سوسيولوجيا التطرف والإرهاب في الأردن
مايو 14, 2018 1483

سوسيولوجيا التطرف والإرهاب في الأردن

حجم الخط

مراجعة كتاب : سوسيولوجيا التطرف والإرهاب في الأردن
أنس غنايم

كثيرًا ما كان يدعو المفكر الجزائري الراحل محمد أركون لإذاعة ما يُسمّيه بـ " سوسيولوجيا النجاح والفشل ". أي ما هي الشروط والمواضعات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصادية ..الخ التي تقف خلف بروز ظاهرة ما وتألقها أو أفولها وتراجعها.
آركون كان يدعو إلى القفز على " السياجات الدوغمائية " التي تُحاصر البحث الجاد والقاصد. وذلك من خلال إحياء " عقليّةٍ سوسيولوجيّة " تتوسل أبرز ما وصل إليه البحث الإجتماعي من مناهجٍ ومقترباتٍ تفسيريّة تجعلنا قادرين على رصد الظواهر وتحليلها دون التورّط برغائب ايديولوجيّة تُقدّم النتائج قبل استيعاب المناهج.
صحيحٌ أنّ أركون تورّط بما كان يشجبه على طبيعة البحث ومنطق الباحثين في عالمنا العربي؛ غير أنّ دعوته هذه؛ دعوةٌ هامة للخروج من ضيق البحث الايديولوجيّ إلى آفاق العمل السوسيولوجيّ. وهي دعوة نلفاها أيضًا عند المفكر اللبناني نديم البيطار في كتابه " سقوط الأنتلجنسيا العربية " حيث حدد نديم البيطار هذا السقوط بأنه يعني أساسيّا : عقلية تبشيريّة تنقاد للمشاعر والحوافز الذاتية والرغبات المشخصنة وليس إلى الإدراك الموضوعي للواقع الذي تتعامل معه.
 وتبرز هذه المشكلة بشكل أساسي في التفكير النسقي، الذي ينطلق من نماذج تفسيريّة كبرى, وينأسر لها : كالتحليل النفسي وقطاعات اللاشعور، والماركسيّة وبُنى الاقتصاد، ومابعد-الكولونياليّة وتأثيرات المُستعمر، المؤامرة ويد الخفاء، الدين والأبعاد الميتافيزيقيّة، الهويّة وبناء الدولة الوطنيّة ..الخ. وبرغم أهميّة هذه النماذج التفسيريّة إلّا أنّها في أحايين كثيرة لا تقدم تفسيرًا للحوادث والوقائع بقدر ما تفضح الهواجس والأحلام الايديولوجيّة عند المحللّين. وبذلك تتحول النماذج من كونها أداة بيد الإنسان، ومقتربًا تفسيريًّا لفهم حقيقة الحدث أو الواقعة، إلى أن يصير الإنسان أداةً بيدها!
من هنا تبرز أهمية كتاب " سوسيولوجيا التطرف والإرهاب في الأردن ", الصادر مطلع هذا العام, عن مركز الدراسات الاستراتيجيّة  في الجامعة الأردنيّة, لمؤلفيه : د.محمد أبو رمان, د.موسى شتيوي. والذي حاول فيه مؤلفاه, القفز على الأفكار الجاهزة, والتحليلات الرغبويّة, والمعطيات القبليّة الانطباعيّة, وما تُنتجه من " عتمة معرفيّة " - بتعبير أبو رمان – تسود جو البحث المتعلّق بدراسات التيارات السلفيّة الجهاديّة المتطرّفة, وذلك من خلال تعليق الأحكام والتعميمات لحين فحصها في مخبر الواقع, ورؤية مدى انطباقها على الحالة المُراد دراستها.
لأجل ذلك, قام المؤلفان بعمل دراسة ميدانيّة إثنولوجيّة, امتدّت لعدّة أشهر, شملت 760 حالة انطبق عليها تعريف " السلفيّ الجهاديّ " الذي تواضع عليه المؤلفان. حيث توزّعت هذه العينة على أربع مسارات أساسيّة, قام المؤلفان بتحليل عددها الكليّ تحليلًا كميّا, والعمل على تحليل جزءٍ منها تحليلًا نوعيًا شمل ما يقارب من إحدى عشرة حالة, خُصِّصَ لها الفصل الأخير. وبالعودة إلى مسارات اختيار العينّة المدروسة, نجد أنّها مُوزّعة على أربعة اتّجاهات أساسيّة :
1- من قُتل في العراق أو سوريا وهو يقاتل مع جماعات وتيارات " داعش " أو " النصرة " أو " القاعدة ".
2- من انضم إلى تلك المنظمات, وما يزال يقاتل معها, أو التحق بها وعاد من هناك , حتى لو أعلن أنه ترك هذا الفكر- سلفي جهاديّ سابق -.
3- من تمّ الحكم عليه في محكمة أمن الدولة بدايةً من تهم الترويج مرورًا بمحاولات الالتحاق انتهاءًا بتشكيل خلايا وجماعات متطرفة.
4- من يُعرف نفسه أنّه سلفي جهاديّ بالعموم, وبصورة واضحة, وإن لم تتم محاكمته.
وبتجاوز الفصل الأول الذي رصد فيه المؤلفان تاريخ السلفيّة الجهاديّة في الأردن, سنحاول في هذه المراجعة الوقوف على أبرز ما جاء في الكتاب من نتائج وتحاليل.

