناحية السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية.
لكن المهام تختلف أيضاً بحسب الشرعيين أنفسهم، حيث تمكّن بعضهم إما لطبيعة الكارزما التي يملكونها، أو علاقتهم مع قيادة الفصيل، أو قدرتهم على جلب التمويل، من أداء أدوار تفوق أدوار غيرهم من الشرعيين حتى داخل الفصيل نفسه. ويبرز عبد الله المحيسني كواحد من أبرز الشرعيين الذين استطاعوا القيام بأدوار عابرة للفصائل، وبشكل يفوق أداء غيره من الشرعيين.
أ. المهام الداخلية
يقوم الشرعيّون بعدد من المهام في داخل الفصيل، تتراوح بين تقديم الفتوى والرأي الشرعي إلى الأدوار السياسية وحتى العسكرية. وتختلف هذه الأدوار بين فصيل وآخر.
ويمكن حصر الأدوار التي يقوم بها الشرعيّون في الفصائل الإسلامية في الأدوار التالية:
1. دور التأصيل والتبرير الشرعي لقرارات الفصيل السياسية والاقتصادية والعسكرية. وعلى سبيل المثال قامت الجهات الشرعية في أحرار الشام وفتح الشام (النصرة) بعد انطلاق عملية درع الفرات بتولي مسؤولية إصدار موقف كل منهما تجاه التدخل التركي، وتقديم هذا الموقف في شكل شرعي.
2. الدور الدعوي والإرشادي العام، فيقوم "مكتب الدعوة والإرشاد" في حركة أحرار الشام(13) على سبيل المثال بتنظيم دورات شرعية للأهالي، ومحاضرات في المساجد، وبرامج لتحفيظ القرآن الكريم. وتقوم هيئة تحرير الشام وجيش الإسلام بأنشطة مماثلة.
وتبرز هنا "هيئة الشام الإسلامية"، والتي نظّم عدداً كبيراً من البرامج والمشاريع الدعوية منذ تأسيسها عام 2011 وحتى الآن.
3. الحشد والتعبئة والوعظ، ويتوجّه هذا الدور إلى عناصر الفصيل، ويتضمّن توجيههم شرعيّاً
(14) ، ورفع معنويات المقاتلين قبل بدء المعارك، والقيام بجولات دورية على النقاط العسكرية، وبرامج خاصة للمقاتلين الانغماسيين والاستشهاديين. ويتركّز الدور الأخير بشكل خاص في جبهة تحرير الشام (النصرة).
وإضافة إلى الوعظ داخل الفصائل، فإنّ الشرعيين، وخاصة المهاجرين منهم، قاموا بالوعظ والإرشاد لدى الفصائل الأخرى في بداية قدومهم إلى سورية، حيث كانت بعض فصائل الجيش الحر تقوم بطلبهم لوعظ عناصرها.
4. المشاركة في صناعة السياسة الداخلية للحركة، ويختلف هذا الدور من فصيل إلى آخر، ففي حركة أحرار الشام يشارك الشرعيّون في صناعة القرار من خلال مقعدين مخصصين لهم في مجلس الشورى، فيما يملك الشرعيّون حضوراً أكبر في عملية صنع القرار في هيئة تحرير الشام، فلا يتخذ قرار بدون موافقة المجلس الشرعي، وهي أعلى سلطة في الهيئة.
5. تولي أعمال القضاء في مناطق سيطرة الفصيل، ويُشارك الشرعيّون عادة في كل مراحل التحقيق وإصدار الأحكام والإشراف على تنفيذها(15) . ويستند هؤلاء القضاة إلى أفهامهم الخاصة للأحكام الشرعية، دون أي قوننة مكتوبة يمكن أن يعود لها حتى القضاة الآخرون من نفس الفصيل.
ب. المهام الخارجية
يُمارس الشرعيّون في الفصائل أدواراً عديدة تستهدف جهات وأفراد خارج الفصيل. ومن أهم هذه الأدوار:
1. مواجهة الخطاب الشرعي من الفصائل الإسلامية الأخرى، وإنتاج الخطاب الشرعي الذي يُبرر سياسات الفصيل. ويتم ذلك إما من خلال البيانات، أو من خلال المناظرات، حيث شهدت السنوات السابقة عدداً كبيراً من المناظرات بين شرعيي الجبهة وشرعيي الفصائل التي تحاربها (تنظيم داعش، أحرار الشام، جند الأقصى.. إلخ).
