قضية المعتقلين جريمة مستمرة واهتمام غائب
مارس 27, 2019 3027

قضية المعتقلين جريمة مستمرة واهتمام غائب

حجم الخط
تمهيد
تتصف جريمتا الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري بأنها جرائم ذات أثر أليم طويل المدى، إذ لا تسمح طبيعتها لذوي المعتقل أو المختفي بتجاوز آثار الجريمة، مهما طالت مدّة الاعتقال أو الاختفاء. كما تتصف بأنها جرائم ذات أثر متعدٍّ؛ لا يقتصر على من وقع عليه الانتهاك، بل يمتد إلى عائلته ومحبيه، وبالتالي فإنّها تأخذ شكل العقاب الجماعي لشريحة واسعة بمجرد اعتقال مجموعة من الأشخاص. 
وتخضع أسر المعتقلين تعسفاً والمختفين قسرياً لمعاناة إضافية، تتمثّل في وضعهم تحت الرقابة الأمنية، ولا يحصلون بسبب أبنائهم المعتقلين على الموافقات الأمنية، وقد يستدعون بشكل دوري لأجهزة الأمن. 
وتحمل جريمة الاختفاء القسري على وجه الخصوص آثاراً قانونية على ذوي المختفي، إلى جانب الآثار النفسية العميقة. فما زالت الكثير من الأسر السورية تواجه حتى اليوم أزمات قانونية وأخلاقية نتيجة لاختفاء أبناء لها في الثمانينيات، سواء من ناحية التصرّف حيال الارتباط الزوجي، أو توزيع الإرث وما إلى ذلك. 
ويسعى هذا التقرير إلى دراسة جريمتي الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري في سورية منذ عام 2011 وحتى الآن، ومحاولة فهم التحديات التي تواجه عملية توثيق هذه الجرائم، والآليات الممكنة للتعامل مع هذه التحديات، واقتراح الأدوار الممكنة للفاعلين السوريين في الشأن المدني والسياسي، والأدوار الممكنة للمجتمع الدولي أيضاً. 
ورغم مشاركة كل الفاعلين العسكريين في سورية في ارتكاب جرائم الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، إلا أن النظام السوري كان المسؤول عن النسبة العظمى منها، كما سيتّضح في سياق التقرير. ولذا فإنّ التحليل سيركّز على المعتقلين والمغيبين لدى النظام السوري، ما لم يُذكر عكس ذلك. 
ويشمل مصطلح "النظام" في هذا التقرير كل القوى التابعة للحكومة السورية، أو التي تعمل تحت مظلتها الأمنية أو القانونية، بما يشمل كل المجموعات شبه الحكومية، والميليشيات اللبنانية والعراقية، والقوات الأجنبية التابعة لدول جاءت إلى سورية تحت مظلة شرعية الدولة السورية.  
 
أولاً: الإطار الزمني لجريمتي الاعتقال والإخفاء القسري
شكّل الاعتقال التعسفي والاختطاف القسري سمة من سمات حكم نظام البعث، منذ استيلائه على السلطة في عام 1963. ولم تستثن سجون النظام منذ ذلك الحين كل الفاعلين السياسيين، بمن فيهم عناصر وأركان من النظام نفسه، ممن عارضوا النظام أو شخص رئيس النظام.  
وقد أدّت المواجهات التي شهدتها فترة نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات بين النظام من جهة والإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة من جهة أخرى إلى نقل ممارسات الاعتقال والاختطاف القسري إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ السوري (حتى ذلك الحين)، إذ قامت آنذاك أجهزة الأمن وفرق من الجيش وميليشيا سرايا الدفاع بما عُرف بعمليات تمشيط المدن الرئيسية، وخاصة في مدينتي حلب وحماة، إضافة إلى أجزاء كبير من محافظة إدلب وحمص، واعتقل في هذه الحملات عشرات الآلاف من الأشخاص، أفرج عن بعضهم خلال فترات قصيرة نسبياً، فيما اختفى حوالي 17 ألف شخص، يُعتقد أن معظمهم قُتل تحت التعذيب أو في إعدامات ميدانية، فيما أفرج عن حوالي 15 ألف شخص بعد أكثر من عشر سنوات على اعتقالهم، بحسب تقديرات اللجنة السورية لحقوق الإنسان(1)
واستمرّت سياسة الاعتقال بوتيرة أقل بكثير في فترة التسعينيات وما بعدها، وأخذ الاعتقال السياسي في هذه المرحلة شكلاً انتقائياً أكثر، حيث استهدف النظامُ النشطاء والفاعلين في الشأن العام أكثر من غيرهم، وانتهت سياسة الإختفاء القسري إلى حد كبير.
