وجهات نظر جديدة وقديمة في دراسة السلفية: مراجعة كتاب صناعة السلفية
مارس 13, 2018 2012

وجهات نظر جديدة وقديمة في دراسة السلفية: مراجعة كتاب صناعة السلفية

حجم الخط

هنري لوزيير (جامعة كولومبيا 2015، 328 صفحة)
مراجعة: إسحاق وايزمان (بروفيسور الدراسات الإسلاميّة في جامعة حيفا)


ملخص
 تحاول هذه المراجعة تقييم مساهمة كتاب هنري لوزيير المنشور مؤخراً "صناعة السلفية" في النقاش العلمي الجاري في ضوء الأدبيات القائمة. فهي تبحث في معالجته للمسائل الثلاث الرئيسية، التي تشغل بال دارسي السلفية في الوقت الحاضر. إذ تتناول المسألة الأشد إلحاحاً؛ مصادر الاحتكاك بين الاتجاهات المعاصرة المختلفة داخل الإطار السلفي العام، ولاسيما أسباب انجراف بعض السلفيين إلى العنف. وهذا يرتبط بمسألة المكونات المختلفة التي تجتمع لتشكّل "الحركة" السلفية اليوم، وعلى الأخص العلاقة بين السلفية ووهابية المملكة العربية السعودية. وأخيراً، والأكثر صلة بكتاب لوزيير، هو مسألة مسار السلفية الحديث، التي بحد ذاتها تنقسم إلى سؤالين. الأول هو تقارب السلفية الحديثة مع التراث الحنبلي القروسطي لابن تيمية والوهابية التاريخية. أما الثاني فيحيل إلى دور الإصلاحيين الإسلاميين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في تشكيل السلفية الحديثة.
جذبت السلفية كمية متزايدة من الاهتمام العام والعلمي في أعقاب الهجمات على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر من عام 2001. ومنذ ذاك الحين، يتغذّى هذا الاهتمام بشكل متواصل عبر انتشار الدعاة الراديكاليين والجماعات الإسلامية العنيفة في الشرق الأوسط وفي أوروبا الغربية؛ من خلال انفتاح السعودية بمؤسستها الدينية الوهابية، وعبر النجاح غير المتوقع لحزب النور السلفي في الانتخابات البرلمانية في مصر خلال "الربيع العربي". كما أن العديد من المقالات والكتب العلمية، التي لا تشكّل هذه المراجعة استثناء منها، تفتتح بالإشارة إلى الأفعال الإرهابية المثيرة في الولايات المتحدة. وفيما يتعلق بالسلفية، يبدو هذه السلوك مبرّراً بشكل خاص؛ فالقاعدة وسلفها الرهيب، الدولة الإسلامية التي نصبت نفسها بنفسها (داعش)، تدّعي، وهي عادة ما تُعتبر كذلك، أنها جزء من هذه الحركة، أو على الأقل طفرة عنيفة منها؛ السلفية الجهادية.
يبدو المذهب السلفي بسيطاً إلى حد ما في مبادئه الأولية. فالاسم مُشتق من السلف الصالح، أي الأجيال الثلاثة الأولى من الإسلام عادة، الذين يُطالب جميع المسلمين باتّباع طريقتهم المثالية في فهم وتطبيق القرآن والسنة. كما يستند مسار هذه "الفرقة الناجية" و"الطائفة المنصورة" إلى إيمان صارم بالتوحيد، الذي يستبعد وجود أي شركاء لله (الشرك) ويرفض البدع التي ليس لها جذر في نموذج النبي. رغم ذلك، فمن المفارقات أن هناك الكثير من الارتباك والاختلاف فيما يخص المعنى الفعلي لهذه المبادئ الأساسية، ليس فقط بين العلماء، بل حتى بين أتباع السلفية أنفسهم. إذ تبقى أسئلة حاسمة دون حل من ناحية الهوية والاستمرارية التاريخية، والتباين بين المجموعات الحالية والقديمة المختلفة التي انضمت إلى السلفية بصورة أو بأخرى.
تحاول هذه المراجعة تقييم مساهمة كتاب هنري لوزيير المنشور مؤخراً "صناعة السلفية" في النقاش العلمي الجاري في ضوء الأدبيات القائمة. وبشكل أكثر تحديداً، فهي تبحث في معالجته للمسائل الثلاث الرئيسية التي تشغل بال دارسي السلفية في الوقت الحاضر. إذ تتناول المسألة الأشد إلحاحاً؛ مصادر الاحتكاك بين الاتجاهات المعاصرة المختلفة داخل الإطار السلفي العام، ولا سيما أسباب انجراف بعض السلفيين إلى العنف. وهذا يرتبط بمسألة المكونات المختلفة التي تجتمع لتشكّل "الحركة" السلفية اليوم، وعلى الأخص العلاقة بين السلفية ووهابية المملكة العربية السعودية. وأخيراً، والأكثر صلة بكتاب لوزيير، هو مسألة مسار السلفية الحديث، التي بحد ذاتها تنقسم إلى سؤالين. الأول هو تقارب السلفية الحديثة مع التراث الحنبلي القروسطي لابن تيمية والوهابية التاريخية. أما الثاني فيحيل إلى دور الإصلاحيين الإسلاميين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في تشكيل السلفية الحديثة. يمكن قراءة هذه المراجعة بالتزامن مع مقالي المنشور مؤخراً، "السلفية الحديثة بين الإصلاح والجهاد"(1).
يمكن ملاحظة عدد من المعالم الرئيسية في البحث الموسع المتواصل حول السلفية في الأعوام الخمسة عشر الماضية، أي منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. وقد يوافق العديدون أن أولى هذه المعالم الرئيسية هي المقالة المهمة لكوينتن فيكتوروفيتش "تشريح الحركة السلفية"، التي ظهرت في عام 2006(2). وبملاحظته للسلفيين خلال دراساته الإثنوغرافية للنشاط الإسلامي في الأردن، وعن التطرف الإسلامي في المملكة المتحدة، فُتِن فيكتوروفيتش بالتنوع الواسع داخل المجتمع السلفي. وقد كان تفسيره أن السلفيين تجمعهم طريقة وعقيدة دينية مشتركة، لكنهم مختلفون في تطبيقها على المشاكل المعاصرة، لا سيما فيما يخص السياسة، والردّة، والعنف. ووفقاً له: "ترتبط الانقسامات بين الفصائل بالتحليل السياقي، وليس بالإيمان". إذ إن فيكتوروفيتش كان قد ميّز بين ثلاثة فصائل سلفية رئيسية: النقائيون، الذين يهتمون بشكل أساسي بالحفاظ على نقاء الإسلام من خلال الدعوة والتربية. والسياسيون، الذين دعوا في ظل تأثير الإخوان المسلمين إلى الانخراط في الشؤون الراهنة للدولة والمجتمع. والجهاديون، الذين يؤيدون استخدام العنف لإقامة الدولة الإسلامية ومحاربة الغرب الكافر. وبالتزامن مع ذلك، فقد لاحظ كراهية سلفيي اليوم من كل الفصائل للسلفية العقلانية المبكرة أو الحداثة الإسلامية لخط أفغاني-عبده-رضا.
