انسحاب الولايات المتحدة من سورية
نوفمبر 20, 2019 1457

انسحاب الولايات المتحدة من سورية

حجم الخط

مقدّمة:
في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية إخلاء قاعدتين عسكريتين لها كانتا تتمركزان شمال شرق سورية، ويتواجد فيهما حوالي 50 جندياً من قوات العمليات الخاصة. عزا البنتاغون القرار إلى الرغبة بعدم حصول اشتباك وتصادم مع القوات التركية التي توشك على شنّ عملية عسكرية حملت اسم نبع السلام.
كانت تلك أوّل مرّة تقوم فيها الولايات المتحدة بإخلاء مواقعها بشكل كامل من مناطق تمركزها في سورية، منذ إعلان الرئيس دونالد ترامب في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018، عزمه الانسحاب من سورية بعد انتهاء المهمة الرئيسية التي جاءت لأجلها قوات بلاده وهي القضاء على تنظيم داعش. 
علماً أنّ القوات الأمريكية كانت قد بدأت بتخفيض تواجدها في سورية منذ 11 كانون الثاني/ يناير 2019، في إطار تطبيق القرار الصادر عن الرئيس دونالد ترامب. لكن ذلك لم يؤثر على انتشار القواعد الأمريكية.
وفي 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، عاد الرئيس دونالد ترامب ليعطي أوامر لوزارة الدفاع بسحب حوالي ألف جندي من شمال سورية. 
كان انتشار القوات الأمريكية في سورية يندرج في إطار الجهود التي بذلتها واشنطن لمكافحة تنظيم داعش، ورغم أنّ الرئيس السابق باراك أوباما لطالما أكّد عدم عزم بلاده إرسال قوات إلى سورية، إلّا أنّ استلام دونالد ترامب إدارة البيت الأبيض عكس توجّها نسبيّاً لانخراط عسكري مباشر في الصراع، وهو ما لبث أن تغّير بعد انتهاء المهمة التي جاءت لأجلها القوات الأمريكية. 

أولاً: خارطة الانتشار العسكري الأمريكي في سورية  
في الفترة الممتدة بين نهاية عام 2015 ونهاية عام 2018، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بنشر قوّات في سورية وصل عددها إلى 2130 جندّياً، متوزّعين على 23 موقعاً تم استخدامها كقواعد ونقاط عسكرية، 8 منها في محافظة حلب، 5 في محافظة الرقّة، 5 في محافظة الحسكة و4 في محافظة دير الزور، وواحدة في التنف عند المثلث الحدودي بين سورية والعراق والأردن. 
وفيما يلي جدولين يوضّحان انتشار القوات الأمريكية في سورية والمهام التي حملتها والمناطق التي تمركزت فيها قبيل إعلان الانسحاب وبدء إجراءات تنفيذ العملية: 

ومنذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وبالتزامن مع انطلاق عملية نبع السلام التركية، بدأت القوات الأمريكية بإخلاء مواقعها العسكرية من محافظات حلب والرقّة ليصبح تواجدها مختصراً أو مركّزاً على محافظتي الحسكة ودير الزور، وحتى 4 تشرين الثاني/ نوفمبر تم إنشاء قاعدتين إضافيتين في هذه الأخيرة، وسحب كامل القواعد والجنود من محافظة حلب والإبقاء على موقعين في محافظة الرقّة، ودون إجراء أي تغيير للوضع في ثكنة التنف عند المثلث الحدودي. 
جاء ذلك بعد قرار جديد من الرئيس دونالد ترامب عدّل فيه من طبيعة المهمة العسكرية للقوات الأمريكية، لكن دون تغيير في رغبته بتخفيض عدد الجنود إلى حدود ألف شخص. فيما تم إرسال تعزيزات كبيرة إلى مواقع عسكرية ذات طبيعة قتالية أكثر من كونها دفاعية – استشارية.  

