احتجاجات الساحل السوري دوافع التأجيج وعوامل الإخماد
يونيو 07, 2017 1622

احتجاجات الساحل السوري دوافع التأجيج وعوامل الإخماد

حجم الخط

مقدّمة:

بقي الساحل السوري خلال السنوات الست الماضيّة هادئاً نسبيّاً، حيث انحصرت المظاهرات المناوئة للنظام في مناطق محدودة قبل ان تختفي تحت ضغط عنف سلطة النظام وعوامل أخرى؛ كما انحصرت المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام بشريط ضيق على الحدود التركية. وساهم التدخل العسكري الروسي في تقلّص هذه المناطق بشكل كبير. 
ولم تشارك المناطق الساحليّة إجمالا في الحراك المعارض للنظام، بل إنها على العكس صدّرت مقاتلين شرسين لمواجهتها، حتى بات يطلق على سكانها "الحاضنة الشعبية للنظام" و"قاعدة النظام"، في تعميم يُقصد به عادة ادعاء حصرية العلويين في تأييد النظام دون غيرهم من السوريين. 
لكن عدم مشاركة المناطق الساحلية في الحراك المعارض الذي شهدته معظم المناطق السورية الأخرى لا يعني أنها مطلقة التأييد للنظام، ولا ينفي أنها شهدت احتجاجات معارضة أخرى، تختلف مع سابقتها في المطالب والاستراتيجية. 
ويتناول هذا التقرير الاحتمالات الممكنة لاحتجاجات أوسع في الساحل، والعوامل التي دفعت الناس في هذه المناطق للاحتجاج حتى الآن؛ والعوامل التي يمكن أن تدفعها للاحتجاج في المستقبل، العوامل التي يمكن بالمقابل أن تكبحها؛ وسبل تعامل سلطة الأسد مع الاحتجاجات التي تمت، وسبله لقطع الطريق على إمكانية حصول أخرى. كما سنحاول استشراف الوضع الأمني في الساحل السوري، الذي سيفرضه الحكم، للتعامل مع تداعيات انجاز تسوية على مستوى سورية على هؤلاء الذين دفعوا جزءاً كبيراً من تكلفة حربه من دمهم. وصولاً لتوصيات لمعارضة وطنية ديمقراطية بهذا الخصوص.