أما العلامة الرئيسية الثانية فهي الكتاب الجماعي لعام 2009، الذي يحمل اسم "السلفية العالمية" من تحرير رول ميير(3). إذ تفيد الفصول الثمانية عشر الواردة في الكتاب، بعد مخطط فيكتوروفيتش الثلاثي عموماً، في تبيان التعقيد، إضافة إلى أوجه الغموض التي تتسم بها الظاهرة، على الرغم من أن التركيز وباعترافهم هو على النموذج الوهابي من السلفية. وهكذا يُظهِر القسم الأول كيف أن العقيدة السلفية كانت خاضعة لتحولات كبرى على مدى العصر الحديث، وأتاحت مجالاً للاختلاف أيضاً في مسائل الإيمان بين المفتي الوهابي الكبير عبد العزيز بن باز، وعالم أهل الحديث المُستقل ناصر الدين الألباني، والجهادي الراديكالي أبو محمد المقدسي. ويشير القسم الثاني من الكتاب إلى البعد السياسي للسلفية، مستقصياً تجلياتها في بلدان متعددة، من مصر إلى إندونيسيا، وعلاقتها بالإسلام السياسي (أو الإسلاموية)، في حين يتناول القسم الثالث السلفيين الجهاديين، ويكشف مرة أخرى الاختلافات، والتناقضات، والنقاشات الصارمة بين تشكيلة الأيديولوجيات والمجموعات التي تنتمي إلى هذا الفصيل. أما القسمان الأخيران فيلفتان الانتباه إلى البعد العالمي للسلفية المُشار إليه في عنوان هذا المجلد، وذلك بالتصدي على التوالي لمسائل انتشارها عبر الحدود بشكل عام، واجتذابها للشباب المسلم في الغرب بصفة خاصة.
ويبدو أن المقال الافتتاحي لبرنارد هيكل هو الفصل الأكثر ذكراً في مجلد ميير(4). وهو يؤكّد على الاستمرارية الوثيقة بين السلفيين المعاصرين ومدرسة أحمد بن تيمية اللاهوتية القروسطية (توفي 1328)، بينما يلاحظ انقسام الحديثين في مجال الشريعة بين اتباع مدرسة الحنبلي (الوهابيون) وهؤلاء الذين (كابن قيم الجوزية) يرفضون المدارس قاطبة (أهل الحديث). والتطور الرئيسي الذي يلاحظه هيكل في السلفية اليوم هو إدخال مفهوم المنهج، أي الطريقة التي يعيش بها السلفيون ويطبقون معتقداتهم. وعلى منوال فيكتوروفيتش، يحذّرنا هيكل من الخلط بين إرث ابن تيمية وبين السلفية المتنورة لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
أما العلامة الرئيسية الثالثة في دراسة السلفية الحديثة فهي تزايد الأعمال المتعلقة بالمملكة العربية السعودية وإسلامها الوهابي، الذي اكتسب زخماً في السنوات العشر الأخيرة أيضاً. ومن بين هذه الأعمال يمكن أن نذكر من دون أي ادعاء بالشمولية، البحث الرائد لديفيد كومينز حول تطور الحركة الوهابية منذ بداياتها في منتصف القرن الثامن عشر إلى الحاضر فيما يتصل بالدولة السعودية وبحركات الإصلاح الديني الأخرى(5)، ودراسة نبيل مُلين حول تطور وبنية المؤسسة الرسمية الوهابية خلال الفترة الطويلة ذاتها(6)، والدراسة الإثنوغرافية لمضاوي الرشيد عن المناقشات المحتدمة في المملكة العربية السعودية المعاصرة، التي تتعلق بالعلاقة بين الدين والسياسة(7)، والمعالجة الشاملة لستيفن لاكروا حول أصول الصحوة الإسلامية واندلاعها وانهيارها في تسعينيات القرن الماضي(8)، ومعالجة توماس هيغهامر لظهور وقمع حركة الجهاد السعودي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين(9). وبفضل انفتاح المملكة العربية السعودية على العالم الخارجي في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر الإرهابية، يؤكّد هذا الجهد المشترك، ويحدّد بالتفصيل الدور المركزي الذي لعبته الوهابية في تشكيل السلفية الحديثة.
لكن بالنسبة إلى لأجيال السابقة من العلماء، كانت فكرة السلفية مرتبطة بالاتجاه الإصلاحي العربي-الإسلامي في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، الذي يؤيد إرث الأسلاف من خلال تعاليم ابن تيمية ومدرسته، وسيلة للتغلب على التقاليد الدينية "المتحجرة" ومن ثم تمهيد الطريق لاستيعاب الممارسات والأفكار الغربية الحديثة. أما الشخصيات الأولى لهذا الخط البحثي في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، التي من أبرزها هنري لاوست بمقالته الوافية حول هذا الاتجاه "الإصلاحي الأورثوذوكسي"(10) وهاميلتون غيب بمحاضراته المؤثرة حول الاتجاهات الحديثة في الإسلام(11)، فقد حددت مصر بوصفها المركز الرئيسي للسلفية، وعرّفت الثلاثي المشهور أفغاني وعبده ورشيد رضا بوصفهم مُنشئيها. وقد بيّنت الدراسات اللاحقة التي أجريت بين ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، بداية بـ "الإصلاح الإسلامي" لديفيد كومينز(12) ومنشوري الذي يحمل اسم "مذاق الحداثة"(13)، الأهمية الجوهرية للدوائر الإصلاحية في المدن العثمانية للهلال الخصيب في ظهور السلفية. ومن الجدير ذكره في هذا السياق أن المعالجات الكلاسيكية للأفغاني(14) وعبده(15) لا تشير إلى مبدأ السلف أو مشتقاته على الإطلاق. بل يبدو أن السلفية الحديثة بدأت مع الإصلاحيين الإسلاميين في بغداد ودمشق، ومن هناك نُقِلت إلى مصر(16).