ومع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في آذار/مارس 2011 لجأ النظام السوري لاستخدام كامل أدواته القمعية على أوسع نطاق، وكان سلاح الاعتقال والإخفاء القسري واحداً من تلك الأسلحة التي سعت إلى كسر إرادة المحتجين ومحاولة منع انتشار الاحتجاجات وتوسعها. 
وشهدت الفترة من 2011-2013 أعلى مستويات الاعتقال والإخفاء القسري، وانخفضت هذه المستويات بشكل تدريجي في السنوات اللاحقة. 
وشهد عام 2013 ظهور فاعل جديد ومؤثر في سياسة الاعتقال والإخفاء القسري في سورية، إذ أُعلن في نيسان/أبريل 2013 عن تأسيس تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وانشق عدد كبير من عناصر جبهة النصرة وانضموا إلى التنظيم الجديد، وتبين أن المنشقين أخذوا معهم معظم المختطفين الذين كانوا لدى الجبهة، وخاصة الأجانب منهم. 
ومارس التنظيم منذ تأسيسه الاعتقالَ التعسفي والإخفاء القسري على نطاق واسع في كل المناطق التي سيطر عليها، والتي وصلت في عام 2014 إلى أكثر من نصف الأراضي السورية. وقد أُفرج عن كثيرين ممن اعتقلهم، إما بعد انحسار سيطرته عن منطقة ما أو بقرار من محاكم التنظيم، فيما تم إعدام مئات من المعتقلين، وغالباً ما كان يتم تصوير عمليات الإعدام وبثّها بشكل ترويجي، فيما لم يُعرف مصير آلاف آخرين يُعتقد أنهم كانوا معتقلين أو مختطفين من قبل التنظيم. 
 
ثانياً: تحديات توثيق الجريمة
يشمل توثيق جريمة الاعتقال التعسفي وجريمة الإخفاء القسري مستويين رئيسيين: 
الأول: هو التوثيق على مستوى المنظمات الحقوقية المحلية، والذي يتم عادة باستخدام معلومات محدودة عن المعتقل والمختفي. ويختلف حجم وعمق هذا التوثيق من منظمة إلى أخرى، بحسب إمكانياتها المادية ومنهجيتها في التوثيق. 
الثاني: وهو تسجيل الحالات الموثقة لدى الأمم المتحدة، سواء لدى الفريق العامل المعني بمسألة الاحتجاز التعسفي أو لدى المقرر الخاص المعني بحالات الاختفاء القسري في الأمم المتحدة. ويلتزم هذا التوثيق بنماذج عالمية موحدة، وتتطلب تفصيلات دقيقة عن كل حالة.
وقد قامت الشبكة السورية لحقوق الإنسان على سبيل المثال بتسجيل حوالي (133) حالة اختفاء قسري لدى المقرر الخاص المعني بحالات الاختفاء القسري في الأمم المتحدة. 
وتواجه المنظمات الحقوقية السورية والدولية تحديات كبيرة في توثيق جرائم الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري. ويمكن إجمال هذه التحديات فيما يلي:
1. ارتفاع عدد الفاعلين الذين قاموا بأعمال الاعتقال والإخفاء القسري، والتي تشمل من طرف النظام عدداً من فروع الأمن وميليشيات شبه حكومية محلية وأخرى أجنبية وتشكيلات أخرى، كما تشمل تنظيم داعش وهيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة المختلفة وقوات سوريا الديموقراطية. كما يضاف إلى ما سبق نشاط عصابات جرمية تعمل في كل المناطق السورية، وتقوم بأعمال القتل والخطف لأسباب أخرى تماماً، لكنها يمكن أن تشوش عملية التوثيق. 
2. خوف الأهالي من نشر أخبار اعتقال ذويهم أو تقديم معلومات للمنظمات الحقوقية، حرصاً على حياة المعتقلين ومنعاً لتعرضهم لمزيد من التعذيب، وفقاً للاعتقاد السائد لدى معظم السوريين، وهو اعتقاد صحيح إلى حد كبير، وخوفاً على حياة الأهل أنفسهم، إن كانوا مقيمين في مناطق النظام أو مناطق داعش –قبل سقوطه-. 