أولاً: مظاهر ممانعة العلويين للنظام في الساحل 2011-2016

شهدت المناطق الساحلية في عام 2011 مظاهرات شعبية معارضة، وكان أولها في مدينة بانياس في نهاية آذار/مارس 2011، تبعها حي الصليبة وحي الرمل الجنوبي في اللاذقية، ثم ريف اللاذقيّة الشمالي. كما خرجت مظاهرات تنادي بإسقاط النظام في طرطوس. 
تركّزت هذه المظاهرات في المناطق ذات الأغلبية السنية في هذه المحافظات، ولكن عشرات من العلويين شاركوا أيضاً في تلك المظاهرات. 
كما حاول الكثير من المعارضين السابقين للنظام من العلويين، إحداث خرق في حالة السكون الذي اجتاح البيئات العلويّة، وقام نشطاء علويون بصفتهم الطبقيّة، والعلمانيّة، بمحاولات عديدة لإنشاء تنظيمات ثائرة في الساحل السوري، كانت تلاحق بشدّة من نظام الأسد ومن عناصره، وفعالياته البعثيّة المنتشرة بكثرة في البيئات العلوية، ومنها حركة "نحل الساحل"، التي تعرّض بعض أفرادها للموت تحت التعذيب، وفرّ الباقون، والتي قامت بنشاطات، هدفت حينها لكسر هيبة النظام، والحث على الاندماج في الحراك المعارض، وأيضاً "حركة الشباب الثوري الثائر"، والكثير من النشاطات الفرديّة من معارضين علويين انضموا لتنسيقيات الثورة بشكل سريّ، وشاركوا في العديد من المظاهرات. 
وفي 24/3/2013 عُقد مؤتمر في القاهرة تحت شعار "كلنا سوريون معاً.. نحو وطن للجميع"، جمع حوالي 250 شخصية علوية معارضة للنظام السوري، والذي سعى بحسب المشاركين إلى سحب الشرعية من النظام باعتباره حامي الأقليات وخاصة العلوية والمسيحية، وأن المكان الطبيعي للعلويين هو مع الثورة(1) . وكان هذا المؤتمر من الأنشطة الهامة في عرض موقف الطائفة، حيث ضمّ شخصيات معروفة بأسمائها وصفاتها. 
وفي وثيقة حملت اسم "إعلان وثيقة إصلاح هوياتي" وصدرت يوم 3/4/2016، ألغى مَن قيل بأنهم زعماء من الطائفة العلوية أي ارتباط للطائفة بالشيعة، وقالوا بأنهم يؤمنون "بقيم المساواة والحرية والمواطنة"، ودعوا إلى إقامة نظام علماني في سورية مستقبلاً، يعيش فيه الإسلام والمسيحية وجميع الديانات سواسية، وأكّدوا على أن شرعية النظام "لا تكتسب إلا بمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان"، وأنه لا ينبغي تحميل العلويين "الجرائم التي ارتكبها النظام"، وأن العلويين "كانوا موجودين قبل نظام الأسد وسيبقون بعده(2)" . ولكن الوثيقة صدرت مغفلة من الأسماء. 
وبالمقابل، شهدت المناطق ذات الأغلبية العلوية في الساحل مظاهرات مؤيدة، طالبت النظام بوقف المظاهرات الأخرى باستخدام أقصى درجات العنف، وهدد المتظاهرون فيها بحرق البلد إن لم يبق الأسد!(3)
وبعيداً عن ثنائية الحراك المطالب بإسقاط الأسد والآخر الذي يهدد بحرق البلد من أجله، شهدت المناطق الساحلية ذات الأغلبية العلوية حركات احتجاجيّة تلقائيّة عديدة. وكان أهم هذه الحركات: 
1. إضراب العمال المؤقتين في معمل إسمنت طرطوس 
بدأت موجة إضرابات للعمال المؤقتين في معمل إسمنت طرطوس في عام 2015، وكانت خجولة في البداية، ولم يقتنع معظم العمال المؤقتين بمدى قدرتها على تحقيق مطالبهم، حيث كان الدافع الأساسي خلف هذه المطالب هو الضغط المادي الذي واجهه هؤلاء، نتيجة ارتفاع الأسعار الجنوني، وضعف رواتبهم بالمقارنة مع رواتب المثبتين، الضعيفة أصلاً، حيث لم تكن تتجاوز نصفها، في أحسن الحالات، وهناك عمال أمضوا فترات تتجاوز (15) عاماً وهم يعملون كمياومين (بدون عقود ثابتة)، مع الوعود التي كانت لا تنقطع من النظام، ومع خيباتهم التي استمرت طويلاً. في بادئ الأمر، بدأ المدراء والبعثيون في المعمل بتخوين هؤلاء، ومع ذلك لم تنقطع الاحتجاجات، حتى وصل الأمر لإيقاف المعمل عن العمل ذلك في 10/2/2015، حيث لم يكتف العمال بالإضراب، بل أجبروا المسؤولين على إيقاف الإنتاج بقطع الطرق داخل المؤسسة، والتعطيل المقصود لكل منافذ العمل (4).
تخلل هذه الاحتجاجات، صدامات كانت عنيفة أحياناً مع ممثلي النظام، كما تخللها نسف كامل لكل بربوغندا النظام القائمة على توصيف أعدائها بالخونة، والإرهابيين، والمتآمرين، حيث وصلت الحال ببعضهم، بالتهديد بانضمامه لداعش، أو النصرة إن لم يتم تثبيته، وهنا وإن كان الأمر مجرد تهديد أو كلام على منحى السخرية، إلّا أنّه يحمل في طياته سخريةً واضحةً من دعايات النظام ذاتها.
وقد انتهت هذه الاحتجاجات بتثبيت جميع المياومين في عقود عمل دائمة في معمل الاسمنت. 


