السياسة الروسية لخفض التصعيد الأبعاد والدلالات
أغسطس 14, 2017 2646

السياسة الروسية لخفض التصعيد الأبعاد والدلالات

حجم الخط

تمهيد
حمل اتفاق مناطق خفض التصعيد، الذي أُبرم بين روسيا وتركيا وإيران في "مؤتمر أستانة 4" بتاريخ 4 أيار/ مايو الماضي – سواء في نصه أو تطبيقاته اللاحقة – مستجدات هامة، ومن المرجح أنه سينقل الصراع في سورية إلى مرحلة جديدة قد تكون مختلفة تماماً عما سبقها، ولكن الثابت في هذا الاتفاق أنه يأتي بوصفه حلقة في استراتيجية روسية ثابتة في سورية، تسعى من خلالها لتحقيق جملة من المصالح والأهداف على المديين القصير والطويل.
وينصّ الاتفاق على إقامة "الدول الضامنة" (روسيا – تركيا – إيران) أربع مناطق لخفض التصعيد، تشمل تلك التي تسيطر عليها فصائل المعارضة المسلحة، وهي محافظة إدلب وما يجاورها من المحافظات المجاورة، وريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية في ريف دمشق، والمنطقة الجنوبية (درعا والقنيطرة).
وتتضمن بنود الاتفاق وقفاً للأعمال العدائية بين أطراف الحرب في هذه المناطق؛ بما فيها الغارات الجوية، وإقامة نقاط تفتيش على حدودها لعبور المدنيين ومراكز مراقبة لتأمين تطبيق الاتفاق، عبر قوات أجنبية تتبع لـ"الدول الضامنة" وأي دولة ترغب بذلك، والتوافق لاحقاً على خرائط لرسم حدود هذه المناطق بين "الدول الضامنة"، وإدخال المساعدات الإنسانية إليها، وإتاحة العودة الطوعية للنازحين واللاجئين إلى منازلهم، وإصلاح البنية التحتية.
كما يتضمن الاتفاق التزام الدول الضامنة باتخاذ كل الإجراءات اللازمة لمواصلة قتال تنظيم الدولة و"هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) والجماعات الأخرى المصنفة "إرهابية" في مجلس الأمن، داخل مناطق خفض التصعيد وخارجها، ودعم قوات الأسد وقوات المعارضة على حد سواء في قتالهم لهذه التنظيمات.
ويمتد الاتفاق، الذي تصفه مذكرته بأنه "إجراء مؤقت"، مدة 6 أشهر قابلة للتمديد وفقاً لرغبة "الضامنين" (1).  
وشهد شهر تموز تطورات نوعية، تمثّلت في التوصّل إلى اتفاقات لخفض التصعيد في المنطقة الجنوبية، ثم في الغوطة الشرقية، ثم في ريف حمص. ورغم أن هذه المناطق الثلاث تشملها مذكرة وقف التصعيد التي تم التوصل إليها في الأستانة، إلا أن اتفاقات تموز تمّت خارج إطار الأستانة، بغياب اثنين من الضامنين الثلاثة، ودخول وسطاء وضامنين جدد، أهمهم مصر، وبروز فاعلين محليين أهمهم تيار الغد. 
ويحاول هذا التقرير قراءة هذه الاتفاقات الثلاث، ومحاولة فهم الاستراتيجية الروسية لخفض التصعيد في هذه المناطق، وقراءة الخسائر والمكاسب لكل الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين من هذه الاستراتيجية. 

الاستراتيجية الروسية الثابتة
قبل التعرف على أهداف روسيا من تطبيق هذا الاتفاق ينبغي أن نستعرض الاستراتيجية الروسية الثابتة في سورية، والتي سيتبين أن الأهداف المباشرة لاقتراح مناطق خفض التصعيد وحمل دول مسار أستانة على تبنيه تنبثق عنها. وتتشكل هذه الاستراتيجية العامة من أربعة أركان:
- الركن الأول
الانحياز الفعلي التام لنظام الأسد والعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أركانه، مع الحرص التام أيضاً على الظهور بمظهر الوسيط أو الضامن، ومد الجسور مع جميع الأطراف على هذا الأساس.