يسهم كتاب "صناعة السلفية" لهنري لوزيير إسهاماً مهماً في الدراسات الجارية لهذا الاتجاه الديني. وهذا مسعى ممتع عقلياً ودقيق ومثير للاهتمام لتبديد الالتباسات التي تحيط بالظاهرة السلفية الحديثة. إذ يستند الكتاب إلى أطروحة دكتوراه المؤلف التي أُنجِزت في عام 2008، والتي تفحص أصول وتطور السلفية على مدار القرن العشرين من خلال حياة وفكر السلفي المغربي الرحالة تقي الدين الهلالي (1894-1987)(17). وكانت استنتاجات لوزيير الرئيسية في تلك المرحلة أن الحركة السلفية المعاصرة هي بنية حديثة لا سابقة لها في التاريخ، وأن هناك تقارباً واضحاً بين النماذج النقائية والحداثية من السلفية، وأن القاسم المشترك الذي ربط المراحل المختلفة من تحولها التدريجي من النسخة الحداثية للسلفية إلى نسختها النقائية كان الإيمان السلفي بوحدة الأمة والعمل من أجلها، التي فضّلت التماسك الديني، والتقييس، والامتثالية.
بيد أن لوزيير في العمل الحالي يصنع تحولاً شبه كامل، فيضع موضع الشك النسب الوارد للسلفية الحديثة، ويعيد النظر في تطور الإصلاح الإسلامي على مدار القرن العشرين بصورة أعم. ويعلن لوزيير، لافتاً الانتباه إلى تحديات تعريف معناها وتعقّب أصولها، أنه "بدلاً من قبول السلفية بوصفها معطى تاريخياً واستخدامها جهازاً إرشادياً لفهم الماضي واستيعابه، سأقوم بعكس ذلك. فسأفحص العملية التاريخية التي جاء من خلالها صياغة مختلف المفكّرين لمفهوم السلفية والدفاع عنه، بطرق نعتبرها الآن أمراً مفروغاً منه". ووفقاً له، فإن الهدف من هذا التحول المنهجي من التاريخ الفكري إلى المفاهيمي "تفكيك" الـ "سرديات القائمة حول السلفية التي استُخدمت من قبل مؤرخي السلفية والمؤلفين السلفيين [وهي] أسطورية بدرجات متفاوتة"(3). وهناك ثلاث حجج "بنّاءة" مقترحة بدلاً عنها: أولاً، إن مفهوم السلفية ظاهرة لا ترجع إلى فترة القرون الوسطى ولا حتى إلى أواخر القرن التاسع عشر، بل إلى القرن العشرين. ثانياً، لا يتضمن مفهوم السلفية النقائية رفضاً قاطعاً للتوفيق الديني بسبب الحاجة إلى وحدة الأمة خلال فترة الكفاح المناهض للاستعمار (من عشرينيات القرن الماضي إلى خمسينيات القرن الماضي). ثالثاً، المفهوم النقائي للسلفية أصبح مهيمناً خلال مرحلة ما بعد الاستقلال (عقب الحرب العالمية الثانية) في وقت فقدت فيه السلفية الحداثية جاذبيتها (20-25).
وقد عُرِضت الثمار الأولية لهذا المنهج التنقيحي في مقال نُشِر في عام 2010 وأُدرِج لاحقاً في الكتاب، الذي ركّز على تشكّل مفهوم السلفية (الجزء التفكيكي من الحجة)(18). ويكرّر هنا لوزيير التمايز الهام بين مفهوم مذهب السلف الحديث هذا وفكرة مذهب السلف في القرون الوسطى، ولا سيما في معرض الإشارة إلى العقيدة اللاهوتية الحنبلية (وخاصة لابن تيمية) التي دعت إلى الالتزام بمذاهب الأسلاف مقابل المواقف اللاهوتية التأملية لمدرستي الأشعري والمعتزلة. ثم يمضي في الادعاء بأن الحداثة الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر لم تكن سلفية بالمعنى الحديث للمصطلح –أفغاني وعبده لم يستخدماه على الإطلاق، في حين أن العلماء العراقيين والسوريين الذين استخدموه بغزارة لم يحيدوا عن حقله الدلالي اللاهوتي التابع للقرون الوسطى. بدلاً من ذلك، فإن لوزيير يعزو بناء المفهوم الحديث للسلفية إلى خطأ استشراقي. فوفقاً له، يعود ذلك إلى تأسيس المكتبة السلفية في القاهرة في عام 1909 من قبل اثنين من زملاء رضا، وتلا ذلك إصدار "المجلة السلفية" بين عامي 1917 و1919. وعلى الرغم من أن لقب "السلفية" قد اختير لأسباب تسويقية، عاكساً الشعبية المتنامية للتسمية، فإن لوزيير يجادل أن لويس ماسينيون وزملاءه في باريس وغيرها من الأماكن ظنّوها خطأ حركة إصلاحية واسعة تزعمها الأفغاني وعبده. فمن خلالهم بدأ مفهوم السلفية بالتداول في كل من الغرب والعالم الإسلامي منذ عشرينيات القرن الماضي.
إن نقطة انطلاق "صناعة السلفية" هي وجود سرديتين، أو مفهومين مختلفين للسلفية ومتعارضين، وحتى أنهما متناقضين: واحد منهما هو مفهوم السلفية الحداثية في أواخر القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين، أما الآخر فهو النسخة النقائية المهيمنة اليوم. ويشرح لوزيير أن الأول يشير إلى أن الاصلاحيين الإسلاميين الذين "سعوا إلى التوفيق بين الإسلام وبين القيم الفكرية والسياسية والاجتماعية للتنوير"، و"أكّدوا على استخدام العقل لإظهار أن الإسلام كان متناغماً مع متطلبات العصر الحديث". ويُربط ذلك كالعادة بالثلاثي أفغاني، وعبده، ورضا، رغم أن بعض المؤرخين يسلط الضوء على مساهمة العلماء المسلمين من العراق وسوريا في بلورة السلفية الحداثية. والمفهوم الثاني أن السلفية النقائية التي تشير إلى هؤلاء مشغولي البال بالنقاء الديني، تدّعي أنها تتبع بدقة مذهب السلف بوصفه طريقة للخلاص، وترفض اللاهوت التأملي ومدارس القانون. ومع ذلك، وعلى الرغم من إنكاراتهم، فهم غالباً ما يتقيدون بالمدرسة الحنبلية كما عبر عنها ابن تيمية ويحملون ألفةً وثيقةً مع الوهابية (4-10).
