الحل السياسي بين جنيف والأستانة
يونيو 21, 2017 1420

الحل السياسي بين جنيف والأستانة

حجم الخط

محمد سرميني

مدير عام مركز جسور للدراسات

مدخل 
لم يكن تحوّل سورية إلى النفوذ الأجنبي مرتبطاً بالتدخل الروسي وقوات التحالف، ثم القوات التركية بعد ذلك. فقد بدأ هذا التدخل منذ العام الأول، وتحوّلت سورية عملياً إلى الوصاية الدولية في عام 2012، أي بعد عام من انطلاق الاحتجاجات الشعبية في سورية. 
بدأ التدخل الأجنبي بشكل أساسي بعد استدعاء النظام السوري للطرف الإيراني، بشكل سري في البداية ثم معلن بعد ذلك، وفي استعانة المعارضة بالخارج سياسياً في البداية، ثم عسكرياً بعد ذلك، حتى تحوّلت سورية منذ عام 2012 إلى ساحة لحروب الوكالة، حيث يُقدّم السوريون الكثير من الدماء والقليل من الإسهام في صنع القرار!.
وقد مثّل بيان جنيف الأول، والصادر في 30/6/2012، أي بعد 15 شهراً من بداية الثورة، التجلي الأبرز لهذا الوضع، حيث قرر الشريكان الأمريكي والروسي شكل الحل المناسب لسورية، دون مشاركة أو حتى تشاور مع أي طرف سوري. وأصبح هذا البيان خريطة طريق لمسار جنيف من بعد!. 

مسار جنيف: الحل المأمول! 
وشهد المسار تغيّرات عديدة في لقاءاته الأخيرة، فتوسّع الممثلون الذي يقابلون وفد النظام السوري، وتنوّعوا بشكل كبير، وأصبحت أعداد أكبر منهم مجرّد أفراد لا يزعمون أنهم يمثّلون فئة بعينها، ولا يزعمون قدرتهم على فرض الوقائع على أي بقعة مهما كانت صغيرة من سورية. 
لكن مخرجات هذا المسار، أو على الأقل ما يجري البحث فيه، يتّسم بحالة من الوردية على العموم، مقارنة مع الآخر الذي يجري في الأستانة. حيث يناقش جنيف قضايا مثل كتابة الدستور والعدالة الانتقالية والمحاسبة وحتى الانتخابات، في الوقت الذي يُكرّس فيه المجتمعون في الأستانة أوقاتهم لمناقشة وقف إطلاق النار اليوم، دون الكثير من الحديث عن شكل الدولة المقبل أو صورة الحل الذي سيأتي. 
وتمنح "ورديّة" مسار جنيف بُعداً أخلاقياً للجهود الدولية الباحثة عن حل في سورية. حيث لا يمكن للدول الفاعلة جميعاً أن تستنكف عن دعم الجهود لوقف جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والبحث عن حل للأزمات الإنسانية الناجمة عن هذه الجرائم، وأبرزها أزمة اللاجئين والنازحين، وهي الأكبر في العالم منذ الحرب العالمية الثانية!. 

مسار الأستانة: وقائع الميدان ترسم الحل الممكن 
يستند مسار الأستانة إلى المنظار الواقعي، فهو يبحث عن حل للحرب السورية ضمن وقائع الميدان الحالية، ويسعى إلى وقف الصراع في سورية بين كل الأطراف من أجل تهيئة الفرصة للبحث في شكل الحل السياسي وتفاصيله. 
وكما في مسار جنيف، انطلق مسار الأستانة من مدخل النفوذ الأجنبي، لكنه تعامل معه بشكل أكثر وضوح ومباشرة، فجعل الفاعلين الخارجيين جزءاً من عملية التفاوض بدلاً من الجلوس في بهو الاجتماعات وتوجيه الفاعلين المحليين، كما أقرّ هذا النفوذ وسعى إلى لاستثماره بشكل إيجابي، يسمح بتحويل الفاعلين في الحرب إلى صناعين للسلام. 
وعلى عكس جنيف، لم يهتم مسار آستانة كثيراً بتنويع المشاركين، وتمثيلهم الأيديولوجي والإثني والجندري، بقدر ما ركّز على فاعلية الأطراف المشاركة، وقدرتها على تنفيذ ما يتم التوقيع عليه، وتأثيرها الميداني منفردة ومجتمعة. 