2 ـ إضراب سائقي الحافلات على خط طرطوس الدريكيش
استيقظت طرطوس في اليوم الأول لعام 2016 على فراغ كامل في الكراج الجديد لخط طرطوس-الدريكيش، حيث بدأ هذا الإضراب دون ضجيج، وسارعت هيئات النظام الأمنيّة والبعثيّة لتدارك الأزمة، بالتواصل مع معظم السائقين وتقديم وعود بحل الأزمة، والتي نشأت بسبب الشحّ الكبير في مادة المازوت، وتشغيل باصات تابعة لرجل أعمال نافذ على الخط(5) .
عاد السائقون للعمل في اليوم التالي، بعد أن استطاع النظام تأمين حاجيات الحافلات من المازوت بآلية بعيدة عن محطات المحروقات، وأزماتها التي لا يمكن للنظام حلّها، نتيجة الفقد الكبير في المادة ومواد الطاقة في السوق السوريّة عموماً، حيث بدأ بتسيير صهاريج خاصّة بالحافلات إلى الكراجات، ومنذ ذلك الحين، أصبح سائقو الحافلات بمنأى نوعاً ما عن أزمات المازوت.
كما تشهد بعض خطوط النقل في الساحل السوري، موجات جزئية وبسيطة من الإضرابات للسائقين، قد تبدأ بعضها احتجاجاً على ضعف التسعيرة، أو على الشح في مادة المازوت.


3 ــ احتجاجات مقتل العقيد الشيخ في اللاذقيّة 
تقع مدينة اللاذقيّة بالقرب من مسقط رأس الأسد، وهذا ما جعل آل الأسد يجعلونها ملهاتهم الخاصّة، إذ إنهم يتصرفون في هذه المدينة وكأنّ كلّ شيء ملكهم، حتى بات سكانها يشعرون أنّهم تحت وطأة تهديد آل الأسد بأيّة للحظة. 
تفاقمت هذه الظاهرة بعد عام 2011، حيث بدأت المدينة تشهد تضخماً لسلطة آل الأسد في المدينة، وأصبح سليمان الأسد -ابن هلال الأسد الذي كان قائداً لميليشيا الدفاع الوطني في اللاذقيّة- أحد رموز التعسّف الذي مارسته العائلة تجاه أهالي المدينة. 
ازداد سلوك سليمان سوءاً بعد موت والده في حادث غامض، حيث بدأ بممارسة أعمال تعدّي على الممتلكات العامة والخاصة، وأعمال اعتداء جنسي، وانتهى به الأمر إلى قتل عقيد في جيش النظام، أمام زوجته وأطفاله، لأنّ الأخير تجاوزه على الطريق، وهذا ما أطلق موجة احتجاجات واسعة في اللاذقيّة  ابتداء من ليلة 7/8/2015(6)
اتّسمت الاحتجاجات برفع سقف الخطاب المعارض للنظام في وسط البيئة المصنّفة كبيئة مؤيدة بشكل مطلق. مما دفع النظام هو الآخر لاختراق المحظورات السياسية من خلال اعتقال سليمان الأسد يوم 10/8/2015، وتحويله للمحاكمة، والإعلان عن هذا الاعتقال والمحاكمة في وسائل الإعلام الرسمية(7) ، في حالة غير مسبوقة منذ استلام حافظ أسد للسلطة في بداية السبعينيات من القرن الماضي. 

4 ــ الإضرابات والاعتصامات الصغيرة 
ظهر اعتصام لأهالي الجنود في مطار كويرس العسكري، نهاية آب 2015، استمرّ لعدّة ساعات رفعت فيه صور الجنود المحاصرين الذي يرفض النظام تأمينهم، وحمايتهم بل يتركهم كطعم لقوّات المعارضة في ظروف خطيرة للغاية، وفي لا مبالاةٍ واضحة من نظام الأسد بحياة جنوده(8) .
مرّ هذا الاعتصام بسلام حيث استلم محافظ طرطوس عريضةً من الأهالي ووعدهم بتلبية مطالبهم. إلّا أنّ الإهمال وعدم الاكتراث بأهالي الجنود دفعهم لمعاودة الكرّة أسبوعيّاً أمام المحافظة مع دعواتهم المتكررة على صفحات التواصل الاجتماعي بمواصلة الضغط وزيادة عدد المعتصمين." 
تكررت بعدها العديد من الاعتصامات التي تطالب النظام بفك الحصار عن جنوده، أو التفاوض لإطلاق سراح الأسرى، خاصّة بعد تعويم قضيّة سجن حلب، أواخر العام 2015، حيث تظاهر العديد من أهالي طرطوس أمام المحافظة، حيث قدمت لهم وعود بالعمل على فك الحصار عم الجنود المحاصرين.
لم يقم النظام بالتفاوض لحد الآن بفك أسر جنود له مع أي فصيل مسلّح، بالرغم من العدد الكبير للأسرى، وانتهج سياسة رفض التفاوض على إطلاق سراح أي من جنود أو ضباطه حتى من العلويين، واقتصرت صفقات التبادل التي ضمّت بعضاً من جنوده الأسرى على تلك الصفقات التي تقوم بها جهات خارجية. وهذا الملف قد يكون من الملفات القابلة للانفجار بأي لحظة.