ثانياً: الإطار العام لأهداف التواجد الأمريكي في سورية  
منذ تدخل الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً في سورية، كانت هناك عدّة تحرّكات تحدد إطار الأهداف الاستراتيجية لتواجدها، هذا بغض النظر عن الاختلاف في آليات التنفيذ بين إدارتي أوباما وترامب، فكلاهما أوليا اهتماماً كبيراً بضرورة الانسحاب العسكري مع انتهاء المهمة التي جاءت لأجلها القوات. 
1. مكافحة الإرهاب: غالباً ما وجدت الولايات المتحدة أنّ قرار الانسحاب من العراق عام 2011، لم يكن يضمن تماماً عدم عودة التنظيمات الجهاديّة بصورة أكثر عنفاً ونفوذاً، فقد ساهم ذلك القرار في تهيئة الظروف لولادة تنظيم داعش في عام 2014. في الواقع، إنًّ عودة أمريكا إلى العراق وتأسيس وجود لها في سورية بدعوى مكافحة الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش وضمان عدم عودته يحمل في مضمونه عدداً من النقاط: 
مكافحة المخاطر التي يحملها إعلان تأسيس دولة يقودها الجهاديون واحتمال عودتها مجدداً، وتداعيات ذلك على حالة الانهيار التي يمرّ بها النظام الإقليمي في المنطقة. 
معالجة الأسباب السياسية التي دعت إلى عودة التنظيمات الجهادية بصورة جديدة، من ناحية إعادة الثقة للعلاقات الدولية المتزعزعة في بنيتها عبر تشكيل التحالف الدولي، ومن ناحية غياب الاستقرار الفعلي في بنية الأنظمة السياسية، إذ كان لا بدّ من الاعتماد على شركاء محليين في محاربة تلك التنظيمات مجدداً. 
إيجاد آلية ملائمة للتعامل مع تدفق الجهاديين إلى المنطقة ومحاكمتهم بطريقة تضمن عدم مساهمتهم في إلحاق مخاطر على أمن الولايات المتحدة مستقبلاً داخل وخارج أراضيها. 
2. ضمان الأمن الإقليمي: وجدت الولايات المتحدة في أغلب الظن ضرورة عودتها إلى المنطقة بصورة مباشرة لضمان إعادة الاستقرار إلى بنية النظام الإقليمي، إذ لا يُمكن مجرّد الاعتماد على قدرتها ونفوذها في عملية التأثير والتغيير، في ظل الانهيار الذي تعرّضت له الدولة السورية وهشاشة النظام السياسي الحاكم فيها، وتنامي رغبة الدول الإقليمية في توسيع هيمنتها ونفوذها. 
ولضمان الأمن الإقليمي كان لا بد من تواجد عسكري مباشر يضمن ممارسة مزيد من النفوذ من أجل التأثير في العملية السياسية وإحداث التوازن بين سياسات وواقع النظم الإقليمية والمحلية. 
3. حماية الأمن القومي الإسرائيلي: منذ تدخل الولايات المتحدة عسكرياً في سورية أولى المسؤولون الأمريكيون اهتماماً رئيسياً بربط أهداف التواجد العسكري بحماية الأمن القومي الإسرائيلي، وكان ذلك هاجساً يسبق التدخل، حيث برزت مخاوف من أن يؤدي انسحاب القوات الأمريكية عام 2011 إلى التأثير سلباً على الأمن القومي لإسرائيل في ظل الظروف التي تمرّ بها المنطقة لا سيما من ناحية المخاطر القادمة من أنشطة إيران. 
4. تقويض واحتواء أنشطة إيران: مع أنّ المهمة التي تم تشكيل التحالف الدولي على أساسها لم تشمل أنشطة إيران في المنطقة، إلّا أنّ سلوك الولايات المتحدة في سورية كان يوحي بوجود ذلك على قائمة أهدافها، وعملت على إعاقة قيام خط إمداد بريّ تابع لها يمتد من طهران حتى بيروت، وقالت مراراً إن تواجدها في قاعدة التنف مقترنٌ بمكافحة أنشطة إيران. 
في الواقع، تعكس أنشطة إيران خطراً على النظام الأمني الإقليمي من طرف وعلى أمن إسرائيل من طرف آخر. ويُمكن الاعتقاد أنّ واشنطن اعتمدت على تواجدها في سورية عام 2015 لممارسة دور دبلوماسي أكبر في إخضاع إيران إلى الاتفاق النووي واحتواء أنشطتها عبره. لكن مع قدوم إدارة ترامب التي أعلنت الانسحاب من الاتفاق في 2018، عاد الحديث عن ربط بقاء القوات الأمريكية في سورية بضرورة مكافحة أنشطة إيران في المنطقة.
 