3. عدم اقتناع الأهالي بجدوى عملية التوثيق، وتفضيلهم البحث عن طرق بديلة مجربة، وخاصة البحث عن وسطاء يمكن أن يؤمّنوا عملية الإفراج عن أبنائهم مقابل مبلغ مالي يُقدّم للضباط المعنيين في الجهة التي قامت بعملية الاعتقال. 
4. تعامل معظم الفاعلين، وخاصة النظام وتنظيم داعش، بقسوة وعنف مع أي نشاط حقوقي، بما يعادل أو يزيد عن أي عمل سياسي أو حتى عسكري معارض. الأمر الذي جعل توثيق عمليات الاعتقال واحدة من أكثر الأنشطة الحقوقية صعوبة ومخاطرة. 
5. غياب إمكانية البحث في سجلات الأجهزة الأمنية حتى لمن يملكون معارف أو يدفعون أموالاً لوسطاء، إذ يُمنح المعتقلون في هذه الأجهزة أرقاماً بدل أسمائهم، ولا يرتبط الاسم بالرقم إلاّ لدى المستويات العليا في كل جهاز. 
6. تفاوت مدد الاعتقال والتوقيف، إذ يتم توقيف بعض الأشخاص لأيام أو أسابيع، فيما يستمر توقيف آخرين لعدة سنوات، أو يقتلون تحت التعذيب خلال اعتقالهم، وأدّى اتساع نطاق الجريمة إلى جعل عملية توثيق المفرج عنهم أمراً صعباً، خاصة وأن الأهل يفقدون بعد خروج ابنهم الرغبة والإلحاح في التواصل مع المنظمات الحقوقية. 
7. العوامل الاجتماعية التي تمنع أهالي المعتقلات من توثيق اعتقالهن، خوفاً من إلحاق ما يعتبرونه "عاراً" بالفتاة وعائلتها. 
8. الظروف غير الطبيعية التي سادت في سورية منذ عام 2011، حيث أدّت هذه الظروف إلى تقطيع أوصال العائلة الواحدة، والحد من إمكانية التواصل الخارجي معها، أو حتى التواصل بين الأقارب أنفسهم، نتيجة لقطع الاتصالات أو الحصار أو اللجوء.. إلى غير ذلك من الأسباب. الأمر الذي أضعف من قدرة وصول المنظمات إلى الأهالي، وقدرة الأهالي أنفسهم على التواصل مع الجهات الحقوقية المعنية. 
9. الكلفة المادية الباهظة لعمليات التوثيق، والتي تتطلب عملاً دؤوباً من قبل فرق عمل واسعة ومدربة. وبالمقارنة مع اتساع نطاق الجريمة في سورية، فإنّ المنظمات الحقوقية السورية والدولية لا تستطيع بإمكانياتها الحالية إلا توثيق أجزاء لا تذكر من العدد الكلي للمعتقلين والمختفين، خاصة وأن الحكومات والجهات الممولة الأخرى لا تولي الكثير من الاهتمام بمشاريع التوثيق. 
 
ثالثاً: حجم الظاهرة
رغم التحديات السابقة، فقد عملت العديد من المنظمات الحقوقية السورية والدولية على توثيق عدد كبير من حالات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري. 
ولاستعراض حجم الظاهرة، لابد من استعراض الفاعلين الرئيسيين المشاركين في هذه الجريمة، ومحاولة تقدير مسؤولية كل طرف فيها. 
1) النظام وحلفاؤه
يمثّل النظام وحلفاؤه الجهة المسؤولة عن النسبة العظمى من عمليات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري. ووفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإنّه وحتى آذار/مارس 2019 كان في سورية 143,176 معتقلاً أو مختفياً قسرياً، 88% منهم لدى النظام السوري وحده(2)
وتشمل هذه الحصيلة أولئك الذين ما زالوا على قيد الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري، ولا تشمل مَن أُفرج عنهم أو عُرف مصيرهم. 