ثانياً: عوامل ظهور الاحتجاج في الساحل السوري

أفرزت سنوات الحرب في سورية الكثير من الظواهر، التي فرضت بدورها تغيرات إجباريّة على بنية النظام، وعلى العقيدة السياسيّة لدى الموالين؛ وبالتالي نشأت علاقة بين النظام وأهل الساحل، ليست علاقة جديدة، بل هي الابنة القسريّة للعلاقة السابقة، والتي قد تتحول بشكل دراماتيكي بأي لحظة، لأنها لا تحمل في طياتها بذور الاستقرار، فهي علاقة تتمتع باستقرار قلق، قد يؤدي حدث بسيط لفرط سلسلة من الأحداث، قد تغيّر وجه العلاقة بشكل كامل مما لاحظناه في الفقرة السابقة، فقد بدأت البيئة العلويّة تتحرر جزئيّاً أو كليّاً في بعض الأحيان، من قدسيّة العلاقة مع النظام، أو من قدسيّة رموزه، وانتقلت لعلاقة أكثر نديّة، قد تفتح المجال أمام حركات ممانعة لطرائق الحكم السابقة، أو قد تؤدي لظهور احتجاجات مطلبيّة، أو حتّى ثأريّة انقلابيّة على النظام برمته، ومن أبرز العوامل التي تدفع بهذا الاتجاه هي:
1ـ الخسائر البشرية الكبيرة
شهدت الفترة من 2013-2015 ارتفاعاً كبيراً في أعداد القتلى في صفوف الجنود العلويين الذين يقاتلون في صفوف النظام، ثم بدأ هذا العدد بالانخفاض تدريجياً في نهاية العام مع بدء التدخل الروسي. 
أدّت هذه الخسائر إلى خلق فجوة واضحة في التركيبة السكانيّة للعلويين في الساحل، حيث وصلت الخسائر في صفوف المقاتلين العلويين حسب بعض التقديرات إلى مئة ألف قتيل أو 10% من الشباب الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و45 عاماً(9) . ولا تشمل هذه الإحصائيات التقديرية مصابي الحرب ولا المفقودين، كما لا توجد أي دراسات لتقييم الأثر النفسي الذي تعرّض له معظم المقاتلين في الساحة السوريّة عموماً، ومقاتلي النظام، وذويهم، إضافةً لتغييب الشباب الكامل عن الحياة المدنيّة والاجتماعيّة، وعن العمل. وربما ستتفاقم هذه الأعراض بعد انتهاء الحرب. 
ورغم انخفاض أعداد القتلى العلويين في صفوف الجيش في العامين الآخرين، إلا أنّ التذمّر والنفور من النظام بين علويي الساحل ما زال مستمراً، حيث فقدت الكثير من الأسر معيلها دون أن تحصل على تعويض مناسب أو دخل يكفيهم مؤنة الفقر.
كما أن سردية النظام للمعركة تعرّضت هي الأخرى للاهتزاز العنيف وسط العلويين، والذين تلقّوا في البداية صورة عن حرب بين الدولة و"الإرهابيين"، وقدّمت المشاركة في ميليشيات الدفاع الوطني كرحلة التنمّر لتلقين "الإرهابيين درساً" بسهولة وببساطة، وهذا ما يفسّر الاندفاع لدى الشباب العلوي العاطل عن العمل في بداية الثورة باتجاه هذه الميليشيات، حيث كانت المسألة لدى أغلب المقاتلين لا تتعدى رحلة اغتنام سريعة، لكنّ خسائر النظام للعديد من المعارك في الفترة اللاحقة، بدأت تهزّ صورة النظام لدى العلويين، إلى أن وصلت لحالة الانحلال في أيامنا هذه، خاصّة بعد التسويات واتفاق وقف التصعيد.. الخ، والتي جعلت النظام يبدو بمظهر العاجز عن تحقيق نصر وعد النظام به أنصاره طيلة فترة الحرب مع المعارضة المسلحة.
وقد تعرّضت "ميليشيا الدفاع الوطني"، وهي الميليشيا الأم في الساحل، لما يشبه الانحلال التام، وأصبح الشبان المتخلفون عن أداء الخدمة العسكريّة، والتاركين للسلاح، والممتنعين عن السوق للاحتياط، ظاهرة كبيرة في الساحل، وتحولت حواجز النظام في الساحل السوري، لمصايد لهؤلاء الشبّان، الذين لاقوا احتضاناً من الأهالي، وتقبّلاً واسعاً لقرارهم بالفرار من الخدمة.