ثالثاً: ما وراء مقاربة الانسحاب الأمريكي من سورية  
في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، عاد الرئيس دونالد ترامب ليغيّر من توجهه السابق الذي أعلن عنه قبل أسبوع والذي يدعو فيه إلى انسحاب القوات الأمريكية من سورية باتجاه العراق، حيث قال إنّ مهمة بلاده في سورية سوف تكون لحماية آبار النفط في المرحلة المقبلة وحرمان تنظيم داعش والنظام السوري وحلفائه من الاستفادة منه. حينها تم أيضاً كشف النقاب –بشكل غير رسمي- عن خطة أمريكية لإعادة الانتشار في سورية ضمن مهمة جديدة أبرز ما جاء فيها:
• الإبقاء على عدد قوات ما بين 600 و1000 في شرق سورية لحماية آبار النفط بما يضمن دعم المقاتلين الأكراد وحرمان النظام السوري وحلفائه من عائداته. 
• الإبقاء على ثكنة التنف عند المثلث الحدودي ودعم المعارضة السورية العاملة فيها ضد تنظيم داعش.
• الإبقاء على سيطرة التحالف الدولي على أجواء شرق سورية.
• الإبقاء على مذكّرة منع الاحتكاك مع روسيا مع احتمال بحث تعديلها. 
• بحث مقترح توفير حماية دولية وقوات خاصة لسجون تتضمن عناصر داعش. 
في الحقيقية، تتبنى الولايات المتحدة منذ ولاية أوباما مقاربةً تقوم على تنفيذ انسحاب من منطقة الشرق الأوسط التي تغوص في صراع غير منتهي، مقابل تركيز استراتيجيتها وسياساتها نحو المحيط الهادئ حيث تبرز هناك قوة الصين على المستوى الإقليمي والعالمي لا سيما من الناحيتين الأمنية والاقتصادية. ولم تتغير هذه المقاربة في عهد الرئيس ترامب، بل زادت ترسخاً.
ورغم أنّ الولايات المتحدة قامت بإعادة قواتها إلى العراق والتدخل عسكرياً في سورية مع ظهور تنظيم داعش وإعلان الخلافة عام 2014، لكن الرئيس دونالد ترامب كان قد قدّم وعداً انتخابياً بالانسحاب من سورية والمنطقة مع انتهاء المهمة التي جاءت لأجلها القوات الأمريكية. 
إنّ قرار الانسحاب من سورية يُفترض أن يأخذ بعين الاعتبار وجود آليات تضمن تحقيق الإطار العام للأهداف التي تواجدت أو عادت لأجلها الولايات المتحدة، حتى لا يتكرر سيناريو الانسحاب من العراق، لكن ارتباكاً ما كان يحصل في تعاطي المؤسسات الأمريكية مع قرار الانسحاب، وهذا ما برز من خلال بعض التصريحات أو الأفعال المتضاربة التي أدّت إلى استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس في كانون الأول/ ديسمبر 2018. 
لكن ذلك الارتباك في تعاطي المؤسسات الأمريكية مع قرار الانسحاب قائم في الأصل على خلاف عميق على بعض القضايا وهي:
• ضمان الأمن الإقليمي: يوجد تياران، (داخل المؤسسات الأمريكية) أحدهما يرغب في التخلّص من كل الالتزامات التي لا طائل منها بما فيها حماية الأكراد والمصالح الأمنية الأوروبية في سورية مقابل إلقاء مسؤولية حماية النظام الأمني الإقليمي على تركيا، والآخر يرى ضرورة تحقيق شيء من التوازن بين الطرفين حتى لا يتسبب ذلك في التشكيك بصورة وسمعة الولايات المتحدة في تعاملها مع حلفائها المحليين والدوليين. 