أين تقف الأطراف الدولية من المسارين؟  
رغم النجاح المحدود الذي يُلاقيه مسار جنيف، إلا أنه استمر بشكل منتظم تقريباً من انطلاقته، ويبدو أنه سيفعل ذلك على المدى المتوسط. 
ولا يبدو أن أياً من الفاعلين راغباً في وقفه في الوقت الراهن، دون أن يكون أياً منهم أيضاً مستعداً للدفع باتجاه تحويل مخرجاته إلى وقائع سياسية!.
وبالمقابل، فإنّ مسار الأستانة يملك تأثيراً واقعياً مباشراً، حيث يتوقف إطلاق النار تبعاً لمقررات المسار، ويشعر السكان المحليون بهذه النتائج بشكل ملموس ومباشر. 
ورغم ما يحمل هذا المسار من طابع وشكل روسي، إلا أنه لا يبتعد كثيراً في أهدافه عن الرغبات الأمريكية، بل وربما كان أقرب في طروحاته إلى خارطة الطريق الأمريكية مقارنة مع مسار جنيف. فهو يسعى إلى وقف إطلاق النار، وتأمين مناطق هادئة، وتقسيم النفوذ بين المتنازعين، ويؤجّل النظر في الحل السياسي الكليّ. 
وبالمقابل، فإنّ الأطراف الإقليمية الرئيسية قد تختلف مصالحها بين المسارين، ففيما تميل تركيا –على سبيل المثال- إلى الأستانة، حيث تجد فيه مساحة للتحرك أكثر من مسار جنيف المزدحم بالفاعلين، فإنّ دول الخليج ومصر تمتلك قدرة المناورة والتأثير في مسار جنيف أكثر من مسار الأستانة. 

بين جنيف والأستانة: أي المسارين يملك القدرة على الحياة؟ 
لا يبدو مسار جنيف قابلاً للتطبيق على المدى المنظور، حيث لا تظهر في الأفق ملامح لإمكانية توصل موسكو وواشنطن لاتفاق حول حل كامل توافق عليه الأطراف الإقليمية أيضاً. 
وبالمقابل، يوفّر مسار الأستانة حالة الاستقرار وتوقف العنف، وهو مطلب دولي، ويحظى بإعجاب شعبي حتى من الأطراف التي ترفض مسار الأستانة وتتظاهر ضده. فوقف القتل اليومي سيسمح بعودة الحياة إلى المناطق المستهدفة، ويسمح للسكان فيها لاستعادة حالة شبه طبيعية من المعيشة، بعد سبع سنوات من نزيف الدم المستمر. 
ورغم أن عودة الحياة اليومية إلى طبيعتها لا يوصل إلى حل سياسي بذاته، إلا أن استقرار المناطق الهادئة سيسمح ببروز طبقة سياسية جديدة، ونشوء شبكة جديدة من المصالح، يضعف فيها المسلحون لصالح المؤسسات المدنية، بما يخلق مكونات سياسية جديدة ستنتجها مرحلة الاستقرار، لتكون عنواناً للمرحلة التالية كما كانت المكونات العسكرية التي أنتجتها مرحلة الصراع عنواناً لما سبق من مراحل. 
وسيمهّد بروز هذه المكونات الجديدة الطريق أمام شكل جديد من أشكال التفاوض المحلي والدولي بحثاً عن حل شامل، وهو ما يمكن أن يستغرق عاماً أو عامين بعد بدء الاستقرار واستمراره. 

 

* الورقة التي قدمها الأستاذ محمد سرميني المدير العام لمركز جسور للدراسات في ندوة "آفاق الحل السياسي في سورية" بالتعاون مع مركز كارنيغي في بيروت.

 

الباحثون