2ـ الفلتان الأمني وانتشار الفقر والمخدرات والأوبئة
انتشرت حالات السرقة، كثيراً في بيئات العلويين الريفيّة، وفي المدن، حيث تعرضت الكثير من المحال، والسيارات، والدراجات الناريّة المنتشرة بكثرة، للسرقات، وتشكلت عصابات، كان ينتمي معظم أفرادها لمليشيا الدفاع الوطني، وكان البعض من هذه العصابات تبيع مسروقاتها بشكل علني، ومنها عصابة (شادي ونوس) التي اشتكى منها أهالي الدريكيش، حيث كانوا يسرقون بشكل شبه علني، واحتاج النظام لقوّة عسكريّة لإيقافه، وماتزال مظاهر إطلاق النار العشوائي، والاشتباكات الصغيرة بين عناصر الميليشيات من الأشياء الدارجة في البيئة العلويّة، كما انتشرت ظاهرة رمي القنابل الصوتيّة، ورشق الطلقات لأدنى الأسباب.
كما انتشرت المخدرات بأنواعها بين الشباب، واشتغل في الاتجار بها النافذين في الدولة، وتحظى هذا التجارة بحصانة كبيرة، كما انتشرت ظاهرة المراهنات وألعاب القمار؛ كل هذه الظواهر أدّت لفقدان العلويين الثقة بالبيئة التي يعيشونها، وأدّت لحالة نفور عام من تراجع النظام عن مكافحة هذه الظواهر التي تستهدف أبناءهم بالدرجة الأولى.
هذه الممارسات أسهمت في إسقاط هيبة الدولة، وازدياد نقمة أهالي الساحل والعلويين تحديداً عليها، ولم يعد نظام الأسد قادراً على التباهي بدولة "الأمان" التي طالما ابتزّ مواليه بها.

3ـ غياب الإغراءات الماديّة لوظائف الدولة 
لم تعد وظيفة الدولة، تُدرّ دخلاً جيداً على الموظفين، مثلما كان الحال قبل عام 2011، حيث تضاعفت الأسعار قرابة عشرة أضعاف منذئذ، في حين زادت رواتب الموظفين قليلاً فقط، وهذا ما خلق فجوةً واضحةً في حياة الموظفين الحكوميين، والمتطوعين في الجيش، بين دخلهم الحقيقي قبل الثورة، ودخلهم الحالي، مما عكس حالة من ازدراء التوظيف، والتطوّع، الذي كان بمثابة حلم عند أغلب العلويين، وأصبحت بيئاتهم "المفقرة" سلفاً، ومداخيلهم الحرّة، أكبر بكثير من الدخل الحكومي، وهذا ما أدّى بالتالي، لبحث العلويين عن مصادر دخل مستقلّة عن الحكومة، فعاد الكثير من أهل الريف لتربية الماشية(10) ، بعد أن منعها نظام الأسد منذ ثمانينات القرن المنصرم، وبدأ سكان المدن، بالتركيز على قطاعات الصناعة، والقطّاعات الخاصة، وهذا ما قد يخلق حالة استقلال اقتصادي عن الدولة، حيث تنفك وللمرّة الأولى منذ عقود العلاقة الحميمة بين الدخل الجيّد والتوظيف، فقد أصبحت الوظيفة في سلم الدخل على العتبة الصغرى الموازية للبطالة، وأضحت أيّة مهنة أفضل بكثير من الوظيفة، وما يبقي الموظفين في مكانهم سوى آمالهم بعودة الموظف، والحاصل على راتب حكومي، للارتقاء للمداخيل العليا في السلم الاقتصادي، وفقدان البديل، إذ تحتاج البيئة العلويّة لسنوات لتمكين مصادر دخل مستقلّة قادرة على استيعاب شرائح واسعة من العمال.