هذا عدا عن استثمار خصومها للمعلومات السرية التي تم توفيرها للحلفاء المحليين أثناء الحرب على الإرهاب، ويُقصد هنا التعاون المحتمل بين وحدات الحماية الكردية وروسيا التي سوف تعمل على الاستفادة منها في تطوير الآليات الخاصة بها.
• الجدوى من بقاء القوات الأمريكية: هناك إشارة دائمة وقد استخدمها على نحو مكثّف الرئيس دونالد ترامب، بأنّ بقاء القوات الأمريكية في سورية والشرق الأوسط يحمل معه المزيد من النفقات الكبيرة التي لا يجب أن تتحملها بعد بلاده، مع أنّ قسماً كبيراً من هذه الأموال يتم تغطيتها من الضرائب التي يدفعها التحالف الدولي ومن عوائد النفط السورية، هذا عدا عن كون تعداد الجنود الأمريكيين في سورية غير كبير مقارنة مع العراق وأفغانستان. 
ويبدو أنّ المشكلة تتعلق بالتكاليف الباهظة بشرياً ومالياً التي تترتب على التواجد الأمريكي ليست في سورية فحسب بل في المنطقة، لكن بالمقابل هناك من يحاجج داخل المؤسسات الأمريكية بأنّ الانسحاب الأمريكي بدل أن يخفّض التكاليف سوف يرفعها ما لم تكن هناك معالجة للانسحاب قائمة على الوضوح والانضباط.
وإذا لم يؤدّ وجود القوات الأمريكية في سورية لتغيير الظروف على الأرض وإنهاء النزاعات في المنطقة، فإنه لا يوجد ما يبعث على اليقين بأنّ انسحابها سوف يؤدي لتغيير تلك الوقائع بعد إتاحة المجال للقوى الإقليمية والدولية، ما لم يكن هناك التزام ومعاهدات حقيقية مع هذه الأخيرة تضمن مصالح الولايات المتحدة دون الاكتفاء بمجرد التهديد بالعقوبات الاقتصادية. 
• الانتخابات الرئاسية: من الواضح أنّ الرئيس دونالد ترامب يستخدم ملف الانسحاب من سورية والمنطقة مع قرب الانتخابات الرئاسية؛ من أجل تحصيل المزيد من المكاسب بتحقيق الوعود التي قدّمها خلال حملته الانتخابية الأولى. 
في الواقع، يعكس ما سبق وجود عواقب غير مرغوب فيها مترتبة على انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من سورية، سواءً كان ذلك بشكل سلس عبر تغيير المهمة وتخفيض عدد القوات أو بشكل سريع، وهي على النحو الآتي:
• تعثّر جهود ضمان عدم عودة تنظيم داعش: بسبب غياب آلية بديلة عن تلك التي تقوم بها القوات الأمريكية، وبالتالي عدم وجود جدوى فعلية في حالة تخفيض القوات في سورية أو عبر تحقيق الانسحاب الكامل بعد إيكال مهمة مكافحة الإرهاب لتركيا أو عبر تجديد مهمة التحالف الدولي بعد توسيع دور الدول الأعضاء لا سيما الأوروبيين. 
• استمرار الخلل في النظام الأمني الإقليمي: نتيجة غياب الاستراتيجية الفعالة لتحقيق التوازن بين مصالح الحلفاء المحليين والإقليميين. 
 
خلاصة
من الواضح أنّ الولايات المتحدة تتجه شيئاً فشيئاً لتخفيض التزاماتها في سورية، لتحقيق الانسحاب النهائي من المنطقة، لكنها تجادل على الآليّة الأنسب وتهيئة الظروف الملائمة لضمان مصالحها الاستراتيجية. 
لكن العواقب المترتبة على هذا القرار، قد تدفع الولايات المتحدة إلى البحث عن خطوات موازية أو بديلة تساهم في خلق فرص جديدة لتنفيذ انسحاب سلس يضمن مصالحها الاستراتيجية، من قبيل تحقيق مزيد من التقدّم في مسار العملية السياسية بحيث تفضي لواقع وظروف جديدة على الأرض.