إن حل لوزيير للمعضلة، الذي سبق ذكره في مقالته لعام 2010، يتمثّل في أن سردية السلفية الحداثية غير صالحة. فهو يجادل أنه حتى بدايات القرن العشرين، وتحديداً خلال الفترة الممتدة من 1880 إلى 1920، فإن مصطلح سلفي كان يُستخدم للإشارة إلى الموقف اللاهوتي لمذهب السلف الذي يعود إلى القرون الوسطى، وليس للإشارة إلى أي "حركة سلفية متعددة الأوجه" (31). ولذلك فهو يفضّل استخدام التسميات، وبالمعنى نفسه كما يبدو، "حداثيون إسلاميون" أو "إصلاحيون معتدلون" لأولئك العلماء المسلمين الذين كانوا ملتزمين بالإسلام ونصوصه التكوينية من جهة، وبالتجديد والإصلاح على أسس حديثة من جهة أخرى. كما يقترح لوزيير أيضاً أن "أولئك الذين تبنوا العقيدة الحنبلية (وبهذا المعنى اللاهوتي بالذات يمكن اعتبارهم، ويعتبرون أنفسهم سلفيين) بدوا مقتنعين حقاً بمبادئها، لكنهم رأوا فيها مميزات أخرى مختلفة أيضاً"(46). وقد تضمن هذا تعزيز سلطة الإصلاحيين كمعارضين للانقسامات، وتوفير مُرتكز إيماني ذي جذور تاريخية في برنامج إصلاح عقلاني فيما سوى ذلك، وإتاحة وسيلة "أورثوذوكسية" لمقاومة المعتقدات والسلوكيات التي يعتبرها الإصلاحيون المعتدلون خاطئة.
بيد أن هذا الجزء من أطروحة لوزيير، الجذاب كما يبدو، يعاني من عدة أخطاء جدية. أولاً، فهو كمن يدفع باباً مفتوحاً فينجز مهمته بسهولة، باعتبار أن القليل من العلماء اليوم سيحافظ على فكرة أن السلفيين الحداثيين في مطلع القرن العشرين شكّلوا أي نوع من حركة ما؛ كما يشير هو نفسه، إذ إن من طوروا مجموعة واسعة من الأفكار الإصلاحية، كانوا إلى حد ما مجموعات مفكرين غير مرتبطين ارتباطاً وثيقاً. وقد تشارك هؤلاء المثقفون الدينيون الجدد، إلى حد ما، الدعوة إلى العودة إلى ماضٍ أولي مفسّر حديثاً لتحرير المسلمين من أغلال التقاليد الدينية والاستبداد السياسي، ومن ثم إفساح المجال لتبنّي مؤسسات وأفكار حديثة. وفي الوقت ذاته، يمكنهم أن يختلفوا جوهرياً فيما يتعلق بالدروس التي يمكن استخلاصها من الماضي الأولي، والتقاليد التي يتعين التنصّل منها، والابتكارات الغربية الحديثة التي ينبغي اعتمادها. ثانياً، على الرغم من موهبته التنقيحية، يبدو أن لوزيير يقبل الرؤية النمطية بأن خط عبده-أفغاني كان مصدراً ونموذجاً للإصلاحية الحداثية. وعلاوة على ذلك، فهو يقلل من الاختلافات ما بين هؤلاء الحداثيين الإسلاميين، الذين لم يسبق لهم أن أشاروا إلى أنفسهم على أنهم سلفيون وانتقدوا الوهابية، وبين رفاقهم الآلوسيين في بغداد والقاسمي وأصدقائه في سوريا، الذي ألهمتهم أعمال ابن تيمية وكانوا ميالين إلى الدفاع عن الوهابيين. وقد كان مفهوم السلفية، والاتجاه بحد ذاته، سيبرز من بين الإصلاحيين في المحافظات العربية للإمبراطورية العثمانية. ثالثاً، يتساءل المرء ما الذي جعل تسمية السلفية جذابة كثيراً في السنوات الأولى من القرن العشرين بحيث أن زملاء رضا اختاروا هذه التسمية كاسم لمجلة ومؤسسة النشر الخاصة بهم.
ومع ذلك، فإن الصحة النهائية لأطروحة لوزيير ستُدرك من خلال المشاركة معه وفق شروطه بـ"نظرة فاحصة إلى المصادر الأولية". وبما أنه من غير الممكن ضمن الفضاء المحدود لهذه المراجعة، دراسة العدد الذي لا يُحصى من الحالات القاطعة تقريباً التي يستشهد بها، فسوف أركّز على مثال واحد، وإن كان مركزياً جداً، ألا وهو "عبد الرحمن الكواكبي". إذ أظهرت سيرته الذاتية، المهملة طويلاً في الأدبيات الأكاديمية، والتي كتبتُها مؤخراً، بأنه لم يكن مفكراً مبدعاً وحسب، بل أيضاً صاحب تأثير كبير على رضا وغيره من الإصلاحيين الإسلاميين في بدايات القرن العشرين(19). ويذكر لوزيير في أحد هوامش مقالته لعام 2010، "البيان الوحيد للكواكبي أن الإصلاح الديني يجب أن يُستمد من المشرب السلفي المعتدل" بوصفه واحداً من المقاطع القليلة الغامضة نسبياً التي قد تتخطى النطاق الدلالي التابع للقرون الوسطى للمفهوم (387.35). ومع ذلك، فإن هذا الاقتباس من كتاب "أم القرى" للكواكبي (المنشور عام 1900) قد اختفى من "صناعة السلفية"، فهنا تُذكر فقرة أخرى من كتاب الكواكبي، والتي يدّعي فيها واحد من المشاركين في المؤتمر التخيلي في مكة أن "سكان الجزيرة العربية كلهم من المسلمين السلفيين عقيدةً، وغالبُهم الحنابلة أو الزيدية مذهباً" (33). وتدعم هذه الفقرة لوزيير في إثبات حجته العامة بأن مصطلح "سلفي" كان مُستخدماً خلال هذه الفترة بوصفه علامة لاهوتية، ولا يشير إلى حركة إصلاح إسلامية حديثة.