- الركن الثاني 
تثبيت المكاسب عند نقطة محددة بعد كل تقدم تُحرزه روسيا، في ذات الوقت الذي تقوم فيه بالتخطيط لتحصيل ما بعدها، وهو ما يُفسر تسلسل وتنوع الطروحات الروسية منذ بدء التدخل العسكري في سورية في 30 أيلول/ سبتمبر 2015، ابتداءاً بالمصالحات المناطقية، مروراً بهدن وقف إطلاق النار المتعددة، والتي ما إن تدخل حيز التنفيذ حتى تطلق قوات الأسد والمليشيات الموالية لها – في الغالب – معركة جديدة ضد المناطق الثائرة، ومروراً أيضاً بالحديث عن الفيدرالية والإدارات المحلية، وانتهاء بفكرة مناطق خفض التصعيد.
- الركن الثالث
إثبات امتلاكها أكبر وأقوى نفوذ بين نظرائها اللاعبين الإقليميين والدوليين في سورية، لتوظيفه في العلاقات المضطربة مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة.
- الركن الرابع
مصالح تقليدية تتعلق بإنشاء القواعد العسكرية وتثبيت الحضور العسكري طويل الأمد في شرق المتوسط، وهي المرة الأولى التي تحظى فيها روسيا بإطلالة على المياه الدافئة بهذا المستوى والحضور العسكري الكبير منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.

أهداف روسيا من اتفاق خفض التصعيد
في ضوء الاستراتيجية الروسية الثابتة في سورية، على النحو الذي بيناه آنفاً، وفي ظل المعطيات السياسية والميدانية الحالية، بالإضافة إلى نص اتفاق "أستانة 4" القاضي بإقامة مناطق خفض التصعيد، نخلص إلى أن أهداف روسيا من تطبيق الاتفاق هي التالي:
1. كسب الوقت وتثبيت المكاسب الميدانية 
يتكرر هذا الهدف في كل طرح روسي يشمل هدنة أو وقفاً لإطلاق النار، حيث تسعى موسكو من خلال وضع جميع الأطراف السورية في خندق اتفاق واحد إلى تثبيت المكاسب التي حققتها عبر سلاحها الجوي تمهيداً لما بعدها، سواء كانت المرحلة التالية ستشهد تسوية سياسية لحل الصراع السوري، أم إشعال جبهة جديدة. 
يُشار إلى أن الإعلان عن أن الغوطة الشرقية باتت منطقة خفض تصعيد لم يمنع قوات الأسد والمليشيات الموالية لها من مهاجمة بلدات جوبر وعين ترما وزملكا وكفربطنا ومحاولة اقتحامها بحشود عسكرية ضخمة. وتستخدم روسيا عادة ذريعة قتال تنظيم "تحرير الشام" الذي ترى فيه خط رجعة عن الاتفاق، لتبرير حملاتها العسكرية المتواصلة.
2. شرعنة نشر قوات عسكرية برية لها في سورية 
تقوم روسيا بموجب اتفاق مناطق خفض التصعيد بنشر عدد من عناصر شرطتها العسكرية على حدود المناطق المعنية بالاتفاق، وكانت قد نشرت قبل الاتفاق دوريات شرطة في أحياء حلب الشرقية بعد تهجير سكانها في إطار اتفاق مع الفصائل المسلحة التي كانت تُسيطر على المدينة، لمنع دخول المليشيات المدعومة إيرانيا إلى هذه الأحياء. 