وترافق الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري مع ممارسات واسعة للتعذيب المفضي للموت. وقد وثّقت الصور التي قام بتسريبها مصور سابق في مشفى المزة العسكري (601) مقتل (11) ألف شخص تحت التعذيب في هذا المشفى وحده(3) . ورغم أن ممارسة التعذيب وغيرها من الأشكال الحاطة بالكرامة قد حصلت من قبل الأطراف الأخرى، إلا أن النظام يتقدم على الجميع بصورة لا تقبل المقارنة، سواء من حيث حجم هذه الانتهاكات، أو الشكل الممنهج الذي تُمارس فيه(4) .  
وينبغي ملاحظة تعدّد الجهات التي تقوم بعمليات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري في طرف النظام وحلفائه، حيث تتولى الأجهزة الأمنية عمليات الاعتقال الرئيسية، لكن جهات الاعتقال شملت قوات الجيش أيضاً، إلى جانب الميليشيات غير الرسمية، والميليشيات العراقية واللبنانية. 
2) تنظيم داعش
استخدم التنظيم سياسة الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري على نطاق واسع، حتى قبل إعلانه بشكل رسمي. واستهدف التنظيم في بداياته الفاعلين في المجال المعارض للنظام السوري، وعلى وجه التحديد النشطاء المدنيين والإعلاميين، والأجانب العاملين في مناطق المعارضة. واختفت آثار معظم من قام بخطفهم في تلك الفترة، فيما قام بإعدام آخرين بصورة علنية أو غير علنية. 
وبعد استباب مناطق سيطرته، قام التنظيم باستهداف السكان بعمليات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري. ووفقاً لتقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان فإنّ عدد المعتقلين تعسفياً أو المختفين قسرياً على يد التنظيم حتى آذار/مارس 2011 بلغ 8143 شخصاً، أي حوالي 5.7% من إجمالي عدد المعتقلين والمختفين في سورية(5) .
وأدّى انهيار آخر معاقل التنظيم في الباغوز منتصف آذار/مارس إلى تسليط الضوء مرة أخرى على مصير المعتقلين والمختفين لدى التنظيم، والذين لم يتم العثور إلا على القليل منهم في مخيم الباغوز. 
3) هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة
مارست جبهة النصرة (والتي أصبحت لاحقاً هيئة تحرير الشام) منذ تأسيسها في بداية عام 2012 سياسة الإخفاء القسري بحق النشطاء المحليين والأجانب، لكن هذه الممارسة انخفضت بشكل كبير بعد انشقاق تنظيم داعش عن الجبهة. 
لكن الهيئة استمرّت في ممارسة الاعتقال التعسفي في مناطق سيطرتها. واستهدفت هذه الممارسة بشكل خاص النشطاء المدنيين المعارضين للهيئة، إضافة إلى اعتقال المنتمين إلى الفصائل التي حاربتها الهيئة(6)
وفي خطوة تظهر خطورة ممارسات الهيئة في هذا الإطار، قامت هيئة تحرير الشام أثناء عملية ترحيل فصائل الغوطة الشرقية إلى الشمال السوري بنقل (8) من معتقلي فصيل جيش الإسلام لديها إلى الشمال وهم مكبلو الأيدي. ووفقاً لمصادر فصيل جيش الإسلام الذي كان يُسيطر على دوما، فإنّ الهيئة قامت بنقل (21) معتقلاً من عناصره إلى الشمال السوري(7) .
وقد بلغ عدد المعتقلين والمختفين قسرياً لدى هيئة تحرير الشام حتى آذار/مارس 2019 ما مجموعه (1724) شخصاً بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان(8) .
4) الإدارة الذاتية الكردية
مارست وحدات حماية الشعب وقوات سورية الديموقراطية وغيرها من المؤسسات العسكرية والأمنية التابعة للإدارة الذاتية الكردية أعمال الاعتقال التعسفي بشكل مستمر، واستهدفت بشكل خاص النشطاء في الأحزاب الكردية المعارضة لحزب الاتحاد الديموقراطي. كما قامت باعتقال وتوقيف الكثير من المواطنين العرب، وخاصة من النازحين، بحجج التحقق من عدم انتمائهم لتنظيم داعش. 