ثالثاً: عوامل تسكين الاحتجاج 

منذ انطلاق الاحتجاجات الشعبية في عام 2011 بدت النسبة العظمى من العلويين بعيدة عن أي شكل من الحراك، ربما لطبيعة تعاطي سلطة الأسد معهم عبر سنوات حكم الأب والابن، حيث لم تتعرض البيئات العلويّة لسطوة أفرع الأمن وابتزازهم، باستثناء المعارضين منهم، وعمل النظام على جعل المعارضين يبدون كغرباء عن مجتمعاتهم، من خلال فعالياته الدينيّة والبعثيّة، كما عمل على تسييس الدين العلوي، وأطلق المشايخ، المتنفعين، ليجعلوا من الأسد الأب ولاحقاً الابن، رموزاً دينيّة، وأصبح حكم الأسد بالنسبة لكثير من العلويين، أشبه بسلطة الفقيه في إيران بالنسبة لمواليه من الإيرانيين، كما ساهمت عدّة عوامل بعد بدء الاحتجاجات في ثني العلويين عن كسر هذه المقدّسات، التي كانت على كلّ حال هشّة إيديولوجيّاً، لهشاشة التعاليم العلوية من جهة، وعدم قدرة النظام على العمل بهذا الإطار الديني، إلا بقنوات ضيّقة غير رسميّة، لما ينسب لنفسه من صبغة علمانية.
وقد ساهمت عدّة عوامل في ثني الطائفة العلوية عن المشاركة في احتجاجات واسعة ضد النظام، والاكتفاء بالاحتجاجات المطلبية، أو الاحتجاجات السياسية ذات الأهداف المحددة التي لا تخرق سقف النظام. 
ومن أهم هذه العوامل: 
1ـ  غياب معارضة تحمل مشروعاً وطنياً
ساهم تلاشي المشروع الوطني بشكل تدريجي منذ عام 2011 وحتى الآن في دفع العديد من المجموعات، ومنهم غالبية العلويين إلى النأي بالنفس عن المجموعات المعارضة، والتي لم تستطع تقديم نموذج جاذب لمن لا يرون في النظام خياراً مناسباً، ناهيك عن جذب أولئك المؤيدين له أصلاً. 
وأدّى دخول الجماعات الإسلامية، وخاصة السلفية الجهادية بتنوعاتها، إلى تعميق هذه الفجوة بين المؤيدين أو من هم في حكم المؤيدين وبين المعارضة، والتي حُمّلت جميعاً وزر ما تفعله هذه الحركات، حتى لو كانت مختلفة معها بشكل جذري. 
وقد عمل النظام بشكل كبير على تعظيم هذا العامل، من خلال تصوير المعارضين جميعاً باعتبارهم من "الدواعش" أو النصرة، وكرّست الدراما التي أُنتجت في السنوات الأخيرة أعمالها لتعميم هذه الصورة، وهو ما قدّم لحملته الدعائية دفعاً كبيراً في صفوف حاضنته في سورية، وحتى الجمهور المؤيد أو غير المعارض له خارجها. 
2ـ الحضور الأمني والعسكري الكثيف
لم يستخدم النظام العنف المسلّح لقمع أي حركة احتجاجيّة في الساحل، بل أظهر على العكس مرونة عالية في التعامل مع جميع أنواع الاحتجاجات التي تظهر بين الحين والآخر، إلّا أنّه ورغم النقص الحاد في خزّانه البشري، وحاجته الملحّة لمقاتلين، لم يقم بتخفيض عدد عناصر الأمن في الساحل، وحرص على تشديد التواجد الأمني الكثيف في بيئاته الموالية، إضافةً لتجنيد البعثيين، وحتّى الموظفين الحكوميين والمدرسين، لنقل التقارير وإطلاع الجهات الأمنية حتى على صغائر الأمور، من أي قرية بعيدة وصولاً لمراكز المدن، أي أنّ النظام حوّل وعلى مدى قرابة الخمسين عاماً الساحل السوري، لمجمّع أمني ضخم للغاية، قد تفلت منه المعلومة بما يشبه الأعجوبة.