ورغم أن حضورها العسكري في سورية مشرعن دولياً بموافقة نظام الأسد الذي لم يفقد شرعيته الدولية، إلا أن نشر قواتها البرية في مناطق مختلفة من سورية في إطار اتفاقات تشمل فاعلين إقليميين ودوليين، بما فيهم الولايات المتحدة، يُكسبها شرعية أكبر، تستخدمها مجدداً في تنفيذ سياسة المزيد من التوغل في سورية وكسب المزيد من النفوذ في هذا البلد.
3. التماهي مع الاستراتيجية الأمريكية ومصادرتها
شكَّل تبني إدارة ترامب لفكرة إنشاء مناطق آمنة، رغم ضبابية الفكرة وغياب الدلائل على جدية البيت الأبيض في تنفيذها، فرصةً لموسكو لتقديم نموذجها الخاص المتماهي بشكل كبير مع الطرح الأمريكي، وهو تكتيك روسي متكرر، يهدف إلى وضع واشنطن أمام خيارين لا ثالث لهما، إما التنسيق مع روسيا بحكم التقارب المعلن في الأفكار المطروحة، أو التخلي عن مقترحاتها بعد إفراغها من مضمونها على يد موسكو. 
ويكتسب هذا التكتيك أهمية كبرى فيما يتعلق بمناطق خفض التصعيد، التي تقابل المناطق الآمنة المطروحة أمريكياً، إذ إن موسكو تسعى لتقديم مسوغات لإدارة ترامب للمضي قدماً في التنسيق مع موسكو بعيداً عن اتهامه داخلياً بمحاباتها، وهو ما يبدو أنه حقق النتيجة المرجوة هذه المرة، ويظهر ذلك جلياً من خلال الشراكة القوية التي أبدتها الولايات المتحدة مع روسيا في إنجاز اتفاق خفض التصعيد في المنطقة الجنوبية بشكل خاص.
4. التحرر من قيود الحلفاء والشركاء 
رغم اهتمامها الشديد بإنجاز خططها تحت غطاء التحالفات والشراكات الإقليمية والدولية، إلا أن روسيا تسعى باستمرار إلى التخلص من أكبر قدر ممكن من القيود المفروضة عليها من قبل الحلفاء مثل إيران، بل تسعى بشكل خاص إلى تقليص نفوذ إيران لحساب تعظيم نفوذها من جهة، ولإرضاء بعض الفاعلين في الملف السوري من جهة أخرى، وهو ما يحظى بالفعل بقبول وثقة عالية من قبل بعض دول المنطقة وعلى رأسها السعودية، ويحظى أيضاً برضى إسرائيلي واضح، ويتجلى ذلك في كون إسرائيل طرفاً غير معلن في اتفاق خفض التصعيد المتعلق بالمنطقة الجنوبية.
ولا تقتصر سياسة روسيا في التملص من القيود على الحلفاء، بل تشمل شركاءها أيضاً في هذه الاتفاقات، فرغم أن تركيا طرف في اتفاق "أستانا 4" المؤسّس لاتفاق خفض التصعيد، إلا أن المسار التطبيقي للاتفاق يبتعد تدريجياً عن مصالح أنقرة، ويشهد اقتراباً أكبر من خصومها الإقليميين، مثل مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي.
ورغم أن الاتفاق يمنح تركيا تفويضاً مساوياً للتفويض الذي تملكه روسيا لإرسال قوات برية لها لمراقبة مناطق خفض التصعيد، إلاّ أن روسيا تمكّنت من إنتاج اتفاقاتها الفرعية التي لم تُبق لتركيا عملياً سوى إدلب، والتي تواجه فيها أزمة كبيرة بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على المحافظة بالكامل، بما يفتح المجال أمام جميع الأطراف، بما فيها الولايات المتحدة وروسيا والنظام، لاستهداف المحافظة في أي وقت ضمن متطلبات ذات الاتفاق الذي يُعطي تركيا الولاية على المحافظة. 