ورغم أن أجهزة الإدارة الذاتية تقوم بالعادة بالإفراج عن المعارضين السياسيين الذين تقوم باختطافهم أو باعتقالهم تعسفاً بعد فترات وجيزة، إلا أن هذه الأجهزة تقوم بإخفاء المختطفين أثناء فترة احتجازهم، ولا تسمح لهم بالتواصل مع ذويهم، ولا تتيح لهم بطبيعة الحال التواصل مع محامين أو ما شابه، حيث تغيب الإجراءات القانونية بشكل شبه كامل(9)
ووفقاً لتقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد المعتقلين تعسفاً والمختفين قسرياً على يد أجهزة الإدارة الذاتية 2705 شخصاً، حتى آذار/مارس 2019(10)
5) فصائل المعارضة المسلحة
أسست معظم فصائل المعارضة سجونها الخاصة منذ الفترات الأولى لتشكّلها، واستهدفت بشكل أساسي من تتهمهم بالعمالة للنظام، ولتنظيم داعش في مرحلة لاحقة. 
ووفقاً لتقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإنّ عدد المعتقلين والمختطفين على يد الفصائل المسلحة حتى شهر آذار/مارس 2019 بلغ 2688 شخصاً(11) .
 
رابعاً: دوافع الاعتقال والإخفاء القسري
تختلف الدوافع التي تقف خلف عمليات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري التي قام بها النظام السوري. ويمكن حصر هذه الدوافع ضمن ثلاث مجموعات رئيسية: 
1) ملاحقة المعارضين
قامت الأجهزة الأمنية باستهداف النشطاء والفاعلين في العمل المعارض، بما في ذلك تهريب حليب الأطفال لمنطقة محاصرة، وهي التهمة التي تم اعتقال وقتل الطفل حمزة الخطيب على أساسها في عام 2011!. 
ويتم هذا النوع من الاعتقال في الغالب بناء على وجود الاسم على قوائم المطلوبين، ويحصل إما من خلال مداهمة لمكان سكنه أو عمله، أو بعد مرور المطلوب على إحدى نقاط التفتيش أو المعابر الحدودية. 
وإضافة إلى اعتقال المطلوبين بأسمائهم، فإنّ الاعتقال يمكن أن يشمل أولئك الذين يتم العثور على مواد معارضة معهم أو على أجهزتهم الإلكترونية. ويتم التعامل مع هؤلاء مثلما يتم التعامل مع المطلوبين مسبقاً بأسمائهم. 
وفي الغالب فإنّ معظم من تم اعتقاله تحت هذا البند خلال الفترة من 2011-2013 قد انتهى بهم الحال في معتقلات الأجهزة الأمنية، ولم يُحولوا إلى السجون الاعتيادية، ولم يُعرضوا على محكمة جرائم الإرهاب. ويُعتقد أن كثيراً منهم قد قتلوا تحت التعذيب. 
2) الضغط على المطلوبين
يختلف هذا النوع عن سابقه في أن المعتقل لا يكون مطلوباً لذاته، ولكنه في نفس الوقت ليس عشوائياً كما في الاعتقال الجغرافي. ويستهدف هذا النوع من الاعتقال أقارب الأشخاص المطلوبين، وقد يشمل ذلك النساء والأطفال، إما لعقابهم أو للضغط عليهم من أجل تسليم أنفسهم، أو للحصول على معلومات عنهم(12)
3) الابتزاز الاقتصادي والسياسي
قامت أجهزة النظام المختلفة على مدار السنوات الماضية بحملات لاعتقال المنتمين إلى منطقة معينة، وخاصة على الحواجز المؤدية من وإلى هذه المنطقة. ولا يكون الموقوفين تعسفاً في هذه الحالة ضمن قوائم المطلوبين، وفي كثير من الأحيان لا توجّه لهم أي تهمة حتى بعد سنوات من اعتقالهم(13)
ويحوّل هؤلاء في معظمهم إلى محكمة الإرهاب في دمشق، والتي تصدر عليهم أحكاماً متفاوتة، وتحوّلهم إلى السجون المركزية المختلفة. 
ويحقق هذا "الاعتقال الجغرافي" عدداً من الأهداف بالنسبة للنظام، أهمها: 
الضغط على المناطق التي ينتمون إليها، والتي تكون وقت اعتقالهم خارج سيطرة النظام، وبالتالي فإنّ اعتقال عدد كبير من أهالي المنطقة يُشكّل نوعاً من العقاب الجماعي للسكان، بالتوازي مع أشكال العقاب الأخرى المستخدمة، كالحصار والقصف العشوائي.. إلخ. 
استخدام المعتقلين في عمليات التبادل، أو في محاولة كسب الشارع من خلال "مراسيم العفو" الرئاسية؛ والتي يتم فيها الإفراج عن معتقلين لم يرتكبوا عملياً أي ذنب، حتى وفقاً لقوانين النظام الجائرة.  