ويتسبب التغلغل الأمني الكبير في جميع الأوساط والبيئات العمالية والمجتمعيّة في الساحل للحد من إمكانيّة خروج احتجاج منظم بشكل كبير، إلّا في حال تدهور الأمور بشكل كبير لحد عدم قدرة الجميع على احتمالها، هذا ما قد يؤدّي لمطالبة مجتمعيّة عامّة، على نحو محدد، قد تحرج النظام، وربما تنطلق منها شرارة احتجاجات مطلبيّة أوسع.
3ـ التفجيرات، والقلاقل الأمنيّة المستمرّة
بدأ تهديد النظام غير المباشر لمواليه، بالبديل الإسلامي المتطرّف، منذ اللحظات الأولى لانطلاق الحراك في سوريّة، حيث أقامت هيئات البعث حواجز مسلّحة على مداخل القرى والأحياء، وراحت تبث الإشاعات بوجود دخلاء، ومندسّين، يريدون قتل الناس وإرهابهم، على أساس طائفي، وازداد هذا التهديد مع ظهور التنظيمات الجهاديّة، وارتفاع حدّة التهديدات الطائفية من قبل هذه التنظيمات. 
أدّت هذه العوامل إلى زيادة في انكماش العلويين وتخوفهم من أي رحيل للنظام، أو غياب له، وأصبحت الغالبية منهم توقن أنّ ضعف الآلة العسكريّة للنظام سيؤدي لمجازر بحق العلويين، خاصّة بعد المجازر الطائفيّة المروّعة التي ارتكبتها ميليشيا الدفاع الوطني بحق السنّة في عدّة مناطق، وحمّلت العلويين، هذا العبء، إذ إنها ارتكبت على أسس دينيّة واضحة، ولم تبخل وسائل الإعلام الموالية والمعارضة، في إضفاء هذه الصيغة عليها، بالتزامن مع عجز العلويين عن التبرؤ من هذه المجازر بشكل واضح، باستثناء البيان الذي أصدره مشايخ مصياف، وسلحب، والغاب، والذي كان خجولاً في تسمية المجرمين، لكنّه أشار بشكل واضح لنية العلويين التبرؤ من هذه الجرائم.
4ــ غياب المؤسسات المجتمعية
يشهد الساحل السوري خلّواً شبه مطلق من أي تنظيم سياسي فاعل، بالإضافة لتفريغ النظام لمهمات الهيئات النقابيّة، وعمله الدؤوب على اختراقها بشكل كامل، وإفسادها، وتحويلها لمنصّة إضافيّة له، تعمل كفرع أمني، أو كفرع لحزب البعث الحاكم، هذا الفراغ نشأ منذ حملة الاعتقالات التي قام بها الأسد الأب مطلع الثمانينات على قيادات وكوادر وأعضاء الأحزاب اليساريّة، وطالت حتّى المقربيّن من هذه الأحزاب.
حاولت هذه الأحزاب، تنشيط أعمالها إبّان الثورة السوريّة، لكنّ النظام لم يسمح لها بالعمل في الساحل السوري بشكل قاطع، كما انّه قطع الطريق على كلّ المحاولات لإنشاء تجمّعات جديدة، تحمل طابعاً تنظيميّاً، كحركة "معاً"، و"مواطنة"، واعتقل قيادات سابقة في الأحزاب اليساريّة حاولت تنظيم العمل السياسي في الساحل السوري، كحزب العمل الشيوعي، الذي تعرّض أعضاؤه للاعتقال مطلع عام 2012. 

