رمزيّات مزدحمة.. قراءة في مقتل سليماني وجنازته
يناير 21, 2020 1979

رمزيّات مزدحمة.. قراءة في مقتل سليماني وجنازته

حجم الخط

رمزيّات مزدحمة.. قراءة في مقتل سليماني وجنازته

الباحث عرابي عبد الحي عرابي

يستحضرُ مقتل قائد الحرس الثوري الإيرانيّ قاسم سليماني الإشارات والتحليلات التي أثارها الباحث الإيراني ولي نصر في كتابه "صحوة الشيعة"، والذي خصّصه لرصد آثار الصراعات الطائفيّة في رسم مستقبل المنطقة، حيث أكّد فيه على أن صعود المدّ الشيعيّ إثر احتلال العراق سيكون بدايةً لتنافس محمومٍ على توسيع مناطق النفوذ الإيرانيّة في المنطقة، وهو ما تحقق لاحقًا من خلال الأذرع الإيرانيّة والميليشيات الموالية لها التي باتت تحكم اليمن ولبنان وتتغلغل في أجهزة النظام السوريّ وجغرافيّة سيطرته في سوريّة.
هذا المدخل المهمّ الذي ذكره نصر يذكّرنا بسعي الآلة الإعلاميّة الإيران المحموم طوال سنوات الثورة السوريّة لاستحضار رمزيّات الطائفة الشيعيّة، مبرِّرًا ومسوّغًا في استمرار حملاتها العسكريّة الداعمة للنظام السوريّ وسبيلاً فعّالاً لتجنيد المزيد من أبناء الطوائف الشيعيّة في الميليشيات التي تدعمها في سوريّة والعراق ولبنان واليمن، حيث يعزز الإعلام الإيراني حضور المقاتل والقتيل الشيعيّ في سوريّة باعتباره "مدافعًا عن الضريح" أي ضريح السيدة زينب "المقدّس" في دمشق.
في الحادي عشر من آب/أغسطس عام 2017 أصدر تنظيم الدولة في سوريّة تسجيلًا مصوّرًا يظهر عمليّة إعدام "محسن حججي" أحد القادة الميدانيين في الحرس الثوري الإيرانيّ إثر أسره قرب معبر الوليد الحدودي، وقد صرّح الإعلام الإيرانيّ حينها بأوصاف كثيرة للقتيل إلا أن أبرزها كان وصفه بـ "المدافع عن مراقد أهل البيت". وههنا يجدر ذكر تأكيدات قاسم سليماني على مقام حججي العالي عند الله حين قال فيه: "من أجل تمجيد أهمّية مسألة معيّنة، يخلق الله أحياناً حادثة ما [..] لقد كان استشهاد حججي بمثابة تمجيد للتضحيات في سبيل الدفاع عن المقامات الشيعية المقدّسة". 
كان التكريم الرمزي حينها لحججي متمثِّلًا بانتشار صورة مرسومةٍ له ومن خلفه قاتله الذي قطع رأسه، بينما رُسمت أمامه صورة تعبيريّة للحسين بن عليٍّ وعن يمينه أخته زينب واقفان في استقباله حيث يفتح الحسين يديه لضمّ حججي إلى صدره دون أن يكون له رأس في استحضار مركّزٍ للشبه بين الحسين مقطوع الرأس وحججي الذي أعدمه "أعداء الحسين" بقطع رأسه. 


 
تكرّر استحضار صورة الحسين المستقبِل شهداء "الضريح" عدة مرات في الإعلام الإيرانيّ إلا أن الصورة التي نشرها حساب خامنئي على موقع المرشد العام الرسميّ إثر مقتل سليماني كانت أقوى حضورًا وتأثيرًا في الوعي الشعبي الشيعيّ حيث تظهر الصورة احتضان الحسين بن عليّ لقاسم سليماني الملطّخ بالدماء بعد ساعات من مقتله مذيِّلًا الصورة بالتعليق الآتي: 
"ها قد حلّق لواء الإسلام العظيم شامخ القامة إلى السماوات، لقد عانقت ليلة أمس أرواح الشهداء الطيّبة روح قاسم سليماني الطاهرة، إنّ سنوات من الجهاد الخالص والشّجاع في ساحات مقارعة شياطين وأشرار العالم، وأعوام من تمنّي الشّهادة في سبيل الله بلّغت أخيرًا سليماني العزيز هذه المنزلة الرفيعة إذ سُفكت دماؤه الطاهرة على يد أشقى أفراد البشر على وجه الأرض. 
إنّني أتقدّم بأسمى آيات التبريك لصاحب العصر والزّمان بقيّة الله الأعظم -أرواحنا فداه- ولروحه الطاهرة وأعزّي الشّعب الإيراني"