توفير مصدر تمويل للأجهزة الأمنية وحاضنتها المدنية، حيث يُتيح النظام لعناصر هذه الأجهزة وموظفي السجون وأقاربهم إمكانية ابتزاز ذوي المعتقلين مالياً، للحصول على معلومات عنهم، أو رؤيتهم وتأمين احتياجاتهم المعيشية داخل السجون وإجراء مكالمات معهم.. إلى غيرها مما يُعدّ "امتيازات" في سجون النظام السوري. 
ولا تنتهي عمليات الابتزاز مع الإفراج عن المعتقل إن تمكن ذووه من تأمين مبالغ ضخمة، ولم يتعرضوا للتلاعب والاحتيال من قبل الوسطاء، إذ يدخل ذوو المعتقل في دائرة أخرى من الابتزاز من أجل تأمين سفر ابنهم المفرج عنه بأسرع وقت ممكن خارج البلاد، قبل أن يتم إلقاء القبض عليه من جهاز أمني آخر!.  
 
خامساً: التعامل الدولي مع قضية المعتقلين والمختفين
لم تأخذ الانتهاكات المختلفة التي وقعت في سورية نصيبها من اهتمام المجتمع الدولي، حيث أدّت التوازنات الدولية إلى تغليب التوافقات السياسية على مبدأ محاسبة الجناة أو حتى تسميتهم، إلا بالحدود الدنيا. 
وقد أغفلت كل الإعلانات والتوافقات التي تمّت على المستوى الدولي بخصوص سورية مسألة المعتقلين والمخفيين، أو اكتفت بالإشارة إليها بعبارات قصيرة مقتضبة، دون تقديم خطوات تنفيذية حول آلية الوصول إلى حل لها. 
ولم يتمكّن مسار جنيف خلال سنواته الخمسة ولا كل المبعوثين الأمميين إلى سورية منذ عام 2012 من الإفراج عن سجين واحد. 
وبالمقابل فإنّ الفصائل المسلحة تمكّنت خلال السنوات السابقة من الإفراج عن عدّة آلاف من السجناء ضمن عمليات لتبادل الأسرى والمعتقلين، بما فيها عمليتان للتبادل تمّتا ضمن مسار الأستانة، وأفرج فيهما عن نحو 30 معتقلاً. 
وقد أدّت هذه المعادلة التي ساهم المجتمع الدولي في صناعتها إلى إضعاف ثقة الجمهور السوري بالعمل الحقوقي بشكل عام، وبجدوى عمليات التوثيق، وهو ما شكّل تحدياً رئيسياً أمام العاملين في منظمات حقوق الإنسان السورية والدولية. 
وبالمقابل، فإنّ نجاح عمليات التبادل ساهمت في منح الفصائل العسكرية، بما فيها هيئة تحرير الشام، زخماً شعبياً، وعزّز من صورتها كقوة قادرة على فرض معادلاتها على النظام الذي أظهر أنه لا يستجيب عملياً إلا للغة القوة. 
ويواجه ممثلو المعارضة في مسارات الحل السياسي، الأستانا حالياً وجنيف من قبلها، معضلات رئيسية تحدّ من قدرتهم على طرح هذا الملف بشكل فعّال، ومن أهمها غياب الضغط الحقيقي على النظام السوري، المسؤول عن الغالبية العظمة من حالات الاعتقال والإخفاء القسري في سورية، وضعف التوثيق الكامل والمعتمد لهذه الحالات. 
 
سادساً: آليات التعامل المقترحة 
يمثل التعامل مع ملف المعتقلين تعسفياً والمختفين قسرياً شرطاً لازماً لتحقيق العدالة الانتقالية، والانتقال إلى حل سياسي يتجاوز فيه أي مجتمع آثار فترات الصراع والحرب التي مرّ بها. وبخلاف ذلك فإنّ أي حلول سيتم فرضها لن تعدو عن كونها محاولات لشراء الوقت قبل انفجار الأوضاع من جديد. 
وتتطلب معالجة هذا الملف الشائك جهوداً مشتركة من قبل المجتمع الدولي والفاعلين السوريين، فرغم اختلاف مصالح هذه الأطراف في سورية، إلا أنها يمكن أن تشترك في رغبتها بالوصول إلى حل مستدام وقابل للحياة. 