بيد أن هذه القراءة، من وجهة نظري، تُغفِل المغزى الكامل من عمل الكواكبي. فمصطلح "المشرب السلفي المعتدل" هو في الواقع المفتاح. إذ إنه المشرب الذي أخذت على عاتقها "جمعية تعليم الموحدين"، التي أُوجِدت لتطبيق قرارات المؤتمر، أن تحذو حذوه(20). صحيح أن المراجع الأخرى للقب "سلفي" في أم القرى تشير حقاً إلى بعدها اللاهوتي، مع المجموعتين العربيتين المحددتين في اقتباس لوزيير، هما على التوالي الوهابيون الحنابلة والتابعون للزيدية، عقيدة اللامذهبية لأهل الحديث. وعلاوة على ذلك، فإن في إسناد الكواكبي للمهمة المركزية شرح قواعد الإسلام في مؤتمر مكة إلى "العالم النجدي"، إشارة واضحة إلى الوهابيين. ومع ذلك، فإن الركيزتين التي يقوم عليهما عرضه المطوّل هما ليس ما قد يتوقعه المرء من وهابي. فإحدى القواعد هي واجب اتباع ما جاء به الصريح المحكم من القرآن، والواضح الثابت من سنة النبي في الوقت الذي يكون فيه الاختيار حراً في باقي شؤون الحياة. أما الأخرى فهي استخدام العقل لإثبات وجود الله والحاجة إلى الأنبياء لتوجيه الإنسانية. وهذان الجانبان، الأقرب إلى مذهب الأشعري من المدرسة السلفية التقليدية، هما في مواجهة جهل الصوفيين وشعوذتهم والصلابة المنهجية للفقهاء(21). ويبدو أن هناك القليل من الشك بأن مفهوم المشرب السلفي المعتدل يتطرّق إلى هذه التركيبة الجدلية بين الكتب الدينية والعقل. وتجسيده في شخصية الباحث الوهابي يشير إلى أنه بالنسبة  إلى الكواكبي، وجيله من السلفيين الحداثيين، فإن مذهب السلف اللاهوتي في القرون الوسطى التي أدارتها عقلانية على نمط الأشعري كانت علاجاً للعلل التي ابتلي بها المسلمون، وطريق الاندماج في العالم الحديث دون فقدان هويتهم. ولذلك لم تكن مجرد قناعة حقيقية على ما يبدو أو ميزة معينة أو أخرى هي التي دفعت أولئك الإصلاحيين لتبني طريق السلف؛ وبصورة أعمق، فقد تصوروا برنامجاً سلفياً جديداً يوازن بين استعارة انتقائية من الغرب وبين أصالة إسلامية مؤكدة. وينبغي أن تُقرأ تلميحات رضا إلى لقب السلفي في مجلة المنار بعد عام 1900 في ضوء هذا النطاق الدلالي الممتد من السلفية.
بيد أن لوزيير أقوى بكثير بينما ينتقل إلى الجزء "البنّاء" من عمله. فهي أول معالجة أكاديمية جدية له لتطور السلفية في الفترة الطويلة الممتدة من تدهور الحداثة الإسلامية في أعقاب الحرب العالمية الأولى إلى صعود الجهاد العالمي في تسعينيات القرن الماضي. وهذا يشكّل تصحيحاً جوهرياً للأدبيات المتوفرة حول الإصلاح الاسلامي العربي في القرن العشرين، التي ركزت حتى الآن بشكل حصري تقريباً على الإسلام السياسي ومجتمع الإخوان المسلمين. ويحدّد لوزيير خمس لحظات في العملية المعقدة والمتشابكة التي أدت في نهاية المطاف إلى توطيد مفهوم السلفية (النقائية). وهي اقتراب رضا ودائرته إلى الوهابية في منتصف عشرينيات القرن الماضي؛ ومسعى السلفيين النقائيين لتعزيز هوية إسلامية موحدة في مواجهة الحكم الكولونيالي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي؛ والجهد السلفي الحداثي الموازي الرامي إلى خلق هوية إسلامية أساسها قطري؛ والفجوة المتنامية بين النسخة الحداثية والنقائية من السلفية في حقبة ما بعد الاستقلال في خمسينيات وستينيات القرن الماضي؛ وإعادة الصياغة الأخيرة للسلفية النقائية المُنتصرة بوصفها أيديولوجيا كاملة خلال الانبعاث الإسلامي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
وتشكّل قصة اقتراب رشيد رضا ومريديه إلى الوهابية واحدة من النقاط البارزة في الكتاب. وفي معرض إشارته إلى عدم ارتياح رضا لصلابة العلماء الوهابيين في نجد، فإن لوزيير يدّعي أن "حملته لرد الاعتبار كانت ذات شقين: لقد كانت محاولة لتخليص الوهابيين من موقفهم الديني الذي يأتي بنتائج عكسية بقدر ما كانت جهداً لمساعدتهم على التغلب على فقدانهم لشعبيتهم في الحجاز الذي فتحوه حديثاً وفي خارجه"(62). ووفقاً للوزيير، كانت اعتبارات رضا في البداية سياسية وليست دينية. وقد كانت معارضته للشريف حسين الذي أعلن نفسه خليفة، والمتعاون مع البريطانيين، هي ما قادته إلى مساندة منافس الشريف حسين في شبه الجزيرة العربية، ابن سعود. وقد استتبع ذلك، دعم العلماء الوهابيين، الذين أمّنوا الشرعية للحاكم السعودي من خلال نشر نصوصهم، مع أو بدون تعليق في صفحات مجلة المنار. وفي أثناء هذه العملية، تبنى رضا موقفاً أكثر فأكثر محافظة وأقل تسامحاً، على الرغم من أنه لم يتخل أبداً عن إيمانه الحداثي بالعقل والعلم.
بيد أن هذا أقل صحة فيما يتعلق بتلاميذه الذين أرسلهم إلى الحجاز لمساعدة المملكة السعودية الناشئة حديثاً. وكان من بينهم محمد بهجة البيطار، العميد المستقبلي للنزعة السلفية في سوريا، ومحمد حامد الفقي، وغيرهم من الأعضاء البارزين في "أنصار السنّة المحمدية"، الجمعية السلفية الأبرز في مصر، إضافة إلى الهلالي. وقد عُيِّن هؤلاء العلماء الشباب في مناصب نشر ومناصب تعليمية ودينية قيادية في المدن المقدّسة التي فتحوها حديثاً، غير أنهم بقوا خاضعين لكبار علماء الوهابية. وقد فُسِّرت طبيعة النزاع بين وجهتي النظر بشكل واضح من خلال توصيف الهلالي لغضب الظلامي النجدي ابن بليهد الشديد حول فكرة أن الأرض كانت كروية، وأعلن أن من يقول بذلك كافر. وعندما تبيّن أن ابن تيمية وابن القيم أيّدا هذه النظرة، رفض الاعتراف بخطئه (81-82) وهكذا. في حين أن محاولات تلاميذ رضا لتعزيز فكر حداثي غالباً ما ثبت أنها غير مستدامة، لكنهم في كثير من الأحيان ما دُفِعوا للامتثال بصورة أكثر صرامة مع اللاهوت السلفي. وكما يقول لوزيير، سواء أكانوا مقيمين في المملكة العربية السعودية، أم عادوا إلى بلدانهم، أم سافروا إلى أي مكان آخر، فإن تلاميذ رضا "تجاهلوا الجزء الحداثي من هذه المعادلة [الإصلاحية المعتدلة] وغاب عنهم أهداف معلمهم العليا وبرنامجه الإصلاحي الواسع" (88-89).