جغرافيا التطرف؛ صدمات ومُفاجَأت :
خلال الرصد الميداني والتحليل الكميّ الذي قام به المؤلفان, جاء التوزيع الجغرافيّ لخارطة التطرف وأماكن تواجدهم – أي المتطرّفين - في الأردن على هذا النحو :
1- محافظة الزرقاء ( الرصفية ومخيم شنلر ) ما نسبته ( 40.7%) 
2- محافظة إربد ( مخيم إربد ) ما نسبته ( 17.4% )
3- مدينة البلقاء ما نسبته 13%
4- العاصمة عمّان ما نسبته 12%
5- محافظة معان ما نسبته ( 9.3% )
6- محافظة الكرك ما نسبته ( 4.9% )
7- باقي المملكة ما نسبته ( 2% )
وبالطبع لم يكتفِ المؤلفان بتعيين هذه النسب, وتحديد أماكن تواجدها, بل حاولا تقديم مقترباتٍ تفسيريّة, تأخذ على عاتقها تعليل هذه التوزيعات والتكتلات الرقميّة, والوقوف على الأسباب المُفضية إلى تواجد أعضاء التيارات الجهاديّة في هذه المناطق . فبالذهاب إلى مدينتي الزرقاء وإربد ( مناطق المخيمات بالتحديد ) يرى الباحثان أنّ الأمر يعود إلى سببين أساسيين : 
السبب الأول : أنّ غالبية سكانها من الطبقة الوسطى أو الطبقة الفقيرة, وربما يحمل ذلك في طياته تناميًا في مشاعر التهميش الاجتماعي والاقتصادي, وفي الوقت نفسه, نجد أنّ هناك فقرًا مدقعًا في حضور الدولة الثقافي وكذا حضور المجتمع المدنيّ, فلا توجد مسارح, ولا أندية, ولا مرافق, ولا متنفسات, ولا توجد أيّة إشارات لاعتناء حقيقي من قبل الدولة بهذين المكانين.
السبب الثاني: أنّ الغالبية العُظمى من المنتمين لهذه الجماعات في هذه المناطق هم من أصول غرب-أردنية ( أصول فلسطينية ) ويرى المؤلفان أنّ حالة الذبول السياسي والتراجع العام للقضيّة الفلسطينيّة, مع تزايد الشعور بتمييز الدولة تجاه هذا المُكون لصالح المُكوّن الشرق-أردني, أنتج حالة من التمزّق, عبّر عنها المؤلفان بـ ( الحنين إلى " القضية " والاغتراب عن " الدولة " )