2. ترويج الفصيل للجمهور الخارجي، سواء ذلك المحلي، حيث يقوم الشرعي بجولات في المساجد والأسواق لهذا الغرض، أو لذلك المتواجد خارج سورية، حيث يتم هذا الأمر من خلال وسائل الاتصال، وخاصة وسائل الاتصال الاجتماعي.
3. جمع التمويل للفصيل من خلال علاقاته المباشرة مع ممولين (غالباً في دول الخليج)، أو علاقاته مع رجال دين خارج سورية.
4. تقديم خدمات الوساطة والمصالحة، حيث يتولى الشرعيّون المستقلون تقريب وجهات النظر بين الفصائل المتقاتلة، ويقترحون اتفاقيات بين هذه الفصائل، بالتنسيق مع القيادات العسكرية لكل فصيل.
رابعاً: ماذا قدّمت تجربة الشرعيين وماذا حصدت؟
جاءت ظاهرة الشرعيين في سورية بالتوازي مع الحاجة التي ظهرت مع بداية العمل المسلح، والتي أفرزت معطيات لم يكن باستطاعة الفصائل حديثة التشكّل التعامل معها، وهو ما كان مفهوماً بدرجة ما، خاصة في ظل غياب المرجعيات الأخرى التي يمكن أن تُقدّم الدعم القانوني والسياسي، وحتى الشرعي، لتلك الفصائل.
لكن الاتساع الكبير الذي شهدته أدوار الشرعيين في المراحل التالية نتيجة لظاهرة الأسلمة أدّى إلى تحوّل الشرعيين إلى جزء من المشكلة، بعد أن كان ظهورهم مرتبطاً بالبحث عن حلول لمشاكل قائمة، وتحوّلوا عبئاً حتى على الفصائل التي غذّت ظاهرتهم، مثل النصرة!(16) .
كما أدّى تولّي الشرعيين لمهام القضاء إلى إضعاف مؤسسة القضاء بشكل كبير، حيث أُلغي التعامل بالقانون المدني السوري، وتم رفض اعتماد قوانين مدوَّنة أخرى، كالقانون العربي الموحد(17) . وأصبحت الأحكام حتى داخل قضاء التنظيم الواحد معتمدة على أفهام الشرعيين وأمزجتهم، ولا تستند إلى مرجعية مُدوَّنة.
وألغى القضاءُ الشرعي درجاتِ التحاكم، فلم تعد هناك جهة قانونية يمكن الاستئناف لديها(18) ، كما أُلغي مبدأ الترافع عن المتهم، إلى غير ذلك من المبادئ الدنيا للمحاكمات العادلة. وبالتالي فإنّ الشرعيين خلال هذا الفترة تحمّلوا مسؤولية عدد كبير من الأحكام التي لا تتوافق مع أي معايير قانونية، خاصة وأن معظم الشرعيين لا يحملون أي تأهيل علمي في مجال القانون، ولا يملكون حتى معرفة فقهية معمّقة(19) ، ولم تقم معظم الفصائل بالاستعانة بالقضاة من أصحاب الخبرة والاختصاص(20) .
ولم يتمكن الشرعيّون في تجربة القضاء من تقديم نموذج إيجابي عنهم، إذا افتقدت العديد من المحاكم لإنصاف الخصوم، كما ظهرت الرشاوي والمحسوبيات، إلى غيرها من أشكال الفساد المعروفة في القضاء العادي، وخاصة في سورية.
كما أدّى انقسام القضاء بين الفصائل، ومعه انقسام أجهزة التنفيذ القضائي وأجهزة الشرطة أو ما يُعادلها، إلى تكريس حالة من الفوضى، وخاصة في محافظة إدلب وحلب (قبل خروج المعارضة منها)، فأصبح تقديم شكاية في أي جنحة أو جريمة يستدعي الاتصال بكل الفصائل الموجودة في المنطقة، ولا تقوم هذه الفصائل بتبادل المعلومات بينها.