وينبغي ألا يغفل المرء حقيقة أن عملية رد الاعتبار للوهابيين كانت قد بدأت بالفعل في الجيل السابق من السلفيين الحداثيين، أو الإصلاحيين المعتدلين، كما يفضّل لوزيير تسميتهم، في مطلع القرن العشرين. فقد كان ذلك ضمناً في الدور المركزي المُعطى للعالم النجدي في مؤتمر مكة (الكواكبي) المُشار إليه أعلاه، وأصبح صريحاً في مجموعة محمود شكري الآلوسي لمقالات كُتِبت في ذاك الوقت تقريباً ونُشِرت بعد وفاته بوصفها "تاريخ نجد"(22). وهذا أيضاً حال واحد من التطورين المفاهيميين الذين يتعقبهما لوزيير إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى والميل المتنامي لاستخدام تسمية سلفي بالمعنى الفقهي، والتي نقلها السلفيون الأوائل من خلال تبنيهم لتداول عقلاني في مسائل الاجتهاد. أما التطور الآخر فقد كان ظهور الاسم المجرد السلفية بالمعنى الحديث للسلفية. (95-96).
يتنقل تحليل لوزيير للتطور اللاحق للسلفية (مفهوماً واتجاهاً) بين حقبتي الكولونيالية وما بعد الاستقلال، في منطقة مجهولة تقريباً حتى اليوم. إذ إنه يصف ظهور فكرة السلفية بوصفه عملية تدريجية ومبدئية تنطوي على نزاع بين المفاهيم المختلفة للمصطلح. وكما يؤكّد، فخلال الفترة الكولونيالية اختُزِل ذلك إلى "أسرتين" أساسيتين من التعاريف. كانت الأسرة الأكبر هي التابعة للنقائيين، الذين لا يزال غالبهم، بما في ذلك الهلالي، يحمل بعض المثل الإصلاحية المعتدلة. أما الأسرة الثانية فتألفت من بعض الناشطين الحداثيين الذين استُمدّ فهمهم للسلفية جزئياً، وفقاً للوزيير، من تأثير المستشرقين الغربيين (132). وقد اتحدت المجموعتان، باتجاهاتها المختلفة، في رغبتهما التخلص من الحكم الكولونيالي، الذي "قاد العديد منهم إلى التبني والتأقلم مع خطاب القومية العالمي- وهي أيديولوجية الوحدة بامتياز". بيد أنهم كانوا منقسمين حول نوع الوحدة القومية التي فضّلوها. فالسلفيون النقائيون، القائمون على قناعات إسلامية جامعة، وكانوا مدعومين من صديق رضا المقرب، شكيب أرسلان المقيم في أوروبا، روجوا لقومية إسلامية رامية إلى التحرر السياسي للأمة ككل، وأحياناً وحدة "ثقافية" أيضاً. وعلى النقيض من ذلك، فقد حبّذ السلفيون الحداثيون قومية قطرية وقبلوا إطار الدولة-الأمة، الذي سمح بإعداد الأشكال المحلية من الإسلام. (99-102).
ثم يؤكد لوزيير، أن ميل النقائيين تجاه الدوغمائية والامتثالية، تم الحد منه في ظل استمرار النزاع المناهض للكولونيالية، لكنهم غالباً ما ادّعوا علناً أنهم سلفيون. وقد التقط موقفهم المتعالي هذا، العالم الهندي أبو الحسن علي الندوي، الذي حضر خلال زيارة إلى الشرق الأوسط في عام 1951، محاضرة للفقي في مقر أنصار السنة المحمدية في القاهرة. ويستحق انطباع الندوي حول موقف النقائيين، الذي نقله لوزيير، الاستشهاد به بالكامل:
"لم يعجبني كلام الفقي في أهل المذاهب. فقد كان كلاماً لاذعاً وتهكماً ساخراً. فقد ذكر أنهم عمي وصم وبكم في الدنيا والآخرة، وهذا كلام لا يليق بمصلح مخلص؛ وهو كلام منفر لا يخدم مصلحة من مصالح الدين، وكذلك أتمنى أن يكون في درسه نصيب للقلب، مثل نصيب العقل أو أكثر". (115).
وبحلول ذاك الوقت، كانت جماعة أنصار السنة تحدد بصفة عامة السلفية بلاهوت حنبلي جديد، ومنهج لا مذهبي في الشريعة الإسلامية. واستناداً إلى ذلك، فقد عقدوا العزم على نقد الجمعية الشرعية المنافسة، التي بشكل ما مثلت السلفيين الحداثيين الأوائل، وادّعت أنها سلفية بينما تحتل مواقع أشعرية. في حين استخدم كتاب مسلمون وعرب آخرون تسمية سلفي بطريقة أكثر عشوائية؛ فبالنسبة إلى أأحد المؤلفين كانت الكلمة النقيض للصوفية، وبالنسبة إلى آخر كانت مصطلحاً ازدرائياً معادلاً للنزعة المحافظة.
من الأصعب إدراك من كان من السلفيين الحداثيين في الفترة الكولونيالية. وفي الحقيقة، فإن توصيف لوزيير لهذه المجموعة يرتكز على المثال الوحيد حول حركة الإصلاح المغربية تحت قيادة علال الفاسي. ولذا يمكن للمرء أن يجادل أن هذا عكس استثنائية مغربية لا ينبغي مطابقتها في أمكنة أخرى. وعلى النقيض من ذلك، فإن قضية الحاصل على درجة العالمية في الأزهر، المصري الليبرالي علي عبد الرازق (1888-1966) أشارت إلى تراجع السلفية الحداثية في الأراضي العربية المركزية. وإذا أردنا تطوير أفكار الكواكبي وعبده خطوة أخرى في الاتجاه الحداثي، فقد زعم في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" لعام 1925 أن مهمة النبي كانت روحية بحتة، وأن الخلافة لم تكن ضرورية، وأن الأمة قد تختار شكل الحكومة التي تلبي احتياجات العصر بأفضل صورة، أي الحكومة البرلمانية في العصر الحديث. ولاحظ حميد عنايت أن فكرة رضا حول الدولة الإسلامية بوصفها بديلاً للخلافة المنهارة لم تكن بعيدة كثيراً عن تلك التي توصل إليها "عبد الرازق"، وإن كانت المقدمات مختلفة. لكن رد فعل السلفي النقائي و"الأورثوذوكسي" علي عبد الرازق كان شديد الضراوة، فقد شُجِب وأدين بشدة، ولم يسمح له مطلقاً بشغل منصب عام مرة أخرى(23). ومن الجدير بالذكر أيضاً أنه في وصف الندوي كانت ثلاثية الفقي موجّهة ضد مدارس الشريعة وليس ضد أي اتجاه سلفي حداثي.