الرابحون والخاسرون
رغم أن اتفاق "خفض التصعيد" ليس إلا محطة في قطار الإستراتيجية الروسية ومد النفوذ الروسي في عموم سورية، فإنه لا بد لنا من الإقرار أيضاً بأنها محطة فارقة، وشهدت تبدلات نوعية، وتوحي بأن ما بعدها لن يشبه ما قبلها، ويعنينا من ذلك أن نعرج على قائمة الرابحين وقائمة الخاسرين من هذا الاتفاق وحجم الربح والخسارة.
1. الفاعلون الدوليون
روسيا

تُعدّ روسيا بلا شك أكبر الرابحين من الاتفاق، فهو يحقق أهدافها المعلنة وغير المعلنة على نحو فعال، فقد حصلت على موافقة أمريكية معلنة لأول مرة في عهد ترامب على بعض سياساتها في سورية بعيداً عن قتال تنظيم "داعش"، فضلاً عن إقامة شراكة عملية طال انتظارها مع إدارة ترامب، التي تواجه اتهامات وضغوطاً متصاعدة بشأن علاقات سرية تربطها بالكرملين، وتأثير الأخير المحتمل في فوز ترامب بانتخابات الرئاسة.
وحصلت روسيا أيضاً على شرعنة دولية لانتشار قواتها في سورية وإقامة مراكز ومقرات ثابتة لها على خطوط الاشتباك، ما يعني اكتمال استحواذها على القرار العسكري للنظام، وتقليص النفوذ الإيراني العسكري إلى أبعد حد وحصره في منطقة القلمون، التي لم يشملها "خفض التصعيد". 
إسرائيل
تعد إسرائيل الحاضر الغائب في اتفاقات خفض التصعيد، بشكل خاص اتفاق الجنوب، وهي المنطقة التي تنظر إليها باعتبارها جزءاً مهماً من الجبهة الشمالية، وقد تحولت إلى مصدر قلق كبير لها في الآونة الأخيرة، حيث شهدت قصفاً على طرفي الحدود وإطلاق نار متبادل، ولذلك فإن اتفاق خفض التصعيد يمثل تحييداً لجبهةٍ كان من المحتمل أن تشتعل في أي لحظة.
يضاف إلى ذلك تحقيق مصلحتها في إبعاد إيران ونفوذها عن المنطقة، كي لا تقع تحت طائلة الابتزاز الإيراني؛ وكي لا تضطر للدخول في مساومات لاحقة مع طهران.
إيران
تعدّ إيران من أهم الخاسرين في سياسة روسيا لخفض التصعيد، وإن كان من الممكن أن تحصل على بعض الأرباح على المدى المتوسط والبعيد. فالأرباح الروسية جاءت بشكل رئيسي على حساب المكاسب الإيرانية على الأرض، وتفرض هذه الاتفاقات المزيد من القيود على إمكانية انتشار مليشياتها في العديد من المناطق والجبهات، كما تُقلّص من حصتها في قرار النظام العسكري والسياسي، وهي خسارة تصاعدية بدأت تتكبدها إيران منذ انطلاق التدخل الروسي.
وكون إيران طرفاً ضامناً في اتفاق أستانا لا يمنحها مزايا ميدانية سوى نشر قوات لها في بعض خطوط الاشتباك، وهي ميزة يبدو أن روسيا صادرتها عملياً؛ انسجاماً مع سياستها العامة تجاه النفوذ الإيراني. وتنطلق روسيا في مفاوضاتها مع إيران من منطلق أن كلا البلدين يتواجدان في نفس المعسكر، ولا بد لأحدهما أن يقود الدفة، وينفرد بالقرار إذا لزم الأمر، مستندة إلى نفوذها الدولي (الفيتو بمجلس الأمن) وتفوّقها العسكري في سورية.