وقد كرّس الشرعيون حالة الانقسام في الجهاز الشرطي والقضائي من خلال تحوّلهم للوجه المدافع عن الحالة الفصائلية، أو امتناعهم –في أفضل الأحوال- عن الضغط على قيادات فصائلهم لوقف هذا التنافس الذي أضرّ بمصالح السكان، وتسبب في ضياع الكثير من الحقوق.
وأحدثت ظاهرة الشرعيين فجوة كبيرة داخل المؤسسات الشرعية نفسها، وأخذت هذه الفجوة طابعاً طبقياً إلى جانب الطابع الشرعي. فقد شكّل خريجو كليات الشريعة والمعاهد الشرعية وطلبة العلم من صغار السن، أو من أولئك الذين كانوا في أدنى السلم الوظيفي والاجتماعي قبل عام 2011، الغالبية المطلقة من شرعيي الفصائل، وأصبحت لديهم السلطة القانونية التي تؤهّلهم لاتخاذ قرارات كبرى (مثل الحكم بالإعدام، وإغلاق المعابر، وتبرير استهداف فصائل بأكملها، وإجراء عمليات إجلاء بشري لعشرات الآلاف من الأشخاص.. إلى غير ذلك من القرارات)، في الوقت الذي تحوّل فيه المشايخ التقليديون من أصحاب الحظوة في المجتمع قبل عام 2011 إلى لاجئين في دول الجوار، دون أن تكون لهم قدرة حقيقية على التأثير في الوقائع الميدانية.
ولا يتبادل الطرفان الكثير من الاحترام، حيث ينظر العلماء التقليديّيون للشرعيين باعتبارهم متطفلين على الشريعة ببضاعة فقهية محدودة مزجاة، فيما يراهم الشرعيّون باعتبارهم من "الخوالف" و"القاعدين" الذين فضّلوا الهروب بأنفسهم وأهليهم إلى خارج سورية على المكوث بين شعبهم ساعة المحنة!.
وساهم الشرعيّون الأجانب في تعميق الفجوة بين الفصائل الإسلامية والشارع السوري، حيث حمل هؤلاء ثقافات مختلفة عن الثقافة المحلية، كما أحضروا معهم تجارب الحركات الجهادية في مناطق أخرى، مثل أفغانستان والعراق، وأدخلوا الساحة السورية في صراعات وجدالات لا طائل منها.
وساهم الشرعيون في الفصائل السلفية في إحداث أو تبرير صراعات وانقسامات كبيرة في الساحة السورية، نتيجة لفتاوى قدّموها في قضاياً مفصلية، لكن هؤلاء الشرعيين، أو الجهاز الشرعي في الفصيل نفسه تراجع عن هذه الفتاوى بعد سنوات، دون تقديم اعتذار أو حتى تبرير للرفض السابق، والذي أدّى وقتها إلى انقسامات كبيرة في المجتمع المعارض، وتسببت في بعض الأحيان في صدامات مسلحة دامية، أريقت على إثرها دماء، أو سُلِبت بسببها حريات.
ومن أبرز هذه الفتاوى: رفض رفع علم الاستقلال، ورفض القانون العربي الموحد، ورفض الاعتراف بسورية الدولة أو حتى استخدام اسم "سورية"، وتحريم القتال مع الطرف التركي في درع الفرات، إلى غيرها من الفتاوى. وهي جميعاً من الفتاوى التي تراجعت إما جبهة النصرة (بأسمائها المختلفة) أو حركة أحرار الشام، دون أن يتضمّن التراجع في أي مرة اعتذاراً عن الاجتهاد السابق، أو تبرير للرفض الأول الذي دفع بالسوريين إلى صراعات كانوا في غنى عنها.
ومما لا شكّ فيه فإنّ ظاهرة الشرعيين التي عرفها السوريّون بشكل تدريجي بدءاً من عام 2012 وحتى اليوم تركت آثارها على المجتمع السوري في مناطق سيطرة المعارضة، وعلى المشهد السوري بشكل عام. وهي ظاهرة تستحق المزيد من الدراسة والتمحيص، سواء من ناحية الشكل والدور، أو من ناحية المحتوى، حيث ينبغي إجراء دراسة مقارنة لكل الفتاوى التي صدرت من الشرعيين أو من الهيئات الشرعية، وتحليلها في الإطار الشرعي والسياسي.
المراجع