 وبالذهاب إلى مدينة السلط يرى المؤلفان أنّ الأمر عائدٌ إلى سببين رئيسين يُمكن تلمّسهما أيضًا :
 السبب الأول : متعلق بالضعف العام لمؤسسات الدولة وسياسات الخصخصة الاقتصادية التي تُقلص من إمكانية التوظيف الحكومي, الذي أثّر سلبًا على مدينة يعتمد معظم سكانها على العمل في السلك الحكومي والمؤسساتي.
 السبب الثاني : متعلق بالمُعطى السايكولوجيّ لأبناء مدينة السلط ذا الطبيعة الأنِفَة, والممتلئة, والمُعتدة بذاتها إلى حدٍ كبير, والتي قد تجد في تنظيمات السلفيّة الجهاديّة فرصة ممتازة لإبراز الذات وتفوّقها, في نفس الوقت الذي لم تعد الأوضاع الحالية لمدينة السلط قادرة على ملء ذلك الفراغ. وفيما يبدو أنّ الكثافة الحضوريّة لأجواء " الدعسة الفُجائية , ورحلات الصيد, والتعصّب للسلط  " – كما يرى أبو رُمّان - لا تقل عن الكثافة الحضوريّة لأجواء جماعات السلفيّة الجهاديّة!
وبالذهاب إلى معان, التي تأتي في الترتيب الخامس على خارطة التطرف – خلافًا لما هو شائع من كون معان هي محتشد الجماعات السلفيّة الجهاديّة – يرى المؤلفان أنّ لهذه المدينة خصوصيّة تتمثل بوجود مشكلة مزمنة بينها وبين الحكومة, يصح فيها الوصف بكونها " أزمة مفتوحة " بين الدولة والمدينة. إذ شهدت المدينة على مدى سنوات عديدة  (1989,1996,2000)   احتجاجات على خلفية قضايا اقتصادية, وفي مراحل لاحقة شهدت المدينة مواجهات بين الأمن ومطلوبين على خلفية قضايا جنائية وقضايا متعلقة بتجارة مخدرات وسلاح, وكذلك مواجهات مع " التيار الجهادي " مما خلق حالة من التداخل بين المطلوبين من جهة, وبين المجتمع المحلي, الذي وجد نفسه في لحظات متعددة في مواجهة مع الأمن والدولة أو وسيطًا على خلفية هذه التوترات مع المطلوبين.
ورُبما تفسير حالة الزخم تجاه مدينة معان متعلق بـ " تحالف الخارجين على القانون " الذي تواطَأ به تجار المخدرات والسلاح مع التيار الجهادي في مواجهتهم المفتوحة مع الدولة, إذ تبدأ المواجهات مع تجار المخدرات وتنتهي بالمواجهة مع التيار الجهادي, وفي حالة ثانية تبدأ المواجهات مع التيار الجهادي وتنتهي بالمواجهة مع تجار السلاح هكذا.
وتجدر الملاحظة هنا أنّ المؤلفان تجاوزا الأطاريح الثقافويّة التي تُرجع حالات الانتماء لهذه التيارات المتطرفة إلى التراث الدينيّ والفتاوى العُنفيّة الكامنة في المتن الفقهي القديم! وذهبا صوب تلمّس الظاهرة كما هي في الواقع, عبر وعي سوسيولوجيّ, لا كما يُحب البعض أن يراها, بعد ترسيمها في ذهنه, من خلال معطيات استشراقيّة ورغبويّة.

أنماط جديدة على الساحة الأردنيّة :
عادةً ما ترتبط الحالة العُنفيّة التي تطبع تيارات السلفيّة الجهاديّة بصورة مُتخيلة : ( رجال أشدّاء, أغلاظ, ميسم الخشونة ظاهرٌ عليهم ..الخ ) غير أنّ الصورة ستتعرض لهزّة إذا عرفنا أنّ أنماطًا جديدة دخلت على خط السلفيّة الجهادية في الأردن اليوم. 
مثال ذلك عدّة ظواهر تحدث عنها المؤلفان في الكتاب, منها على سبيل المثال : ( ظاهرة النسوية الجهاديّة, ظاهرة الأحداث الجهاديين ) وهاتين الظاهرتين هما نتاج ظاهرة التحول البنيويّ في نمط الانتماء الذي يطبع الانتماء الجهاديّ, حيث حصل الانتقال من نمط " الفرديّة الذكوريّة في التيار إلى " النمط الأسري " وذلك يبرز من خلال ظاهرة الأشقاء الجهاديين, والأبناء والآباء, والشقيقات الجهاديات, والأحداث الجهاديين, فالتيار لم يعد – كما كانت الحالة سابقًا – يتشكّل من أفراد ذكور بالغين, متأثرين بهذا الفكر, بل أصبح عائلات؛ آباء وأبناء وزوجات وبنات, مما يعني الوصول إلى درجة من التجذّر الاجتماعي والثقافي للتيار أكثر مما سبق.
وهذا يرجع كما يرى المؤلفان إلى أننا أصبحنا اليوم أمام ثلاثة أجيال من الجهاديين كما تمّ رصد ذلك في فصل المسار التاريخيّ, وآية ذلك أنّ الجيل الأول, الذي برز في منتصف التسعينات, قد كوّن أسرًا وعائلات اليوم!