ولكن استمرار اتفاق وقف التصعيد على أساس "لا غالب ولا مغلوب"، أو على أساس استمرار النظام برأسه الحالي حتى انتهاء المرحلة الانتقالية، واستمراره بعدها برأس آخر أو بتركيبة تكون إيران جزءاً من تكوينها، يعني انتصاراً جزئياً لخيارات إيران، وإن كان الشكل النهائي للحل لا يبدو قريباً البتة من التصور الإيراني المفضل.
تركيا
تعدّ تركيا في الشكل الظاهر للاتفاقات الأخيرة من الخاسرين في الوقت الراهن في هذه الاتفاقات، وإن كانت تحقق مكاسب على المدى الطويل. فالتطبيق العملي للسياسة الروسية في خفض التصعيد أخرج موسكو من التزاماتها السابقة مع أنقرة، وفرّغ اتفاق "أستانا 4" من جزء أساسي من محتواه، والقائم على وجود تركيا كدولة ضامنة في كل مناطق خفض التصعيد، كما أن اتفاقات وقف التصعيد تميل بالمجمل لصالح روسيا على حساب تركيا وإيران، ومن ثم فإن تركيا أمام تحد كبير في الأيام والأسابيع القادمة لكي لا تكون أحد أكبر الخاسرين من تطبيق الاتفاق.
وعلى المدى البعيد، فإن استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية في سورية يؤدي إلى تأثيرات مباشرة وعميقة على الصعيد التركي الداخلي، خاصة إذ توقف قدوم اللاجئين، ثم بدأت عودة اللاجئين إلى بيوتهم.
كما أن تجميد الصراع يعني تراجع احتمال تحول مناطق الإدارة الذاتية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي إلى كيان مستقل أو مشروع دولة مستقبلية، رغم أن اتفاقات خفض التصعيد لا تشمل المناطق الكردية مبدئياً، إلا أن تركيا تُعوّل على أن توغلها داخل سورية من جهة ريف حلب الشمالي وريفها الجنوبي الشرقي بالإضافة إلى محافظة إدلب، بموجب اتفاق خفض التصعيد، سيمكنها من امتلاك أدوات جديدة لمنع قيام دولة كردية.
لكن الخسارة التركية الظاهرة يمكن أن تكون مكسباً إذا كانت تركيا قد تخلّت عن مكاسبها التي أقرها اتفاق الأستانة بالتوافق مع موسكو، مقابل ملفات أخرى في الشأن السوري أو في غيره، مثل الحصول على صواريخ S400 الروسية. ويتعزّز هذا الاحتمال بغياب الاحتجاج التركي المعلن على أي من الاتفاقات الموقعة، أو الإعلان عن نيتها التخلي عن مسار الأستانة. كما أن تركيا لم تُبد رغبتها في أي وقت في الدخول العسكري كقوة فصل في أي منطقة، لما يُرتب عليها ذلك من أعباء سياسية وأمنية وعكسرية، وبالتالي فإنّ من المرجح أن اتفاقاً بينيّاً قد جرى بين الطرفين الروسي والتركي تخلّى الأخير بموجبه عن مكتسباته في مناطق خفض التصعيد مقابل عوائد أخرى. 
الولايات المتحدة
لا يبدو تقدير الخسائر أو المكاسب الأمريكية مما يجري في سورية يسيراً، مقارنة مع كل الفاعلين الآخرين. ولا يعود هذا الأمر إلى ضبابية المشهد السوري، بقدر ما يعود لضبابية الموقف الأمريكي نفسه، وعدم وضوح المصالح الأمريكية الراهنة في سورية، وانقسام مؤسساتها حول السياسة الأمثل في هذا البلد.
الثابت أن الإستراتيجية الأمريكية العامة بشأن سورية، والتي تتمحور حول المصالح الأمريكية خارج سورية، لم تُمس عبر الاتفاق الأخير، بما في ذلك الوجود العسكري الأمريكي في المناطق الكردية ومنطقة البادية، بل إن بعض المصالح الأمريكية خارج سورية شهدت مكاسب بواسطة هذا الاتفاق، مثل مصلحة أمن إسرائيل، وتقليص نفوذ إيران إلى أبعد حد منذ بدء الصراع في سورية، وتضييق نطاق مكاسب الحليف التركي "المتمرد" بأكبر قدر ممكن.