ووفقاً للوزيير، فإن التخلص من الكولونيالية، يليه صعود الأنظمة العسكرية -عبد الناصر، وحزب البعث وأمثالهما- التي عززت القومية العلمانية الجماعية وخطط التطوير الطموحة، قد أثّر في "أسرتي" السلفية بشكل مختلف. فقد أصبح الحداثيون القوميون في المغرب مدجنين سياسياً، وموظفي دولة ومسؤولين حكوميين، في حين استوعب القصر الجوانب الأساسية لخطابهم. ونتيجة لذلك، أصبحت فكرة السلفية الحداثية ومفكروها الرئيسيون هامشية بشكل متزايد (163-64). وعلى نقيض ذلك، فالنقائيون الذين لم يضمروا عموماً أي طموحات سياسية، والذين لم يجذبوا سوى القليل من انتباه النخب العربية الجديدة، "واصلوا العمل باتجاه تنقية وتقييس الإسلام". ويدّعي لوزيير، فإن السلفيين النقائيين الذين لم يعودوا بعد الآن مقيدين بالنضال المناهض للكولونيالية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كثّفوا هجومهم الذي لا هوادة فيه على ثلاث بدع دينية اعتبروها خطيرة: الأخطاء اللاهوتية، والتعصب الفقهي (التحزّب)، والصوفية. أما الاستقلال، وبكلماته، فقد "دفع السلفيين النقائيين إلى إعادة النظر في العلاقة بين الوحدة الدينية والنقاء الديني. وفي هذه العملية، زادوا من تضييق الخناق على ما اعتُبِر مقبولاً دينياً" (163-65).
وبالتزامن مع ذلك، يُظهِر لوزيير أن الاستياء من سياسات ما بعد الكولونيالية والتهميش، والمنافسات والخلافات الداخلية بين السلفيين، وإمكانية العيش والعمل في بيئة تقية وقائية، شجّع السلفيين النقائيين على توطيد صلاتهم مع المملكة العربية السعودية والرحيل إليها غالباً. وقد دُعِي العديد منهم، إلى جانب نشطاء الإخوان المسلمين المضطهدين، إلى الانضمام إلى النظام التعليمي للمملكة الممتد بسرعة، وللمشاركة في نزاعها الأيديولوجي في مواجهة الاتجاهات الاشتراكية والقومية العلمانية، النابعة من مصر عبد الناصر وحلفائه البعثيين(24). فانتقل الهلالي إلى السعودية بعد أن عُرِض عليه منصب في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (التي تأسست عام 1961)، وكانت واحدة من السبل الرئيسية لنشر الدعوة الوهابية(25). أما النقائيون الآخرون الذين اكتسبوا سمعة في الحركة السلفية اللاحقة، والذين انضموا إليه في ذاك الوقت، فكانوا رئيس أنصار السنة المحمدية المصري عبد الرزاق عفيفي، الذي سيرُشَّح لهيئة كبار العلماء، والجزائري أبو بكر جابر الجزائري، الذي نشر الإسلام الوهابي في شمال أفريقيا؛ واليمني مقبل الوادعي، الذي أتى بالدعوة السلفية إلى اليمن، والإثيوبي محمد أمان الجامي، الخصم العنيد للصحوة الإسلامية (السعودية) في تسعينيات القرن الماضي؛ وعالم الحديث البارز من سوريا، ناصر الدين الألباني، أحد أعمدة السلفية المعاصرة.
بيد أن انتصار التصور النقائي للسلفية، وفقاً للوزيير، خُتِم في سبعينيات القرن الماضي حين "طغى على النسخة الحداثية للمفهوم"(199). فمن الآن فصاعداً، ستحدّد السلفية بالمسلمين النقائيين في الاتجاه الحنبلي الجديد، الذين كانوا مرتبطين في أذهان العديد من المسلمين بالحركة الوهابية، واكتسبوا ظهوراً واسعاً في منشورات ومؤسسات دينية. وفي الوقت ذاته، "جرت عملية أدلجة أعاد علماء مسلمون بموجبها صياغة السلفية النقائية بوصفها نظاماً شاملاً". وهذا عكس صعود الإسلاموية، وبصفة خاصة في الصياغة المؤثرة بصورة هائلة لسيد قطب، بما في ذلك في شبه الجزيرة العربية (216-17). ويؤكد لوزيير كذلك، أن التمييز بين السلفية والإسلاموية قد تبلور في الربع الأخير من القرن العشرين فقط، وهي عملية متضمنة في التحول في الوصف الذاتي للسلفية من مذهب إلى منهج. أما تطور السلفية إلى وجهة نظر دينية شاملة، فقد كان من خلال بروفيسور الفلسفة المصري مصطفى حلمي، وهو سلفي نقائي تأثّر بالمفكرين الإسلاميين وقضى فترات طويلة من الوقت يدرّس في المملكة العربية السعودية، ومن ثم طورها الألباني في أضيق خطوط النقائية التي استبعدت الإسلاميين. وخلال هذه الفترة، كان الهلالي منخرطاً في ترجمة القرآن ومجموعة الأحاديث للبخاري إلى اللغة الإنكليزية خدمة للمؤسسة الوهابية وحملتها للتبشير السلفي على الصعيد العالمي.
لكن سبعينيات القرن الماضي كانت أيضاً فترة حضانة للسلفية السياسية، تلاها في ثمانينيات القرن الماضي ظهور السلفية الجهادية العالمية. وعملياً لا يوجد لدى لوزيير ما يقوله حول هذين الفصيلين، ربما لأن الاثنين لم يظهرا إلى العلن إلا في تسعينيات القرن الماضي -في إطار الصحوة الإسلامية السعودية وفي تنظيم القاعدة على التوالي- وبعد بضع سنوات من تزعمه، توفي تقي الدين الهلالي. وكان كلاهما من منتجات التفاعل بين الإخوان المسلمين والوهابية. كانت الصحوة السعودية حركة احتجاج ديني سياسي في مواجهة تزايد خضوع المؤسسة الدينية للحكومة. وقد قادها علماء وهابيون شباب تشرّبوا نشاطاتهم من لاجئي الإخوان المسلمين في المملكة. أما القاعدة فقد تشكّلت في ساحات القتال في أفغانستان من قبل متطوعين عرب اعتمدوا على رهاب الأجانب الوهابي وراديكالية سيد قطب في مشروعهم، الجهادي العالمي.