استحالة التنميط؛ سمات اقتصاديّة واجتماعيّة.
خصص المؤلفان الفصل الثالث للحديث عن السمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمتطرفين, حيث خضعت الحالات المدروسة إلى المعالجة الإحصائية المتعلقة بالعديد من المؤشرات : العمر , المكان الجغرافي ( محافظة, مدينة, قرية ), والمستوى التعليمي, والحالة العمليّة (المهنة, وقطاع العمل ), التهمة ( للحالات داخل الأردن ), والتنظيم الذي ينتمي إليه الشخص.
وبرغم النتائج المهمة التي تضمنها هذا الفصل, إلا أنّ تعميمها ليس بالأمر المتاح – كما أِشار المؤلفان -  إذ لا يمكن ضم الحالات ضمن ملف  واحد, مثل الحديث عن أنّ العلاقة بين البطالة أو التعليم والتطرف علاقة عسكيّة على طول الخط.
وآية ذلك أن الظواهر المركبة تحتاج إلى نماذج مركّبة، والسعي إلى نمذجة تفسير معين أو الحديث عن نموذج أحاديّ, مضطرد, يمكن تعميمه على كل الظاهرة ككل, لا يعود إلا بالفشل؛ الفشل المتعلق بالكفايات التفسيريّة التي تتغيّا الاقتراب من الظواهر ودراستها.

تجارب، ومغامرات، وكوميديا سوداء
في الفصل الأخير من الكتاب يقف المؤلفان على بعض القصص والتجارب لأشخاص انخرطوا بتيارات " السلفيّة-الجهاديّة " وقتلوا - في الغالب – في حروبها في العراق وسوريا. يقترب المؤلفان من هذه القصص عبر دراسة ميدانيّة تحليليّة, عبر إجراء مقابلات مع أهالي وأصدقاء المقتولين وذلك من خلال منهجية/عيّنة " كرة الثلج " البحثية.
يتوزع هذا الفصل بين الكوميديا السوداء والجنون المفرط والكآبة الشديدة. يحكي عن أرواح أتلفت، وأنفس أزهقت لأهون الأسباب. يرصد فيه ثماني تجارب توزّعت على ما يقرب الـ 11 حالة, حاول المؤلفان دراسة الأسباب الكامنة التي دفعت هؤلاء الأشخاص للانضمام او الالتحاق بتيارات السلفية الجهادية المختلفة سواء أكانت الاسباب دينية أو نفسية أو عائلية أو اقتصادية أو اجتماعية ..الخ
أهمية هذا الفصل تكمن في أنّه سلّط الضوء على عديد من تجارب الالتحاق غير التقليديّة  بتيارات السلفيّة الجهاديّة, مثل التحاق أصحاب السوابق, من تجار مخدرات, إلى تيارات السلفيّة الجهاديّة, أو التحاق بعض الشباب من خلفيات الجماعات الدينيّة التي تُنابذ العنف وتقطع معه, كجماعة الدعوة والتبليغ, والإخوان المسلمين, والسلفيّة العلميّة.
ختامًا, إن كان من رسالة أراد المؤلفان إرسالها هي أنّ الخروج من ضيق البحث الايديولوجي الرغبويّ إلى آفاق العمل السوسيولوجي الجاد, هو من قبيل المُمكن والمُتاح في حال توافرت العزيمة والتجرّد الموضوعيّ

هوامش:
- يُعرف الأستاذان المؤلفان " السلفي الجهادي " - سواءًا أكان تيارًا أو فردًا -: هو كل من يؤمن بمادئ الحاكميّة, أي ضرورة إقامة حكم إسلامي, وبتكفير الحكومات العربية القائمة, وبالعمل المسلح بوصفه منهجًا رئيسيًا في التغيير, إما في الداخل أو الخارج, ويؤمن بمفهوم الولاء والبراء, والمقصود به هنا, تأطير العلاقة مع الآخر : ثقافيًا, ودينيًا, وسياسيًا, ضمن مفاهيم عقائدية, هو الذي يشعر بالولاء أو الانتماء لكل من " القاعدة " أو " داعش " أو " النصرة " .
- ينتهي الرصد التاريخيّ الذي قام به المؤلفان إلى وجود ثلاثة أجيال تعاقبت على تاريخ هذا التيار بدءًا من التنظيمات التي تشكلت بعد عودة المقاتلين من ساحة الحرب الأفغانيّة في منتصف التسعينات, مرورًا بالجيل الثاني الذي برز بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001 واحتلال العراق عام 2003 بقيادة أبو مصعب الزرقاوي, وليس انتهاءًا بالجيل الثالث الذي ترافق مع تسليح الثورة السورية في أواخر عام 2011.
- عينة كرة الثلج هي أسلوب للوصول إلى وحدات متعددة للدراسة، فإحدى وحدات الدراسة (شخص) يعطي الباحث إسم شخص ثاني (وحدة دراسة أخرى) والذي بدوره يعطي الباحث إسم شخص ثالث (وحدة دراسة اخرى) وهكذا، ووفقًا للتعريف فإنها تقع ضمن أنواع العينات غير الاحتمالية.