كما يُحقق الاتفاق الرؤية الأمريكية بضرورة توحيد جهود كل الأطراف الفاعلة في سورية ضد تنظيم "داعش" و"هيئة تحرير الشام" والتنظيمات الأخرى المصنفة على لوائح الإرهاب، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون عندما علّق على المباحثات بين بلاده وروسيا بشأن اتفاق خفض التصعيد بالقول: "ندعو جميع الأطراف، بما في ذلك الحكومة السورية وحلفاؤها، وقوات المعارضة السورية، وقوات التحالف التي تخوض معركة ضد داعش، لتجنّب الصدام مع بعضها البعض، والالتزام بحدود جغرافية متفق عليها لمناطق خفض التصعيد"(2) .
وبذلك تتحقّق الرؤية الأمريكية لحل الصراع السوري على أساس مشابه إلى حد كبير الأساس الذي بنيت عليه الرؤية الروسية بضرورة إيلاء محاربة التطرف والإرهاب الأولوية المطلقة على حساب حقوق الشعوب وتطلعاتها بالديمقراطية والحرية، وفي أحسن الأحوال، استخدام الثانية كأداة (لا كهدف) في وجه الأولى.
مصر
تحولت مصر بموجب الاتفاق الميداني المباشر بين روسيا وفصائل المعارضة المسلحة إلى طرفٍ وسيط، وأوجدت لنفسها موطئ قدم في المعادلة السورية، بعدما حصلت على وصف الوسيط واحتضنت المفاوضات المتعلقة بالغوطة الشرقية ومنطقة ريف حمص الشمالي، وقد يُتاح لها أن ترسل قوات عسكرية للمشاركة في مراقبة تطبيق الاتفاق، وبذلك تكون قد حازت مكسباً مضاعفاً، فمن جهة منحها الاتفاق وضعاً أفضل من وضع الحليف شبه المعلن لنظام الأسد دون القدرة على لعب دور أكبر من دعمه بصورة رمزية، ومن جهة أخرى أضفى الاتفاق قدراً من الشرعية على وجود قواتها العسكرية في سورية، من دون أن إزعاج حلفائها الخليجيين.
الأردن
مكّن اتفاق خفض التصعيد الخاص بالمنطقة الجنوبية الأردنَ من تحقيق عدّة أهداف استراتيجية، فهو من جهة ضمن من الروس إبعاد الميليشيات الإيرانية وجيش النظام عن حدوده، كما ضمن حماية فصائل المعارضة التي يرعاها من التعرّض للاستهداف كما حصل في فصائل الشمال. 
كما وفّر الاتفاق على ما يبدو صيغة لفتح معبر نصيب الحدودي، بشكل يُعفي الأردن من تبعات التعامل مع ترتيبات تخالف القانون الدولي، وتضمن في الوقت نفسه فتح الطريق الدولي بين دمشق وعمان، بما يسمح بإصلاح المرافق وحرية المرور والتنقل ودخول البضائع والمساعدات. لكن من الجدير ذكره أن التفصيلات المتعلقة باتفاق المنطقة الجنوبية لم تُنشر للعلن، وبالتالي فإنّ الحديث عن الترتيبات الخاصة بالمعبر ما زال في إطار التسريبات. 
2. الفاعلون المحليّون
المعارضة السورية
لا شك في أن المعارضة السورية بشقيها السياسي، متمثلة بالإئتلاف الوطني والهيئة العليا للتفاوض، وشقها العسكري، ممثلاً بفصائل المعارضة المسلحة هي الخاسر الأكبر من المسار الحالي للصراع، سياسياً وميدانياً، واتفاق خفض التصعيد ليس بعيداً عن هذا الواقع المفضي إلى انحسار السيطرة الميدانية وتآكل الشرعية الشعبية والثورية. 