 
وههنا لا بد من التوقّف عند ربط هذه الصورة بالصورة التي نشرها الإعلام الإيراني، حيث يستقبل الحسين قاسم سليماني مرتديًا عمامته الخضراء ذات الريشتين والتي "قتل فيها" وخلف سليماني مجموعة من القتلى "الشيعة" الذين ماتوا أو قُتلوا قبل سليماني.
يؤكّد حضور هذه الأيقونات الشيعيّة على حركيّة الاستحضار الشيعي للرموز التاريخيّة فهي تعيد إنتاج الأيقونة بشكل مستمرّ بحسب العوامل والمؤثرات المحيطة بالتوازي مع حضور الرسائل التي تريد السلطة الشيعيّة الدينيّة الحاكمة –مؤسسة ولاية الفقيه- إرسالها.
يشهدُ حضور الرمز أو الأيقونة في الفنّ الدينيّ الشيعي مستويان من التوجيه، أوّلهما "مادّي" يستهدفُ إفهام المتديّن بالطقوس والشعائر والمعاني الفكريّة والثقافيّة، بينما يصاغ التوجيه الثاني لإنشاء الطقوس المستمرّة وأساليب الحياة وقواعد التعامل التي تعبّر عن روح الجماعة، ولذا فإن حضور هذه الرموز في تشييع سليماني –باعتباره قائدًا ملهمًا ومقرّبًا من مؤسسة المرشد- يوضّح مدى الترابط الناجح في الدعاية الإيرانيّة التي تجعل من الرمز الديني خطًّا يتوازن فيه الجانب المادّي والمعنويّ وبابًا –معرفيًّا- لفهم روح "الجماعة" التي تستهدفها تلك الدعاية. 
يعرَف عن الوليّ الفقيه وصوله لرتبة الاجتهاد المطلق؛ ولذا فإنه يُعامَل معاملة الإمام المعصوم، ومن ثمّ فإنّ حضور قاسم سليماني بهذا المستوى من الاستقبال والعناق مع الحسين –رمز الشهادة والعصمة- تضفي عليه رتبةً عاليةً من التقديس وتستحضر أقسى واقعةٍ دمويّة تؤسس لمظلوميّة الشيعة تاريخيًّا؛ الأمر الذي قابله مشيّعو سليماني برفع الراية الحمراء التي تستحضر رايات حركة التوّابين التي رفعها المختار الثقفي وأتباعه للمطالبة بثأر الحسين، كما أنها في الآن ذاته تشير إلى ارتقاء سليماني لمصافّ الأئمّة المعصومين حيث تساوي قصّة شهادته شهادة الحسين في واقعة كربلاء، وقد عزّز هذا الترميز حضورُ صُورِ يد سليماني المقطوعة الكثيف في تذكيرٍ مستمرٍّ وواضح بيد أبي الفضل العبّاس التي قُطِعت يده في الموقعة ذاتها.
انطلقت مسيرات التشييع الغفيرة والمليونيّة في أهم المُدُن العراقيّة والإيرانيّة مثل بغداد وكربلاء والنجف والأحواز وقُم ومشهد وكرمان –مسقط رأس سليماني- التي شهدت حالة تدافع في جنازته راح ضحيتها سقوط عشرات القتلى والجرحى مما يشير إلى نجاح النظام الإيراني بتحويل سليماني من رتبة عسكريّة ترأس مؤسسة عسكرية إلى رتبة دينيّة مقدّسة يتدافع الناس لتشييعها والتبرّك بنعشها.


زينب الباحثة عن الثأر
كان التركيز الأبرز من بين أولاد سليماني على ابنته زينب التي خاطبت الرئيس الإيراني حسن روحاني بإصرار بقولها: من سينتقم لمقتل أبي؟
ويزداد التركيز بشكل أوضح عندما تقف زينب لتلقي كلمة أسرتها أثناء تشييع والدها لتطالب بالثأر، في تعمّد واضحٍ لاستحضار مشهد زينب بنت عليّ وهي تخطب أمام يزيد بن معاوية وتهجوه وتتعهّده بالثأر وإزالة دولته وإنهاء حكمه، وهو الأمر ذاته الذي تعمّدت قصده زينب بنت سليماني حين خاطبت آلاف المصلين حاملةً سلاحها تتعهّد بالثأر لمقتل والدها وتتوعّد الرئيس الأمريكيّ والدول التي تستهدف إيران بأيام سوداء.
لقد شكّلت حادثة اغتيال سليماني ميدانًا لإظهار مدى القدرة على الحركيّة والانتقال داخل النظام الرمزيّ للتصاوير الشيعيّة واستغلال أنماطها وإشاراتها المختلفة لدعم توجّهات المؤسسة الدينيّة الحاكمة في إيران، عبر تحويل هذه الرموز من رموز دينيّة إلى رموزٍ مقاصديّة، وهو ما أظهرته الاستحضارات المتكرّرة والمختلفة في وسائل الإعلام الإيرانيّة في إطار رسائلها المتعمّدة في تصوير رتبة الشهادة التي نالها سليماني وما تلا ذلك من تشييعٍ شعبي وحضورٍ لابنته في خطاب التأبين الخاص بدفنه.