وبالنظر إلى صناعة السلفية، مفهوماً وحركة، من سبعينيات القرن الماضي وعلى مدار القرن العشرين بصورة أعم من منظور هذا التنوع داخل المعسكر السلفي، تبرز ثلاث ثغرات للرابطة السلفية-الإخوانية المسلمة-الوهابية التي ينبغي أن تُسد. أولاً، على الرغم من حساسيته تجاه الناحية المفاهيمية، ورغم تكرار ظهور المملكة العربية السعودية في سرديته، يفشل لوزيير في توضيح ما إذا أصبحت الوهابية المعاصرة سلفية بالمعنى الحديث للمصطلح ومتى وإلى أي مدى. ثانياً، على الرغم من ملاحظته للعلاقات بين الإخوان المسلمين وأنصار السنة المحمدية في المشهد الفكري المتقلب لمصر الكولونيالية، وبالنظر إلى التعريف الذاتي للبنا لحركته على أنها دعوة سلفية قبل أي شيء، فهي لا تُعتبر على هذا النحو في أي مكان من الكتاب. أخيراً، على الرغم من الإشارة إلى العلاقة الجدلية بين السلفية والإسلاموية، في الصياغة الراديكالية لقطب، يبقى نقاش لوزيير مقتصراً على السلفيين النقائيين. وفي اعتقادي أن دمج الوهابيين والإخوان المسلمين في التحليل، مع الأخذ بعين الاعتبار الصحوة الإسلامية في المملكة العربية السعودية والجهادية العالمية، سيعزز أكثر من فهمنا للظاهرة السلفية ودورها في تطور الإسلام الحديث.

ترجمة: يسرى مرعي (مترجمة سورية،حاصلة على بكالوريوس الهندسة المدنية، تعمل حالياً مترجمة للغتين الإنجليزية والروسية).
 

المراجع:

1. Itzchak Weismann, “A Perverted Balance: Modern Salafism between Reform and Jihad,” Die Welt des Islams 57, (2017), 33–66.

2. Quintan Wiktorowicz, “The Anatomy of the Salafi Movement,” Studies in Conflict and Terrorism 29 (2006): 207–39. 3. Roel Meijer, ed., Global Salafism: Islam’s New Religious Movement (New York: Columbia University Press, 2009). A parallel though less comprehensive, volume that appeared slightly earlier is Bernard Rougier, ed., Qu’est-ce que le Salafisme? (Paris: Presses Universitairs des France, 2008).
4. Bernard Haykel, “On the Nature of Salafi Thought and Action,” in Global Salafism, ed. Meijer Roel (London: Hurst, 2009), 33–51. 
5. David Commins, The Wahhabi Mission and Saudi Arabia (London and New York: I.B. Tauris, 2006). 
6. Nabil Mouline, The Clerics of Islam: Religious Authority and Political Power in Saudi Arabia (New Haven and London: Yale University Press, 2014), originally published in French as Les Clercs de l’Islam (Paris: Presses Universitaires de France, 2011). See also Guido Steinberg, Religion und Staat in Saudi-Arabien: Die wahhabitischen Gelehrten 1902– 1953 (Würzberg: Ergon Verlag, 2002). 
7. Madawi Al-Rasheed, Contesting the Saudi State: Islamic Voices from a New Generation (Cambridge: Cambridge University Press, 2007). 
8. Stéphane Lacroix, The Islamic Awakening: The Politics of Religious Dissent in Contemporary Saudi Arabia (Cambridge, MA, and London: Harvard University Press, 2011). For an earlier treatment of the subject see Mamoun Fandy, Saudi Arabia and the Politics of Dissent (New York: Palgrave, 1999). 
9. Thomas Hegghammer, Jihad in Saudi Arabia: Violence and Pan-Islamism since 1979 (Cambridge: Cambridge University Press, 2010). Of note is also the article by Hegghammer and Lacroix on the messianic takeover of the Haram in Mecca in 1979; see their “Rejectionist Islamism in Saudi Arabia: The Story of Juhayman al-ʿUtaybi Revisited,” International Journal of Middle Eastern Studies 39 (2007): 103–122. 
10. Henri Laoust, “Le Reformisme orthodoxe des ‘Salafiya’ et les caracteres generaux de son orientation actuelle,” Revue des Etudes Islamiques 6 (1932): 175–224. 
11. H.A.R. Gibb, Modern Trends in Islam (Chicago: University of Chicago Press, 1947).
 12. David Commins, Islamic Reform: Politics and Social Change in Late Ottoman Syria (New York: Oxford University Press, 1990). 
13. Itzchak Weismann, Taste of Modernity: Sufism, Salafism & Arabism in Late Ottoman Damascus (Leiden: Brill, 2001). 
14. Nikki R. Keddie, Sayyid Jamal al-Din “al-Afghani”: A Political Biography (Berkeley: University of California Press, 1972).
 15. Charles C. Adams, Islam and Modernism in Egypt: A Study of the Modern Reform Movement Inaugurated by Muhammad ‘Abduh (New York: Russel & Russel, 1968, first printed 1933). Also see Mark Sedgwick, Muhammad Abduh (Oxford: Oneworld, 2010).
16. See Itzchak Weismann, “Genealogies of Fundamentalism: Salafi Discourse in Nineteenth-Century Baghdad,” British Journal of Middle Eastern Studies 36 (2009): 269– 82, and “Between Sufi Reformism and Modernist Rationalism—A Reappraisal of the Origins of the Salafiyya from the Damascene Angle,” Die Welt des Islams 41 (2001): 206– 37. On the Baghdadi Salafis, see also Basheer Nafi, “Salafism Revived: Nuʿmān al-Ālūsī and the Trial of two Aḥmads,” Die Welt des Islams 49 (2009): 49–97. 
17. Henri Lauzière, “The Evolution of the Salafiyya in the Twentieth Century through the Life and Thought of Taqi al-Din al-Hilali” (PhD dissertation, Georgetown University, 2008).
18. Henri Lauzière, “The Construction of Salafiyya: Reconsidering Salafism from the Perspective of Conceptual History,” International Journal of Middle East Studies 42 (2010): 369–89.
19. Itzchak Weismann, Abd al-Rahman al-Kawakibi: Islamic Reform and Arab Revival (London: Oneworld, 2015).
 20. Abd al-Rahman al-Kawakibi, Umm al-Qura (Beirut: Dar al-Raʼid al-ʽArabi, 1982; 1st ed. Port Said: al-Sayyid al-Furati, 1900), 199–200.
21. Ibid., 75ff.
22. Maḥmud Shukri al-Alusi, Taʼrikh Najd (Cairo: al-Matbaʻa al-Salafiyya bi-Misr, 1924).
23. Hamid Enayat, Modern Islamic Political Thought (Austin: University of Texas Press, 1982), 62–68, 76–78.
24. For more on the Muslim Brotherhood activists, see Stéphane Lacroix, The Islamic Awakening: The Politics of Religious Dissent in Contemporary Saudi Arabia (Cambridge, MA, and London: Harvard University Press, 2011). 
25. Michael Farquhar, Circuits of Faith: Migration, Education, and the Wahhabi Mission (Stanford: Stanford University Press, 2016).