ظهرت مؤسسات المعارضة السياسية في كل مسار الأستانة فاقدة للتأثير بأي شكل على الأرض، كما ظهرت منفصلة عن الحاضنة الشعبية في داخل سورية، واختارت دعم خيارات ذات سقف مرتفع لا تدعمها أي معطيات على الأرض، ولا تحقق رغبة السكان المحليين عموماً بالاستقرار ووقف الأعمال العدائية بحقّهم.  
أما فصائل المعارضة المسلحة التي لم تقبل بمسار الأستانة فإنّها خسرت المزيد من حضانتها الشعبية، بما فيها تلك المجموعات الرافضة لوقف التصعيد، حيث أن الفصائل ظهرت عاجرة عن تغيير الوقائع التي يفرضها المسار، وغير قادرة على القيام بأي أعمال عسكرية سوى تلك الموجّهة لفصائل معارضة أخرى. 
وشهد اتفاق خفض التصعيد في الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي صعوداً واضحاً لتيار الغد برئاسة أحمد الجربا، وهو حدث قد يعكس تحالفات إقليمية ومصالح دولية مشتركة أكثر منه صعوداً لتيار معارض. فتيار الجربا يعكس تقاطع مصالح كل من السعودية والإمارات ومصر وروسيا والولايات المتحدة، ومن غير المصادفة أن هذه الدول تدخل بمعظمها في قائمة الرابحين من اتفاقات خفض التصعيد.
ويأتي صعود تيار الغد، والذي يختلف رئيسه بشكل معلن مع رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، في ظل غياب تام للهيئة عن مسار خفض التصعيد، وفي ظل ما يبدو أنها محاولات لإنهاء الهيئة أو إعادة إنتاجه بصورة جديدة مختلفة عن صورته السابقة. 
نظام الأسد
ظهر نظام الأسد ضعيفاً ومجرداً من التأثير، مثله في ذلك مثل الفصائل المسلحة ومؤسسات المعارضة السياسية، حيث لم يتم إشراكه في ترتيبات التوصل إلى أي من الاتفاقيات، كما أن هذه الاتفاقات تُقرّ بإرادة روسية انتزاع سلطته من مناطق خفض التصعيد، حيث لا تستطيع قواته ولا حتى شرطته دخولها، لأنه مناطق محمية روسياً.  
ورغم أن التطورات المتسارعة تبدو للمراقب البعيد وكأنها لصالح نظام الأسد، إلا أن الواقع يُشير إلى تحوّل نظام الأسد كمؤسسة (كما نعرفها قبل عام 2011) إلى فاعل محدود الأهمية في الساحة، وإن كان نظام الأسد كواجهة يبدو في وضع هو الأفضل منذ عام 2011. 
وفي ظل تبلور الدور الروسي في سورية واتضاح نوايا موسكو بشأن بقائها طويل الأمد في سورية، وجديتها في امتلاك قرار السلم والحرب ونزعه نهائياً من يد الحليف الإيراني، فإن نظام الأسد فقد قدرته على استثمار أية مكاسب لمصلحته، وتحول إلى جزء لا يتجزأ من إستراتيجية أكبر منه، تقودها روسيا.
ومع هذا فإنّ اتفاقات خفض التصعيد تمنح النظام فسحة أمل بعودة حالة من الاستقرار، تمكّنه من إعادة ترتيب بيته الداخلي، واستجماع قوته التي أنهكتها المعارك على جبهات متعددة، والتركيز بشكل أكبر على إعادة التموضع السياسي والدبلوماسي.

 

المراجع:

1- النص الرسمي لاتفاق مناطق خفض التصعيد، روسيا اليوم، 6/5/2017 

2- فرانس 24 في 6/7/2017