ويمكن إيجاز ما يمكن للفاعلين تقديمه في هذا الإطار فيما يلي: 
المجتمع الدولي
1. ضرورة الضغط على الحكومة السورية، وداعميها في موسكو وطهران، للكشف عن مصير المغيبين في سجونها، ويشمل ذلك الكشف عن أماكن دفن من تم إعلان وفاتهم بعد اختفائهم لسنوات.  
2. الضغط من أجل تشكيل لجان تحقيق مستقلة في قضايا الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، وضمان حرية هذه اللجان في الوصول إلى كل المعلومات. 
3. ضرورة اشتراط الحل الكامل لملف المعتقلين تعسفاً والمختفين قسرياً قبل اعتماد أي حل سياسي، وبالتأكيد قبل إطلاق عملية إعادة الإعمار. 
4. ضرورة قيام المجتمع الدولي بالعمل مع كل الفاعلين الدوليين والمحليين لتقديم إجابات بخصوص المعتقلين والمختفين لدى تنظيم داعش، والكشف عن المعلومات المتوفرة، سواء من خلال التحقيقات مع من سلّموا أنفسهم من التنظيم، أو من خلال الوثائق والأدلة الأخرى التي ربما تم الحصول عليها في كل مواقع التنظيم التي تمّت السيطرة عليها، وخاصة في الرقة. 
5. ضرورة تشجيع المنظمات الحكومية وشبه الحكومية ووكالات الأمم المتحدة على تمويل المشاريع الهادفة إلى توثيق حالات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، وتدريب النشطاء في مجال التوثيق. 
الأطراف السورية 
1. العمل على توثيق قضايا الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري بما يشمل التوثيق الحقوقي أولاً، لكن دون إغفال بقية أشكال التوثيق، كالتوثيق الإعلامي، وصناعة الأرشيف، وتوثيق الذاكرة الشفهية لمعاناة المعتقلين وذويهم. 
2. ضرورة نشر الوعي لدى الجمهور بأهمية التوثيق من حيث المبدأ، بغض النظر عن النتائج التي تُحققها المسارات السياسية في إطار الإفراج عن المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين، إذ أن التوثيق يحمل أهمية خاصة لضحايا هذه الجرائم على وجه الخصوص، باعتبار أن معرفة ما جرى لهم يمثل اعترافاً بتضحياتهم، كما أن هذا التوثيق يمثل حقّاً للأجيال القادمة، باعتبار أنها معنية بمعرفة ما جرى في سورية، ويسمح للدولة السورية لاحقاً بتكريم المعتقلين والمغيبين وتعويضهم، مادياً أو معنوياً، وتجريم مرتكبي هذه الجرائم ولو بصورة غيابية أو بعد وفاتهم. 
3. ضرورة قيام كل الأطراف بالعمل على تأمين الدعم لكافة مشاريع توثيق الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري.
 
المراجع:
1- ضحايا الاختفاء القسري في سورية ما زالوا ينتظرون الكشف عن مصيرهم، اللجنة السورية لحقوق الإنسان، 30/8/2017
2-  حصيلة الاعتقال التعسفي، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، آذار/مارس 2019
3-  انظر بعض الصور في: الشهداء تحت التعذيب، زمان الوصل 
4- Report of the Independent International Commission of Inquiry on the Syrian Arab Republic, Human Rights Council, 13/8/2015. 
5-  حصيلة الاعتقال التعسفي، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، آذار/مارس 2019
6- Syria: Arrests, Torture by Armed Group, Human Rights Watch, 28/1/2019
7-  التقرير السابع عشر لحالة حقوق الإنسان في سورية، اللجنة السورية لحقوق الإنسان، كانون الثاني/يناير 2019
8-  حصيلة الاعتقال التعسفي، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، آذار/مارس 2019
9-  سوريا: "الإدارة الذاتية" تعتقل المعارضين، هيومن رايتس ووتش، 10/9/2018 
10-  حصيلة الاعتقال التعسفي، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، آذار/مارس 2019 
11-  حصيلة الاعتقال التعسفي، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، آذار/مارس 2019 
12- Detention in the Syrian Arab Republic: A Way Forward, OHCHR, 8/3/2018
13-  Report of the Independent International Commission of Inquiry on the Syrian Arab Republic, Human Rights Council, 13/8/201