خلاصة

لابدّ من القول أنّ الوضع الراهن لا ينبئ بحدوث احتجاجات كبيرة في الساحل السوري، كما لا يمكن تجاهل الاستحقاقات القادمة للنظام في الساحل، في حال التوقيع على تسوية مع المعارضة، فالصدمة النفسيّة التي سيتعرّض لها أهل الساحل ستكون بمثابة صاعقةٍ، تجمع كل الخسائر التي تعرّضت لها هذه المجتمعات، وتضعها في ميزان التسوية الذي ربما لن تحمل في طيّاتها تلك الوعود التي قدّمها ومازال يقدّمها النظام لعلويي الساحل، فمن إعادة الحال لما كان عليه وصولاً للقضاء على "الإرهاب" وتطويع جميع المناطق تحت سلطته، كل هذه الأوهام، وسقوطها، سيمثل ضربة قاصمة، موجعة، وتشكل ما يشبه الصدمة التي تنعش الميت ليستفيق على حاله. 
ويشكّل "الخوف من الآخر" أهمّ عوامل السكون العلوي في الوقت الراهن، لكنّ حلّاً سياسياً يضمن شراكة مع هذا "الآخر" أو يضمن حتى إدماجه في مؤسسات الدولة سيعني انهيار آخر مبررات وجود النظام في اذهان العلويين، ومعه كل مفاصل الأيديولوجيا والبربوغندا التي حكم فيها النظام على مدى نصف قرن من الزمن، ومنه ستقع البيئات العلويّة في فراغ سلطوي، وامتدادات لآفاق سياسيّة جديدة، تكون بمثابة انعتاق هذه البيئات من النظام القائم.
لن يكون شكل الاحتجاج المحتمل دينيّاً، بالرغم من غياب أيّة عوامل لظهور احتجاج سياسي، أو نقابي، ذلك لأنّ الدين العلوي، لا يحمل في طبيعته، شكلاً تنظيمياً، ولا يحمل قوّة التشريع والإفتاء، التي تتمتع بها الطوائف الإسلاميّة الأخرى. حيث تتركّز طبيعة الدين العلوي في التشديد على روحانيّة التديّن، وتغيب فيه أيّة تشريعات، فمعظم النصوص التي أنتجت عن الدين العلوي، والتي تبدأ بمنشأه "الشيعي" ومن ثم تكمل المسيرة التاريخيّة للدين لأيامنا هذه، تهمل الانقطاع الكامل الذي مرّ به الدين العلوي خلال الحقبة العثمانيّة، وضياع معظم تعاليمه ونصوصه، حيث لم يبق منها سوى القليل على شاكلة أشعار لبعض رجال الدين، تحمل تناقضات كبيرة، وبالتالي فقد غاب المرجع العلوي منذ قرون، ولا توجد فرصة لعودته، ولا سبيل لدى العلويين لتنظيم شريعة مما لديهم من مراجع، لذا يبقى الدين العلوي في إطار علاقة مع الخالق، تتخللها بضعة طقوس، لا تتدخل في الحياة اليوميّة، وإن تدخلت فيكون بموجب المنطق العام، ولا تحمل صيغة التحريم، أو مخالفة الشريعة، الشريعة الغائبة أصلاً(11) .
إذا، نحن أمام احتمال ظهور نوع واحد من الاحتجاجات، وهي الاحتجاجات التلقائيّة، والتي من الممكن أن تجد بيئة تكبر فيها، ومن ثم يصار إلى تنظيمها، قبل أن تخمد، وهذا التنظيم، سيكون مناطقياً، يقوده وجهاء ومشايخ علويّون، لكن بغير الصفة الدينيّة التي يحملونها، بل من خلال الشهرة، والثقة العامّة التي يتمتعون بها، ولا يمكن لأي قيادة علويّة أن تنجح إذا حشرت الدين في قراراتها، لأنها حكماً ستقع أمام تناقضات واسعة بين العلويون أنفسهم، مما قد يؤدي للفشل الذريع.

المراجع:

1- مؤتمر الطائفة العلوية المعارضة في القاهرة، قناة الجزيرة، 27/3/2013
2- قادة علويون يتبرأون من بشار الأسد ويؤكدون أنهم ليسوا شيعة، بي بي سي، 3/4/2016

3-  Tartus, the Mother of Martyrs, Stratfor, 7/6/2015 

4-   أليمار لاذقاني، الإضراب يشل شركة أسمنت طرطوس ويفتك بأمين حزب البعث، عربي21ـ، 25/2/2015
5-   أليمار لاذقاني، رجل أعمال سوري يبدأ في السيطرة على قطاع النقل في طرطوس… والنظام يعتقل معارضيه، القدس العربي، 7/6/2015
6-   Road Rage Killing by Assad’s 'Total Asshole' Cousin Triggers Protests in Syria, Vice News, 10/8/2015
7-   إلقاء القبض على سليمان الأسد المشتبه به بارتكاب جريمة قتل العقيد حسان الشيخ، وكالة الأنباء السورية (سانا)، 10/8/2015
8-   أليمار لاذقاني،  أهالي إحدى القرى قرب اللاذقية يطالبون بالتفاوض مع «جيش الفتح»، القدس العربي، 21/9/2015

9- Ruth Sherlock, In Syria's war, Alawites pay heavy price for loyalty to Bashar al-Assad, The Telegraph, 7/4/2015  

10- أليمار اللاذقاني، تربية الماشية ثروة أهل الساحل السوري الضائعة، القدس العربي، 8/5/2015
11- أليمار لاذقاني، العلويّون والدين الجديد… السيدة «المعجزة» تقنع المئات من الرجال بأن يكونوا مريدين وتلامذة مطيعين لها، القدس العربي، 11/7/2016